النظم

 

النظم هو الجمع والضم والأتساق والنظام والتأليف. قال ابن منظور :”النظم : التأليف ، نظمه نظما ونظاما ونظمه فانتظم وتنظم ، ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك والتنظيم مثله ومنه نظمت الشعر ونظمته ، ونظم الأمر علي المثل ، وكل شى قرنته بأخر أو ضمت بعضه إلي بعض قد نظمته ، 000 ، والآنتظام والآتساق ” (1 ) والنظم عند الفيروز آبادي : هو التأليف ، وضم شي إلي شي آخر ، ونظم اللؤلؤ ينظمه نظما ونظاما ونظمه : ألفه وجمعه في سلك فانتظم …”

فالمعني اللغوي المشترك هو ضم الشئ إلي الشئ ، وتنسيقه علي نسق واحد ، كما تضم حبات اللؤلؤ بعضها إلى بعض ونحوه . وهذا هو الفلك الذى دار فيه المعنى الاصطلاحى للكلمة ، فقد دارت كلمة النظم بمفهوم إصطلاحى عندالمتكلمين فى حديثهم عن الاعجاز القرأنى واصبحت نظرية كاملة عندالقاضى الجرجانى والزمخشرى وأساسها المعنى اللغوى الذى هوضم الشئ الى الشئ وتناسقه

فقد تكلم الخطابى فى النظم بالمعنى اللغوى الذى يعنى الضم والاتساق والخطاب يرى ان نظم القرأن أشد تلاؤما وتربطا من أى نظم أخر.

ونرى كلمة النظم التى هى الضم مصطلحا عند القاضى عبد الجبار حيث يقول فى الفصاحة :-” اعلم ان الفصاحة لاتظهر فى افراد الكلام، وإنما تظهر فى الكلام بالضم على طريقة مخصوصة …”

لاشك ان تعريف القاضى عبد الجبار للفصاحة بالضم على طريقة مخصوصة هو المعنى المراد لكلمة النظم ، لذلك نجد عبد القاهر بعد ذلك يجعل البلا غة والفصاحة متراد فتان فى المعنى والمقصود بهما النظم .

وعبد القاهر يعرف النظم بانه توخي معاني النحو فيقول :” وأعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو ، وتعمل علي قوانينه وأصوله … ”  كما يذهب إلي أن لا نظم في الكلام ولاترتيب حتي يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها علي بعض وتجعل هذه بسب من تلك.

ومما لا شك فيه أن الزمخشري تأثربمفهوم النظم عن عبد القاهر، فالزمخشري يعنى بالنظم

“بيان الروبط والعلاقات بين الجمل وكيف يدعو الكلام بعضه بعضا وكيف يأخذ بعض بحجز بعض”

وهكذا تتبين الصلة الوثقية بين النظم اللغوى ومعناه الاصطلاحى، بين ذلك المدلول اللغوى الذى يعنى ضم الشئ إلى الشئ كما تضم حبات اللؤلؤ فى سلك، وهذا المفهوم الاصطلاحى الذى يعنى التأليف للكلام ونظمه بتوخى معانى النحو وإحكامه وسنن اللغة العربية

وأشار سيبويه إلي كلمة التأليف التي هي مرادفة لكلمة النظم ، ولم يتعد مفهومها تأليف الجملة الواحدة إلي الجمل بعضها مع بعض . ويتضح ذلك مما ذكره في باب ( أسماء القبائل والأحياء وما يضاف إلي الأب والأم ) حيث يقول :- “فإن قلت : هذه تميم ، وهذه أسد ، فإنك تريد ذلك المعني ، غير إنك إذا حذفت المضاف تخفيفا كما قال الله عزوجل ( وأسال القرية) … فأنت لم تغير ذلك المعني وذلك التأليف إلأ إنك حذفت … “

