بحث عن مدرسة الديوان وورد doc
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحـــمـد لله رب العــالميـن، والصــلاة والســـلام على أشـــرف الأنبياء والمرســـلين، ســــيدنا محمـد وعلى آله وصحبه أجمين، ســـــبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، رب اشــــرح لي صدري ويسر لي أمري.
أما بعد:
أقدم هذا البحث دراسة حول جماعة الديوان بصفتها مدرسة نقدية هامة شاركت النهضة الأدبية الحديثة في مرحلة التجديد، واعتبارها المساهمة الفعالة في إرساء المقومات النقدية للشعر العربي المعاصر. في هذه الدراسة لمدرسة الديوان وحركتها التجديدية، يجدر العودة إلى مرحلة سابقة عنها لمعرفة كيف كان الشعر والنقد وحالة الأدب بصفة عامة قبلها، ليسهل التعرف على مظاهر التجديد في دعوتها، ومدى فعاليتها في تطبيق الأسس الجديدة على الشعر، وإلى أي مدي يصل هذا التجديد بالشعر العربي التقليدي.
فعلى هذا الأساس تم تقسم البحث إلى فصول ثلاثة، فالفصل الأول تمهيد ضروري للموضوع، وفيه إشارة إلى حال الأدب في عصر ما قبل النهضة، ثم بيان مظاهر النهضة الحديثة، وبوادر التجديد للأدب، والفصل الثاني التعرف على مدرسة الديوان: أعضائها وتكوينها وثقافتها ومجال دعوتها وجذورها، وأهمية دورها في التطور الأدبي، والفصل الثالث عرض شامل لدعوتها ونقدها للأساليب القديمة، وما وضعت من مقومات وأسس نقدية جديدة، وإلى أي مدى كان التطبيق الفعلي لها. ثم خاتمة البحث خلاصة لما سبق عرضه، وأهم النتائج المتحصلة من دراسة الموضوع.
وبالله التوفيق والهداية
——————————————————————————–
الفصل الأول
الأدب العربي الحديث
أولاً: الأدب العربي قبل عصر التجديد:
‘ النهضة الأدبية في أي عصر من العصور مرتبطة إلى حد كبير بالنواحي السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والقومية للشعب، ومدينة إلى حد كبير بقيمة الفرد ومدى إحساسه بذاته وشعوره بنفسه كعنصر بشري مؤثر في جميع هذه النواحي ومتأثر بها، والأدب العربي قد عايش هذه الظروف وتأثرت بها على مختلف صورها في عصور مختلفة:
العصر التركي: قد كان الأدب العربي في مصر تحت الحكم المملوكي هامد خامد، وظل في مجتمع أعجم لا يُحفَل به، ولم تكن له ثمة هزات فكرية تؤثر أو هزات اجتماعية أو سـياسية توقظ أو دعوات إصلاحية ترود، وكانت اللغة بقايا مبهمة من تعابير سقيمة، ولم يعد في استطاعة كثير من كتاب أن يسـلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالفهم المقبول بل عز عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القوي فلجئوا للزخارف والمحسنات.
أيام الحملة الفرنسية: لم تكن حياة الفن أيام الحملة الفرنسية بأحسن مما كان عليه، فلم تؤثر في عواطف الناس وإن كانت قد أثرت في عقولهم، ولم يخرج الشـعر عن حالته السابقة، فبقي مطموراً في أضابير التخلف والتأخر والانعزالية عن مسايرة الركب.
عصر محمد علي: لم يكن بعصر ازدهار للشعر ولا للأدب بنوع عام، فلم يتجه بالنهضة اتجاهاً ثقافياً بقدر ما يكون اتجاهاً مادياً علمياً يهدف إلى التطوير العسكري، وقد استولت الصناعة والسخافة على دواوين شعراء هذا العصر من تأريخ وتطريز وتخميس وتربيع وتضمين ليس فيه قليل معنى ولا عظيم غرض، ولا له بالخيال معرفة، ولا في اللغة نصيب مفيد، إنما هو نماذج قرأوها من عصور قريبة منهم وأخذوها وكأنها غاية الفن وقمة الشعر.