ويقول الدكتور أحمد سعد في ذلك :” أن مقصود سيبوبه من كلمة التأليف هنا هو نظم العبارة أو تأليف الجملة ، إنطلاقا من متجهه النحوي الذى لم يكن يعني إلابتركيب الجملة وحدها دون تركيب الجملة مع الجمل الأخري”

وإذاكان النظم قائما على توخى معانى النحو التى إستنها النحاة من سنن العربية فى إستقامة الكلام وحسنه وقبحه، فإنها تقاس عند سيبويه على ذلك المقياس.فقد ذكر سيبويه فى بابالإستقامة من الكلام والإحالة):”فأما المستقيم الحسن فقوللك :اتيتك أمس، وسآتيك غدا، وأماالمستقيم القبيح فأن تضع اللفظ فى غير موضعه نحو قولك: قدزيدارأيت….فإن الكلام المستقيم –عنده-هو الذى وضعت كل لفظة منه فى موضعها المقدر لها فى عرف اللغة، أما المستقيم القبيح فهو ذلك الكلام الذى لم يرع قونين اللغة، فوضعت ألفاظه فى غيرماقدر لها .

ويرى الدكتور أحمد سعدأن سيبويه قد اتخذ مصطلحى الحسن والقبح مقياسا يرد إليه صحة التأليف وفساده , مرادفين لما عناه عبد القاهر بصحة النظم وفساده , أو لما عرف بصحة التأليف عند البلاغيين من بعده .

ولا شك أن الأصول البلاغية التى تعتمد عليها فكرة النظم موجودة في الكتاب ، وتعتبر مقدمة جيدة أثرت في العلماء تأثيرا كبيرا بعده منذالجاحظ التى ابتدأت عنده ، حتى أصبحت نظرية لها معالم وأصول عند عبد القاهر الجرجانى .

و الجاحظ قد عرف معنى النظم ، وأشار إليه فى كتاباته فهو كما يقول شوقى ضيف مؤسس البلاغة العربية . فلاريب أن إحساس الجاحظ العميق بروعة النظم وما يكسبه الكلام من الرونق والحيوية جعله يؤمن أن إعجاز القرآن فى نظمه ، ويؤلف فى ذلك كتابه المفقود (نظم القرآن) الذى يشير إليه فى كتاب (الحيوان) إذ يقول : ” ولى كتاب جمعت فيه آيات من القرآن لتعرف فضل الإيجاز والحذف ،… “

ولقد ألف الجاحظ كتابه نظم القرآن بناءا على طلب الفتح بن خاقان الذى كان يريد كتابا فى الإحتجاج لخلق القرآن ، فألف الجاحظ هذا الكتاب .

ولعل كان هذا الكتاب –نظم القرآن- أول ما ألف فى إعجاز القرآن ونظمه وهو الذى فتح الطريق لمن جاء بعد الجاحظ فى الحديث عن إعجاز القرآن وقد ذكره الزمخشرى فى مقدمة تفسيره ، ولعله تأثر بنظراته البلاغية فى الإعجاز .

ويقول الرافعى فى سبب تأليف هذا الكتاب (نظم القرآن) :” فلما فشت مقالة بعض المعتزلة بان فصاحة القرآن غير معجزة ، وخيف أن يلتبس ذلك على العامة بالتقليد والعادة ، وعلى الحشوية من أهل الكلام الذين لارسوخ لهم فى اللغة … مست الحاجة إلى بسط القول فى فنون من فصاحته ونظمه ووجه تأليف الكلام فيه ، فصنف أديبنا الجاحظ المتوفى سنة 255هـ ، كتابه نظم القرآن ،وهو أول كتاب أفرد لبعض القول فى الإعجاز ” . ولاريب أن هذا الكتاب المفقود وراء ملاحظات الجاحظ البلاغية ةالتى نثرها فى كتابيه : الحيوان ، البيان والتبين .