عصر إسماعيل: اهتم بالتعليم والحياة النيابية، وأنشئ دار العلوم وسرت روح الإصلاح في الأزهر، ونهض فن الطباعة، وظهرت حركة إحياء التراث القديم، وانتشرت كتب التراث، وكثرت المدارس الأجنبية وظهرت الدعوات الإصلاحية على يد الأفغاني ومحمد عبده، وتطورت العلوم وتطورت اللغة لتفي بالحـاجة، كما كان النمو القومي، والاتصال بالغرب والاحتكاك عن طريق البعوث، وبدأت الصحافة تتنوع، وتخصص بعضها في الأدب والشعر ونهض بهما ‘.
——————————————————————————–
ثانياً: النهضة الأدبية الحديثة:
بدأت النهضة الأدبية الحديثة مصاحبة بتطور الشعور القومي تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، والرغبة في الاستقلالية الذاتية بالعودة والدعوة إلى إحياء التراث، فكان من العوامل الهامة للنهضة الأدبية الحديثة:
‘ظهور المطبعة، إذ أتاحت للباحثين والدارسين أن يطلعوا على كثير من الدواوين الشعرية للشعراء القدامى في العصور الذهبية، ورواد العصر العباسي، وأتيح لهم الوقوف على المؤلفات العلمية والأدبية القديمة التي تدور حول علوم التفسير والحديث والفقه وصناعة الشعر والنثر.
ظهور فن الصحافة، وتمثلت في الصحف اليومية أو مجلات أسبوعية أو شهرية، وكانت تحوي مواد متعددة منها ما يتصل بالسياسة والاقتصاد، وما يتصل بالأدب والنقد، مما رأى فيها الأدباء متنفساً وطريقاً يذيعون من خلاله أدبهم شعراً ونثراً.
إنشـاء المدارس المتخصصة، والمعاهد العلمية النظامية، والمجامع الأدبية واللغوية، إلى جانب ما كان موجوداً وقتئذٍ، فأخرجت طائفة كثيرة من المتخصصين، الذين كان لهم دور بارز في النهوض بالأدب، والرقي في المقاييس النقدية، مما سـاعد على أن تتوارى تدريجياً الثقافة الهابطة الضعيفة التي كانت تعيش معهم إلى عهد قريب.
ظهور جيل من الشـعراء أحيوا في شـعرهم صورة الأدب العربي القديم في عصر ازدهاره وقوته، وهذا العمل تم أولاً على رائد الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي.
تطور حـركة النقد الأدبي، بقيام الأدباء والنقاد ببعث الكتابة النثرية الأدبية في كتاباتهم، إلى جانب بعث طريقة القدماء في تحليل النصوص الأدبية ونقد الأدب’.
‘في نهاية القرن التاسع عشر قام فريق من الشعراء الذين ورثوا صناعة الشـعر من البارودي بالمناداة إلى ضرورة التجديد استجابة لدواعي العصر، لأن الزمان قد تغير، إذ ليس زمان المحدثين مماثلاً لزمان الأقدمين، فظهر بعض النداءات لشعراء هذه المرحلة، في المرحلة الأخيرة من مراحل شعرهم تدعوا إلى ضرورة الإتيان بشيء جديد يعكس حاجة العصر، من مثل: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، وتعتبر هذه المرحلة مرحلة الانتقال إلى محاولات التجديد’، ‘إذ كانوا يترسـمون هذا المثل الذي ضربه البارودي، مثل الاحتفاظ بجزالة الأسـلوب ورصانته، أما بعد ذلك فهم يفرضون ثقافتهم وعصورهم على شعرهم وما ينظمون منه’.
——————————————————————————–
ثالثاً: المحافظة والتجديد:
( أ ) المحافظون: مفهوم المحافظة:
‘تقوم منهجهم على تقليد الشعر العربي في المنحى والأسلوب من شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته ونصاعة التركيب، وتعلقت بكل مقوماته. والعودة إلى الآداب العربية القديمة هي مبدأ النهضة الأدبية المعاصرة، وينتظم للمذهب طائفة كبيرة من شعراء النهضة في مقدمتهم: شوقي وحافظ وخليل مطران والرافعي، وكان روادها يتفقون في أن يلتزموا بسلامة الأسلوب وصحته من حيث اللغة والإعراب، ولم يشذوا عن نهج القصيدة العربية، ثم هم بعد ذلك لا يكاد يجمعهم جامع آخر، فإن كلاً منهم يمضي مع ثقافته وفهمه لحقيقة الشعور على حسب ما أتيح له من شاعرية وإبداع’.
‘فبعضهم فهم المحافظة فهما خاطئاً على أنها الاستناد إلى تراث الأقدمين الحضاري، وترديد مضامين شعرهم وأفكارهم، ولا يخرج الشعر عن سننهم في الأسلوب والتعبير والوزن، فحفظ قاموسهم اللغوي، وفهم بعضهم على أنها سير على نهج من سبق، فألغى نفسه وراح يستفتح الدمن، واستعمل النسيب فتشكا الوجد وبكى الفراق، وبعضهم فهمها على أنها نقل صور الماضي بما فيه، سهوله ونوقه وخيامه وليلاه، فحاكاهم في ذلك كله، ولم يدر أن ذلك هو الجمود والتكرار والفقر والضحالة، وأنه كرر نفس المواقف، ولم يزد، ودعا نفس العواطف ولم يجدد، فهموها من زاوية ضيقة، فحجر على عواطفه وإحساسه وخياله وتجاربه، ليظل محجوزاً بين أحاسيس الأقدمين’.
‘كانت مدرسة (المحافظين) امتداداً لمدرسة البعث التي رادها البارودي بكل ما يعنيه الامتداد من احتذاء وبعث وتطوير، قد أطلق هذا المصطلح عليها ليس لأن شعراءها مجرد ظلال باهتة أو قوية لمن سبقهم من الشعراء الغابرين أو المحدثين، ولكن لأنهم قد استطاعوا المحافظة على العناصر الصياغية، والشكل الهيكلي للقصيدة، كما هي في عصور تألق الشعر وازدهاره، وعلى الروح العربي المنتمي إلى تراثه الحضاري والفني، ولعل هذه المحافظة على الشكل والروح والانتماء هي التي أعاقت شعرائها عن عالم آخر جديد، ولكنهم مع ذلك قد أعطوا للحركة الشعرية الحديثة من حضورهم التاريخي، ومن ثقافتهم المتنوعة، وإطلالهم بالشعر إلى عوالم جديدة وأجناس أدبية مستحدثة’.
(ب) المجددون: ثورة على الجمود والتكرار:
‘في العقد الثاني من القرن العشرين، أمام أحداث عالمية ومحلية، الحرب العالمية الأولى، والاحتلال الأجنبي في البلاد العربية، كان لها أثر في إحداث روح متمردة قلقة عند الأدباء، فعبروا عن روح القلق والتمرد والإحساس بالظلم فيما صـاغوه من أدب، فنادوا بضرورة أن يكون الأدب معبراً عنها، غير منفصلة عن أحداث العصر، فانتقدوا شعراء القرن التاسع عشر الذين امتدت بهم الحياة إلى مطلع قرنهم، إضافة إلى ما حصلوه من ثقافات أجنبية، إنجليزية أو فرنسية، كان له أثر في تكوين روح التمرد، ورأوا أن الأدب الأجنبي يؤدي أهدافاً وغايات أوسع مما كان بين أيدي أدباء الجيل السابق، وكذلك فإن الروح الذاتية التي تشيع في الأدب الأجنبي أوحت إليهم أن الأدب هو الذي يكوّن شخصيةً مستقلة للأديب’. ولهذا ظهرت عدة اتجاهات مختلفة يمثلها أدباء وشعراء ومدارس.
(ج) المدارس الأدبية الحديثة: تيارات لتعدد المذاهب وتنوع الثقافات:
‘ظهرت بوادر التجديد منذ بدأ الشعور القومي يملأ الصدور، وتلفت الشعراء إلى ألوان الشعر العربي وضروبه، فشاركوا في تصوير هموم الشعب وموقعهم من الركب الإنساني، فانتقوا ألواناً تلائم العصر وأسلوب الحياة الجديدة، ويستسيغها طبع التغيير. وتنوعت دعوات التجديد بألوان من المذاهب الفلسفية والنفسـية الغربية وتأثرت بها، وبدأت تطبق بحق أو باطل على الأدب العربي، وراح الشـعراء يفكرون في التجديد ويحاولونه ويدعون إليه. وأول من فكر في التجديد شوقي، إذ نعى على الشعراء تسخير أشعارهم للمديح الذي يغل المواهب، وعاب نجيب الحداد فقدان الشعر العربي للوحدة العضوية، ودعا إلى الوحدة العضوية ومجاراة الطبع، ودعا نجيب شاهين إلى أن يكون الشـعراء عصريين ويدرسوا الشعر الأجنبي، وينبذوا القديم وأغراضه الباطلة،كالمدح والهجاء وبكاء الأطلال وديار الأحبة، وكثيرون غيرهم، ولكن تبدوا هذه الدعوات في هذه الفترة ساذجة.
وظهرت مدرسة (الديوان) تصدر دواوينها الشعرية حاملة بذرة التجديد الحقيقية، ومفهومه الواعي للشعر وغايته ووسائله وصلته بالفنون والحياة، وتجسيده لحس الشاعر، وتصويره لأفكاره وانطباعاته وأعماقه في اتصاله المباشر بالحياة’،’وظهر بعدها أدباء المهجر، وجماعة أبولو، وجماعات أخرى في الساحة الأدبية لا ينتمون إلى مدارس معينة، خاصة النقاد الذين ينتمون للحقل التعليمي’. ونظراً للمصادر الثقافية لأدباء ونقاد فترة التجديد ‘التي تعود إلى منبعين: الثقافة العربية الأصيلة، والثقافة الأجنبية’11،فإن للأخيرة أثرها عند بعض أنصاره بدعوتهم إلى الاحتذاء بالأدب الغربي والتغيير الشامل في الأدب العربي مبتعداً عن الأصول العربية، فبدت ظواهر جديدة تدعوا إلى الواقعية، وامتد إلى الأدب ولغته المظاهر السلبية من التجديد. والفصل التالي نستقل بمدرسة الديوان لما لها السبق في حركة التجديد المنظم في الأدب العربي، وعملها الدأب في الرقي به، والدفاع عن شخصية الأدب العربي وملامحه المستقلة، الذي يعبر عن الحياة بالروح العصرية، والمستمد من المنبع العربي الأصيل.
——————————————————————————–
الفصل الثاني:
الديوان: مدرسة التجديد
أولاً: مدرسة الديوان:
( أ ) التسمية والتأسيس وأعضاء المدرسة:
‘ جماعة الديوان مصطلح يُطلق على مجموعة من الشعراء النقاد، هم: عبد الرحمن شكري، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني،وهذا المصطلح إنما هو نسبة إلى هذا الكتاب النقدي المعنون باسم: ‘الديوان في النقد’، وهو كتاب ألفه العقاد والمازني فحسب، وإن كانت التسمية تشمل الثلاثة معا’.
‘عباس محمود العقاد: ولد بأسوان سنة 1889م لأسرة مصرية متوسطة، ولم يكمل دراسته في المدارس الرسمية، بل أخذ يكملها بنفسه، رحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة، وكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبساً كثيراً من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب والسياسة، وينقل إلى قرائه مباحث الأدب والنقد الغربية ويشفعها بنظرات تحليلية. أخرج أول دواوينه سنة 1920م، ونال سنة 1960م جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهاً بأعماله الأدبية، وأهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، توفي سنة 1964م.
إبراهيم عبد القادر المازني: ولد بالقاهرة سنة 1889م، عمل في التعليم والصحافة، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، نظم الشعر أولاً ثم كتب القصة بأسلوب ضاحك تغلب فيه على كآبته الأصلية، يميل في أسلوبه إلى الدعابة والسخرية وإبراز المفارقات، يؤدي مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وانطباعاته بالروح المصرية. توفي بالقاهرة سنة 1949م.
عبد الرحمن شكري: ولد بمدينة بورسعيد سنة 1886م، درس الثانوية، والتحق بمدرسة الحقوق ولكنه فصل منها لتحريضه الطلاب على الإضراب استجابة لزعماء الحزب الوطني، فاتجه إلى دراسة الآداب التي كانت تتفق وميوله، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج سنة 1909م، التزم فيها الدرس الصارم في الأدبين العربي والغربي، وذهب في بعثة إلى إنجلترا، عمل في صحيفة الجريدة، كتب فيها عن علاقة الشعر بالفنون ونحوه من الموضوعات التي كانت تعد حينئذٍ جديدة، توفي بالإسكندرية سنة 1958م’.
(ب) الخلفية الثقافية للمدرسة:
‘حظهم من الثقافة العربية يكاد يكون متفقاً، فالعقاد يقول عن شكري: (لم أعرف قبله ولا بعده أحداً من شعرائنا وكتابنا أوسع منه إطلاعاً على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية، وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علماً به، وإحاطة بخير ما فيه، وكان يحدثنا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها). ولقد كان إطلاع العقاد مضرب المثل في وسعه، فكان يحيط إحاطة بفروع اللغة العربية وآدابها، عارفاً بدقائقها. والمازني هو اللآخر حظه من العربية أقوى من حظه من الثقافة الإنجليزية.
أما ثقافتهم الأجنبية فهي الأخرى مستوعبة (أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، ولم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى’.
(ج) الاختلاف بين أعضاء المدرسة:
‘كان عزم العقاد والمازني أن يصدر الديوان في عشرة أجزاء، ولكن لم يصدر منه إلا جزءان، وكانت خطتهما تقضي بأن يبدأ بتحطيم الأصنام مثل شوقي والمنفلوطي وغيرهما بنقدهم تفصيلياً، حتى إذا تم الهدم بدأوا في نشر آرائهما النقدية البناءة، لكن لماّ لم يظهر من الديوان إلا جزءان فقد ظلت آراؤهما النقدية البنائية مجهولة. ولكن العلاقة فسدت بين شكري والمازني بعد أن عاب شكري على المازني انتحاله لبعض الأشعار الإنجليزية، وكان الرد من جانب المازني فقط، ووقف العقاد إزاء هذه المعركة حيران صامت، خوفاً من فرحة صرعى المذهب القديم، ومن ثم لم يطب نفساً بتلك الجفوة التي حدثت بين صاحبيه فجمعهما ورأب الصدع وعاهدها على أن يكفا، فرضيا بحكمه’، ‘وانزويا بعدها عن الساحة النقدية وبقي العقاد وحده إلى نهاية عمره يباشر عمله النقدي في صبر ودأب، إلى جانب نشاطه العلمي المتعدد الجوانب’.
——————————————————————————–
ثانياً: دور مدرسة الديوان وأثرها:
( أ ) الأهداف:
‘حُددت أهداف المدرسة كما يقول العقاد في الديوان: (وأوجر ما نصف به عملنا إن أفلحنا فيه أنه إقامة حد بين عهدين لم يبق مال يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي). إذاً فقد كان هدفهم أن يكون لمصر أدب يعبر عن الروح الأصيلة لها يترجم عن طبع الإنسان فيها بلسان عربي وأدب مصري، وعلى نحو ما صور المازني: لقد عز على العقاد وقد رجع إلى مصر القديمة فلم يجد لها شاعر أو واحداً عظيما، يقول: (ونظراً إلى العصور الحديثة بعد الإسلام فلم أعثر بشاعر واحد من مصر)..’.
(ب) مجالات الدعوة:
‘تنوعت مجالات الدعوة لمدرسة الديوان على النحو التالي:
دراسات نقدية: كما يبدوا في دراسات المازني النقدية في الربع الأول من هذا القرن.
النماذج الشعرية: التي حملت في أطوائها هذه القيم الجديدة.
كتاب الديوان في النقد والأدب: وقد صدر سنة 1921م.
مقالات العقاد وبحوثه’.
(ج) الأثر الأدبي:
‘لهم آراء نقدية مذكورة في كتب أخرى غير الديوان:
فللعقاد: مقدمات دواوينه الشعرية، ومقدمته لديوان المازني، ومنها كتبه: ساعات بين الكتب، بين الكتاب والناس، مطالعات في الكتب والحياة، يسألونك، اليوميات، اللغة الشاعرة، الشذوذ، أشتات مجتمعات، مراجعات في الآداب والفنون، ابن الرومي حياته وشعره، ودواوينه: يقظة الصباح، وهج الظهيرة، أشباح الأصيل، أشجان الليل، وحي الأربعين، هدية الكروان، عابر سبيل، أعاصير مغرب، ما بعد الأعاصير، وغير ذلك دراسات متعددة حول الأدب والنقد والشعراء.
وللمازني: آراء نقدية كذلك فيما كتبه عن بشار وابن الرومي وحافظ إبراهيم، والمعروف أنه لم يتابع مسيرة النقد الأدبي بعد حدة الاختلاف بينه وبين شكري، إذ انصرف عن الشعر والنقد واتجه إلى الكتابة القصصية والاجتماعية.وله كتب أخرى أهمها: حصاد الهشيم، قبض الروح،الشعر غاياته ووسائله.ومن قصصه:إبراهيم الكاتب،إبراهيم الثاني،صندوق الدنيا،عود على بدء،قبض الريح.
ولشكري: مقدمات لدواوين شعره، ومقالات متفرقة يرسلها بين الحين والحين بعد هجر الجماعة بسبب الخلاف، وانطوى على نفسه بعيداً معتزلاً عن الأضواء، وهذه المقالات مع ما كتبه في مقدمات دواوينه الشعرية تمثل رصيده من النقد الأدبي، وهو رصيد لا بأس به. فمن دواوينه: ضوء الفجر، لآلئ الأفكار، أناشيد الصبا، زهر الربيع، خطرات، الأفنان، أزهار الخريف’.
وما يهمنا أكثر الآن هو تلك الآراء النقدية التي دعت إليها مدرسة الديوان، وهو ما ســندرســه في الفصل التالي من هذا البحث.
——————————————————————————–
الفصل الثالث:
مدرسة الديوان: الآراء النقدية وجذورها
أولاً: مبدأ التمرد على الأساليب القديمة:
‘قد عملت مدرسة الديوان منذ نشأتها على التمرد في وجه القصيدة العربية التقليدية شكلاً ومضموناً وبناءً ولغة، وربما لأن روادها فتنوا بنماذج الشعر الغربي الذي لا يغرق في هذه القيود، والتي كانت القصيدة العربية اصطنعتها لنفسها أو اصطنعتها لها عصور التخلف والانحطاط والتقليد:
( أ ) في الشكل: ثاروا على نظام القصيدة الطويلة ذات النسق الموحد، وجنحوا إلى شعر المقطوعات، وشعر التوشيح، وشعر تعدد الأصوات، وثاروا على نظام القافية الموحدة، فنوعوا فيها على فترات متقاربة تتردد بين البيتين والأبيات القليلة، بل امتد (شعر شكري) على القافية بكاملها، فألغاها في عديد من قصائده.
(ب) في المضمون: تمردوا على محدودية الفضاء المتناول عن بقية آفاق الوجود، ومحدودية الطموح والانحصار في توافه الأمور. وتمردوا على رضوخ الشاعر حيال ما يراه في الكون من تناقض ونقص، ودعوا إلى ضرورة التعبير عنها، وعن إيقاعها في ذهن الشاعر. وتمردوا على تعالي موضوعات الشعر عن الواقع التاريخي الذي تحياه الجماهير، ورفضوا التفاهة التي غلبت على الحياة والشعر، وخلو الشعر من عناصر التفكير والإحساس، ورفضوا شعر المناسبات، ووصف الأشياء وتعديد أشكالها وألوانها، وعدم الشـعور بجوهرها ونقل هذه الشعور. وتمردوا على بقاء الشعر قيمة لسانية وليس قيمة إنسانية. وتمردا على ضياع المواقف الشخصية في الشعر، وفقدان ذاتية الرؤية وخصوصية الأسلوب، وتمردوا على الغموض وفرقوا بينه وبين العمق، وتمردوا على فساد المعنى بما ينطوي عليه من تعسف وشطط ومبالغة ومخالفة للحقائق، أو الخروج بالفكر عن المعقول، أو قلة جدواه وخلو مغزاه.
(ج) في البناء: رفضوا التفكك الذي يحيل القصيدة إلى مجموع مبدد، لا تربطه وحدة معنوية صحيحة، فنادوا بالوحدة العضوية.
(د) في اللغة: تمردا على ما سمي بلغة الشـعر أو القاموس الشعري، ودعوا إلى تحرير اللغة الشعرية من القوالب الجاهـزة، والأنماط القبلية، وضرورة التعبير عن المضامين الجديدة بلغة قادرة على التحليل والتركيب، واسـتبدال معجم مهجور أو خطابي أو مبتذل أو مكرور بمعجم آخر مأنوس ومتعال على الدلالات الوضعية المحدودة للألفاظ، وتقرب العمل الشعري من حركة العصر وحيوية المعاناة وتأمل الفكر وإشعاء الوجدان’.
ثانياً: الآراء النقدية لمدرسة الديوان:
‘سجل كل من أعضاء الديوان آراءه النقدية نحو بعض الشعراء والكتاب، إذ نرى العقاد ينقد أحمد شوقي في جزء كبير من الكتاب، كما ينقد مصطفي صادق الرافعي. أما المازني فإنه ينقد زميل له في مدرسته عبد الرحمن شكري، كما ينقد مصطفي لطفي المنفلوطي’.
وهذه بعض القضايا النقدية التي دعت إليها مدرسة الديوان:
قضية التشبيه: ‘يدلي العقاد برأيه في التشبيه الأدبي بصفة عامة: (إن الشاعر هو من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به… إن الناس جميعاً يرون الأشكال والألوان محسوسـة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس)…(الديوان). وقد انتقد شوقي في بعض صور التشبيه في شعره.
الطبع والصنعة: نادى المازني بأن يتحرر الأدب من الصناعة اللفظية، وأن يكون المضمون هو الذي ينبغي أن يعني به الأديب أولاً، لأنه إذا اتضحت له المعاني استقامت له الألفاظ. وقد اتهم المنفلوطي بالصنعة الأسلوبية وبالتكلف في التعبير، ولا يجري على الطبع والسليقة، شاع في أسلوبه كثير من المحسنات البديعية المتكلفة.
صدق الوجدان: ومن آراء شكري ما نادي به بأن يكون الشعر ترجمة عن النفس والوجدان، دون أن يكون الشاعر مشغولاً بغيره مردداً لأقوال سابقيه في معاني شعره: (الشعر هو ما أشعرك، وجعلك تحس عواطف النفس إحساساً شديداً، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه وأحوال نفسه)…’.
وحدة القصيدة:’أن تكون القصيدة عملاً فنياً تاماً يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. وفيها انتقد العقاد شوقي.
التجربة الشعرية: أن تكون التجربة الشعرية مكوناً من مكونات البناء العام للقصيدة المعاصرة بكل ما تنحني عليه التجربة الشعرية من عناصر العاطفة والحس والعقل والتفكير، والحلم والخيال والإيقاع الموسيقي وبكل ما تعنيه التجربة الشعرية من معايشة واقعها الموضوعي والنفسي والفكري واللغوي’. ‘وترتب على ذلك أن تكون لكل شاعر تجربته الذاتية الخاصة، وذلك حتى يتجنب التقليد والأخذ من الآخرين’22ب.
الوزن والقافية: ‘نادوا بالتحرر من قيد الوزن والقافية، لأن الالتزام بذلك يؤدي إلى الملل بسبب تكرر نغمة واحدة على الأذن، وإن كان العقاد قد عدل عن ذلك وأصبح من أكبر المناصرين للشعر العامودي مع إباحة التنويع في القصيدة ذات المقطوعات’.’أما شكري فقد ألغي القافية في عديد من قصائده، وراد بذلك حركة (الشعر المرسل)، والتي ربما تكون أساساً لحركة (الشعر المتحرر) التي رادها بعد (أبو شادي)، ثم لحركة (الشعر الحر) التي رادها أخيراً جيل الأربعينات’.
ثالثاً:جذور المذهب:
‘الواقع أن هذا المذهب له جذور عربية في العصر العباسي، وجذور غربية في القرن التاسع عشر في أوروبا. فأما جذوره في الأدب العربي ففي محاولات أبي تمام وابن الرومي، إذ حاولا أن يعمقا النظرة الشعرية في مجال الفكرة كما صنع أبو تمام، وفي مجال التوليد والإصابة في التشبيهات واستنكاره خفايا الطبيعة كما فعل ابن الرومي.كما أن اكثر القضايا النقدية التي أثارها هذه المدرسة ضد شوقي وحافظ لها جذورها في النقد العربي القديم والحديث، فالتفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر قد التفت إليها النقاد كالآمدي والجرجاني وغيرهما، وقضية وحدة القصيدة التي تكلم فيها السابقون مثل: ابن خلدون والحاتمي (من علماء القرن 14ً) والشيخ المرصفي وخليل مطران’.
رابعاً: ما قصرت فيه مدرسة الديوان:
‘وقفت آراء هذه المدرسة عند باب الشعر الغنائي، ولم تتعد أسوار الشعر الموضوعي أو تقتحمه لتبين لنا رأيها فيه، ولتحدد له أصولاً ومعايير ومناهج تطوره وتنهض به. والمنهج النفسي الذي حاولت مدرسة الديوان تطبيقه في كل شعر وشاعر والاهتمام بظهور شخصية الشاعر في الشعر يعتبر بعداً عن الشعر الموضوعي وقاعدة لا يصح إطلاقها في كل حالة.’.
‘إن الدعوة الجارفة للقيم النقدية ربما تكون قد نمت من خلال التأصيل النظري لها فحسب، وهم شعراء بالدرجة الأولى لم يستطيعوا -إلا قليلاً- تجسيدها في واقع شعري ممتاز يغري بمتابعتها أو التشيع لها، فانصرفوا يدعون لها دعوة نقدية هائلة حتى استقرت كأساس راسخ من أسس قيمنا النقدية المعاصرة، ولقد حاولوها شعراً، ولكن قامتهم الشعرية كانت أقل من حجم الدعوة المغامرة، ومهما يكن من شيء، فإن مدرسة الديوان نهضت قضية تطور شعرنا المعاصر لأخطر الأدوار شكلاً ومضموناً وبناءً ولغة’.
——————————————————————————–
الخاتمة:
ظهر في الأدب العربي الحديث جيل من الشعراء أحيوا صورة الأدب العربي القديم، يترسمون خطا البارودي رائد حركة البعث في المحافظة على الشكل والروح والانتماء، فحال ذلك عن تقديم الجديد في المضمون الأدبي، وتطورت بعدها حركة النقد، فنودي بضرورة التجديد استجابة لدواعي العصر. وللأدب الغربي أثره، فأدخل ألواناً من المذاهب الفلسفية والنفسية الغربية إلى الساحة العربية، كما أوحت الروح الذاتية التي قد شاعت فيه إلى أن الأدب هو الذي يكوّن شخصيةً مستقلة للأديب، فظهرت عدة اتجاهات مختلفة يمثلها أدباء وشعراء، تبعاً لاختلاف مستوى الفكر والإبداع.
وظهرت مدرسة (الديوان) تدعوا إلى التجديد بمفهومه الواعي للشعر وغايته ووسائله، فعملت منذ نشأتها على التمرد في وجه القصيدة العربية التقليدية، فثاروا على نظام القصيدة الطويلة في وحدة النسق والقافية، وتفكك الموضوع أو تعدده في القصيدة الواحدة، وانتقدوا تعالي الشعر عن الواقع التاريخي للحياة، أو بعد عن الروح العصرية وحاجة المجتمع، أو خلوه من عناصر التفكير والشـعور بجواهر الأشياء، أو الغموض وفساد المعنى، أو فقدان المواقف الشخصية وذاتية الرؤية وخصوصية الأسلوب، وبقاء الشعر لغة قديمة مضى عصرها وانزوى.
وضعت المدرسة أسساً قيمة للنقد الأدبي، فدعت إلى التجربة الشعرية والمجاراة للطبع والصدق في الوجدان والإصابة في التشبيه والوحدة في القصيدة والموضوع، ولتعدد المصادر الثقافية لأدباء ونقاد فترة التجديد بين العربية الأصيلة والأجنبية، فقد لقيت الثقافة الغربية بعض الأنصار، تأثروا بها، ودعوا إلى الاحتذاء بالأدب الغربي والتغيير الشامل في الأدب العربي تقليداً بالأدب الغربي بكل ما يحتويه، فبدت ظواهر تدعوا إلى الواقعية والانحلال، وامتدت إلى الأدب ولغته المظاهر السلبية من التجديد. فكما كان لمدرسة الديوان دور مهم في حركة التجديد المنظم في الأدب العربي، كانت هي الواجهة في الدفاع عن شخصية الأدب العربي وملامحه المستقلة المستمد من المنبع العربي الأصيل.
كان عزمها أن يصدر كتاب الديوان في أجزاء عشرة، وخطتها أن تبدأ بالهدم أولاً، ثم تشرع في البناء، لكن لماّ لم يظهر منه إلا جزءان فقد ظلت آراؤها النقدية البنائية مجهولة، ووقفت آراؤها عند الشعر الغنائي، ولم تتعد إلى الشعر الموضوعي لتحدد له أصولاً ومعايير ومناهج، ودعوتها الجارفة للقيم النقدية قد نمت نظرياً، ولكن قَلّمَا استطاعت تجسيدها في واقع شعري بَيّن. وإن كان قد قصرت قامتها الشعرية عما بلغت إليه الدعوة التجديدية، إلا أن آراءها ظلت أسساً راسخة من أسس القيم النقدية الأدبية المعاصرة، وأضحت مدرسة الديوان قضية هامة في نهضة وتطور الشعر العربي الحديث، والأدب العربي المعاصر بشكل عام. والله أعلم.أهـ.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
__________________________________
اضغط الرابط أدناه لتحميل البحث كامل ومنسق جاهز للطباعة
تنزيل “مدرسة-الديوان.docx” مدرسة-الديوان.docx – تم التنزيل 102 مرة – 31.66 كيلوبايت
رائع جدا