**كتاب الحيوان :-

لاشك أن للجاحظ إشارات فى النظم تضمنها كتابه الحيوان ، إذ نراه يكشف عن الدلالات الدقيقة للأيات ،وأشار لما فيها من استعارات وتمثيلات وتشبيهات . والنظم عند الجاحظ فكرة لفظية تعقد على حسن الصياغة وكمال التراكيب ، ودقة تأليف اللفظ وجمال نظمه ، واداة شغفة بجودة اللفظ وحسنه أن قدمه على المعنى حيث يقول :” المعانى مطروحة فى الطريق يعرفها العجمى والعربى والبدوى والقروى ، وإنما الشأن فى إقامة الوزن وتخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وكثرة الماء وفى صحة الطبع وجودة السبك ، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير .”

وقد علق الدكتور شوقى ضيف على ذلك محاولا توضيح فكرة الجاحظ بقوله : إنما كان يريد الاسلوب بمعنى أوسع من وصف الألفاظ ، إذ أدخل فيه الأخيلة والتصاوير ، وكأنما أحس فى عمق أن المعانى وحدها لاتكون للكلام البليغ .

وهكذا نجد للجاجظ إشارات إلى النظم ، إلا أنها ذو أهمية كبيرة فى مجال نظرية النظم ، لأنها اللبنة الأولى ،والبذرة التى سوف تثمر نظرية كاملة المعالم عند عبدالقاهر الجرجانى الذى اتخذ أساسها من كلام الجاحظ وإشارته .

كان ابن قتيبة تلميذا للجاحظ متأثرا به على الرغم أن الجاحظ معتزليا وابن قتيبة سنيا، وجاء كتابه (تاويل مشكل القرآن ) الذى يبدو فيه متأثرا بكتاب الحيوان للجاحظ ورده على مطاعن الملاحدة.

ولاشك أننا نجد إشارات إلى فكرة النظم عندابن قتيبة، فقد كان ذا مهارة لغوية ، فاستهل كتاب تأويل القرآن بوصف رأئع لكتاب الله عز وجل ، وصريحا فيه أن إعجاز القرآن فى نظمه وتأليفه ، وإنه بمعنى سبك الألفاظ وضم بعضها إلى بعض في تأليف دقيق بينها وبين المعانى …ويشتمل النظم عنده حسن النغم ، ودقة التوقع الداخلى ، وهو الذى ينجم من تأليف الحروف فى النغم كما ينجم عن الفاصلة وأطرادها .

قد كان ابن قتيبة شديد التعصب للعرب ولغتهم ، فهو يرى أن فضل القرآن المتمثل فى بديع نظمه لايدركه إلا من عرف لغته ،لذلك يرفض ترجمته إلى لغة آخرى . ويتشدد فى تحرى العلامات النحوية والأعرابية وتوخى موضعها فى الكلام ،وبخاصة فى القرآن الكريم عند تلاوته ، لأن أى تغير فى إعراب كلماته يستتبعه تغير فى معناها التى وضعت له .

ولاريب أن نظم القرآن هو البلاغة عند ابن قتيبة ، إذ يفصّل القول فى فنون البلاعة المختلفة من خلال تطبيقه على الآيات القرآنية ؛ليقف على دليل الأعجاز ويرد على الملاحدين .من ذلك ما نراه فى باب الحذف وإلاضمار ، فهو يتعرض لمواضع الحذف ،ولم يذكر ما وراء الحذف من جودة الحذف وما فائدته ، واكتفى ببيان الكلمة المحذوفة وذكر أمثلة كثيرة من القرآن والشعر .

ولا شك أن ابن قتيبة متأثر بالجاحظ فى هذا العمل الجيد ، وإن كان الدكتور شوقى ضيف يرى أنه تأثر بالجاحظ فى ظاهر عمله من الرد على الملاحدة ، وإنه تأثر بابى عبيدة فى صوغ أفكاره.

فلا ريب أن ابن قتيبة خطا بفكرة النظم خطوة أكثر تقدما من الجاحظ إذ طبقها على فنون البلاغة المختلفة ، ليكون حلقة فى سلسلة تطورها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *