بحث عن جمع القران وورد doc
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وجعله سراجًا منيرًا للسالكين سبيله، ويسر لنقله إلينا من اختاره ووفقه من أئمة الهدى، فوصل إلينا غضًّا كما أنزل، لم تصل إليه يد التبديل والتحريف، ولم تطمح إلى النيل منه أطماع الجاحدين والمعاندين، فكان ذلك مصداقًا لقوله -جلَّ ذِكره- في كتابه الحكيم: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{.(1)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله في الأمة الأمية، فعلمها ونصحها، فقامت بحفظ كتاب ربِّها، ونقلته إلينا كما أنزل، على أدق أوجه التحري والإتقان.
أما بعد، فلا يخفى ما للقرآن العظيم من مكانة عند المسلمين، فهو كتاب ربهم وشرعه ودستوره الذي ارتضاه للناس إلى يوم الدين، وهو معجزة نبيهم التي تحدى بِها العرب والعجم.
وقد لقي القرآن من المسلمين على مر العصور أبلغ العناية، وحظي بأقصى درجات الحرص والحيطة، فكان أهل كل عصر يجتهدون في المحافظة عليه بشتى الوسائل التي تتاح لهم، فلم يخل عصر من العصور، ولم يخل مصر من الأمصار، من حامل للقرآن، يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، كما لم يخل من مصحف شريف، سطرت فيه آيات القرآن، وحفظت من التحريف.
ففي زمن النبي ، اجتهد صلوات الله وسلامه عليه في حفظ القرآن الكريم، حتى كان يعجل بحفظ القرآن حال نزوله عليه، إلى أن طمأنه الله بأن تحفيظه مضمون عليه ، فقال: } إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ{ .(2) كما حفظ القرآن خلائق لا يحصون من أصحابه .
وفي ذلك العصر دوِّن القرآن الكريم بين يدي النبي ، فكان ذلك التدوين درعًا لكتاب الله وحافظًا له من الضياع والتحريف.
ثم انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، وخرج حفاظ القرآن إلى المواطن يجاهدون في سبيل الله، فاستحر فيهم القتل، ففزع أصحاب رسول الله ، فأشار الفاروق عمر على أبي بكر – رضي الله عنهما، بأن يجمع القرآن خوفًا عليه من الضياع، فكان ما أراد، وحفظ الله كتابه فصدَّق ما وعد به من التكفل بحفظه.
وفي زمن عثمان رضي الله عنه، كادت فتنةٌ عظيمةٌ تقع بين المسلمين في الأمصار بسبب الاختلاف في حروف القرآءات، فقام الإمام ومن معه من الأصحاب، فنسخوا المصاحف، وأرسلوها إلى الأمصار، وأرسلوا معها معلمين، يقرئون الناس بِها، فصارت هذه المصاحف مراجع لأهل تلك البلدان، واستقامت قراءاتِهم على قراءة من أرسل إليهم من القراء.
واستمرت محافظة المسلمين على القرآن، واجتهادهم في ضبط وكتابة الكتاب المبين، بِما حفظه -بإذن الله- من التبديل والتحريف، فلم يعدم أهل كل عصر أن يجدوا ما يبذلونه في سبيل حفظ كتاب الله، حتى صار المسلمون على مرِّ الزمان مشاركين جمعيًا في المحافظة على القرآن الكريم.
حتى في عصرنا الحاضر، مع ما منَّ الله به علينا من النعم العظيمة، وأظهر على أيدي بني آدم من الابتكارات النافعة المفيدة، وجه الله بصيرة بعض المعاصرين إلى ضرورة الاستفادة من الوسائل الحديثة في حفظ القرآن الكريم، فكان مشروع العصر، متمثلاً في الجمع الصوتي للقرآن الكريم، فكان غيثًا، في عصر أجدبت فيه الألسن، فما عادت تنطق بالفصيح، وكان ذلك العمل حفظًا لكتاب الله، بحفظ تلاوات الأئمة من القراء المجودين.
وقد كان يدور بفكري وأنا طفل صغير خاطرة كانت توقفني كثيرًا، فقد كنت أفكر في نفسي وأقول: هل يعقل أن القرآن نقل إلينا عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولم يتبدل من ألفاظه شيء؟؟ وهل هذا النطق الذي ينطقه القراء هو نفس النطق الذي نطق به النبي وأصحابه؟؟
ثم أنعم الله علي بحفظ كتابه، وكان هذا فضلاً منه تعالى وكرمًا، أن تحمل كلام العزيز الحكيم نفس هذا المقصر المفرِّط، ثم بالغ الله عز وجل في إنعامه وإكرامه، فمنَّ علي بالتخصص في المرحلة الجامعية الأولى في دراسة القرآن الكريم، وفيما يتعلق به من التفسير وعلوم القرآن، والقراءات، وما يتعلق بِها من رسم المصاحف وضبطها، فكان هذا اختيارًا منه تعالى لي، بعد أن كنت متوجهًا إلى المدينة النبوية لدراسة الحديث الشريف وعلومه، ولكن ساقني سبحانه سوقًا إلى هذا التخصص، فأحمده -جلت قدرته- على ما أنعم علي به من حسن الاختيار.
وفي تلك الفترة من دراستي اختلفت إلى دروس القراءات، فرأيت ما لا ينقضي منه العجب من عناية ناقلي القرآن بنقله، كتابة ونطقًا، تجويدًا وتحريرًا، حتى في أدق الهيئات، من إشارة بشفة، أو همسٍ بجزءٍ من حركة.
فرأيت عن كثبٍ جواب ما كان يدور بِخاطري من الوساوس، وأن القوم قد اعتنوا بالكتاب، وقاموا بِما أمروا به من حفظه ونقله إلى الأجيال من المسلمين بعدهم.
ورأيت في دراسة القراءات ورسم المصاحف عمق الرابطة بين نقل القرآن، وبين الرسم العثماني، فمن درس هذين العِلْمين رأى عيانًا أن القراءات المتواترة هي ترجمة دقيقة منطوقة لذلك الرسم، مما يوضح الجهد العظيم، والقدر الرفيع للمصاحف العثمانية، التي أجمع عليها أصحاب النبي .
وقد خفي على كثير من المسلمين في العصور المتأخرة، كثيرٌ من أوجه عناية المسلمين الأوائل بنقل القرآن، حتى صار البعض يشكك في تواتر بعض أوجه القراءة، من الهيئات وينكر وجوب أخذ القرآن مجودًا كما نزل، فدعاني هذا وغيره من الأسباب التي سأوضحها بعد إلى اتخاذ جمع القرآن موضوعًا لأطروحة استكمال متطلبات درجة التخصص ـ الماجستير، فأرجو الله أن أكون موفقًا في عملي هذا، وأن أكون قد جلوت الغبار عن صفحات ناصعة من عناية السلف بنقل القرآن.
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2) الآيات من 17-19 من سورة القيامة.
أسباب اختيار البحث
كان وراء اختياري موضوع (جمع القرآن) في بحث الماجستير أسباب كثيرة، منها:
أن القرآن هو الأصل الأول عند المسلمين في تلقي أحكام الشرع، وقد توجهت عناية علماء المسلمين على مر التاريخ إلى الاهتمام بنقله على أدق الأوجه، ودفع الشبهات عنه.
خفاء الكثير من أوجه عناية النَّبِيّ ، والصحابة فمن بعدهم بنقل القرآن، وبذلهم غاية الجهد في نقله نقلاً صحيحًا دقيقًا متقنًا.
ما أثاره أعداء الإسلام من الشبهات حول جمع القرآن في مراحله المختلفة، بدءًا من عصر النبوة، إلى وقتنا هذا.
تشكيك بعض المتأخرين في نقل هيئات القراءة (1) ووجوب التزام أحكام التجويد.
الدعوات التي ظهرت قرنًا بعد قرن تدعو إلى كتابة القرآن الكريم على الرسم الإملائي، وتطعن في الرسم العثماني المجمع عليه.
وهذا البحث يبرز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويؤكد أن نقل القرآن حظي بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرد على شبهات الطاعنين من أعداء الإسلام على نقل القرآن…
(1) المقصود بذلك أحكام التجويد من المد والقصر والإدغام والإظهار والإخفاء، وما إلى ذلك …
خطة البحث
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وتَمهيد وخمسة أبواب وخاتمة:
مــقدمـــة
ذكرت فيها أسباب اختيار الموضوع، وخطة البحث، والمنهج المتبع فيه.
تمهيـــد
في معنى الجمع في اللغة والمراد بجمع القرآن عند علماء المسلمين
الباب الأول: جمع القرآن في عهد النبي
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: حفظ القرآن في الصدور
وتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
المبحث الثاني: حفظ النَّبِيّ للقرآن الكريم
المبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النَّبِيّ القرآن أو إسقاطه عمدًا
المبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
الفصل الثاني: تدوين القرآن الكريم
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأمر بكتابة القرآن
المبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
المبحث الثالث: كُتَّاب الوحي
الفصل الثالث: ترتيب الآيات والسور
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الآية والسورة لغةً واصطلاحًا
المبحث الثاني: ترتيب الآيات
المبحث الثالث: ترتيب السور
الفصل الرابع: العرضة الأخيرة
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عرض القرآن في كل سنة على جبريل
المبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
المبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن:
الباب الثاني: جمع القرآن في عهد أبي بكر
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر
الفصل الثاني: أول من جمع القرآن من الصحابة
الفصل الثالث: من قام بالجمع في عهد أبي بكر
الفصل الرابع: منهج ومزايا جمع أبي بكر للقرآن
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: منهج أبي بكر في جمع القرآن
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن، ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن
المبحث الثاني: رد الشبهات المثارة حول جمع أبي بكر للقرآن
الباب الثالث: جمع القرآن في عهد عثمان
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد عثمان
الفصل الثاني: من قام بالجمع في عهد عثمان
الفصل الثالث: منهج جمع القرآن في عهد عثمان ومزاياه
وتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: منهج عثمان في جمع القرآن
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد عثمان
المبحث الثالث: الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث
الفصل الرابع: المصاحف العثمانية
وتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: عدد المصاحف العثمانية
المبحث الثاني: الرسم العثماني
المبحث الثالث: حكم اتباع الرسم العثماني
المبحث الرابع: حرق المصاحف المخالفة
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على عثمان في جمع القرآن ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: اعتراض ابن مسعود على عدم توليه الجمع
المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الباب الرابع: جمع القرآن والأحرف السبعة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الأحرف السبعة
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: نزول القرآن على سبعة أحرف
المبحث الثاني: المراد بالأحرف السبعة
الفصل الثاني: الأحرف السبعة في جمع القرآن
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: الأحرف السبعة في الجمع النَّبويّ وجمع أبي بكر للقرآن
المبحث الثاني: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية
الباب الخامس: الجمع الصوتي للقرآن الكريم
الفصل الأول: مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
المبحث الأول: فكرة الجمع الصوتي للقرآن الكريم
المبحث الثاني: أهداف الجمع الصوتي للقرآن الكريم
المبحث الثالث: خطة المشروع وتنفيذه
المبحث الرابع: قيمة الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
الفصل الثاني: مشروع كلية القرآن بالمدينة النبوية لجمع القرآن بالقراءات العشر
المبحث الأول: مشروع الجمع الصوتي للقراءات المتواترة
المبحث الثاني: خطة العمل في المشروع، وتنفيذه
المبحث الثالث: تقويم المشروع
الخاتِمة
وتضمنت أهم نتائج البحث، والتوصيات والاقتراحات
منهج العمل في البحث
1- جمعت الآيات والأحاديث والآثار التي تتعلق بالمبحث أو المسألة.
2- توخيت في النظر في الأحاديث والآثار الصحة في المواضع التي يحتاج فيها إلى الصحة للاستدلال.
3- عزوت الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم.
4- قمت بتخريج الأحاديث من مصادرها التي رواها فيها أصحابُها بأسانيدهم ما أمكن ذلك.(1)
5- عرضت الآراء في حالة الاختلاف عرضًا واضحًا دون ميل إلى رأي دون الآخر، ثم قمت ببيان الرأي الراجح مع التدليل عليه.
6- ترجمت للأعلام الذين أنقل أقوالهم، وتركت الترجمة لمن اتسعت شهرتُهم من الصحابة والعلماء.
7- قمت بشرح وضبط الكلمات الغريبة التي ترد في أثناء الكلام.
8- قدمت قائمة المحتويات على البحث؛ لتكون أسهل تناولاً، ثم ذيلت البحث بفهارس علمية، وهي كالآتي:
1- فهرس الآيات القرآنية مرتبة حسب ترتيب السور في المصحف الشريف.
2- فهرس الأحاديث والآثار مرتبة ترتيبًا هجائيًّا.
3- فهرس الأعلام المترجمين مرتبين ترتيبًا هجائيًّا.
4- قائمة المراجع، مرتبة ترتيبًا هجائيًّا.(2)
والله أسأل أن أكون قد وفقت فيما طرقته من مسائل ومباحث، فما كان فيه من صواب فمن الله، وبِمنِّهِ وفضله، وما كان فيه من خطأٍ فمني ومن الشيطان، فهو عمل بشري، يعتريه النقص الذي يعتري البشر.
قال العماد الأصفهاني: إني رأيت أنه لا يكتبُ أحدٌ كتابًا في يومه، إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيد هذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر.
أسأل الله أن يهدينا إلى سـواء السبيل. إنه على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) حيث قد وجدت بعض الآثار، ولم أجد من أسندها، وذكرتُها استئناسًا لا استدلالاً.
(2) لم أذكر بيانات المراجع في أول موضع لَها في البحث، وتركت ذلك للقائمة التي في نِهاية البحث، لأن مأخذ ذلك أسهل على من يريد الوصول إلى بيانات المرجع.
تمهيد
الجمع في اللغة وجمع القرآن عند علماء المسلمين
الجمع في اللغة
جمع القرآن عند علماء المسلمين
الجمع في اللغة:
قال ابن فارس:(1) الجيم والميم والعين أصلٌ واحدٌ، يدلُّ على تضامِّ الشيء.(2)
فالْجَمْعُ ضَّمُّ المتفرِّقِ بتقريبِ بعضِهِ من بعضٍ، وَهُوَ خِلاَفُ التَّفْرِيقِ وَهُوَ مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ مِنْ بَابِ مَنَعَ.(3)
يقال: جَمَعْتُ الشَّيْءَ عَنْ تَفْرِقَةٍ أَجْمَعُهُ جَمْعًا وَأَجْمَعْـتُهُ، وَجَمَّعْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ مُبَالَغَةٌ فَاجْتَمَعَ وَاجْدَمَعَ.
ويقال للمجموع (وهو الذي جُمِعَ من هاهنا وهاهنا، وإن لم يُجْعَل كالشيء الواحد): جَمْعٌ وجميعٌ وجماعةٌ.(4)
وَيُقَالُ أَجْمَعَ الْمَسِيرَ وَعَلَى الْمَسِيرِ – يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ: عَزَمَ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ جَمَعَ رَأْيَهُ عَلَيْهِ، وَمنهُ الْحَدِيثُ: مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ،(5) أَيْ: مَنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ فَيَنْوِيه.
وَأَجْمَعُوا عَلَى الأَمْرِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ وَاسْتَجْمَعُوا بِمَعْنَى تَجَمَّعُوا، وَاسْتَجْمَعَ السَّيْلُ اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاسْتَجْمَعَتْ لِلْمَرْءِ أُمُورُهُ اجْتَمَعَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ.
ويُقَالُ رَجُلٌ مُجْتَمِعٌ إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ؛ لأَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْقُوَى، أَوْ لأَنَّ لِحْيَتَهُ اجْتَمَعَتْ.
وَالْجَمْعُ الدَّقَلُ؛ لأَنَّهُ يُجْمَعُ وَيُخْلَطُ مِنْ تَمْرِ خَمْسِينَ نَخْلَةً، وَقِيلَ: كُلُّ لَوْنٍ مِنْ النَّخْلِ لاَ يُعْرَفُ اسْمُهُ فَهُوَ جَمْعٌ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى التَّمْرِ الرَّدِيءِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ” بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا”.(6)
وَالْجَمْعُ أَيْضًا الْجَمَاعَةُ، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَيُجْمَعُ عَلَى جُمُوعٍ مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ.
وَجَمْعٌ اسْمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ، إمَّا لأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ بِهَا، وَإِمَّا لأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ بِحَوَّاءَ وَازْدَلَفَ إلَيْهَا أَيْ دَنَا.
والجمع: مصدر قولك: جمعت الشيء، والجمع: المجتمعون، وجمعه: جموع، والجماعة والجميع والْمَجْمَع والْمَجْمَعَةُ: كالجمع.
وفي الحديث: له سَهْمُ جَمْعٍ،(7) أي له سهمٌ من الخير جُمِعَ فيه حظَّانِ، وقيل: أراد بالجمع الجيشَ، أي: كسهمِ الجيشِ من الغنيمة.(8)
وَالْمَجْمَعُ – بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا مِثْلُ الْمَطْلَعِ وَالْمَطْلِعِ – يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ وَعَلَى مَوْضِعِ الاجْتِمَاعِ، وَالْجَمْعُ الْمَجَامِعُ.
وفي الحديث: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ(9) أَيْ كَانَ كَلاَمُهُ قَلِيلَ الأَلْفَاظِ كَثِيرَ الْمَعَانِي.
وَحَمِدْتُ اللهَ تعالى بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ. أَيْ: بِكَلِمَاتٍ جَمَعَتْ أَنْوَاعَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تعالى.(10)
نستخلص مِمَّا سبق أن الجمع يطلق في اللغة على عدة معان،(11) هي:
1 – الْجَمْعُ هو ضم الأشياء المتفرقة بتقريب بعضها من بعض.
2 – الْجَمْعُ مصدر جَمَعَ الشَّيْءَ يجمعُه إذا كان متفرِّقًا فضَمَّ بعضَهُ إلى بعضٍ.
3 – الْجَمْعُ: المجتمعون، تسمية بالمصدر، كالجماعة والجميع والْمَجْمَع والْمَجْمَعَةُ.
4 – الْجَمْعُ: الجيش، كالجميع.
5 – جَمْعٌ: الْمُزْدَلِفَةُ، لأن الناس يجتمعون بِها، أو لأن آدم اجتمع هناك بحواء.
6 – الْجَمْعُ: الدَّقَل؛ لأَنَّهُ يُجْمَعُ وَيُخْلَطُ، وَقِيلَ هُوَ كُلُّ لَوْنٍ مِنْ النَّخْلِ لاَ يُعْرَفُ اسْمُهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الرَّدِيءِ مِنَ التَّمْرِ.
جمع القرآن عند علماء المسلمين:
ثم إن علماء الشرع أطلقوا جمع القرآن(12) على أربعة معانٍ، وهي:
1 – حفظ القرآن في الصدور.
2 – تأليف سور القرآن الكريم.
3 – تأليف الآيات في السورة الواحدة من القرآن الكريم.
4 – كتابة القرآن الكريم في الصحف والمصاحف.
أما الإطلاق الأول فقد حصل في عصر النبي ، حيث حفظ القرآنَ الكريمَ عن ظهر قلبٍ النبيُّ وجمعٌ من أصحابه ، ومنه قوله : } إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {،(13) قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ.(14)
وعن قَتَادَةُ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ.(15)
وأما الإطلاقان الثاني والثالث، فقال الزركشي: قال أبو الحسين أحمد بن فارسٍ في كتاب المسائل الخمس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطُّوال ، وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة رضي اله عنهم(16) وأما الجمع الآخر، فضمُّ الآي بعضها إلى بعضٍ، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيءٌ تولاَّه رسول الله ،ـ(17) كما أخبر به جبريل عن أمر ربه .ـ(18)
وأما الإطلاق الرابع، فيتضمن مرحلتين: الأولى جمع متَفَرِّقِهِ في صحفٍ، وهو ما حدث في عصر الصِّدِّيق ، والثانية: جمع تلك الصحف في مصحفٍ واحدٍ، وهو ما حدث في عصر عثمان بن عفان .ـ(19)
(1) هو الإمام العلامة اللغوي المحدث أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، صاحب كتاب مجمل اللغة، كان رأسًا في الأدب، بصيرًا في فقه مالكٍ، مناظرًا متكلمًا، وكان من رءوس أهل السنة، المجردين على مذهب أهل الحديث، توفي في صفر سنة395 هـ. سير أعلام النبلاء (17/103)، شذرات الذهب لابن العماد (3/132).
(2) أبو الحسين أحمد بن فارس- مقاييس اللغة (1/479).
(3) جمهرة اللغة لابن دريد (2/103)، وتهذيب اللغة للأزهري (1/397).
(4) الراغب الأصفهاني – المفردات في غريب القرآن – تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني – دار المعرفة – بيروت -ص 96-97، وتهذيب اللغة للأزهري (1/397).
(5) رواه أبو داود في سننه عن حفصة – رضي الله عنها -: كتاب الصوم، باب النية في الصوم (2/329) ح: 2454، والنسائي في سننه عن حفصة – رضي الله عنها: كتاب الصيام، باب النية في الصيام – اختلاف الناقلين لخبر حفصة: سنن النسائي مع شرح السيوطي والسندي (2/196-198)، ورواه مالكٌ في الموطأ عن عبد الله بن عمر وعائشة وحفصة : كتاب الصيام، باب من أجمع الصيام قبل الفجر ص 193.
(6) اَلْجَنِيبُ على وزن فَعِيلٍ مِنْ أَجْوَدِ أنواع التَّمْرِ – القاموس المحيط (جنب) ص 89، والحديث متفقٌ عليه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما، البخاري في صحيحه: كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (4/467) ح: 2202-2202، ومسلم في صحيحه: كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا: صحيح مسلم مع شرح النووي (11/20-21).
(7) رواه أبو داود في سننه عن أبي أيوب: كتاب الصلاة، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم (1/158) ح: 578، ومالك في الموطأ عن أبي أيوب: كتاب صلاة الجماعة، باب إعادة الصلاة مع الإمام، والنسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري: كتاب الغسل والتيمم، باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة: سنن النسائي مع شرح السيوطي والسندي (1/213).
(8) ابن الأثير الجزري – النهاية في غريب الحديث والأثر – تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي – المكتبة العلمية – بيروت – (1/296)، وابن منظور الإفريقي – لسان العرب – دار المعارف – القاهرة – (1/678-683).
(9) رواه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي بعثت بجوامع الكلم (13/261) ح 7273.
(10) انظر مادة ( جمع ) في: تهذيب اللغة (1/397-402)، ولسان العرب (1/678-683)، والصحاح (3/1198-1200)، والقاموس المحيط ص 917-918.
(11) مقاييس اللغة (1/479-480)، ولسان العرب (1/678-679،682)، والقاموس المحيط ص 917، والصحاح (3/1198)، وانظر المعجم الوسيط (1/135).
(12) انظر مناهل العرفان (1/239).
(13) الآيتان 16،17 من سورة القيامة.
(14) رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، باب 4، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (1/39)ح 5.
(15) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(16) بحث ترتيب السور، وهل هو توقيفي أو باجتهاد من الصحابة .يأتي في الفصل الثالث من الباب الأول – إن شاء الله.
(17) كما في حديث عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وفيه: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: ضَعْ هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. رواه وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وأحمد في مسنده – مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501.
(18) البرهان في علوم القرآن – الزركشي (1/258-259).
(19) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/148)، وانظر مناهل العرفان (1/239).
الباب الأول
جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الأول: حفظ القرآن في الصدور
الفصل الثاني: تدوين القرآن الكريم
الفصل الثالث: ترتيب الآيات والسور
الفصل الرابع: العرضة الأخيرة
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
المبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
الْمبحث الثاني: حفظ النبيr للقرآن الكريم
بواعث حفظ النبي r للقرآن
الْمبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهرقلبٍ، كما جاء في صفة هذه الأمة عن وهب بن منبه:(1) أمة أناجيلهم في صدورهم،(2) بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.(3)
وقد تكفَّل الله بحفظ هذا الكتاب، كما قال: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { ،(4) وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك:
1 – علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به، فعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ.(5)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ، وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ.(6)
2 – وما ورد من أن حافظ القرآن لا تحرقه النار، فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ(7) ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ.(8)
قال ابن الأثير:(9) … وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له..(10)
3 – ومنه تشفيعه في أهله، فعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.(11)
4 – ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ.(12)
5 – وكذلك إكرام والدي حافظ القرآن، وإعلاء منزلتهما، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيامَةِ، ضَوْءهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا – لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟(13)
6 – ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:(14) حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ(15) أَهْلِ الْجَنَّةِ.(16)
وعن طاوس أنه سأل ابن عباس – رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة ؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.(17)
الْمبحث الثاني: حفظ النبي للقرآن الكريم
كان العرب قبل الإسلام أمَّةً أمِّـيَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، والأمي(18) إنما يعتمد في حفظ ما يحتاج إلى حفظه على ذاكرته، فليس ثَمَّ كتابٌ يحفظ عليه ما يريد حفظه، وقد كان العرب يحفظون في صدورهم ما يحتاجون إلى حفظه من الأنساب والحقوق والأشعار والخطب.
قال : } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّـيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ { .(19)
ولما بُعِثَ النبي في هذه الأمة كانت إحدى آيات ودلائل نبوته أنه أميٌّ؛ حتى لا يتطرق إلى أوهام من يدعوهم أن دعوته مبنية على علمٍ حصَّله من مُعَلِّمٍ، كما قال : } وَمَا كُنْتَ تَـتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِنِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمبْطِلُونَ { .(20)
فلما كان النبي أُمِّـيًّا، فلا غروَ كان كذلك يعتمد على ذاكرته في الحفظ، فلما شرَّفه الله بالرسالة، وكان القرآن الكريم آيته التي تحدى بِها الناس كافة والعرب خاصةً – كان شديد الحرص على حفظ القرآن حال إنزاله – وهو من أشد الأحوال عليه، حتى لقد كان يعاني مشقة عظيمة لتَعَجُّلِهِ حفظَ القرآن الكريم، مخافة أن ينساه، حتى أنزل الله عليه ما يثبت به فؤاده، ويُطَمْئِنُهُ أن القرآن لن يَتَفلَّتَ منهُ:
قال الله : } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ! فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ { .(21)
فطمأنه الله تعالى أن حفظ وبيان القرآن إليه ، وأمره أن ينصت إلى الوحي، كما قال : } وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا { .(22)
قال الحافظ ابن حجر: ولما كان من أصل الدين أن الْمبادرة إلى أفعال الخير مطلوبةٌ، فنُـبِّه على أنه قد يَعترضُ على هذا الْمطلوب ما هو أجَلُّ منهُ، وهو الإصغاء إلى الوحي، وتَفَهُّمُ ما يَرِدُ منه، والتشاغل بالحفظ قد يَصُدُّ عن ذلك، فأُمِرَ ألاَّ يُبَادر إلى التحفظ ؛ لأن تحفيظه مضمونٌ على ربه اهـ.(23)
عن سعيد بن جبيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – فِي قَوْلِهِ تعالى: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ { قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ،(24)
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يُحَرِّكُهُمَا،
وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { قَالَ: جَمْعُـهُ لَكَ فِي صَـدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، } فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ { قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، } ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ كَمَا قَرَأَهُ.(25)
وظاهر السياق يحتمل أن يكون إنما كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ للمشقة التي كان يجدها عند نزول الوحي، فكان يتعجل بأخذه لتزول الْمشقة سريعًا.
وفي روايةٍ أخرى عند البخاري: كان يُحَرِّكُ به لسانه مخافة أن ينفلت منه.(26)
فهذه الرواية صريحةٌ في أن سبب الْمبادرة هو خشية النسيان، أي كان يحرك لسانه لئلا يفلت منه حرف أو تضيع منه لفظة.
وعن الشَّعْبِيِّ في هذه الآية: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ { قال: كان إذا نزل عليه الوحي عَجِلَ يتكلم به من حُبِّه إيَّاه.(27)
وهذه الرواية تدل على أن سبب الْمبادرة هو حب الرسول للقرآن، وحب الشيء يستلزم الخوف عليه، والخوف من ذهابه عنه.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بُعْدَ في تعَدُّدِ السببِ.(28)
بواعث حفظ النبي للقرآن
يُمكن أن نستخلص مِمَّا سبق بواعث حفظ النبي للقرآن الكريم، وهي:
1 – أنه الْمبلِّغ عن ربه تعالى، والحفظ ضروري للبلاغ على الوجه الأكمل الذي أمره الله به.
2 – حب النبي للقرآن الكريم.
3 – خوف نسيان القرآن.
4 – التوثُّق للقرآن، والتحري في ضبط ألفاظه وحفظ كلماته.
(1) تابعي ثقة، ولد سنة 34 هـ، وأخذ عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وغيرهم من الصحابة، كان إخباريًّا قصاصًا، غزير العلم بالإسرائليات وصحائف أهل الكتاب، ومن الْمشهورين بالعبادة والوعظ، تولي قضاء صنعاء. توفي سنة 110 هـ، وقيل سنة 113 هـ، وقيل سنة 114 هـ. سير أعلام النبلاء (4/544)، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/150).
(2) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب صفة رسول الله في التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب، وصفة أمته (1/379).
(3) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/400).
(4) الآية 9 من سورة الحجر.
(5) رواه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير، سورة عبس. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (8/560) ح: 4937.
(6) رواه ابن ماجه في سننه: كتاب الأدب، باب ثواب القرآن. (2/1242) ح: 3780.
(7) الإهاب، ككِتَابٍ: الجِلْد. القاموس الْمحيط ( أهب ) ص 77.
(8) رواه أحمد في الْمسند: مسند الشاميين (5/148) ح 16914، و (5/156) ح 16967، والدارمي في سننه: كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (2/430) ح 3310
(9) هو القاضي الرئيس العلامة الأوحد، مجد الدين أبو السعادات بن الأثير الجزري، صاحب جامع الأصول وغريب الحديث، وغير ذلك، توفي سنة 606? . سير أعلام النبلاء (21/488).
(10) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/83).
(11) رواه ابن ماجه في سننه: الْمقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (1/78) ح: 216. ورواه الترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن ح: 2905، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وأحمد في الْمسند: مسند العشرة الْمبشرين بالجنة عن علي بنحوه (1/239) ح 1271، و (1/241) ح 1281.
(12) رواه ابن ماجه في سننه: الْمقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (1/78) ح: 215.
(13) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن (2/70)ح: 1453 وأحمد في مسنده: مسند الْمكيين (4/466) ح 15218.
(14) عطاء بن يسار الْمدني الفقيه، مولى ميمونة أم الْمؤمنين، تابعي ثبت حجة، كبير القدر، كان إمامًا فقيهًا واعظًا، قاضيًا بالْمدينة، توفي سنة ? . شذرات الذهب (1/125)، وسير أعلام النبلاء (4/448).
(15) العرفاء جمع عَرِيف، وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس – لسان العرب ( عرف ) (4/2899).
(16) رواه الدارمي في سننه: كتاب فضائل القرآن، باب في ختم القرآن (2/470) ح: 3484، ورواه الطبراني عن الحسين بن علي مرفوعًا بلفظ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ. قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن إبراهيم بن سعد الْمدني، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (7/164)، وانظر الإتقان (4/104).
(17) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/218).
(18) الأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ، أو منسوب إلى الأم، كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها، أو على أنه أشبه بأمه منه بأبيه، إذ إن نساء العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة، ووصف النبي بالأمي إما على أحد الْمعاني السابقة، أو على أنه منسوب إلى أمة العرب، وهي الأمة الأمية، وكانوا في الجاهلية لا يعرفون القراءة والكتابة إلا النادر، ولذلك كان أهل الكتاب يصفونهم بالأميين، أو على أنه منسوب إلى أم القرى – شرفها الله. القاموس الْمحيط ص 1392، والجامع لأحكام القرآن (7/190)، وتفسير أبي السعود (3/279).
(19) من الآية 2 من سورة الجمعة.
(20) الآية 48 من سورة العنكبوت.
(21) سورة القيامة، الآيات 16-18.
(22) من الآية 114 من سورة طـه.
(23) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/548) بتصَرُّفٍ يسير.
(24) في كتاب التفسير من صحيح البخاري أن سفيان بن عيينة وصف تحريكه لسانه بقوله: يريد أن يحفظه، قال الحافظ في الفتح: وفي رواية أبي كريب: تعَجَّل يريدُ حفظَه، فنـزلت. فتح الباري (8/548-549).
(25) رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (1/39) ح: 5.
(26) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، كتاب التفسير، باب } إن علينا جمعه وقرآنه { (8/549) ح: 4928.
(27) رواه الطبري في التفسير (29/187).
(28) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/550).
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
الْمبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النبي r القرآن أو إسقاطه عمدًا
مسألة وقوع النسيان من النبي r
الْمبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النبي القرآن أو إسقاطه عمدًا
شكَّك بعض الْملاحدة في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن الكريم وجمعه، وهو حفظ النبي للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي ، واستدلوا على ذلك بدليلين:
الأول: قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { .(29)
فزعموا أن الآيات تدل – بطريق الاستثناء – على أن محمدًا قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي .
والثاني: ما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها.(30)
فزعموا أن النبي أسقط عمدًا بعض آيات القرآن، أو أُنسِيَها.
الجواب عما تعلق به أصحاب هذه الشبهةِ
فيجاب عن دعواهم أن الآيات الكريمات تدل على جواز نسيان النبي بعض القرآن:
أولاً: بأن قوله : } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى { وعدٌ كريمٌ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن، إذ إن (لا) في الآية نافية، وليست ناهية، بدليل إشباع السين، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه.
وقيل (لا) ناهيةٌ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والقول الأول أكثر.(31)
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين: والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف، وعليها القراء.(32)
ومعنى الآية على هذا: سنعلمك القرآن، فلا تنساه، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه.
ثانيًا: إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه، ولم تقع الْمشيئة، بدليل ما مر من قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { ، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته.
ثالثًا: الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى شيئًا من القرآن، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ، فهو للتبرك، وليس هناك شيءٌ استُثني.
قال الفراء:(33)لم يشأ أن ينسى شيئًا، وهو كقوله: } خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك { ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك، والنية ألا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان، يُستثنى فيها، ونية الحالف التمام.(34)
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي القرآن هو محض فضل الله وإحسانه، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه، وفي ذلك إشعارٌ للنبي أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح .ـ(35)
القول الثاني: أن الاستثناء حقيقي، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه ما يقرؤه، إلا ما شاء – سبحانه – أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة، أو على أن الْمراد به الترك، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم.
عن الحسن وقتادة } إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { : أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنَّ.
وقال الطبري: وقال آخرون: النسيان في هذا الْموضع: الترك، قالوا: ومعنى الكلام: سنقرئك يا محمد، فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه.(36)
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات، إذ لا يفهم منها أن النبي قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه.
والجواب عما زعموه في الحديث الشريف:
أولا: أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر- والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ بالآيات، وكان قد أُنسيها، أو أسقطها نسيانًا، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي كانوا نسوها جميعًا، حتى يخاف عليها الضياع.(37)
ثانيًا: أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ.(38)
قال الباقلاني(39) وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادةٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له، ولا قادح في آياته، ولا مفسد لكمال صفاته، ولا مسقط لقدره، ولا منزل له عنه، ولا معرضٍ بتهمته.(40)
ثالثًا: أن قوله : ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى: ( أُنْسِيتُها )، فدل على أنه أسقطها نسيانًا لا عمدًا، فلا محل لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن.
قال النووي: قوله : “كنت أُنْسِيتُها” دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(41)
وترد هنا مسألة وقوع النسيان من النبي ، وهي الْمسألة الآتية.
مسألة وقوع النسيان من النبي
وقوع النسيان من النبي يكون على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه فيما ليس طريقه البلاغ.
فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه من الطبيعة البشرية.
والثاني: وقوع النسيان منه فيما طريقه البلاغ.
وهذا جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً.
قال النووي في شرح قوله : “كنت أُنْسِيتُها”: دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(42)
الشرط الثاني: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره: إما بنفسه، وإما بغيره.(43)
وقال القاضي عياضٌ(44) – رحمه الله: جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يُقَرُّ عليه، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره.(45)
ونسيان النبي لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا:
قال الإسماعيلي:(46) النسيان من النبي لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله في حديث ابن مسعود في السهو: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون.(47)
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال، لظاهر قوله : } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { .(48)
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { ،(49) على بعض الأقوال.
وهذا القسم داخل في قوله : } مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا { .(50)(51)
وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه النسيان في شيء أصلاً، وإنما يقع منه صورته، ليَسُنَّ.(52)
قال القاضي عياضٌ: وهذا تناقض مردودٌ، ولم يقل بِهذا أحد مِمَّن يقتدى به، إلا الأستاذ أبو الْمظفر الإسفراييني(53) من شيوخنـا، فإنه مال إليه ورجحـه، وهو ضعيفٌ متناقض.(54)
(29) سورة الأعلى، الآية 6، وبعض الآية 7.
(30) رواه البخاري في صحيحه، انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (5/312) كتاب الشهادات ح: 2655، و(8/702-705) كتاب فضائل القرآن ح:5037،5038،5042، و(11/140) كتاب الدعوات ح: 6335، ورواه مسلم في صحيحه، صحيح مسلم بشرح النووي كتاب صلاة الْمسافرين، باب الأمر بتعهد القرآن (6/75)، وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة – باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (2/37) ح: 1331، وفي أول كتاب الحروف والقراءات (4/31) ح: 3970.
(31) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312، وفتح القدير (5/420)، تفسير القرآن العظيم (4/500).
(32) الجامع لأحكام القرآن (20/14).
(33) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الأسدي مولاهم، العلامة صاحب التصانيف، إمام النحاة، وصاحب الكسائي، توفي بطريق الحج سنة 207هـ. سير أعلام النبلاء (1/118)، وتذكرة الحفاظ (1/372).
(34) معاني القرآن للفراء (3/256).
(35) مناهل العرفان (1/267-268).
(36) تفسير الطبري (30/154)، وفتح القدير (5/422)، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/702).
(37) مناهل العرفان (1/265).
(38) مناهل العرفان (1/266).
(39) هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، الإمام العلامة، سيف السنة ولسان الأمة، الْمتكلم على لسان أهل الحديث، صاحب التصانيف، وكان يُضرب الْمثل بفهمه وذكائه، وكان ثقة إمامًا بارعًا. صنف في الرد على الرافضة والْمعتزلة وغيرهم من الفرق، مات في ذي القعدة سنة 403هـ . سير أعلام النبلاء (17/190).
(40) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312.
(41) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(42) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(43) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(44) أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض، الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام، استبحر في العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، وهو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بالنحو واللغة وكلام العرب، من مؤلفاته الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى، ومشارق الأنوار. توفي سنة 544هـ . سير أعلام النبلاء (20/212).
(45) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/161)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(46) هو الإمام الحافظ الفقيه الحجة شيخ الإسلام، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الشافعي، صنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، وكان واحد عصره، وشيخ الْمحدثين والفقهاء. توفي سنة 371. سير أعلام النبلاء (16/292).
(47) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ. (1/600) ح 401.
(48) الآية 9 من سورة الحجر.
(49) الآية 6 وبعض الآية 7 من سورة الأعلى.
(50) من الآية 106 من سورة البقرة.
(51) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(52) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/147)، و(2/161).
(53) هو العلامة الْمفتي طاهر بن محمد الطوسي الشافعي، صاحب التفسير الكبير، كان أحد الأعلام، توفي سنة 471هـ . سير أعلام النبلاء (18/401).
(54) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/163-164)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76-77).
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
الْمبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
أسانيد القراء العشرة إلى الصحابة
الْمبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
كان أصحاب النبي يحفظون القرآن بسماعه منه، فهذه أم هشام بنت حارثة ابن النعمان(55) تحفظ سورة من القرآن من في رسول الله :
عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللهِ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ } ق وَالْقُرْآنِ الْمجِيدِ { ،(56) إِلاَّ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.(57)
ومع حرص أصحاب النبي الشديد على تلقي القرآن منه وحفظه – كان يشجعهم ويحثهم على تعلُّم القرآن وتعليمه:
عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ.(58)
وكان يحرص أن يتعلم كل من التحق بدار الإسلام بالْمدينة القرآن، فكان يختار لهم من يعلِّمهم:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ(59) قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يُشْغَلُ، فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ.(60)
ولقد حفظ القرآن الكريم من الصحابة جمع كبير يصعب حصره، فقد ثبت في الصحيحين أنه قتل في بئر معونة(61) سبعون من القراء:
عَنْ أَنَسِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْماءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ.(62)
وروي أنه قتل في وقعة اليمامة(63) كثير من القراء، ويدل على ذلك قول عُمَرَ : إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْموَاطِنِ.(64)
قال الحافظ في الفتح: وهذا يدل على أن كثيرًا مِمَّن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون الْمراد أن مجموعهم جَمَعَهُ، لا أن كل فرد جَمَعَهُ.(65)
وقد عرف من قراء الصحابة كثيرون، منهم الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ ابن جبل، وأبو زيد الأنصاري، وسالْم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر،(66) وأبو أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ومُجَمِّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وأُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارثِ الأَنْصَارِيِّ، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب بن أبي السائب الْمخزومي، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة .ـ(67)
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أنه ذَكَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فقالَ: لاَ أَزَالُ أُحبُّهُ ؛ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالْم، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.(68)
وعن شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.(69)
وعن قَتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ(70) يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ. وفي رواية أَبُو الدَّرْدَاءِ مكان أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.(71)
وعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ(72) وَكَانَتْ قَدْ جَمَعَتِ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا، وَكَانَ لَهَا مُؤَذِّنٌ، وَكَانَتْ تَؤُمُّ أَهْلَ دَارِهَا.(73)
ثم دارت أسانيد القراء العشرة على ثمانية من الصحابة (74) هم:
1 – عثمان بن عفان.
2 – علي بن أبي طالب.
3 – أبي بن كعب.
4 – عبد الله بن مسعود.
5 -زيد بن ثابت.
6 – أبو موسى الأشعري.
7 – أبو الدرداء.(75)
8 – عمر بن الخطاب.
أسانيد القراء العشرة إلى الصحابة
أذكر هنا مَن تصل إليه أسانيد القراء العشرة من الصحابة:
1 – قراءة نافع بن عبد الرحمن الْمدني:(76)
عن ستة من الصحابة هم: عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة.(77)
2 – قراءة عبد الله بن كثير الْمكي:(78)
عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن السائب.(79)
3 – قراءة أبي عمرو البصري:(80)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن السائب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة.(81)
4 – قراءة عبد الله بن عامر الشامي:(82)
عن عثمان بن عفان، وأبي الدرداء.(83)
5 – قراءة عاصم بن أبي النجود:(84)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.(85)
6 – قراءة حمزة بن حبيب الزيات:(86)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والحسين بن على بن أبي طالب.(87)
7 – قراءة علي بن حمزة الكسائي:(88)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة، والحسين بن علي بن أبي طالب.(89)
8 – قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع:(90)
عن زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة.(91)
9 – قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي:(92)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن السائب، وأبي هريرة.(93)
10 – قراءة خلف بن هشام البزار:(94)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، والحسين بن على بن أبي طالب.(95)
(55) وقيل أم هاشم، صحابية أنصارية مشهورة، روت حديث قراءة سورة ق على الْمنبر يوم الجمعة، وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة لأمها. أسد الغابة في معرفة الصحابة (7/403)،و(7/406)، وتقريب التهذيب ص 759 ترجمة 8779.
(56) الآية 1 من سورة ق.
(57) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة ح: 873، انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (6/162)، والنسائي في سننه: كتاب الجمعة، باب القراءة في الخطبة ح1411، انظر سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي (3/107)، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة باب الرجل يخطب على قوس (1/288) ح 1100.
(58) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ (8/691) 5027.
(59) هو أبو الوليد عبادة بن الصامت الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، ومن أعيان البدريين، شهد الْمشاهد كلها مع رَسُول اللهِ ، وسكن بيت الْمقدس، مات بالرملة سنة 34 هـ . سير أعلام النبلاء (2/5)، وأسد الغابة (3/160)، وشذرات الذهب (1/40-62).
(60) رواه أحمد في مسنده باقي مسند الأنصار (6/443) ح 22260.
(61) محل شرقي الْمدينة، بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم قِبَل نجدٍ، وبِها أرسل النَّبِيّ نفرًا من القراء إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام، فغدر بِهم عامرُ بن الطفيل فقتلهم، وكانوا سبعين رجلاً، وكان ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة. السيرة النبوية لابن هشام (3/103-108)، والْمصباح الْمنير ص 170.
(62) البخاري في كتاب الجهاد والسير باب من يُنْكَب في سبيل الله. صحيح البخاري مع فتح الباري (6/23) ح2801، ومسلم في كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد ح 677. صحيح مسلم مع شرح النووي (13/46-47).
(63) اليمامة من حروب الردة، وهي الوقعة التي قاتل فيها الْمسلمون مسيلمة الكذاب ومن معه سنة 11 هـ ، استشهد فيها من الصحابة أكثر من ستمائة رجل، وكان جملة القتلى من الْمسلمين نحو 960 رجلاً، وقتل من الْمرتدين أكثر من عشرين ألف رجلٍ. تاريخ الأمم والْملوك – الطبري (2/283)، والبداية والنهاية (6/330)، وتاريخ الإسلام للذهبي في جزء حوادث سنة 11-40 هـ ص 73، وذكر الحافظ في الفتح أن القتلى من القراء كانوا سبعين، فتح الباري (8/668)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/199-204).
(64) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/626) ح 4986.
(65) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(66) قال الذهبي بعد ذكر معاذ بن جبل، وأبي زيد، وسالْم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر: ولكن لم تتصل بنا قراءتهم. معرفة القراء الكبار (1/42).
(67) انظر: جمال القراء وكمال الإقراء (2/424)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 67-70، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/668)، والإتقان (1/199-204).
(68) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 4999.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(69) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5000.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(70) قال النووي: هو سعد بن عبيد بن النعمان الأوسي، من بني عمرو بن عوف، بدري، يُعرف بسعد القارئ، استشهد بالقادسية سنة خمس عشرة في أول خلافة عمر بن الخطاب ، قال ابن عبد البر: هذا هو قول أهل الكوفة، وخالفهم غيرهم فقالوا: هو قيس بن السكن الخزرجي، من بني عدي بن النجار، بدري، قال موسى بن عقبة: استشهد يوم جيش أبي عبيد بالعراق، سنة خمس عشرة أيضًا. شرح النووي على صحيح مسلم (16/20).
وقال ابن الأثير بعد أن ذكر ترجيح الواقدي أنه قيس بن السكن: هذا كله قول الواقدي. وغيره يصحح أنَّهما – يعني هذا (سعد بن عبيد ) وقيس بن السكن – جميعًا جمعا القرآن على عهد رسول الله . أسد الغابة في معرفة الصحابة (6/128).
وذكر الحافظ ابن حجر عن علي بن الْمديني أن اسمه أوس، وعن يحيى بن معين: هو ثابت بن زيد. فتح الباري (7/159)، وذكر أيضًا قولاً أنه قيس بن أبي صعصعة، وقولاً أنه سعد بن الْمنذر. فتح الباري (8/669).
(71) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(72) وقيل أم ورقة بنت نوفل، وهي صحابية، كانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النَّبِيّ أن تتخذ مؤذنًا، فأذن لها، فكانت تؤم أهل دارها، ماتت في خلافة عمر، قتلها خدمها، وكان النَّبِيّ يسميها الشهيدة. أسد الغابة في معرفة الصحابة (7/408-409)التقريب ص 759، ترجمة 8780.
(73) رواه أحمد في مسنده: مسند القبائل (7/554) ح 26739، وانظر الإتقان (1/203).
(74) هؤلاء الثمانية هم الذين قرءوا على النبي مباشرة، وإن كان في أسانيد القراء من لم يقرأ على النبي، بل قرأ على بعض الصحابة، كابن عباس والحسينبن علي، وأبي هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عياش، كما سيأتي.
(75) قال الإمام الذهبي: فهؤلاء الذين بلغنا أنَّهم حفظوا القرآن في حياة النبي ، وأُخذ عنهم عرضًا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة. اهـ . معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (1/42).، وقد وردت رواية القرآن عن عمر كما سيأتي قريبًا في ذكر من روى عنهم القراء من الصحابة، وانظر النشر في القراءات العشر (1/112،120).
(76) هو الإمام حبر القرآن، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم، أبو رويم الْمقرئ الْمدني، أحد الأعلام، ولد سنة بضع وسبعين للهجرة، قرأ وجوَّد كتاب الله على طائفة من التابعين من أهل الْمدينة، منهم: الأعرج، وأبو جعفر، قال عنه مالك: نافعٌ إمام الناس في القراءة، وكان طيب الخلق، يباسط أصحابه، إذا تكلم يشم من فيه رائحة الْمسك، توفي سنة 169 هـ . شذرات الذهب (1/270)، ومعرفة القراء الكبار (1/107)، وسير أعلام النبلاء (7/336).
(77) أبو هريرة أسلم متأخرًا، وابن عباس وابن عياش من صغار الصحابة، وقد قرؤوا جميعًا على أبي بن كعب ، وقرأ أبو هريرة وابن عباس على زيد بن ثابت أيضًا. انظر النشر في القراءات العشر (1/112،178)، ومعرفة القراء الكبار (1/45،57).
(78) هو الإمام العلم، مقرئ مكة، ولد سنة 48 هـ، قرأ على عبد الله بن السائب الْمخزومي، ومجاهد ودرباس مولى ابن عباس، وكان مهيبًا فصيحًا مفوَّهًا واعظًا كبير الشأن، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل بن عباد، وطائفة غيرهم. معرفة القراء الكبار (1/86)، وسير أعلام النبلاء (5/318).
(79) عبد الله بن السائب من صغار الصحابة، وقد قرأ على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب، وقرأ عليه ابن كثير من غير واسطة. انظر النشر في القراءات العشر (1/120)، ومعرفة القراء الكبار (1/47).
(80) هو شيخ القراءة والعربية، الإمام مقرئ أهل البصرة، أخذ القراءة عن أهل الحجاز، كمجاهد وابن كثير من مكة، وأبي جعفر ويزيد بن رومان من الْمدينة، وكذلك عن أهل البصرة، كيحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم، وكان أكثر القراء العشرة شيوخًا، ويلاحظ ذلك من كثرة من قرأ بقراءتهم من الصحابة. وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة، وكان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. توفي 154 هـ . معرفة القراء الكبار (1/100)، وسير أعلام النبلاء (6/407).
(81) النشر في القراءات العشر (1/133).
(82) هو الإمام الكبير مقرئ الشام، وأحد الأعلام، أبو عمران اليحصبي الدمشقي، ولد سنة 21 هـ، وقرأ على أبي الدرداء، والْمغيرة بن أبي شهاب، صاحب عثمان، توفي سنة 118 هـ. معرفة القراء الكبار (1/82)، وسير أعلام النبلاء (5/292).
(83) قطع الحافظ أبو عمرو الداني، وصحح ابن الجزري أن عبد الله بن عامر قرأ على أبي الدرداء دون واسطة. النشر في القراءات العشر (1/144).
(84) هو عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي مولاهم الكوفي، الإمام الكبير، انتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزِرِّ بن حبيش، وقرأ عليه خلق كثير، كالأعمش، والْمفضل الضبي، وحفص بن سليمان، توفي آخر سنة 127 هـ، وقيل 128 هـ. معرفة القراء الكبار (1/88)، وسير أعلام النبلاء (5/256)، وشذرات الذهب (1/175).
(85) النشر في القراءات العشر (1/155).
(86) هو الإمام القدوة، شيخ القراءة، أبو عمارة التيمي مولاهم الكوفي، كان إمامًا قيمًا لكتاب الله، قانتًا لله، ثخين الورع، رفيع الذكر، عالْما بالفرائض والحديث، عديم النظير. توفي سنة 156 هـ. معرفة القراء الكبار (1/111)، وسير أعلام النبلاء (7/90)، وشذرات الذهب (1/240).
(87) قرأ الحسين على أبيه علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما، النشر في القراءات العشر (1/155،165).
(88) هو الإمام شيخ القراءة والعربية، أحد الأعلام، ولد في حدود سنة عشرين ومائة، وقرأ القرآن على حمزة وعيسى الهمداني، وإليه انتهت الإمامة في القراءة والعربية، كان أعلم الناس بالنحو، وكان أوحد الناس في القرآن، أدَّب الرشيد وولده الأمين، فنال ما لم ينله أحدٌ من الجاه والْمال والإكرام، وحصل له رياسة العلم والدنيا. شذرات الذهب (1/321)، ومعرفة القراء الكبار (1/120)، وسير أعلام النبلاء (9/131).
(89) النشر في القراءات العشر (1/172).
(90) قارئ الْمدينة، الزاهد العابد، رفيع الذكر، قرأ على أبي هريرة، وابن عباس، وقرأ عليه نافع وغيره، وكان من أفضل أهل زمانه، رؤي بعد موته على ظهر الكعبة يخبر أنه من الشهداء الكرام، توفي 129 هـ. شذرات الذهب (1/176)، ومعرفة القراء الكبار (1/72).
(91) قرأ أبو جعفر على عبد الله بن عياش وابن عباس وأبي هريرة بغير واسطة، وقيل إنه قرأ أيضًا على زيد بن ثابت نفسه، قال ابن الجزري: وذلك محتمل، فإنه صح أنه أتي به إلى أم سلمة زوج النبي فمسحت على رأسه، ودعت له، وأنه صلى بابن عمر بن الخطاب، وأنه أقرأ الناسَ قبل الحرة، وكانت الحرة سنة 63 هـ.. النشر في القراءات العشر (1/178).
(92) قارئ أهل البصرة في عصره، أحد الأئمة الأعلام، قرأ على أبي الْمنذر سلام بن سليم، كان من أعلم الناس بالحروف والاختلاف في القرآن العظيم، وتعليل مذاهبه، ومذاهب النحويين، توفي سنة 205 هـ. شذرات الذهب (2/14)، ومعرفة القراء الكبار (1/157).
(93) النشر في القراءات العشر (1/185-186).
(94) هو الإمام الحافظ الحجة، شيخ الإسلام، أبو محمد البغدادي البزار، ولد سنة 150 هـ، قرأ على سليم عن حمزة، وله اختيار خالف فيه حمزة، وقرأ عليه أحمد بن يزيد الحلواني، والكسائي الصغير، وغيرهم، وكان عابدًا فاضلاً من النبلاء، كثير العلم، صاحب سنة. توفي سنة 229 هـ. معرفة القراء الكبار (1/208)، وسير أعلام النبلاء (10/276).
(95) النشر في القراءات العشر (1/191).
الرد على طعن الْملاحدة في تواتر القرآن
تعلق بعض الْملاحدة بحديث أنس في حصر من جمع القرآن في عهد النبي :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ.(96)
وفي رواية قتادة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ.(97)
فقالوا: كيف يكون القرآن متواترًا، مع ما يروى عن أنس مِن حَصْر مَن جمع القرآن في هؤلاء الأربعة.
وتعلقوا أيضًا بأن أسانيد القراء تدور على ثمانية فقط من أصحاب النبي ، فقالوا: إن هذا العدد لا يبلغ مبلغ التواتر.
ويجاب عن حديث أنس بوجوه:
أولاً: الجواب بأن الحصر في كلام أنس إضافي، لا حقيقي.
أي أن قول أنس (أَرْبَعَةٌ) لا مفهوم له؛ وليس الحصر في كلامه حقيقيًّا، بل هو حصر إضافي، أي: بالإضافة إلى غيرهم، وإلا فأين الخلفاء الأربعة، وأين سالْم مولى أبي حذيفة، وأين أبو موسى وغيرهم.ولذلك ثلاثة أدلة:
الأول: كثرة الحفاظ من الصحابة:
فقد روي حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي ، وثبت في الصحيح أنه قُتِل يوم بئر معونة سبعون مِمَّن جمع القرآن،(98) وروي أنه قتل في وقعة اليمامة(99) مثلهم.
فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ، فكيف الظن بِمن لم يُقتل مِمَّن حضرها، ومن لم يحضرها وبقي بالْمدينة أو بمكة أو غيرهما.
الثاني: استحالة إحاطة أنس بحال كل الصحابة وأنَّهم لم يجمعوا القرآن كله.
أي بتقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف له الإحاطة بكل من جمع القرآن مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلدان، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي ، وهذا في غاية البعد في العادة. وقد يكون مراده: الذين علمهم من الأنصار أربعة، وأما غيرهم من الْمهاجرين والأنصار الذين لا يعلمهم فلم ينفهم، ولو نفاهم كان الْمراد نفي علمه، وإذا كان الْمرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك.
كما أنه لم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من كبار الصحابة، الذين يبعد كل البعد أنَّهم لم يجمعوه،(100) مع كثرة رغبتهم في الخير وحرصهم على ما دون ذلك من الطاعات، وكيف نظن هذا بِهم، ونحن نرى أهل العصور اللاحقة يحفظ القرآن منهم في كل بلدة ألوف، مع بعد رغبتهم في الخير عن درجة الصحابة؟ مع أن الصحابة لم يكن لهم أحكام مقررة يعتمدونَها في سفرهم وحضرهم إلا القرآن، وما سمعوه من النبي ، فكيف نظن بِهم إهماله ؟ فكل هذا وشبهه يدل على أنه لا يصح أن يكون معنى الحديث أنه لم يكن في نفس الأمر أحد جمع القرآن إلا الأربعة الْمذكورون.(101)
الثالث: اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة
فمِمَّا يدل على إرادة الحصر الإضافي اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة، ففي رواية: أبي ومعاذ وزيد وأبو زيد،(102) وفي رواية أخرى أبو الدرداء مكان أبيٍّ،(103) وهذا دليل على عدم إرادة الحصر الحقيقي، فهو صادق في كلتا الروايتين ؛ لأنه ليس معقولاً أن يكذب نفسه، فتعين أن الْمراد بالحصر هنا حصر إضافي، بأن يقال: إن أنسًا تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة، ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء، ثم تعلق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة، ويذكر معهم أبا الدَّرْداء دون أُبَيِّ بن كعبٍ.(104)
كما اختلف العلماء في تحديد أبي زيدٍ الْمذكور في هذا الحديث، فبعضهم يَجعله سعد بن عبيد الأوسي، وبعضهم يجعله قيس بن السكن الخزرجي، وبعضهم يصحح أنَّهما جميعًا جمعا القرآن على عهد رسول الله ،ـ(105) وبعضهم يجعله قيس بن أبي صعصعة.(106)
والاختلاف في تحديد الْمعدود الْمحصور يدل على عدم إرادة الحصر الحقيقي.
ثانيًا: الجواب بتقدير مراد أنس بالحصر الإضافي:
وذلك بوجوه:
الأول: أن الْمراد به: لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بِها إلا أولئك.
الثاني: أن الْمراد: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته، وما لم ينسخ غيرهم.
الثالث: أن الْمراد بجمعه: تلَقِّيهِ من فِي رسول الله بغير واسطة، بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة.
الرابع: أنَّهم تصدوا لإلقائه وتعليمه، فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عُرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه.
الخامس: أن الْمراد بالجمع في هذا الحديث الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة، وحفظوه عن ظهر قلب.
السادس: أن الْمراد أن أحدًا لم يفصح بأنه جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله إلا هم، بخلاف غيرهم، فلم يفصح أحد منهم بأنه أكمل حفظه إلا عند رسول الله حين نزلت آخر آية منه، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة مِمَّن جمع جميع القرآن.(107)
ثالثًا: مع التسليم بثبوت كلام أنس على الحصر الحقيقي، فإن ذلك لا يقدح في تواتر القرآن.
فلو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة، لم يقدح ذلك في تواتر القرآن ؛ فإن أجزاءه حفظ كلَّ جزءٍ منها خلائق لا يحصون، يحصل التواتر ببعضهم، وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعُهم جميعَه، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك، ولم يخالف في هذا مسلمٌ ولا ملحدٌ.(108)
وهناك احتمالات ضعيفة فيها تكلف،(109) منها:
1 – أن الْمراد بجمعه السمع والطاعة له، والعمل بموجبه.
2 – أن الْمراد إثبات ذلك للخزرج فقط دون الأوس، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من الْمهاجرين ومن جاء بعدهم.
أما دوران أسانيد القراء على ثمانية من الصحابة فقط، فيجاب بأن هؤلاء الثمانية هم الذين نقل إلينا قراءتهم، ولا ينفي ذلك إقراء غيرهم، ومعرفتهم بقراءة هؤلاء، وإقرارهم عليها، كما أن تواتر القرآن يختلف عن تواتر الحديث، فعند علماء الحديث من أقسام الْمتواتر: تواتر الطبقة، ومثلوا له بتواتر القرآن، فقد تلقاه جيل عن جيلٍ، فهو لا يحتاج إلى إسناد.(110)
(96) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663). وقد صرح أنس في هذه الرواية بصيغة الحصر، قال الحافظ: وقد استنكره جماعة من الأئمة.( يعني التصريح)، انظر فتح الباري (8/668).
(97) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159) ح 3810، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(98) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب من يُنْكَب في سبيل الله. صحيح البخاري مع فتح الباري (6/23) ح2801، ومسلم في كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد ح 677. صحيح مسلم مع شرح النووي (13/46-47).
(99) اليمامة من حروب الردة، وقعت سنة 11 هـ، سبق الحديث عنها ص 15.
(100) والذين منهم من كان يقول: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. كما روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ـ (8/662) ح 5002.
(101) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 67، وفتح الباري (8/667-668)، وشرح النووي على صحيح مسلم (16/19)، والإتقان (1/200).
(102) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(103) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي . انظر الصحيح مع فتح الباري (8/663) ح 5004.
(104) مناهل العرفان (1/243-245).
(105) أسد الغابة في معرفة الصحابة (6/128).
(106) ذكره ابن أبي داود فيمن جمع القرآن. انظر فتح الباري (8/669).
(107) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 68-69، وفتح الباري (8/667)، والإتقان (1/200-201).
(108) شرح النووي على صحيح مسلم (16/20)، وفتح الباري (8/668)، والإتقان (1/200).
(109) انظر فتح الباري (8/668-669).
(110) تعليقات اليماني على نزهة النظر ص 22.
الفصل الثاني
تدوين القرآن الكريم
الْمبحث الأول:الأمر بكتابة القرآن
سبب جمع القرآن كتابة في العصر النبوي
مواد الكتابة في العصر النبوي
الْمبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
الْمبحث الأول: الأمر بكتابة القرآن
كان تعويل النبي وأصحابه أول الأمر على جمع القرآن في القلوب بِحفظه واستظهاره، ضرورةَ أنَّه نبي أمي، بُعِث إلى أمة أميَّةٍ.
قال ابن الجزري: (1) ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط الْمصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة.(2)
ففي الحديث الذي رواه مسلم عن النبي فيما يَحكيه عن الله أنَّه قَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ الْماءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ.(3)
فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالْماء.(4)
ثم كان من مزيد عناية النبي وأصحابه أن اعتنوا بكتابة القرآن الكريم، حتى يكون ذلك حصنًا ثانيًا لِحمايته من التغيِير والضياع.
فأمر النبي بكتابة القرآن، حفظًا له في السطور بعد أن حفظه هو وأصحابه في الصدور، ونَهى في بداية الأمر(5) عن كتابة غير القرآن ؛ حتى لا يلتبس به:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلاَّ الْقُرْآنَ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ.(6)
قال النووي : وكان النهي(7) حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلمَّا أُمن ذلك أذن في الكتابة ، وقيل: إنَّما نَهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة.(8)
وزاد الحافظ ابن حجر وجهًا أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره.(9)
وقد بلغ من عناية النبي بتدوين القرآن أنَّه كان إذا أنزل عليه شيءٌ يدعو أحد كُتَّابه ، ويأمره بكتابة ما نزل عليه – ولو كان كلمة واحدة ، أو سورة طويلة – بمجرد نزوله عليه :
فعن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قال: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: ضَعْ هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(10)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ فَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ عَلَى فَخِذِي فَمَا وَجَدْتُ ثِقْلَ شَيْءٍ أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اكْتُبْ فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لَمَّا سَمِعَ فَضِيلَةَ الْمجَاهِدِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَضَى كَلامَهُ غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي وَوَجَدْتُ مِنْ ثِقَلِهَا فِي الْمرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمرَّةِ الأُولَى ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ اقْرَأْ يَا زَيْدُ فَقَرَأْتُ } لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ { فَقَالَ رَسُولُ اللهِ } غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ { ،(11) الآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَأَنْزَلَهَا اللهُ وَحْدَهَا، فَأَلْحَقْتُهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِفٍ.(12)
وروى أبو صالح عن ابن عباس في سورة الأنعام، قال: هي مكية، نزلت جُملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم.(13)
سبب جمع القرآن كتابة في العصر النبوي
وعد الله تعالى بحفظ الكتاب الكريم، قال تعالى: } إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {،(14) ولما كانت الكتابة من أسباب الحفظ، فقد يسرها الله للمسلمين، وأمر بِها النبي ، وفعلها كُتَّابه بحضرته ، هذا، وقد كان لكتابة القرآن أسباب أخرى، منها:
1 – أن النبي كان مطالبًا بتبليغ الوحي، قال تعالى: } يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك {،(15) والتبليغ في حاجة ماسَّة إلى الكتابة، فبها تقوم الحجة على من يرى الكتاب ممن لم يسمع البلاغ باللسان، إما لبعد داره أو بعد زمانه عن دار وزمان النبي .
2 – أن الكتابة أدعى إلى حفظ التنزيل وضبطه، وأبعد عن ضياعه ونسيانه،فاقتضى ذلك تعضيد الْمحفوظ في الصدور بالْمكتوب في السطور، لأنَّه وإن كان النبي حيًّا بين أظهرهم، إلا أنَّه بصدد أن يموت، ولا يُدرى متى يموت، كما أنَّه لا يُؤمَن أن يفنى حُفَّاظُه في أي ساعة، وقد مرَّ أن سبعين منهم قتلوا في بئر معونة، ومثلهم أو يزيد قتلوا في وقعة اليمامة،(16) فاقتضى ذلك أن يُكْتَب القرآن بِمجرد نزوله.(17)
مواد الكتابة في العصر النبوي
كان أصحاب النبي يستعملون في كتابة القرآن كل ما توفَّر في بيئتهم وتيسَّر لَهم من أدوات الكتابة كالجلود والعظام والحجارة ونحوها، فكانوا يكتبون القرآن على الرِّقَاع،(18) وَالأَكْتَافِ،(19) وَالْعُسُبِ،(20) واللخاف،(21) والأضلاع،(22) والأقتاب،(23) والأَلواحِ،(24) وقطع الأديم،(25) والكرانيف.(26)
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قال: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ.(27)
وفي رواية: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ.(28)
وفي رواية :ومن الأضلاع، وفي رواية: والأقتاب.(29)
وعَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقال: ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ.(30)
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا بِالْمرْبَدِ فَجَاءَ رَجُلٌ أَشْعَثُ الرَّأْسِ بِيَدِهِ قِطْعَةُ أَدِيمٍ أَحْمَرَ، فَقُلْنَا: كَأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؟ فَقَالَ: أَجَلْ. قُلْنَا: نَاوِلْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ الأَدِيمَ الَّتِي فِي يَدِكَ، فَنَاوَلَنَاهَا فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ …(31)
قال ابن الأثير: وحديث الزهري: والقرآن في الكرانيف. يعني أنَّه كان مكتوبًا عليها قبل جمعه في الصحف.(32)
هذه الآثار وغيرها تدلنا على عظيم بلاء الصحابة في كتابة القرآن، وما تحملوه من الْمشقات، حيث إن مواد الكتابة في ذلك العهد لم تكن متوفرة، كما أن الْموجود منها لم يكن سهل الاستعمال، بل كان يحتاج إلى جهد كبير في التجهيز والإعداد.
وبقي القرآن مكتوبًا على هذه الأشياء محفوظًا عند النبي وأصحابه، ولم يجمع في صحف أو مصاحف في ذلك العهد.(33)
قال القسطلاني:(34) وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور.(35)
الْمبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
توفي النبي والقرآن مفرقٌ في الرقاع والعسب والعظام والأحجار، ولم يُجمع القرآن في زمنه في صحف ولا مصاحف:
فعن زيد بن ثابت قال: قُبِضَ النَّبِيُّ ، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ جُمِعَ فِي شَيْءٍ.(36)
قال السيوطي: ولا ينافي ذلك؛(37) لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة.(38)
قال القسطلاني: وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور.(39)
وإنَّما ترك النبي جمع القرآن في مصحف واحد لاعتبارات كثيرة، منها:(40)
1 – أنَّه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعًا في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف ، ولا مثل ما وجد في عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف، فالْمسلمون وقتئذ بخير، والقراء كثيرون، والإسلام لم تتسع دولته، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة ، وأدوات الكتابة غير ميسورة ، والنبي بين أظهرهم، وعنايته باستظهار القرآن تفوق الوصف، فلا خوف على ضياع شيء منه في تلك الْمدة .
2 – أن النبي كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله نسخه من القرآن، ولو جمع القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة لتغيير الْمصاحف كلما وقع نسخ .
3 – أن القرآن لم يَنْزِل جملة واحدة ، بل نزل منجمًا في مدى عشرين سنة أو أكثر، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النُّزُول، ولو جُمِع القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة لتغيير الْمصاحف كلما نزلت آية أو سورة.
(1) هو الإمام العلامة محمد بن محمد بن محمد بن علي بن الجزري، الْمقرئ الْمجود، صاحب التصانيف العظيمة في القراءات، كالنشر وتقريبها، والدرة والطيبة، وغيرها كثير، وألف أيضًا في التفسير والحديث والفقه والعربية، ونظم كثيرًا في العلوم وغير ذلك في فنون شتى. توفي سنة 833 هـ. مقدمة النشر في القراءات العشر (1/د).
(2) النشر في القراءات العشر (1/6)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/400).
(3) مسلم في الصحيح كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها بَاب الصِّفَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ (17/198) ح 2865، وأحمد في مسند الشاميين (5/166) ح 17030.
(4) في شرح قوله: لا يَغْسِلُهُ الْماءُ قال ابن الأثير: أراد أنَّه لا يُمحى أبدًا، بل هو محفوظ في صدور الذين أوتوا العلم، } لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { وكانت الكتب الْمنزلة لا تُجمع حفظًا ، وإنما يعتمد في حفظها على الصحف، بخلاف القرآن، فإن حفاظه أضعاف مضاعفة لصحفه . النهاية في غريب الحديث والأثر (3/367).
(5) ورد التصريح بكتابة الحديث بعد ذلك ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في فتح مَكَّةَ: فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ. قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ . رواه مسلم في كتاب الحج بَاب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا إِلا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ (9/129) ح 1355 ، والبخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم (1/248) ح 112. قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر اختلاف السلف من الصحابة والتابعين في كتابة العلم: استقر الأمر وانعقد الإجماع على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه ، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم . فتح الباري (1/246)، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (18/129-130).
(6) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم – صحيح مسلم مع شرح النووي (18/129) ح 3004، والدارمي في الْمقدمة.باب من لم ير كتابة الحديث (1/119) ح 450 .
(7) يعني عن كتابة الحديث.
(8) شرح النووي على صحيح مسلم (18/130)، والْمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي ص 410 وما بعدها.
(9) فتح الباري (1/251).
(10) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وأحمد في مسنده – مسند العشرة الْمبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501.
(11) من الآية 95 من سورة النساء.
(12) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب قول الله } لا يستوي القاعدون … { (6/53) ح 2832 ، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة بَاب سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنِ الْمعْذُورِينَ (13/42-43) ح 1898، وأبو داود في سننه كتاب الجهاد بَاب فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُعُودِ مِنَ الْعُذْرِ (3/11) ح 2507.
(13) ذكره ابن الجوزي في زاد الْمسير في علم التفسير (3/1) ، ومحاسن التأويل (تفسير القاسمي) (6/2230).
(14) الآية 9 من سورة الحجر.
(15) سورة الْمائدة ، الآية 67.
(16) راجع مبحث الحفاظ من الصحابة.
(17) مناهل العرفان (1/362).
(18) الرقاع جمع رُقْعة، وهي التي يكتب فيها، وتكون من جلد أو كاغد. لسان العرب مادة (رقع) (3/1705).
(19) الأكتاف جمع كَتِف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدوابِّ، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. النهاية في غريب الحديث (4/150).
(20) العسب جمع عسيب ، وهو جريد النخل ، كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعف.النهاية في غريب الحديث (3/234)، ولسان العرب مادة (عسب) (4/2936).
(21) اللخاف جمع لَخْفة، وهي صفائح الحجارة البيض الرقاق، فيها عرض ودقة، وقيل هي الخزف يصنع من الطين الْمشوي.وقد فسرها بعض الرواه بالحجارة. انظر كتاب الْمصاحف لابن أبي داود ص 13،14، وبعضهم بالخزف. انظر فتح الباري (13/195) ح 7191.
(22) الأضلاع هي عظام الجنبين، جمع ضِلَعٍ، وهو محنيَّة الجنب. لسان العرب مادة (ضلع) (4/2598).
(23) الأقتاب جمع قَتَب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع ظهر البعير ليركب عليه. فتح الباري (8/630).
(24) الألواح جمع لَوْح، وهو كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب، والكتف إذا كتب عليها سميت لوحًا. لسان العرب مادة (لوح) (5/4095).
(25) الأديم هو الجلد ما كان، وقيل الأحمر منه، وقيل هو الْمدبوغ. لسان العرب مادة (أدم) (1/45).
(26) الكرانيف جمع كُرْنافة ، وهي أصل السَّعَفة الغليظة. النهاية في غريب الحديث (4/168).
(27) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب } لقد جاءكم رسول من أنفسكم… { (8/194-195) ح 4679.
(28) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا (13/195) ح 7191.
(29) رواهما ابن أبي داود في كتاب الْمصاحف ص 14،15.
(30) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ (8/637-638) ح 4990.
(31) رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء بَاب مَا جَاءَ فِي سَهْمِ الصَّفِيِّ (3/153) ح 2999.
(32) النهاية في غريب الحديث (4/168).
(33) مناهل العرفان (1/247). (1/368).
(34) أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني القتيبي الْمصري، ولد سنة 851 هـ، له تصانيف عظيمة، منها إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ولطائف الإشارات في علم القراءات، وغيرها من الْمصنفات الْمفيدة. توفي سنة 923 هـ. الأعلام للزركلي (1/232).
(35) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، وانظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17.
(36) أخرجه الديرعاقولي في فوائده، انظر فتح الباري (8/627)، والإتقان في علوم القرآن (1/164)، ورواه الطبري عن الزهري مرسلاً مرفوعًا، تفسير الطبري، الْمقدمة (1/28).
(37) يعني أن القرآن كان مكتوبًا زمنه .
(38) يعني أن الذي نفاه زيدٌ من الجمع هو جمع متفرق القرآن في صحف، وجمع الصحف في الْمصاحف، كتابة جميع القرآن. انظر الإتقان في علوم القرآن (1/164).
(39) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، ودليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17.
(40) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، والإتقان (1/164)، ومناهل العرفان (1/248-249)، ودليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17، ودلائل النبوة (7/154).
الْمبحث الثالث: كُتَّاب الوحي
كان للنبي كُتَّاب يكتبون الوحي، فكان إذا أنزلت عليه الآية أو الآيات دعا بعض كُتَّابه، فأملَّ عليه ما نزل، فكتب بين يديه، وكان يأمرهم بوضع الآيات في مواضعها الْمخصوصة من سورها.
فعَنْ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قال: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(1)
وقد كتب الوحي لرسول الله جماعة من أصحابه، ومن أشهر كُتَّابه :
1 – زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري:
كاتب النبي ، كما ترجم له البخاري:(2) بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ، وذكر فيه حديثين:
الأول: عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، … الحديث.(3)
والثاني: عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقال: ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ… الحديث.(4)
وكان قد جمع القرآن في عهد النبي ، كما صح في الحديث،(5) وقد كتب الوحي بين يدي النبي في غير ما موطن، وهو الذي جمع القرآن بأمر أبي بكر الصديق، ونسخ الْمصاحف بأمر عثمان بن عفان .ـ(6)
وهو أكثر من كان يكتب للنبي بالْمدينة، ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه (الكاتب) بلام العهد.(7)
2 – أبيُّ بن كعب الأنصاري:
سيد القراء، وأحد الذين أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم، وكان قد جمع القرآن على عهد الرسول ،ـ(8) وهو أول من كتب الوحي بين يدي النبي في الْمدينة.(9)
قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله أبيَّ بنَ كعب، فإن لم يحضر كتب زيد بن ثابت.(10)
3 – عبد الله بن سعد بن أبي سرح:
هو أول من كتب الوحي للنبي بِمكة ، ثم ارتد عن الإسلام، ولَحق بالْمشركين بمكة، فلما فتحها رسول الله أسلم وحسُن إسلامه.(11)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّار، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللهِ .ـ(12)
ومن كُتَّاب النبي أيضًا: الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي:
أما أبو بكر فقد ذكر ابن كثير رواية موسى بن عقبة في قصة سراقة بن مالك، وأنَّه سأل رسول الله أن يكتب له كتابًا، فأمر أبا بكر فكتب له كتابًا، ثم ألقاه إليه.
وقد روى البخاري وأحمد أن عامر بن فهيرة هو الذي كتب الكتاب.(13)
قال ابن كثير: فيحتمل أن أبا بكر كتب بعضه، ثم أمر مولاه عامرًا فكتب باقيه.(14)
وأما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان – رضي الله عنهما: فكتابتهما بين يدي النبي مشهورةٌ.(15)
وأما علي بن أبي طالب ، فهو الذي كتب الصلح بين رسول الله وبين قريش يوم الحديبية،(16) وكتب غير ذلك من الكتب بين يديه .ـ(17)
ومن كتاب الوحي أيضًا: معاوية بن أبي سفيان: فقد أسلم عام الفتح، وحسُن إسلامه، وكتب للنبي .ـ(18)
عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ : يَا نَبِيَّ اللهِ ثَلاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمسْلِمِينَ.(19)
وعن ابْن عَبَّاسٍ أيضًا أنَّ النبيَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ -وَكَانَ كَاتِبَهُ- قَالَ: فَسَعَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللهِ ؛ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ.(20)
ومنهم عبد الله بن أرقم بن أبي الأرقم: أسلم عام الفتح أيضًا، وكتب للنَّبِيّ .
قال الأعمش: قلت لشقيق بن سلمة: من كان كاتب النبي ؟ قال: عبد الله ابن الأرقم.(21)
ومنهم الزبير بن العوام بن خويلد الأسَدي: أحد العشرة الْمبشرين بالجنة، حواريُّ رسول الله .ـ(22)
ومن كتاب الوحي أيضًا حنظلة بن الربيع الأُسَيِّدِيُّ التميمي الكاتب:
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ ، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ … الحديث.(23)
ومنهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق:
في حديث الهجرة عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ، قال: فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ.(24)
ومِمَّن كتب الوحي للنبي أيضًا أرقم بن أبي الأرقم الْمخزومي:
كان من السابقين إلى الإسلام، ومن الْمهاجرين الأولين، وهو الذي كان النَّبِيّ وأصحابه يستخفون في داره لَمَّا خافوا الْمشركين.(25)
ومنهم أيضًا ثابت بن قيس بن شماس: خطيب الأنصار، وخطيب النبي .ـ(26)
ومِمَّن كتب له أيضًا: خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، ومعيقيب ابن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد.(27)
ومِمَّن يُروى أنَّه كان يكتب للنبي السِّجِلُّ: إن صحَّ الحديث فيه عَنِ ابن عباس.
فقد روى الطبري في تفسير قوله تعالى: } يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ { ،(28) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّه قَالَ: (السِّجِلُّ) كَاتِبٌ كَانَ لِلنَّبِيِّ .ـ(29)
قال ابن كثير: وقد عرضت هذا الحديث على شيخنا الحافظ أبي الحجاج الْمزِّيِّ فأنكره جدًّا، وأخبرته أن شيخنا العلامةَ أبا العباس بن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع، وإن كان في سنن أبي داود، فقال شيخنا الْمزِّيّ: وأنا أقوله.(30)
وقال الطبري: ولا يُعرف لنبينا كاتبٌ كان اسمه السِّجِلَّ، ولا في الْملائكة ملك ذلك اسمه.(31)
قال ابن كثير: وهذا الذي أنكره الطبري من كون السجل اسم صحابي أو ملك قوي جدًّا، والحديث في ذلك منكر جدًّا.(32)
(1) رواه أحمد في مسنده – مسند العشرة الْمبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086.
(2) ترجم البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن: بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ، وذكر فيه حديثين في كتابة زيد للنبي . الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/637).
(3) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ .ـ(8/637) ح 4989.
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ـ(8/637-638) ح 4990.
(5) الذي رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810 (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، راجع الفصل الأول مبحث الحفاظ من الصحابة.
(6) السيرة النبوية لابن كثير (4/682-683).
(7) فتح الباري (8/638).
(8) راجع الفصل الأول مبحث الحفاظ من الصحابة.
(9) فتح الباري (8/638)، والسيرة النبوية لابن كثير (4/671).
(10) السيرة النبوية لابن كثير (4/669)، وانظر فتح الباري (8/638).
(11) السيرة النبوية لابن كثير (4/689)، وفتح الباري (8/638).
(12) رواه أبو داود في سننه كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد (4/128)ح 4358 ، والنسائي في سننه كتاب تحريم الدم باب توبة الْمرتد (7/107) ح 4069.
(13) رواه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه (7/281) ح 3906، وأحمد في مسنده مسند الشاميين (5/187-188) ح 17141، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/685-686).
(14) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(15) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والْمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (5/388-392) ح 2731-2732، ولم يصرح فيه باسم الكاتب ، لكن جاء التصريح به في رواية البيهقي وغيره، انظر دلائل النبوة (4/146).
(17) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(18) السيرة النبوية لابن كثير (4/695)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة (5/209).
(19) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ـ(16/62) ح 2501.
(20) رواه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب باب من لعنه النبي ـ(16/155-156) ح 2604، وأحمد في مسنده – مسند بني هاشم (1/480) ح 2646.
(21) السيرة النبوية لابن كثير (4/687-688).
(22) السيرة النبوية لابن كثير (4/677-678)، وفتح الباري (8/638).
(23) صحيح مسلم مع شرح النووي كتاب التوبة بَاب فَضْلِ دَوَامِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ … (17/65-66) ح 2750، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/673).
(24) رواه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه (7/281) ح 3906، وأحمد في مسنده مسند الشاميين (5/187-188) ح 17141، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/685-686).
(25) السيرة النبوية لابن كثير (4/671)
(26) السيرة النبوية لابن كثير (4/672)، وفتح الباري (8/638).
(27) فتح الباري (8/638)، ومناهل العرفان (1/367)، والسيرة النبوية لابن كثير (4/669-697).
(28) سورة الأنبياء، من الآية 104.
(29) تفسير الطبري (17/100)، ورواه أبو داود في سننه كتاب الخراج والإمارة والفيء باب اتخاذ الكاتب (3/132). ح 2935.
(30) السيرة النبوية لابن كثير (4/683-684).
(31) تفسير الطبري (17/100).
(32) السيرة النبوية لابن كثير (4/685).
الفصل الثالث
ترتيب الآيات والسور
الْمبحث الأول:الآية والسورة لغة واصطلاحًا
الآية لغة
الآية اصطلاحًا
السورة لغة
السورة اصطلاحًا
الْمبحث الثاني: ترتيب الآيات
مسألة: ترتيب الآيات في السورة توقيفي
المبحث الأول: الآية والسورة لغةً واصطلاحًا
الآية لغة
اشتقاق (الآية) إما من (أيٍّ)؛ فإنَّها التي تبين أيًّا من أيٍّ (أيْ شيئًا من شيء)، وإما أن يكون اشتقاقها من (التأيِّي)، الذي هو التثبت والإقامة، أو من (أوى إليه) الذي يدل على التجمع، فمن جعلها من (أيي) فموضع العين عنده ياء، ومن جعلها من (أوى) فموضع العين عنده واو.(1)
وحقيقة الآية أنَّها: كلُّ شيء ظاهرٍ هو ملازمٌ لشيء لا يظهر ظهورَه، فمتى أدرَك مُدركٌ الظاهر منهما، علِم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمهما سواءً، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمَن علِم بملازمة العَلَم للطريق المنهج، ثم وجد العَلَم – علِم أنه وجد الطريق، وكذا إذا عليم شيئًا مصنوعًا علِم أنه لا بدَّ له من صانع.(2)
واختلف في وزنِها، فقال الخليل وسيبويه: (فَعَلَة)، بفتح العين، والعين ياء أو واوٌ،(3) فلما تحركت وانفتح ما قبلها أبدلت ألفًا.
وقال الفراء والكسائي: وزنُها (فَاعِلةٌ) والذاهبة اللام، ولو جاءت تامةً لجاءت آيِيَة، فخففت، وقيل الذاهبة العين تخفيفًا أيضًا.
وقيل هي على وزن (فَعْلَة) بسكون العين، فقلبت الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها، وهذا قلب شاذٌّ.(4)
وتطلق الآية في اللغة على ثلاثة معانٍ: العلامة، والجماعة، والأمر العجيب.
فالآية: العلامة، قال تعالى: } إن آية ملكه إن يأتيكم التابوت {.(5)
والآية الأمر العجيب، قال تعالى: } وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً {،(6) وهي الولادة دون الفحل.
وآية الرجل: شخصُه، وتقول: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، ومنه آية القرآن؛ لأنَّها جماعةُ الحروف.(7)
قال ابن منظور:(8) والآية من التنزيل، ومن آيات القرآن العزيز، قال أبو بكر: سميت الآية من القرآن آية؛ لأنَّها علامة لانقطاع كلامٍ من كلامٍ.
ويقال: سميت الآية آية لأنَّها جماعة من حروف القرآن.
وقال ابن حمزة: الآية من القرآن، كأنَّها العلامة التي يُفضى منها إلى غيرها، كأعلام الطريق المنصوبة للهداية.(9)
وقيل: سميت آية لأنَّها علامة على صدق من أتى بِها، وعلى عجز المتحدى بِها.
وقيل: لأنَّها علامة على انقطاع ما قبلها من الكلام منها، وانقطاعها مِمَّا بعدها.(10)
الآية اصطلاحًا
قال التهانوي(11) نقلاً عن جامع الرموز: … وشرعًا: ما تبيَّن أوله وآخره توقيفًا من طائفة من كلامه تعالى بلا اسم.
قال: وقوله: بلا اسم احتراز عن السورة … وهذا التعريف أصح.(12)
قال الجعبري:(13) حدُّ الآية قرآن مركب من جمل، ولو تقديرًا، ذو مبدأ ومقطع، مندرج في سورة.
وقال غيره: الآية طائفة من القرآن، منقطعة عما قبلها وما بعدها.
وقيل: هي الواحدة من المعدودات في السور.
وقال بعضهم: الآية طائفة من حروف القرآن عُلم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذي بعدها في أول القرآن، وعن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن، وعما قبلها وما بعدها في غيرها،(14) غير مشتمل على مثل ذلك، وبِهذا القيد خرجت السورة؛ لأنَّها تشتمل على آيات، والآية لا تشتمل على آية أصلاً.(15)
والصحيح أن الآية إنَّما تُعلم بتوقيف من الشارع، كمعرفة السور.
قال الزمخشري: الآيات علم توقيفي، لا مجال للقياس فيه، ولذلك عدوا } الم { آية حيث وقعت، ولم يعدوا } المر { … (16)
السورة لغةً
السورة واحدة سُوَر القرآن، وهي إما أن تكون من ( السؤر )، وهو ما بقي في الإناء من الشراب، بإبدال الهمزة واوًا، وتكون سميت سورة لأنها قطعة من القرآن.
أو من (السُّور)، وهو حائط المدينة الذي يحيط بالبيوت، قال جرير:(17)
سُورُ المدينةِ والْجبالُ الخشَّعُ لَما أتى خبرُ الزُّبَيرِ تواضَعَتْ
وتكون سميت سورة لإحاطتها بآياتِها، واجتماعها كاجتماع البيوت بالسُّور.
أو من السورة بِمعنى المنزلة الرفيعة، قال النابغة:(18)
ترى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يتذبْذبُ ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أعْطاكَ سُـورةً
وتكون سُمِّيت بذلك لارتفاعها؛ لأنَّها كلام الله تعالى.
أو من السورة من البناء، وهي ما حسُن وطال منه، أو كلُّ منزلة من البناء، وتكون سميت سورة لارتفاع قدرها، أو لأنَّها منزلةٌ بعد منزلةٍ، مقطوعةٌ عن الأخرى.
أو من التسور، بمعنى: التصاعد، يقال: تسَوَّرت الحائط، إذا علوته، ومنه قوله تعالى: } إذ تَسَوَّروا المحرابَ {،(19)فتكون سميت سورة لتركيب بعضها على بعض.(20)
السورة اصطلاحًا
قال الجعبري: السورة بعض قرآن يشتمل على آيٍ، ذو فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات.(21)
وقيل: السورة الطائفة المترجمة توقيفًا، أي: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاصٍّ، بتوقيفٍ من النبي .ـ(22)
وقيل: السورة بعض كلام منزل مبين أوله وآخره، إعلامًا من الشارع، قرآنًا كان أو غيره، بدليل ما يقال سورة الزبور وسورة الإنجيل.(23)(24)
المبحث الثاني: ترتيب الآيات
كان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله ، ويرشده إلى السورة التي هي منها، ويرشده أيضًا إلى موضعها من تلك السورة.
وكان النبي بعد ذلك يأمر كتبة الوحي بكتابتها، وإدراجها في الموضع الذي أرشده إليه جبريل .
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ(25) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ، ثُمَّ صَوَّبَهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْزِقَهُ بِالأَرْضِ، قَالَ: ثُمَّ شَخَصَ بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:} إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {.(26)
وعَنِ عُثْمَانَ بن عفَّان قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(27)
وقد جُمِع القرآن كلُّه من هذا الوجه (وجه ترتيب الآيات) في زمن النبي :
فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ.(28)
قال البيهقي: وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي .ـ(29)
وقال ابن فارسٍ: … وأما الجمع الآخر، فضمُّ الآي بعضها إلى بعضٍ، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيءٌ تولاَّه رسول الله ، كما أخبر به جبريل عن أمر ربه .ـ(30)
مسألة: ترتيب الآيات في السورة توقيفي
انعقد الإجماع على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي عن الله تعالى، وأنه لا مَجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعْلَم في ذلك مُخالفٌ.(31)
قال السيوطي: الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك، أما الإجماع، فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير(32) في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين. اهـ.(33)
قال مكي(34) وغيره: ترتيب الآيات في السور هو من النَّبِيّ ، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: ترتيب الآيات أمر واجبٌ، وحكم لازمٌ، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.(35)
وقال في الانتصار: الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذين أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان ، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه شيء، وأن ترتيبه ونظمه ثابتٌ على ما نظمه الله تعالى، ورتب عليه رسوله من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر، ولا أخر منه مقدم… (36)
وقال أيضًا: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة -على ما هي عليه الآن في المصحف- توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها .ـ(37)
والنصوص التي تدل على ذلك كثيرة، منها: حديث عثمان بن أبي العاص، وحديث عثمان بن عفان، وحديث زيد بن ثابت السابقة قريبًا.
ومنها الأحاديث في خواتيم سورة البقرة، فمنها:
عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ الأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ فَتَلاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.(38)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي.(39)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ(40) أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: إِنَّ اللهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءكُمْ فَإِنَّهُمَا صَلاةٌ وَقُرْآنٌ وَدُعَاءٌ.(41)
ومنها ما رواه مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ.(42)
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَلا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.(43)
عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا { إِلَى قَوْلِهِ: } غَيْرَ إِخْرَاجٍ { قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ قَالَ: تَدَعُهَا، يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.(44)
فهذا حديثٌ صريحٌ في أن إثبات هذه الآية في مكانِها مع نسخها توقيفي، لا يستطيع أحدٌ أن يتصرَّف فيه، لأنه لا مجال للرأي في مثله.(45)
قال السيوطي: ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالاً: ما ثبت من قراءته لسور عديدة كالبقرة وآل عمران والنساء في حديث حذيفة،(46) والأعراف في المغرب،(47) وقد أفلح في الصبح…(48) ثم قال: تدل قراءته لها بِمشهد من الصحابة أن ترتيب آيها توقيفيٌّ، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر.(49)
ولا يَرِد على هذا الإجماع ما رواه أحمد وابن أبي داود عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَتَى الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ(50) بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ بَرَاءةَ } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ { إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا قَالَ لا أَدْرِي وَاللهِ إِلاَّ أَنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ وَوَعَيْتُهَا وَحَفِظْتُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَتْ ثَلاَثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَضَعُوهَا فِيهَا فَوَضَعْتُهَا فِي آخِرِ بَرَاءةَ.(51)
قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذا أنَّهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنَّهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك إلا بتوقيف.(52)
فالجواب عن هذا الخبر بوجهين:
الأول: أنه معارض للقاطع، وهو ما أجمعت عليه الأمة، ومعارض القاطع ساقطٌ عن درجة الاعتبار، فهذا خبر ساقطٌ مردودٌ على قائله.
الثاني: أنه معارض لِمَا لا يُحصى من الأخبار الدالة على خلافه.(53)
قال السيوطي:(54) يعارضه ما أخرجه ابن أبي داود أيضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الآيَةِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءةٌ: } ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {،(55) فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ أَقْرَأَني بَعْدَهَا آيَتَيْن:ِ } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ { آخر السورة.(56)
ومثله أيضًا في الإيراد والرد حديث عبد الله بن عباس عن عثمان في سورة الأنفال وسورة براءة، وفيه قول عثمان: “فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا”، وسيأتي -إن شاء الله- الكلامُ على متنه وسنده في المبحث الآتي.
(1) المفردات في غريب القرآن ص 33، وبصائر ذوي التمييز (2/63)، ولسان العرب ( أيا ) (1/185-187).
(2) بصائر ذوي التمييز (2/63).
(3) على الخلاف الذي مرَّ هل هي من ( أوى ) أو من (أيي).
(4) مجمل اللغة لابن فارس (1/106)، ولسان العرب ( أيا ) (1/185)، والبرهان في علوم القرآن (1/266).
(5) من الآية 248 من سورة البقرة.
(6) من الآية 50 من سورة المؤمنون.
(7) مجمل اللغة لابن فارس (1/106).
(8) هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي المصري، جمال الدين، الإمام اللغوي الأديب، كان مولعًا باختصار كتب الأدب المطولة، فاختصر الأغاني، والذخيرة والعقد، وترك بخطه خمسمائة مجلد، وجمع في اللغة كتاب لسان العرب، ضمنه جل فوائد من سبقوه، وجوده ورتبه ترتيب الصحاح. ولد سنة 630هـ، وتوفي سنة 711هـ. مقدمة لسان العرب (1/7)، والأعلام للزركلي (7/108).
(9) لسان العرب (1/185).
(10) البرهان (1/267)، والإتقان (1/188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(11) هو محمد بن علي بن القاضي محمد حامد الفاروقي الحنفي التهانوي، عالم وباحث هندي، له كشاف اصطلاحات الفنون، وسبق الغايات في نسق الآيات، توفي بعد 1158هـ. الأعلام للزركلي (6/295).
(12) كشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(13) الشيخ الإمام العالم المقرئ إبراهيم بن عمر بن إبراهيم أبو إسحاق، له شرح على الشاطبية كامل في معناه، وغيره من المؤلفات النافعة، توفي سنة 732هـ في رمضان ببلد الخليل . معرفة القراء الكبار (2/743).
(14) أي: إذا كانت في غير أول القرآن أو آخره.
(15) البرهان في علوم القرآن (1/266-267)، والإتقان في علوم القرآن (1/187-188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(16) البرهان في علوم القرآن (1/267)، والإتقان في علوم القرآن (1/188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(17) لسان العرب (3/2147).
(18) انظر ديوان النابغة الذبياني ص 73، والبحر المحيط (1/242)، والإتقان (1/150).
(19) من الآية 21 من سورة ص.
(20) لسان العرب (سور) (3/2147)، وكشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، والبرهان (1/263-264)، والإتقان (1/150).
(21) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، والإتقان (1/150)، والبرهان (1/264).
(22) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، وقال السيوطي: وقد ثبت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك. الإتقان (1/150).
(23) بين العلماء خلاف: هل كانت الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن مسورة أو لا؟ انظر في ذلك: البرهان في علوم القرآن (1/265)، والإتقان في علوم القرآن (1/186-187).
(24) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658) نقلاً عن التلويح.
(25) الأمير الفاضل المؤتَمن أبو عبد الله الثقفي الطائفي، أسلم سنة 9 مع وفد ثقيف، وأمَّره النَّبِيّ عليهم لما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين. أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/579)، وسير أعلام النبلاء (2/374)، وشذرات الذهب (1/36).
(26) الآية 90 من سورة النحل، والحديث رواه أحمد في مسنده: مسند الشاميين (5/254) ح 17459.
(27) رواه أحمد في مسنده – مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086.
(28) رواه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب في فضل الشام واليمن (5/734) ح 3954 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، والبيهقي في دلائل النبوة (7/147).
(29) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/147).
(30) البرهان في علوم القرآن (1/258-259).
(31) مناهل العرفان (1/346).
(32) هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ القراء والمحدثين بالأندلس: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، ولد سنة 627هـ، أفاد الناس في القراءات وعللها ومعرفة طرقها، وأحكم العربية، أخذ عنه الإمام أبو حيان النحوي، توفي سنة 708هـ. تذكرة الحفاظ (4/1484).
(33) الإتقان في علوم القرآن (1/172)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/258).
(34) هو الإمام العلامة المقرئ، مكي بن أبي طالب القيسي، ولد سنة 355هـ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كان خيِّرًا متدينًا، مشهورًا بالصلاح، توفي سنة 437هـ. معرفة القراء الكبار (1/394)، وشذرات الذهب (3/260).
(35) البرهان في علوم القرآن (1/256)، وانظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 83.
(36) الإتقان في علوم القرآن (1/175)، وانظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 59.
(37) نقل هذا الكلام الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (8/656).
(38) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن بَاب } يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا { يُذْهِبُهُ (8/51) ح 4541، ومسلم في كتاب المساقاة بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ (11/5)ح 1580.
(39) رواه أحمد في مسنده مسند الأنصار (6/188) ح 20837، 20838، و(6/229) ح 21054.
(40) هو جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، أسلم في حياة النَّبِيّ ، وكان باليمن، فلم يره، وروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، وكان من علماء أهل الشام، من أئمة التابعين بحمص ودمشق، توفي سنة 80هـ، وقيل سنة 75هـ. أسد الغابة (1/324)، وسير أعلام النبلاء (4/76)، وشذرات الذهب (1/88).
(41) رواه الدارمي في سننه كتاب فضائل القرآن بَاب فَضْلِ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ (2/450)ح 3390.
(42) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ (6/92-93) ح 809.
(43) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل ثومًا … (5/51-54)567.
(44) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن بَاب } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا { (8/48) ح 4536.
(45) مناهل العرفان (1/348).ٍ
(46) هو حديث حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً… الحديث رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ (6/61) ح 772، وأبو داود في كتاب الصلاة باب (1/230) ح871.
(47) رواه النسائي في سننه كتاب الافتتاح الْقِرَاءة فِي الْمَغْرِبِ بِـ } المص { عن زيد بن ثابت وعائشة (2/169-170) ح 989-990-991.
(48) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الصلاة وإقامة السنة فيها بَاب الْقِرَاءةِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ عن عبد الله بن السائب (1/269) ح 820.
(49) الإتقان في علوم القرآن (1/173-174)، وانظر دلائل النبوة للبيهقي (7/151-152).
(50) الحارث بن خزمة الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا وأحدًا، والخندق والمشاهد كلها، وتوفي سنة 40 في خلافة علي . أسد الغابة (1/389).
(51) رواه أحمد في مسنده مسند الصحابة بعد العشرة (1/327) ح 1717، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب قول الله : } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ { ص 38، وفيه محمد بن إسحاق، قال الحافظ ابن حجر: صدوق يدلس، ورمي بالقدر والتشيع. تقريب التهذيب (2/144).
(52) فتح الباري (8/654).
(53) انظر مناهل العرفان (1/349-350).
(54) الإتقان (1/174).
(55) سورة التوبة – آية 127.
(56) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب قول الله : } لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ { ص 38، والإمام أحمد في مسند الأنصار (6/161) ح 20720.
الْمبحث الثالث: ترتيب السور
القول الراجح
المبحث الثالث: ترتيب السور
وأما ترتيب السور على ما هي عليه الآن، فاختلف: هل هو توقيف من النبي ، أو من فعل الصحابة، أو يُفَصَّل؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور: أن النبي فوَّضَ ذلك إلى أمته من بعده، يعني أن هذا الترتيب من فعل الصحابة . ومِمَّن ذهب هذا الْمذهب الإمام مالكٌ، والقاضي أبو بكر الباقلاني فيما استقر عليه رأيه من قوليه.(1)
قال الزركشي: قال أبو الحسين أحمد بن فارسٍ في كتاب المسائل الخمس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطُّوال، وتعقيبها بالْمئين، فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة ….ـ(2)
وقد استدلوا على مذهبهم بأدلة، منها:
أولاً: أنه لو كان ترتيب السور بتوقيف من النبي لظهر وفشا ونقل مثله، وفي العلم بعدم ذلك النقل دليلٌ على أنه لم يكن منه توقيف فيه.(3)
ثانيًا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل جمع القرآن في عهد عثمان ، ولو كان الترتيب توقيفيًّا منقولاً عن النبي ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه.(4)
فمن ذلك أن مصحف أُبَيِّ بن كعب قدمت فيه النساء على آل عمران، ثم تلت آل عمران سورة الأنعام، ثم الأعراف ثم المائدة …، ومصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأعراف، ثم الأنعام … الخ ما فيهما من خلاف مصاحفنا اليوم، وروي أن مصحف علي كان مرتبًا على النزول، فأوله سورة العلق، ثم المدثر، ثم ق، ثم المزمل ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.(5)
ثالثًا: حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ سُورَةُ الأَنْفَالِ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ سُورَةُ بَرَاءةٌ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ.(6)
فقول عثمان : “فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا” صريحٌ في عدم التوقيف.(7)
فهذا الحديث يدل عندهم على أن ترتيب السور لم يكن بتوقيف من النبي ، بل كان باجتهاد من الصحابة .
رابعًا: عن يُوسُفَ بْنِ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي الله عَنْهَا، إِذْ جَاءهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ؟! قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ. قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ … قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ.(8)
ووجه الدلالة فيه أن السائل كان يسأل عن ترتيب السور، بدليل قول عائشة له: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ لأن السلف متفقون على المنع من قراءة القرآن منكوسًا، بأن يقرأ من آخر السورة إلى أولِها، ولو كان السائل يسأل عن ترتيب الآي لأنكرت عليه عائشة قراءة القرآن غير مؤلف.(9)
ففي هذه الأحاديث، وغيرها حجة لِمن قال إن ترتيب السور كان اجتهاديًّا، وليس بتوقيف من النبي .
القول الثاني: أن هذا الترتيب توقيف من النبي ، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
قال أبو جعفر النحاس:(10) المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالبٍ.(11)
وقال الكِرْماني:(12) ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.(13)
وقال أبو بكر بن الأنباري:(14) أنزل القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرِّق في بضعٍ وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر، ويقف جبريلُ النبيَّ على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كله عن النبي ، فمن قَدَّم سورة أو أخَّرَها، فقد أفسد نظم الآيات.(15)
واستدلوا على ذلك بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان، ولم يُخالف منهم أحد، وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف؛ لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بِمخالفتهم، ولكنهم عدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعًا.(16)
واستدلوا بأحاديث، منها: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ كان يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.(17)
فذكرها نسقًا كما استقر ترتيبها.
وعن واثلة بن الأسقع أن النبي قال: أُعْطِيتُ مكانَ التَّوْراة السبعَ الطِّوالَ، وأُعْطِيتُ مكان الزبور الْمِئِينَ، وأُعْطِيتُ مكان الإنجيل المثانيَ، وفُضِّلْت بالمفصَّلِ.(18)
قال أبو جعفر بن النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي ، وأنه مؤلف من ذلك الوقت.(19)
وقال مالك: إنَّما أُلِّف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رَسُول اللهِ .ـ(20)
قال ابن حجر:(21) ومِمَّا يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفيًّا:
عَنْ أَوْسِ الثَّقَفِيِّ(22) قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ أَسْلَمُوا مِنْ ثَقِيفٍ… الحديث، وفيه: قُلْنَا مَا أَمْكَثَكَ عَنَّا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَرَدْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ حَتَّى أَقْضِيَه.ُ قَالَ: فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رسول الله حِينَ أَصْبَحْنَا، قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: نُحَزِّبُهُ ثَلاَثَ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَثَلاَثَ عَشْرَةَ سُورَةً وَحِزْبَ الْمُفَصَّلِ مِنْ قَافْ حَتَّى يُخْتَمَ.(23)
قال ابن حجر: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي …ـ (24)
قال السيوطي:(25) ومِمَّا يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت ولاءً، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، بل فصل بين سورها، وفصل بين (طسم) الشعراء و(طسم) القصص بـ (طس) مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لذكرت المسبحات ولاءً، وأُخِّرت (طس) عن القصص.
وقد سئل ربيعة:(26) لم قُدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضعٌ وثمانون سورة بمكة، وإنَّما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قُدِّمتا، وأُلِّف القرآن على علم ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مِمَّا يُنْتَهى إليه، ولا يُسْأل عنه.(27)
قال الكِرْماني: وعلى هذا الترتيب كان يعرضه على جبريل كل سنة، أي: ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين.(28)
وقال أبو بكر الباقلاني: … فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري.(29)
قال ابن حجر: وفيه نظرٌ، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول.(30)
والذي يظهر -والله أعلم- قول الكرماني والباقلاني وابن الأنباري، فإنه لا يُعلم دليلٌ يدلُّ على كيفية عرض النبي القرآن على جبريل ، وقد عُلم أن عامة(31) قراءة النبي كانت على ما عليه ترتيب المصحف الآن.(32)
القول الثالث: أن ترتيب كثير من السور كان بتوقيف من النبي وعلم ذلك في حياته، وأن ترتيب بعض السور كان باجتهاد من الصحابة .
واستدلوا على ذلك بورود أحاديث تفيد ترتيب بعض السور، كالأدلة التي احتج بِها الفريق القائل بالقول الثاني، وورود آثار تصرح باجتهاد الصحابة في ترتيب بعض السور كحديث ابن عباس عن عثمان السابق.
واختلف القائلون بِهذا القول في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد:
فقال القاضي أبو محمد بن عطية: إن كثيرًا من السور قد علم ترتيبها في حياة النبي كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل.
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مِمَّا نصَّ عليه ابن عطية، ويبقى منها قليلٌ يُمكن أن يجري فيها الخلاف، واحتج بأحاديث منها حديث عبد الله بن مسعود، وحديث عبد الله بن عباس السابقة في أدلة القول الأول.(33)
قال ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعض، أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيًّا، وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، واحتج بحديث ابن عباس السابق.(34)
قال السيوطي: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي، إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءته سورًا ولاءً على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ لا يَرِدُ حديث قراءته النساء قبل آل عمران؛ لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجبٍ، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز.(35)
القول الراجح
هوَّن الزركشي من أمر هذا الخلاف، فقال: والخلاف يرجع إلى اللفظ؛ لأن القائل بأن الترتيب كان عن اجتهاد منهم يقول: إنه رمز إليهم بذلك، لعلمهم بأسباب نزوله، ومواقع كلماته؛ ولِهذا قال الإمام مالك: إنَّما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي ، مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه: هل ذلك بتوقيف قولي، أم بِمجرد استناد فعلي، وبحيث بقي لَهم فيه مجال للنظر.(36)
قال السيوطي: وسبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير.(37)
والذي أميل إلى ترجيحه هو القول الثاني القائل بأن ترتيب سور الكتاب العزيز كلها توقيفيٌّ، بما سبق من الأدلة عند حكاية هذا القول.
أما أدلة الفريق القائل بأن ترتيب السور اجتهادي فمردودة بما يأتي:
1 – أما دعواهم أنه لو كان ترتيب السور بتوقيف من النبي لظهر وفشا ونقل مثله، وأن في العلم بعدم ذلك النقل دليلاً على عدم التوقيف، فيجاب بأن عدم النقل ليس دليلاً على عدم وجود النص، بل إن إجماع الصحابة على هذا الترتيب دليلٌ على وجود النص بالتوقيف؛ لأنهم لا يُجمعون على خلاف السنة.(38)
2 – فإن قيل كيف يكون الصحابة مجمعين على هذا الترتيب مع أن مصاحفهم كانت مختلفة في ترتيب السور قبل جمع القرآن في عهد عثمان ، ولو كان الترتيب توقيفيًّا منقولاً عن النبي ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه، وهو دليلهم الثاني، فيجاب بأنهم إنَّما اختلفوا في هذا الترتيب بادئ الأمر، قبل أن يعلموا بالتوقيف، فلما علموا بالتوقيف تركوا ترتيب مصاحفهم، وقد يرجع الاختلاف أيضًا إلى أن مصاحفهم كانت شخصية فردية، ولم يكونوا يكتبونَها للناس، فالواحد منهم لا يُثبت في مصحفه إلا ما وصل إليه مجهوده، وقد يفوته ما لم يفت الجماعة من تحقيق أدق وعلم أوسع.(39)
3 – أما حديث ابن عباس عن عثمان،(40) وهو أقوى حججهم، فهو أوهاها إذا نظر إليه بعين التمحيص، ففيه ضعف لا يُنكر سندًا، وفيه الرد على شبهتهم متنًا:
أما من ناحية السند فإن مدار الحديث على يزيد الفارسي.(41)
قال الشيخ أحمد شاكر: وفي إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جدًّا، بل هو حديث لا أصل له.(42)
وقد اختلف الْمُحدِّثُون في يزيد هذا، اختلافًا كثيرًا:
قال البخاري في ترجمة يزيد بن هرمز: قال عبد الرحمن بن مهدي: يزيد الفارسي هو ابن هرمز، قال: فذكرته ليحيى فلم يعرفه، قال: وكان يكون مع الأمراء.(43)
وقال ابن أبي حاتم: يزيد بن هرمز، اختلفوا فيه، هل هو يزيد الفارسي أم لا؟ فقال عبد الرحمن بن مهدي، فيما سمعت أبي يَحكي عن علي بن الْمديني عنه أنه قال: يزيد الفارسي، هو يزيد بن هرمز، وكذا قاله أحمد بن حنبل…، وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحدًا، فعن علي بن المديني قال: ذكرت ليحيى قول عبد الرحمن بن مهدي: إن يزيد الفارسي هو يزيد بن هرمز، فلم يعرفه.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: يزيد بن هرمز هذا، ليس بيزيد الفارسي، هو سواه، وكان يزيد بن هرمز من أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة وجالسوا أبا هريرة، وليس هو بيزيد الفارسي البصري الذي يروي عن ابن عباس، روى عنه عوف الأعرابي.(44)
وقال ابن حبان: يزيد بن هرمز المدني، هو الذي يروي عنه عوف الأعرابي، ويقول: حدثنا يزيد الفارسي عن ابن عباس.(45)
وأثبته البخاري في الضعفاء بالاسمين: ابن هرمز والفارسي،(46) فهما ضعيفان عنده.
فعلى هذا فالحديث ضعيف، إما لضعف يزيد بن هرمز إن كان هو نفسه يزيد الفارسي، أو لجهالة أو ضعف يزيد الفارسي إن كان غير ابن هرمز.
قال العلامة أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولاً، حتى شُبِّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره … فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي… وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك.
ثم قال: فلا علينا إذا قلنا إنه حديث لا أصل له… فلا عبرة في هذا الموضع بتحسين الترمذي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بموافقة الذهبي، وإنَّما العبرة للحجة والدليل.(47)
وأما متنًا، فإنه يَحمل تناقضَا ظاهرًا، ويحمل طعنًا في التوقيف في ترتيب الآي.
أما التناقض، فلأنه أثبت للأنفال وبراءة اسمين مختلفين، وفيه مع ذلك أن عثمان ظن أن براءة من الأنفال فقرنَها بِها، وكان الأولى أن يقول: إنهما سورة واحدة.
قال الباقلاني: وقد تضمن ذلك أنَّهما سورتان؛ لأنه سمى كل واحدة باسمها.(48)
وأما الطعن في التوقيف في ترتيب الآي، فلأن قول عثمان: “فظننا أنَّها منها” يدل على أن النبي لم يفصح بأمر براءة، فأضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادًا منه .
وهذا مخالف لِما لا يُحصى من الأخبار الصحيحة الدالة على التوقيف في ترتيب آي السور، ومخالف للإجماع المنقول عن أهل العلم على أن ترتيب آي السور ليس محلاًّ للاجتهاد، وإنَّما كان بتوقيف من النبي .ـ(49)
كما أن قول ابن عباس: “عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ … فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ” يحمل ما يرد احتجاج هؤلاء بِهذا الحديث، فهو ذا يذكر أن الأنفال من المثاني، وأن براءة من المئين، ويقول: فوضعتموهما في السبع الطوال، وهذا يدل على أن السبع الطوال كانت معلومة توقيفًا قبل الجمع، وكذلك المثاني، وكذلك المئون، وإلا فما وجه استنكار ابن عباس هذا الترتيب؟!
4 – أما حديث يوسف بن ماهك عن عَائِشَةَ -رَضِي الله عَنْهَا- فيرد عليه بأن هذا العراقي إنَّما سأل عن ترتيب السور، وكان مِمَّن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة، لم يوافق أول الأمر على الرجوع عن قراءته، ولا على إعدام مصحفه، وكان تأليف مصحفه مغايرًا لتأليف مصحف عثمان، فلذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف.(50)
وأما الفريق الثالث القائل بالتفصيل، فيجاب بنفس الأجوبة، إذ لم يأت بدليل جديد، كما يرد عليهم أيضًا بأن العلم بتوقيف البعض يدل على التوقيف في الكل، إذ لو علم الصحابة التوقيف لَما فاتَهم أن يسألوا عن كل سورة بعينها، والنبي حَيٌّ بين أظهرهم، وإلا لكانوا -وحاشاهم- مقصرين في حفظ القرآن.
فإن قيل: إن الروايات الْمحتج بِها وأمثالها خاصة بِمحالِّها، ثم هي ظنية في الدلالة على كون الترتيب عن توقيف.
فالجواب أن إجْماع الصحابة على هذا الترتيب يدل على انسحاب ما دلت عَلَيْهِ هذه الروايات من الترتيب على كل القرآن، ويقطع الظن في دلالتها.
وإن قيل: إن الإجماع الذي استندتم إليه لا يدل على التوقيف في ترتيب جميع السور، لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص.
فالجواب أن أمر ترتيب السور لم يكن أمرًا حادثًا حتى يُقال إن الإجماع عليه لا يدل على نص بالتوقيف، بل إن أمرَ ترتيبِ سور القرآن معروفٌ من عهد النبي ، فلا يرد أن إجماعهم كان عن اجتهاد غير مستند إلى نص سابق.
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82، والبرهان (1/257)، وفتح الباري (8/655).
(2) البرهان في علوم القرآن – الزركشي (1/258-259).
(3) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(4) مناهل العرفان (1/353).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/181-183)، والبرهان في علوم القرآن (1/259)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 81، ومناهل العرفان (1/353).
(6) رواه أحمد في المسند مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وقال: حديث حسن.
(7) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(8) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن (8/654) ح 4993.
(9) انظر فتح الباري (8/655).
(10) هو العلامة إمام العربية أحمد بن محمد بن إسماعيل المصري النحوي، صاحب التصانيف، أخذ عن الزجاج، وكان من أذكياء العالم. توفي سنة 338هـ. سير أعلام النبلاء (15/401)، وشذرات الذهب (2/346).
(11) البرهان (1/258).
(12) هو تاج القراء، برهان الدين أبو القاسم محمود بن حمزة الكرماني، عالم بالقراءات، كان عجبًا في دقة الفهم وحسن الاستنباط، توفي في حدود سنة 505هـ. الأعلام للزركلي (7/168).
(13) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(14) هو الإمام الحافظ اللغوي ذو الفنون، محمد بن القاسم بن بشار المقرئ النحوي، ولد سنة 272هـ، ألف الدواوين الكبار في علوم القرآن والغريب والمشكل، والوقف والابتداء، وكان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظًا للغة. توفي سنة 328هـ. سير أعلام النبلاء (15/274)، وشذرات الذهب (2/310).
(15) البرهان (1/260).
(16) مناهل العرفان (1/354).
(17) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن (8/654) ح 4994.
(18) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده كتاب باب (1/136)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/475)، وأشار إليه السيوطي بالحسن: فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/565).
(19) البرهان (1/258).
(20) رواه أبو عمرو الداني في كتاب المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 18.
(21) فتح الباري (8/658).
(22) هو أوس بن أبي أوس الصحابي، وفد على النَّبِيّ مع وفد الطائف، وروى حديث تحزيب القرآن. أسد الغابة (1/167).
(23) رواه أبو داود في سننه كتاب باب (2/55-56) ح 1393، وابن ماجه في سننه كتاب إقامة الصلاة باب في كم يستحب يختم القرآن (1/427) ح 1345 وأحمد في مسند المدنيين ح 15733
(24) فتح الباري (8/658).
(25) الإتقان (1/179).
(26) هو الإمام، مفتي المدينة أبو عبد الرحمن القرشي التيمي مولاهم، المشهور بربيعة الرأي، كان فقيهًا عالمًا بالحديث من أئمة الاجتهاد. توفي سنة 136هـ. سير أعلام النبلاء (6/89)، وشذرات الذهب (1/194).
(27) الإتقان (1/179).
(28) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(29) فتح الباري (8/658).
(30) فتح الباري (8/658).
(31) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(32) من قراءته بخلاف ترتيب المصحف: ما رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءةِ فِي صَلاةِ اللَّيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا … الحديث. صحيح مسلم مع شرح النووي (6/61) ح 772.
(33) البرهان في علوم القرآن (1/257-258)، والإتقان في علوم القرآن (1/177)، ومناهل العرفان (1/356-358).
(34) فتح الباري (8/658).
(35) الإتقان (1/179)، وانظر دلائل النبوة للبيهقي (7/152).
(36) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(37) الإتقان في علوم القرآن (1/177).
(38) انظر الرسالة للإمام الشافعي ص 322.
(39) مناهل العرفان (1/360).
(40) وقد سبق قريبًا، وفيه قوله: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ.
(41) رواه أحمد في المسند مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وفي رواياتهم يزيد الفارسي. قال الترمذي: يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ هُوَ يَزِيدُ ابْنُ أَبَانَ الرَّقَاشِيُّ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ. جامع الترمذي (5/272). وورد في رواية البيهقي من طريق هوذة بن خليفة عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الرقاشي. دلائل النبوة (7/152)، وأخرجه الحاكم من طريق هوذة بن خليفة أيضًا،ومن طريق روح بن عبادة، عن عوف عن يزيد الفارسي، وزعم أنه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! المستدرك على الصحيحين (1/221)، و(1/330).
(42) مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/399).
(43) التاريخ الكبير (4/2/367)
(44) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/2/293).
(45) الثقات لابن حبان 5/531).
(46) الضعفاء الصغير ترجمة 407 ص 122.
(47) مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/399-401).
(48) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(49) راجع مسألة ترتيب الآيات في السورة توقيفي ص 26، والرد على ما يورد من الشبهة بِهذا الحديث ص 28.
(50) انظر فتح الباري (8/655).
الفصل الرابع
العرضة الأخيرة
الْمبحث الأول:عرض القرآن في كل سنة على جبريل
ترتيب عرض النبي r القرآن على جبريل u:
الْمبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
من حضر العرضة الأخيرة من الصحابة
الْمبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
المبحث الأول: عرض القرآن في كل سنة على جبريل
كان من عناية النبي بالقرآن الكريم -كما سبق- حفظُه واستظهارُه، وكان لذلك يعرض القرآن على جبريل ، ليؤكد حفظه، وليعلم ما طرأ عليه نسخ منه، وليعلم ما يؤمر به من القراءة على الأحرف السبعة، وليتعلم منه معانيه.
فكان جبريل ينزل على النبي في شهر القرآن من كل سنة فيدارسه فيما نزل عليه حتى وقت المدارسة، يقرأ على النبي ، ويقرأ عليه النبي :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.(1)
فلفظ المدارسة يحتمل أن كلاًّ منهما كان يعرض على الآخر، وفي رواية: يعرض عليه رسول الله القرآن، وفي رواية: يَعرض على النبي القرآن. أي: جبريل . فهاتان الروايتان صريحتان في أن كلاًّ منهما كان يعرض على الآخر.(2)
قال الكوثري:(3) والمعارضة تكون بقراءة هذا مرة واستماع ذاك، ثم قراءة ذاك واستماع هذا، تحقيقًا لِمعنى المشاركة، فتكون القراءة بينهما في كل سنة مرتين.(4)
ويظهر أن عرض القرآن في كل سنة مرة كان لفوائد كثيرة، منها:
1 – تأكيد الحفظ والاستظهار.
2 – معرف ما طرأ عليه النسخ من القرآن.
3 – معرفة الأحرف السبعة التي أُمر بقراءة القرآن عليها.
4 – معرفة معاني ما يحتاج إلى معرفة معانيه من القرآن، أو مدارسة ما عُرِف من هذه المعاني.
ترتيب عرض النبي القرآن على جبريل :
لم ترد رواية تصرح بالترتيب الذي عرض به النبي القرآن على جبريل ، ومن ثَمَّ فقد اختلف العلماء في هذا الترتيب:
فذهب بعضهم إلى أن العرض كان على ترتيب القرآن الذي بين أيدينا:
قال أبو بكر الباقلاني: … فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب (يعني ترتيب المصحف الآن) ، وبه جزم ابن الأنباري. (5)
قال الكِرْماني: وعلى هذا الترتيب كان يعرضه على جبريل كل سنة، أي: ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين.(6)
وذهب بعض العلماء إلى أن العرض كان على ترتيب النزول:
قال ابن حجر: وفيه نظرٌ (يعني قول الباقلاني)، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول.(7)
والذي يظهر -والله أعلم- قول الكرماني والباقلاني وابن الأنباري، فإنه لا يُعلم دليلٌ يدل على كيفية عرض النبي القرآن على جبريل ، وقد عُلم أن عامة قراءته (8) كانت على ما عليه ترتيب المصحف الآن.(9)
المبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
لما كانت معارضة النبي لِجبريل بالقرآن بغرض تأكيد الحفظ والاستظهار وغير ذلك من الفوائد كما سبق، وكانت الحاجة إلى هذا التأكيد بعد وفاة النبي آكد، فلما اقترب زمن وفاة النبي عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وذلك في رمضان من السنة التي تُوُفِّي فيها ، وكان ذلك إرهاصًا بقرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى:
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ، فَيُصْبِحُ رَسُولُ اللهِ مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، لا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ، حَتَّى كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ فِيهِ عَرْضَتَيْنِ.(10)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.(11)
وعَنْ عائشةَ في حديث وفاة النبي أنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي.(12)
قال الكوثري: … فتكون القراءة بينهما في كل سنة مرتين، وفي سنة وفاته أربع مرات، فتفرَّس النبي من تكرير المعارضة في السنة الأخيرة قربَ زمن لحوقه بالرفيق الأعلى.(13)
فكانت هذه العرضة الأخيرة بِمنْزلة الْمراجعة النهائية للكتاب الحكيم، عرض فيها القرآن الكريم مرتين، فأُثبِت فيه جميع الأوجه الثابتة غير المنسوخة، وترك ما نُسِخ منه، فما ثبت في هذه العرضة هو القرآن المحكم المعجز المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، وما لم يثبت فإما أن يكون قرآنًا منسوخًا، وإما أنه ليس بقرآن، وكلاهما ليس له حكم القرآن من التعبد والإعجاز.
وأما ما نزل بعد رمضان الأخير من زمن النبي -وهو رمضان سنة عشر من الهجرة، وتوفي النبي في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وقد نزل قرآن فيما بعد ذلك الرمضان، فكأن الذي نزل بعد تلك العرضة لَمَّا كان قليلاً اغتفر أمر معارضته.(14)
ومما نزل بين هذه العرضة الأخيرة وبين وفاة النَّبِيّ
1 – قوله تعالى: } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا {،(15) فقد نزلت في يوم عرفة والنبي بِها باتفاق.(16)
2 – آية الربا، وهي قوله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا{،(17) فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ آيَةُ الرِّبَا.(18)
3 – قوله : } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ {،(19) وقد ورد أنَّها آخر ما نزل من القرآن الكريم.(20)
4 – آية الدَّيْن، وهي قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ {،(21) الآية. فقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.(22)
قال السيوطي: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات، في آيـة الربا، } وَاتَّقُوا يَوْمًا { ، وآية الدين؛ لأن الظاهر أنَّها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنَّها في قصة واحدة، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخِرٌ، وذلك صحيح.(23)
من حضر العرضة الأخيرة من الصحابة
كان تعويل الصحابة في قراءة القرآن، ثم في جمعه بعد زمن النبي على تلك العرضة الأخيرة؛ لأن ما لم يثبت فيها من أوجه القراءة فقد نسخ، وما ثبت فيها فهو القرآن المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة.
ولا شك أن النبي كان يخبر أصحابه بِما يطرأ على آيات الكتاب من النسخ، وبِما يُحتاج إلى معرفته من معاني الكتاب التي تعلمها من جبريل .
وقد ورد من الروايات ما يدل على أن من الصحابة من حضر تلك العرضة كزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وغيرهم .
قال أبو عبد الرحمن السلمي:(24) قرأ زيد بن ثابتً على رَسُول اللهِ في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(25)
وَعَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّ الْقِرَاءتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءةَ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: لا بَلْ هِيَ الآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ.(26)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتْ قِرَاءةُ عَبْدِ اللهِ آخِرَ الْقِرَاءةِ.(27)
وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ(28) أنه قال: القراءة التي عُرِضَت على رسول الله في العام الذي قبض فيه – هذا القراءة التي يقرأها الناس.(29) يعني بذلك قراءة زيد بن ثابت .
وعن سَمُرة قال: عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة.(30)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها.(31)
وذكر النووي عن بعض أهل العلم أنه لا يُدرى أي القراءات كانت العرضة الأخيرة.
قال النووي: قال غيره (يعني النحَّاس): … ولا يُدرى أي هذه القراءات كان آخر العرض على النَّبِيّ .ـ(32)
ويردُّ هذا القولَ ما مرَّ بنا من الآثار الصحاح التي تدل على أن قراءة زيد بن ثابت وقراءة عبد الله بن مسعود كانت آخر عرضة عرضها النَّبِيّ على جبريل .
المبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
كانت العرضة الأخيرة للقرآن الكريم هي المرجع والأساس لقراءة أصحاب النبي ، كما كانت الفيصل بينهم إذا تنازعوا في شيء من كتاب الله ، ولَمَّا أرادوا جمع القرآن الكريم كانت هي أيضًا أساس هذا الجمع، فقد اتفقوا على كتابة ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.(33)
وقد مرَّ بنا في المبحث السابق بعض الآثار التي تدل على أن القراءة التي يقرؤها الناس -وهي القراءة التي جمع عليها القرآن- هي ما عرض في العرضة الأخيرة، وفي هذا دلالة على أثر هذه العرضة الأخيرة في جمع القرآن.(34)
قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه.(35)
وقال أيضًا: قرأ زيد بن ثابتٍ على رَسُول اللهِ في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سُمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابتٍ؛ لأنه كتبها لِرَسُـول اللهِ ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(36)
وقال البغوي:(37) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي.(38)
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(39)
وهكذا فقد كانت هذه العرضة عمدة هذه الأمة في معرفة القرآن، إذ إنَّها قد جمعت ما ثبتت تلاوته من الكتاب الحكيم، وأخرجت ما ثبت نسخه.
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي (1/40) ح 6، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل بَاب كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (15/68) ح 2308.
(2) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (8/659-661) ح:4997 ، و 4998.
(3) هو الفقيه الحنفي محمد زاهد الكوثري، جركسي الأصل، ولد بالأستانة سنة 1296هـ، له اشتغال بالأدب والسير، وله تعليقات كثيرة على كتب الفقه والحديث والرجال، وكذلك له مؤلفات عديدة في مختلف ميادين الشريعة. توفي بمصر سنة 1371هـ. الأعلام للزركلي (6/129).
(4) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(5) فتح الباري (8/658).
(6) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(7) فتح الباري (8/658).
(8) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(9) ومن قراءته بخلاف ترتيب المصحف: ما رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا … الحديث. صحيح مسلم مع شرح النووي (6/61) ح 772.
(10) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/382) ح 2043، (1/537) ح3003، ورواه البيهقي في جامع شعب الإيمان (5/196-197)، وعبد بن حميد في المنتخب (1/553) ح 646.
(11) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي ـ (8/659) ح 4998.
(12) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (6/728) ح 3624 ، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة بَاب فَضَائِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلاة وَالسَّلام (16/5-7) ح 2450.
(13) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(14) فتح الباري (8/660).
(15) سورة المائدة، من الآية 3.
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه (1/129) ح 45.
(17) من الآية 278 من سورة البقرة.
(18) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ (8/52) ح 4544.
(19) سورة البقرة، من الآية 281.
(20) احتج لذلك البخاري بالحديث السابق، فبوَّب بِهذه الآية، وأورد تحتها ذلك الحديث. قال الحافظ: ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس، فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النَّبِيّ : } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ ، وأخرجه الطبري من طرق عنه… قال: وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهن. فتح الباري (8/53)، وانظر تفسير الطبري (3/114-115)، والإتقان (1/77-78).
(21) من الآية 282 من سورة البقرة.
(22) تفسير الطبري (3/115)، قال السيوطي: مرسل صحيح الإسناد. الإتقان (1/78).
(23) الإتقان في علوم القرآن (1/78).
(24) هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي، تابعي جليلٌ، ولد في حياة النَّبِيّ ، وقرأ القرآن على عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو مقرئ الكوفة، ظل يقرئ الناس بمسجدها الأعظم أربعين سنة. معرفة القراء الكبار (1/52-53)، وشذرات الذهب (1/92).
(25) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(26) رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/7)، وكتاب المناقب (4/36).
(27) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/535) ح 2992.
(28) عبيدة السلماني الفقيه الْمُرادي الكوفي، أحد الأعلام، أسلم عام الفتح، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود، وكان يقرئ الناس، ويفتيهم. توفي سنة 72 على الصحيح. سير أعلام النبلاء (4/40)، وشذرات الذهب (1/78).
(29) رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/155-156).
(30) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. مستدرك الحاكم (2/230)، ورواه البزار في مسنده، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/154).
(31) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/395).
(32) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(33) الإتقان في علوم القرآن (1/142).
(34) وانظر: الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 270-271.
(35) شرح السنة للإمام البغوي (4/525)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(36) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(37) الشيخ الإمام القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، المفسر، صاحب التصانيف، كان إمامًا في الفقه والتفسير، زاهدًا قانعًا باليسير. توفي سنة 516هـ. سير أعلام النبلاء (19/439)، وشذرات الذهب (4/48).
(38) شرح السنة (4/525).
(39) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33.
الباب الثاني
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر رضي الله عنه
الفصل الثاني: أول من جمع القرآن من الصحابة رضي الله عنهم
الفصل الثالث من قام بالجمع في عهد أبي بكر t
الفصل الرابع: منهج ومزايا جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
الفصل الأول
الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر
1 – لحوق النبي r بالرفيق الأعلى
2 – انقضاء زمن نزول القرآن الكريم
3 – وقعة اليمامة
لم يُجمع القرآن على عهد النبي في مصحف واحد لعدم توفر الدواعي ولوجود الموانع التي سبق ذكرها، فلما انتفت هذه الموانع، ووجدت الأسباب الداعية إلى جمع القرآن في كتاب واحد فعل ذلك أصحاب النبي ، وكانت أهم هذه الأسباب:
1 – لحوق النبي بالرفيق الأعلى
كان وجود النبي بين ظهراني المسلمين أمانًا لهم من حصول الخلاف فيما بينهم، كما كان وجوده أمانًا من ضياع شيء من القرآن، كما سبق بيانه في أسباب عدم جمع القرآن الكريم في صحف أو مصاحف في عهده .
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ قال: … وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ.(1)
ولما بلغ الرسول رسالة ربه إلى الأمة، وأتم الله به شرائع دينه الذي اختاره للناس علمًا وعملاً، وأقام به الملة العوجاء، وكان الموت نَهاية كل حي، فقد اختار الله رسوله لجواره في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية.
ومنذ اللحظة الأولى لوفاته بدأ الخلاف بين المسلمين، فكان أول شيء يَختلفون فيه: هل مات رسول الله أو لا؟ ثم تتابع الخلاف بين الأمة في غير الأمور المعلومة بالضرورة من دين الله، إذ ليس فيهم معصوم مؤيد بالوحي بعده .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ،(2) فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ . قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلاَّ ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُذِيقُكَ اللهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ.
فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَقَالَ: } إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ{،(3) وَقَالَ: } وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{،(4) قَال:َ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ …
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِي اللهُ عَنْهَا: شَخَصَ بَصَرُ النَّبِيِّ ، ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثَلاثًا… الحديث. قَالَتْ: فَمَا كَانَ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللهُ بِهَا؛ لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا، فَرَدَّهُمُ اللهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى، وَعَرَّفَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: } وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{.(5)
وقد كان فقد النبي أعظم ما منيت به الأمة الإسلامية من المصائب.
فعن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن رسول الله قال: لِيُعَزِّ المُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِم: المُصِيبَةُ بِي.(6)
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: ما أُصِبْنا بعدها بِمصيبة إلاَّ هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به .ـ(7)
ومع انتقاله إلى الرفيق الأعلى توقف الوحي، فانتفى المانع الذي من أجله لم يجمع القرآن في مصحف واحد في زمنه ، وانضمَّ إلى ذلك ما سيأتي من أسباب، فقد كانت وفاة النبي أول الأسباب الداعية إلى جمع القرآن الكريم في زمن الصدِّيق .
2 – انقضاء زمن نزول القرآن الكريم
مرَّ بنا أنَّ القرآن لم يجمع في كتاب واحد على عهد رَسُول اللهِ لِما كان يَتَرَقَّبُهُ من نزول الوحي،(8) ومعلومٌ أن الوحيَ إنَّما كان ينزل مفرَّقًا على ما يناسب الحوادث والمسائل، وقد كان ينسخ من السورة الآياتُ أو تزاد عليها، فلو أن القرآن جمع في كتاب واحد ثم طرأ نسخٌ أو زيادة لزم إعادة الكتابة مرة أخرى، فحصل بذلك مشقة عظيمة، فلمَّا انقطع بوفاة النبي خبرُ السماء، أُمِن نزول شيء من القرآن يتغير معه ترتيب الآيات في السور، أو نقص أو زيادة بعضها.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ . فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا.(9)
فكان انقضاء نزول القرآن سببًا لجمعه في كتابٍ واحد؛ حفاظًا عليه من الضياع والتبديل.
3 – وقعة اليمامة(10)
ما إن توفي رسول الله ، وانتقل الأمر إلى أبي بكر الصديق حتى ارتد كثير من العرب، ومنع كثير منهم ما كان يؤديه من الزكاة إلى رسول الله باعتبار الزكاة خراجًا أو ضريبة كانت مفروضة للنبي .
وادعى بعض الأدعياء من العرب النبوة، فاضطلع أبو بكر بِمهمة قتال هؤلاء المرتدين ومانعي الزكاة ومدعي النبوة.
وكان من أعتى أدعياء النبوة مسيلمة الكذاب،(11) وكان قومه بنو حنيفة قد التفوا حوله واتبعوه.
وكان بنو حنيفة يسكنون اليمامة، فأرسل إليهم أبو بكر الصديق جيشًا بقيادة عكرمة بن أبي جهل، وأمده بشرحبيل بن حسنة، وانْهزم عكرمة أول الأمر، ثم جاءهم خالد بن الوليد بِمدد وقاد الجيش إلى النصر.
وكانت موقعة اليمامة سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، وقُتِل فيها مسيلمة الكذاب، وكثير مِمَّن كان معه، لَمَّا حوصروا في الحديقة التي عرفت فيما بعد بِحديقة الموت، فقد قتل فيها من بني حنيفة نحو سبعة آلاف رجل، وكان جملة القتلى من بني حنيفة ومن معهم أكثر من عشرين ألف رجلٍ، وبلغ القتلى من الصحابة نحو ستين وست مائة رجلٍ، وكان جملة القتلى من المسلمين نحو ستين وتسعمائة رجلٍ.(12) وقيل بلغ القتلى من الصحابة نحو خمسين وأربعمائة رجل، وبلغت جملة القتلى من المسلمين مائتين وألف رجلٍ.(13)
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا، أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ. قَالَ: وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ ، وَيَوْمُ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.(14)
وعن سعيد بن المسيب قال: قُتِل من الأنصار يوم اليمامة سبعون.(15)
إذا كان هذا هو عدد القتلى من أصحاب النبي في يوم اليمامة، فلا شك أن الكثير منهم كان مِمَّن حفظ القرآن، إما كله أو بعضه، فيكون الْمجموع حافظًا لكل القرآن.
قال عمر في كلامه لأبي بكر حاثًّا إياه على جمع القرآن: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ.(16)
قال الحافظ في الفتح: وهذا يدل على أن كثيرًا ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أن مجموعهم جَمَعَهُ، لا أن كل فرد جَمَعَهُ.(17)
ولا شك أن أكثر هؤلاء القتلى كان مِمَّن حفظ شيئًا من القرآن، غير أن المشهور أن القتلى من الحفاظ يومئذ كان سبعين رجلاً.(18)
راعت هذه الكارثة العظيمة –كارثة فقد حفَّاظ كتاب الله تعالى- عمرَ الفاروقَ ، فهرع إلى خليفة رسول الله ، وطلب منه أن يسرع إلى حفظ الكتاب بجمعه مكتوبًا، حتى لا يذهب بذهاب حُفَّاظه.
فمع موت كثيرٍ من الحفاظ، أصبح من الْمخوف الْمحتمل أن تفقد إحدى القطع التي كُتِبَ القرآن بين يدي النبي ، ومن الْمحتمل أيضًا أن يستشهد الذين يحفظون الْمكتوب في هذه القطعة، فيترتب على الأمرين معًا ضياع الْمكتوب فيها.
فتردد أبو بكر أول الأمر، لأنه كَرِهَ أن يجمع القرآن على وجهٍ يُخالف ما فعله النَّبِيّ من جمع القرآن، حيث اكتفى بتدوين القرآن على الجلود والعظام والعسب وغير ذلك، ولم يجمعه في صحفٍ أو مصاحف، فقد كَرِهَ أن يُحِلَّ نفسه محلَّ مَنْ تَجَاوَزَ احتياطُه للقرآن احتياطَ النَّبِيّ .
ولكن عمر ما زال يراجعه حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، فدعا زيد بن ثابت ، وطلب منه أن يقوم بجمع القرآن، فتردد زيد لنفس الأمر الذي تردد له أبو بكر أول الأمر، وما زال أبو بكر يراجعه حتى شرح الله صدره له، فشرع في العمل متهيبًا وَجِلاً من عظم المسؤولية.
قال الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قال: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال: أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ ؟ فَقال: عُمَرُ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقال أَبُو بَكْر:ٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ ؟ فَقال أَبُو بَكْر:ٍ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه: } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ{ إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(19)
ولقد كانت هذه الوقعة أهم الأسباب التي اكتملت بِها الحاجة إلى جمع القرآن، ودفعت الصحابة إلى هذا العمل، لَمَّا رأَوْا أن مصلحة الدين، وحفظ الكتاب الحكيم لا تتم إلا به.
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة بَاب بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ أَمَانٌ لأَصْحَابِهِ وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ أَمَانٌ لِلأُمَّةِ. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/82-83) ح 2531.
(2) بضم السين والنون، أو بضم السين وسكون النون، يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ، موضع معروف بالمدينة النبوية، إلى الجنوب من المسجد النبوي، كانت فيه منازل بني الحارث بن الخزرج. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/407).
(3) سورة الزمر، الآية 30.
(4) سورة آل عمران، الآية 144.
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النَّبِيّ : لو كنت متخذًا خليلاً. (7/23-24)، الأحاديث: 3667-3670.
(6) رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الجنائز 16، باب جامع الحسبة في المصيبة 14، حديث رقم 41. موطأ الإمام مالك رواية يحيى الليثي- طبعة دار الشعب ص 162.
(7) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في عظم المصيبة التي نزلت بالمسلمين بوفاة رسول الله (7/267).
(8) وهو المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول. راجع صفحة 56 وما بعدها.
(9) رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أم أيمن ح 2454. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/9-10)، والبيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في عظم المصيبة التي نزلت بالمسلمين بوفاة رسول الله (7/266).
(10) اليمامة: قريةٌ من نجد بوادي حنيفة، وهي القرية المسماة اليوم بالجُبَيْلة قرب العيينة. معجم البلدان (5/505).
(11) هو مسيلمة بن حبيب الحنفي، وقال ابن هشام مسيلمة بن ثمامة، ويكنى أبا ثمامة، وهو المعروف بمسيلمة الكذاب، ادعى النبوة، وكان قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. قتل في حديقة الموت يوم اليمامة من حروب الردة. انظر السيرة النبوية لابن هشام (4/164،182)، وشذرات الذهب (1/23)، والكامل في التاريخ (2/243-248).
(12) تاريخ الأمم والملوك – الطبري (2/283)، والبداية والنهاية (6/330)، وتاريخ الإسلام للذهبي في جزء حوادث سنة 11-40 هـ ص 73، والكامل في التاريخ (2/243-248).
(13) شذرات الذهب (1/23).
(14) رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد، انظر الصحيح مع الفتح (7/433) ح4078.
(15) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب عدد من استشهد من المسلمين يوم أحد (3/277).
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/626) ح 4986.
(17) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(18) ذكر الحافظ في الفتح أن القتلى من القراء كانوا سبعين، فتح الباري (8/668)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/199-204).
(19) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب } لقد جاءكم رسول من أنفسكم … { انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/194) ح 4679، وفي كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، (8/626) ح 4986.
الفصل الثاني
أول من جمع القرآن من الصحابة
1 – أبو بكر الصديق t أول من جمع القرآن الكريم
2 – ما جاء أن أول من جمع القرآن علي بن أبي طالب t
3 – ما جاء أن أول من جمع القرآن عمر بن الخطاب t
4 – ما جاء أن أول من جمع القرآن سالم مولى أبي حذيفة t
1 – أبو بكر الصديق أوَّل من جمع القرآن الكريم
دلَّت عامَّة الروايات على أن أول من أمر بجمع القرآن الكريم من الصحابة أبو بكر الصديق عن مشورة عمر بن الخطاب، وأن الذي قام بِهذا الجمع هو زيد ابن ثابت الأنصاري .ـ(1)
فمن ذلك ما مرَّ بنا من حديث زيد بن ثابت، وقوله: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ… الحديث.(2)
ومن ذلك ما رواه ابن أبي داود بسند حسنٍ عن عبْدِ خَيْرٍ عن علِيٍّ قال: رحمةُ اللهِ على أبي بكرٍ؛ كانَ أعظمَ الناسِ أجرًا في جمع المصاحفِ، وهو أوَّل من جمع بين اللَّوْحَيْنِ.(3)
قال الحافظ ابن حجر: أخرجه ابن أبي داود في “المصاحف” بإسنادٍ حسنٍ.(4)
وقال السيوطي: بسندٍ حسنٍ.(5)
غير أنه قد وردت روايات تدل على أن أول من قام بِهذا الجمع غير أبي بكر، فمن ذلك:
2- ما جاء أن أول من جمع القرآن عليُّ بن أبي طالبٍ
– عن محمد بن سيرين قال: لَمَّا تُوُفِّي النَّبِيّ أقسمَ عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لِجمعة، حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل.(6)
قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظًا، فمراده بِجمعِه حفظُه في صدره…، وما تقدم من رواية عبدِ خَيْرٍ عن عَلِيٍّ أصحُّ، فهو المعتمد.(7)
– عن عكرمة قال: لَمّا كان بعد بيعةِ أبي بكر ، قعد عليُّ بن أبي طالبٍ في بيته، فقيل لأبي بكرٍ: قد كره بيعتكَ. فأرسل إليه فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: لا، والله. قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيت كتاب الله يُزاد فيه، فحدَّثت نفسي أن لا ألبَسَ ردائي إلا لصلاةٍ حتى أجمعه. فقال أبو بكر: فإنك نعمَ ما رأيتَ.(8)
وهذا الحديث فيه انقطاعٌ، فعكرمة وُلِدَ سنةَ خمسٍ وعشرين من الهجرة،(9) والحادثة المذكورة من تأخر عليٍّ في بيعة أبي بكر وقعت سنة إحدى عشرةَ.
كما أن فيه رائحة التشيع، إذ فيه أن المسلمين -وأكثرهم إذ ذاك من الصحابة- كانوا يزيدون في كتاب الله ما ليس منه، وحاشا لأصحاب النَّبِيّ أن يفعلوا ذلك.
وبتقدير صحته يُمكن أيضًا حمله على الجمع في الصدر، والحفظ عن ظهر قلب كما مرَّ، أو على أنه أراد أن يجرِّد مصحفه مِمَّا ليس من القرآن، كالتفسير والأحكام.
كما أنه قد قيل إنَّ جَمْعَ عليٍّ كان أشبه بكتاب علم، جمع فيه غير القرآن مع القرآن، وإذن فصُورتُه غير صورة الجمع البكري، وغرضُه غير غرضِهِ.
فقد روى هذا الخبر ابن أشتة في كتاب المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين قال: فطلبتُ ذلك الكتاب، وكتبتُ فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه.(10)
3 – ما جاء أن أول من جمع القرآن عمر بن الخطاب
عن الحَسَن أن عُمَر بن الخطاب سألَ عن آيةٍ من كتاب الله، فقيل: كانت معَ فلانٍ، فقُتل يوم اليمامة. فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه في المصحف.(11)
وإسناد هذا الأثر منقطع،(12) والظن أنَّها لا تعدو رواية البخاري التي أسلفناها، والتي تقرِّر أنَّ عمر هو فعلاً صاحب فكرة الجمع الأول، وأنه أشار بِها على أبي بكر، ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لها.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا منقطع، فإن كان محفوظًا حُمِل على أن المراد بقوله: فكان أول من جمعه، أي: أشار بجمعه في خلافة أبي بكر، فنُسِب الجمع إليه لذلك.(13)
4 – ما جاء أن أول من جمع القرآن سالم مولى أبي حذيفة
عن ابن بريدة، قال: أول من جمع القرآن في مصحفٍ سالمٌ مولى أبي حذيفة، أَقْسَمَ لا يرتدي برداء حتى يجمعه، فجمعه.(14)
وهذا من غريب ما ورد في أول من جمع القرآن.
قال السيوطي: إسناده منقطعٌ أيضًا، وهو محمولٌ على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكرٍ .ـ(15)
ووصف الآلوسي(16) قول السيوطي هذا بأنه عثرةٌ لا يُقال لها لعًا،(17) لأن سالِمًا قُتِل في وقعة اليمامة التي كان موت الحُفَّاظ فيها هو سبب الجمع.(18)
والصواب -والله أعلم- أن أوَّلية أبي بكر في جمع القرآن أولية خاصةٌّ، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن قبل جمع أبي بكر، وهذا لا يعكر صفو القول بأن أول من جمع القرآن هو الصدِّيق ، لأن مصاحف الصحابة الأخرى إنَّما كانت أعمالاً فردية، لم تظفر بِما ظفر به مصحف الصدِّيق من دقَّة البحث والتحرِّي، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، ومن بلوغها حدَّ التواتر، ومن إجماع الأمة عليها، إلى غير ذلك من الْمزايا التي كانت لمصحف الصدِّيق.
فلا يضير مع كل هذه الْمزايا أن يُروى أن عليًّا أو عمر أو سالِمًا كان أول من جمع القرآن، فقُصارى تلك الروايات أنَّها تثبت أن بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف، ولكنها لا تُعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية، ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للمصحف الذي جمع على عهد أبي بكر . (19)
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 353-354.
(2) سبق تخريجه، قريبًا.
(3) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب جمع القرآن. ص 11-12.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/165).
(6) كتاب المصاحف، باب جمع علي بن أبي طالب القرآن في المصحف. ص 16، وذكره ابن كثير في فضائل القرآن، وقال: فيه انقطاع. فضائل القرآن ص 45.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(8) رواه ابن الضريس في فضائل القرآن ص 76-77.
(9) انظر تهذيب الكمال (20/291-292).
(10) كتاب المصاحف لابن أشتة مفقود، وقد ذكر هذا الخبر السيوطي في الإتقان (1/166).
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عمر بن الخطاب القرآن في المصحف. ص 16.
(12) لأن الحسن لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فقد ولد لسنتين بقيتا من خلافته ، انظر تهذيب الكمال (6/95-97). قال السيوطي في هذا الأثر: إسناده منقطع. انظر الإتقان في علوم القرآن (1/166).
(13) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(14) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 353.
(15) الإتقان في علوم القرآن (1/166).
(16) أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين الآلوسي، ولد سنة 1273هـ، الإمام المؤرخ الأديب الداعية المصلح المجاهد، تصدر للتدريس، وحارب البدع، صاحب التصانيف المفيدة، وأعظمها روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، توفي سنة 1342هـ. الأعلام للزركلي (7/172).
(17) يُقال للعاثر: لعًا لكَ، دعاءٌ له بأن ينتعش. قال كعب بن زهير:
فإن أنت لم تفعل فلستُ بآسفٍ ولا قائـلٍ إمَّا عثَرْتَ لـعًا لكـَا
انظر: الصحاح للجوهري (لعا) (6/2483)، وشرح قصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد) لابن هشام الأنصاري ص 34.
(18) روح المعاني (1/22).
(19) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/254-255).
الفصل الثالث
من قام بالجمع في عهد أبي بكر
مرَّ فيما سبق أن الذي أشار بجمع القرآن كان عمر بن الخطاب ، وأن أبا بكر ندب لِهَذِهِ المهمة زيد بن ثابت الأنصاري .
وقد بين أبو بكر الصديق أسباب اختياره زيدَ بن ثابت في الحديث الذي أسلفناه، حيث قال له: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ.(1)
وقد ورد أيضًا أن زيد بن ثابت كان قد حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ.
أضف إلى ذلك أن زيد بن ثابت كان ممن جمع القرآن حفظًا في صدره في حياة رَسُول اللهِ .
فَعَنْ قَتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ.(2)
فتبين أن أبا بكر إنَّما اختار لِهذه المهمة الشاقة زيد بن ثابت للأسباب الآتية:(3)
1 – أنه كان شابًّا، وفي ذلك خصال توافق غرض الصديق، حيث إن الشابَّ أقوى وأجلدُ على العمل الصعب من الشيخ، كما أن الشابَّ لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه.(4)
2 – أن زيد بن ثابت كان معروفًا بوفرة عقله، وهذا مِمَّا يؤهله لإتْمام هذه المهمة الجسيمة.
3 – أنه كان غير متهم في دينه، فقد كان معروفًا بشدة الورع، والأمانة وكمال الخلق، والاستقامة في الدين.
4 – أنه كان يلي كتابة الوحي لرَسُول اللهِ ، ويرى إملاء رَسُول اللهِ ، فكان يشاهد من أحوال القرآن ما لا يشاهده غيره، وهذا يؤهله أكثر من غيره ليكتب القرآن، ويجمعه.
5 – أنه كان حافظًا للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النَّبِيّ على العرضة الأخيرة.
6 – أنه فيما روي كان مِمَّن شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ علينا.(5)
وقد كان زيد بن ثابت جديرًا بِهذه الثقة، ويدل على ذلك قوله لَمَّا أمره أبو بكر بجمع القرآن: فَوَاللهِ! لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ.(6)
قال ابن حجر: وإنَّما قال زيد بن ثابت ذلك لِما خَشِيَهُ من التقصير في إحصاء ما أُمِر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك، كما قال تعالى: } ولقد يسرنا القرآن للذكر{.(7)
وشرع زيد بن ثابت يَجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة.(8)
فقد شارك في العمل في هذا الجمع عدد من كبار الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وأُبَيُّ بن كعب، وغيرهما.
فعن عروة بن الزبير قال: لَمَّا استحرَّ القتل بالقراء يومئذٍ، فَرِق أبو بكرٍ على القرآن أن يضيعَ، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.(9)
وعن أبي العالية عن أُبَيِّ بن كعب أنَّهم جَمعوا القرآن في مصحفٍ في خلافة أبي بكرٍ، فكان رجالٌ يكتبون، ويُملي عليهم أُبَيُّ بن كعبٍ ….(10)
وبِهذه المشاركة أخذ هذا الجمع الصفة الإجْماعية، فقد اتفق عليه الصحابة ، وتعاونوا على إتْمامه على أكمل وجه.
(1) سبق تخريجه قريبًا.
(2) رواه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(3) وانظر في ذلك أيضًا: مقدمة كتاب المباني ص 25، الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 271.
(4) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 369.
(5) في مبحث العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وهو المبحث الثاني من الفصل الرابع من الباب الأول.
(6) سبق تخريجه قريبًا.
(7) من الآية 17 من سورة القمر. وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/629).
(8) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/250).
(9) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص 12، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه. فتح الباري (8/630).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص 15. وفي باب خبر قوله : } لقد جاءكم رسول { ص 38،ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن باب فيما نزل من القرآن بمكة وما نزل بالمدينة
الفصل الرابع
منهج ومزايا جمع أبي بكر للقرآن
الْمبحث الأول:منهج أبي بكر t في جمع القرآن الكريم
الْمبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر t
المبحث الأول: منهج أبي بكر في جمع القرآن
بلغ اهتمام الصحابة بالْمحافظة على القرآن الغايةَ القصوى، فمع أنَّهم شاهدوا تلاوة القرآن من النَّبِيّ عشرين سنة، ومع أن القرآن كان بالفعل مكتوبًا على عهد النَّبِيّ ، إلا أنه كان مفرَّقًا، ومع أن تزوير ما ليس منه كان مأمونًا، ومع أن زيد بن ثابت (الذي قام بالجمع) كان هو وغيره من الصحابة يَحفظون القرآن -فقد اتَّبعُوا في جمع القرآن على عهد أبي بكرٍ منهجًا دقيقًا حريصًا، أعان على وقاية القرآن من كل ما لَحق النصوص الأخرى من مظنة الوضع والانتحال.
ويُمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1 – أن يأتي كلُّ من تلَقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ به إلى زيد بن ثابت ومن معه.
ويدل لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب قام في الناس فقال: من كان تلقى من رَسُول اللهِ شيئًا من القرآن فليأتنا به وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح و العُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.(1)
2 – أن لا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان، أي أنه لم يكن يكتفي بِمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان.
ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب ولزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.(2)
وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
فقال السخاوي:(3) المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ ، أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن.
وقال ابن حجر: وكأن الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب.(4) ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين.
قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك مِمَّا عُرض على النَّبِيّ عام وفاته.(5)
والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيّ ، وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ ، إذ القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصحابة ، فلو أرادوا الإشهاد على حفظه لوجدوا العشرات.
3 – أن يكتب ما يؤتى به في الصحف.
ويدلُّ عليه قول زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(6)
وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري قال: لَمّا أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم، حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف.(7)
4 – أن لا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
أ- أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيّ ، لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط.
قال أبو شامة:(8) وكان غرضهم ألا يُكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النَّبِيّ ، لا من مجرد الحفظ.(9)
ب- أن يكون مما ثبت عرضه على النَّبِيّ عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة.
وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته، وقد مرَّ قريبًا احتمال كون الإشهاد على أن المكتوب كان مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة.
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(10)
5 – أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن النَّبِيّ .(11)
وقد التُزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة، حتى إنه روي أَنَّ عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وحده.
فقد أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوَّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيدٌ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيْمة بن ثابت، فقال: اكتبوها؛ فإن رَسُول اللهِ جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها؛ لأنه كان وحده.(12)
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر
كان لِجمع القرآن في عهد أبي بكر منزلة عظيمة بين المسلمين، فلم يَحصل خلاف على شيء مِمَّا فيه، وامتاز بِمزايا عديدة، منها:(13)
1. أنه جمع القرآن على أدقِّ وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي، كما مرَّ بنا في منهج أبي بكر في جمع القرآن.
2. حصول إجماع الأمة على قبوله، ورضى جميع المسلمين به.
3. بلوغ ما جُمِع في هذا الجمع حدّ التواتر، إذ حضره وشهد عليه ما يزيد على عدد التواتر من الصحابة .
4. أنه اقتصر في جمع القرآن على ما ثبت قرآنيته من الأحرف السبعة، بثبوت عرضه في العرضة الأخيرة، فكان شاملاً لما بقي من الأحرف السبعة، ولم يكن فيه شيء مِمَّا نُسِخَت تلاوته.
5. أنه كان مرتب الآيات دون السور.
ولقد حظي هذا الجمع المبارك برضى المسلمين، وحصل عليه إجماع الصحابة ، ولقي منهم العناية الفائقة.
فقد حفظت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى وفاته، ثم انتقلت إلى عمر حتى تُوُفِّي، ثم كانت بعد ذلك عند ابنته حفصة زوج رَسُول اللهِ ، فطلبها منها عثمان بن عفان ، فنسخ منها المصاحف إلى الأمصار ثم أرجعها إليها، فكانت الصحف المجموعة في عهد أبي بكر هي الأساس لنسخ المصاحف في زمن عثمان ، وهذا مِمَّا يدل على مكانة هذا الجمع عند الصحابة .
قال زيد بن ثابت : وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(6)
وعن علِيٍّ قال: رحمةُ اللهِ على أبي بكرٍ؛ كانَ أعظمَ الناسِ أجرًا في جمع المصاحفِ، وهو أوَّل من جمع بين اللَّوْحَيْنِ.(14)
قال ابن حجر: وإذا تأمَّل المنصف ما فعله أبو بكرٍ من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته؛ لثبوت قوله : من سنَّ سنة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بِها.(15)
ثم قال: فما جمع القرآن أحدٌ بعده إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة.(16)
(1) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عمر بن الخطاب القرآن ص 17.
(2) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص 12، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه. فتح الباري (8/630).
(3) هو الشيخ الإمام العلامة، شيخ القراء والأدباء، علم الدين أبو الحسن علي بن محمد، أقرأ الناس دهرًا، وكان إمامًا في العربية، بصيرًا باللغة، عالمًا بالقراءات وعللها، مجودًا لها، بارعًا في التفسير، وكان مع سعة علومه وفضائله دينًا حسن الأخلاق محببًا إلى الناس، وافر الحرمة، ليس له شغل إلا العلم ونشره. توفي سنة 643هـ. سير أعلام النبلاء (23/122)، وشذرات الذهب (5/222)، والأعلام للزركلي (4/332).
(4) فتح الباري (8/630).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/167)، وانظر أيضًا نفس المرجع (1/142).
(6) سبق تخريجه قريبًا.
(7) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/169)، وذكر هذين الأثرين ابن حجر في فتح الباري (8/631)، وأشار إلى أنهما أصح ما نقل فيما جمع فيه القرآن في عهد أبي بكر .
(8) عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي، أبو القاسم شهاب الدين، المؤرخ المحدث، ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، له تصانيف غزيرة، وقد وقفها جميعًا. توفي سنة 665هـ. الأعلام للزركلي (3/299).
(9) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167)، وفتح الباري (8/630).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33.
(11) انظر فتح الباري (8/634).
(12) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167-168).
(13) وانظر مناهل العرفان في علوم القرآن (1/253).
(14) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب جمع القرآن. ص 11-12.
(15) رواه مسلم عن جرير بن عبد الله: باب العلم، باب من سن سنة حسنة. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/225-226).
(16) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
الباب الثالث
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد عثمان رضي الله عنه
الفصل الثاني: من قام بالجمع في عهد عثمان رضي الله عنه
الفصل الثالث: منهج جمع القرآن في عهد عثمان ومزاياه
الفصل الرابع: المصاحف العثمانية
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على عثمان في جمع القرآن ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
الفصل الأول
الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم
في عهد عثمان
1 – اتساع بلاد المسلمين وتفرق الصحابة فيها
2 – غزو أرمينية وأذربيجان
تَوَلَّى عمرُ بن الخطاب الخلافة بعد وفاة أبي بكرٍ الصديق ، وامتدّت خلافته عشر سنين، اتسعت فيها بلاد المسلمين، ودان الشرق والغرب لحكمهم، ولَمّا طُعِن عمر بن الخطاب سنة ثلاث وعشرين من الهجرة النبوية، وأيقن بدنو الأجل، جعل أمر المسلمين شورى بين ستةٍ من الصحابة، هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وانتهى أمر الشورى بين هؤلاء الستة إلى اختيار عثمان ، فتَوَلَّى عثمان بن عفان خلافة المسلمين في الأيام الأخيرة من سنة ثلاثٍ وعشرين من الهجرة النبوية(1)
وحدثت في زمنه أحداثٌ أدّت إلى التفكير في جمع القرآن مرة ثانية، وإرسال نسخٍ منه إلى الأمصار، وكانت أهم أسباب هذا الجمع:
1 – اتساع بلاد المسلمين وتفرق الصحابة فيها
كانت رقعة بلاد المسلمين قد اتسعت في أيام عمر بن الخطاب ، حتى وصلت إلى بلاد ما وراء النهر شرقًا، وإلى طرابُلُس غربًا.
وامتدت الفتوحات التي ابتدأها عمر بن الخطاب في أيام عثمان بن عفان، فاستمرت طيلة فترة خلافته، تفتح بلادًا جديدة، وتوطِّد للمسلمين فيما فتح من قبل من البلدان.(2)
وباتساع دولة الإسلام كثُر المسلمون، وتفرق الصحابة في الأمصار، يدعون إلى الله، ويعلِّمون العلم، ويُقرِئون القرآن.
وكان الناس يقرؤون كما عُلِّموا، فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري، وهكذا.(3)
فعن حذيفة قال: أهل البصرة يقرؤون قراءة أبي موسى، وأهل الكوفة يقرؤون قراءة عبد الله.(4)
وكان هؤلاء القراء من الصحابة قد شهدوا نزول القرآن، وسمعوه من النَّبِيّ ، وعلموا وجوه قراءته، ولم يكن شيءٌ من ذلك لِمن تعلَّم منهم في الأمصار، فكانوا إذا اجتمع الواحد منهم مع من قرأ على غير الوجه الذي قرأ عليه يعجبون من ذلك، وينكر بعضهم على بعض، وقد يصل الأمر إلى تأثيم أو تكفير بعضهم البعض.
عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمنَ الوليد بن عقبة في حلْقةٍ فيها حذيفة، إذ هَتَفَ هاتفٌ : مَن كانَ يقرأ على قراءة أبي موسى فليأتِ الزاويةَ التي عند أبواب كِنْدةَ، ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعودٍ فليأتِ هذه الزاويةَ التي عند دار عبد الله، واختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا: ( وأتِمُّوا الحج والعمرة للبيت)، وقرأ هذا: } وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ {،(5) فغضب حذيفةُ واحمرَّت عيناه، ثم قام ففرز قميصَهُ في حُجْزَتِهِ(6) وهو في المسجد، وذاك في زمن عثمان، فقال: إمَّا أن يَرْكبَ إلىَّ أميرُ المؤمنين، وإمَّا أن أرْكبَ، فهكذا كان مَن قبلَكم …(7)
عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنَّ عثمان قال: فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا.(8) قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت.(9)
وانتشرت حلقات تعليم القرآن، فانتقل الخلاف إلى الغلمان والمعلمين، فخطَّأ بعضهم بعضًا، وأنكر بعضهم قراءة بعض.
فعن أبي قلابة قال: لَمَّا كان في خلافة عثمان، جعل الْمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، والمعلِّم يُعلِّم قراءةَ الرَّجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين، قال: حتى كَفَر بعضهم بقراءة بعضٍ، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشدُّ فيه اختلافًا ولحنًا. اجتمعوا يا أصحاب محمدٍ، فاكتبوا للناس إمامًا.(10)
والظاهر أن هذه الأحداث كانت قبل غزو أرمينية وأذربيجان، ولَمَّا وقع ما وقع من الخلاف الشديد والفتنة العظيمة بين المسلمين في غزو أرمينية وأذربيجان، تأكدت الحاجة إلى جمع جديد للقرآن، يُلَمُّ به شمل المسلمين، وتجتثُّ به جذور تلك الفتنة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنَّها كانت متقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة،(11) فكأنه لَمَّا رأى الاختلاف أيضًا بين أهل الشام والعراق، اشتدَّ خوفه، فركب إلى عثمان، وصادف أن عثمان أيضًا وقع له نحو ذلك.(12)
2 – غزو أرمينية(13) وأذربيجان(14)
في عام خمس وعشرين من الهجرة النبوية اجتمع أهل الشام وأهل العراق في غزو أرمينية وأذربيجان.
قال الذهبي: جاشت الروم، حتى استمدَّ أمراء الشام من عثمان مددًا، فأمدَّهم بثمانية آلافٍ من العراق.(15)
وكان أمير جند الشام في ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان أمير جند العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان حذيفةُ بن اليمان من جملة من غزا معهم، وكان على أهل المدائن من أعمال العراق.(16)
وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب، وكان أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فتنازع أهل الشام وأهل العراق في القراءة، حتى خطَّأ بعضهم بعضًا، وأظهر بعضهم إكفار بعضٍ، والبراءة منه، وكادت تكون فتنة عظيمة.
وكان السبب وراء هذا الخلاف عدم مشاهدة هؤلاء نزولَ القرآن، وبُعْدهم عن معاينة إباحة قراءته بأوجه مختلفة، فظنَّ كلٌّ منهم أن ما يقرأ به غيره خطأ لا يَجوز في كتاب الله، فكادت تكون تلك الفتنة.
قال مكي بن أبي طالب: وكان قد تعارف بين الصحابة على عهد النَّبِيّ ، فلم يكن ينكر أحدٌ ذلك على أحدٍ، لمشاهدتهم من أباح ذلك، وهو النَّبِيّ ، فلمَّا انتهى ذلك الاختلاف إلى ما لم يعاين صاحبَ الشرع، ولا علِم بِما أباح من ذلك، أنكر كلُّ قومٍ على الآخرين قراءتَهم، واشتد الْخصام بينهم.(17)
رأى هذا الخلاف العظيم حذيفة بن اليمان، إضافةً إلى ما رآه من الاختلاف بين الناس في القراءة في العراق، ففزع إلى عثمان بن عفان، وأنذره بالخطر الداهم، وانضم ذلك إلى ما عاينه عثمان من الخلاف بين المعلمين وكذلك بين الغلمان، فصدّق ذلك ما كان استنبطه من أن من كان أبعد من دار الخلافة بالمدينة فهو أشدُّ اختلافًا.
عن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.(18)
وعن زيد بن ثابت أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى أَتَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ النَّاسَ! فَقَالَ عُثْمَانُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ : غَزَوْت فَرْجَ أَرْمِينِيَةَ، فَحَضَرَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الشَّامِ، فَإِذَا أَهْلُ الشَّامِ يقرؤون بِقِرَاءةِ أُبَيٍّ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَإِذَا أَهْلُ الْعِرَاقِ يقرؤون بِقِرَاءةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَيَأْتُونَ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ أَهْلُ الشَّامِ، فَيُكَفِّرُهُمْ أَهْلُ الشَّامِ. قَالَ زَيْدٌ: فَأَمَرَنِي عُثْمَانُ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا.(19)
فكانت هذه الْحادثة هي أهم الأسباب التي بعثت على جمع القرآن في زمن عثمان، فقد أكدت ما ظنه من أن أهل الأمصار أشد اختلافًا مِمَّن كان بدار الخلافة بالْمدينة وما حولَها.
(1) انظر: التاريخ الإسلامي (الخلفاء الراشدون) (3/190)، (3/234).
(2) انظر: التاريخ الإسلامي (الخلفاء الراشدون) (3/190)، (3/234).
(3) انظر تأويل مشكل الآثار (4/193)، وفتح الباري (8/633-634)، ومناهل العرفان (1/255).
(4) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف. باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك. ص 20.
(5) سورة البقرة من الآية 196.
(6) الحُجْزة موضع شدّ الإزار، وهو الوسط.. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/344).
(7) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ص 18.
(8) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، عَلَى أَيِّ حَرْفٍ قَرَأْتُمْ فَقَدْ أَصَبْتُمْ، فَلاَ تَتَمَارَوْا فِيهِ فَإِنَّ الْمِرَاءَ فِيهِ كُفْرٌ.رواه أحمد في مسنده: مسند الشاميين (5/232) ح17364.
(9) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30. قال الحافظ ابن حجر: بإسناد صحيح. فتح الباري (8/634).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 28-29.
(11) يعني في غزو أرمينية وأذربيجان.
(12) فتح الباري (8/634).
(13) قال ابن حجر: وأرمينية بفتح الهمزة عند ابن السمعاني، وبكسرها عند غيره … وبسكون الراء، وكسر الميم، بعدها تحتانية ساكنة، ثم نون مكسورة، ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل، قاله ياقوت. فتح الباري (8/632). وهي صقع عظيم في جهة الشمال، ومن مدائنها تفليس. معجم البلدان (1/191).
(14) بالفتح ثم السكون، وفتح الراء، وكسر الباء الموحدة، وياء ساكنة، وجيم. إقليم مشهورٌ بنواحي جبال العراق، غربي أرمينية. معجم البلدان (1/155-156).
(15) تاريخ الإسلام – عهد الخلفاء الراشدين ص 309.
(16) انظر فتح الباري (8/632)، والبداية والنهاية (7/150).
(17) انظر الإبانة عن معاني القراءات ص 48-49.
(18) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(19) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193). وذكره الحافظ في الفتح (8/633).
الفصل الثاني
من قام بجمع القرآن الكريم
في عهد عثمان
انعقد عزم الصحابة -بعد ما رأوا من اختلاف الناس في القراءة- على أن يجمعوا القرآن، ويرسلوا منه نُسَخًا إلى الأمصار، لتكون مرجعًا للناس يرجعون إليه عند الاختلاف.
فانتدب عثمان بن عفان لذلك اثني عشر رجلاً، وأمرهم بأن يكتبوا القرآن في الْمصاحف، وأن يرجعوا عند الاختلاف إلى لغة قريش.
عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت.(1)
والذي يظهر أن عثمان انتدب رجلين فقط أول الأمر، هما زيد بن ثابت وسعيد بن العاص.
كما جاء عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -في قصة جمع القرآن زمن عثمان- أنه قال: فقيل: أيُّ الناس أفصح؟ وأي الناس أقرأُ؟ قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص، وأقرؤهم زيد بن ثابت. فقال عثمان: ليكتبْ أحدهُما ويُملي الآخر، ففعلا، وُجمِع الناسُ على مصحفٍ.(2)
قال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح.(3)
فالظاهر أنَّهم اقتصروا عليهما أول الأمر للمعنى المذكور في هذا الأثر، ثم لَمَّا احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بِحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق أضافوا إلى زيدٍ وسعيدٍ عبدَ الله بنَ الزبير وعبدَ الرحمن بنَ الحارث بن هشام.
فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا(4) فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ.(5)
ثم أضافوا بعد ذلك آخَرِينَ بحسب ما كانوا يحتاجون إليه من الإملاء والكتابة، وكان منهم أبيُّ بن كعب الذي احتاجوا إليه للاستظهار، كما ورد في رواية محمد بن سيرين السابقة.
وقد وقع في الروايات الواردة تسمية تسعةٍ من هؤلاء الاثني عشر رجلاً، وهم:
1 – زَيْد بْن ثَابِتٍ.
2 – عَبْد اللهِ بْن الزُّبَيْرِ.
3 – سَعِيد بْن الْعَاصِ.(6)
4 – عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.(7)
وهؤلاء هم الأربعة المذكورون في حديث أنسبن مالك السابق قريبًا.
5 – أبي بن كعب، كما في حديث كثير المتقدم أيضًا.
6 – أنس بن مالك.
7 – عبد الله بن عباس.(8)
8 – مالك بن أبي عامر،(9) جد مالك بن أنس، ثبت ذلك من روايته.(10)
وقال الإمام مالك بن أنس: كان جدِّي مالك بن أبي عامرٍ مِمَّن قرأ في زمان عثمان، وكان يُكتبه المصاحفَ.(11)
9 – كثير بن أفلح،(12) كما في حديث ابن سيرين المتقدم.
وفيه قول محمد بن سيرين: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(13)
وقد روي عن أبي المليح عن عثمان أنه حين أراد أن يكتب المصحف قال: تُمِلُّ(14) هُذيلٌ، وتكتبُ ثَقِيفٌ.(15)
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: لا يُمْلِيَنَّ في مصَاحِفِنا إلاَّ غِلمانُ قُرَيشٍ وثَقِيفٍ.(16)
أما الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب، فلا مدخل له هنا، إذ عمر قد مات قبل أن تكتب المصاحف في عهد عثمان .
وأما الأثر الوارد عن عثمان، فإنه منقطعٌ؛ لأن أبا المليح لم يلق عثمان،(17) كما أن فيه نَكارةٌ، لأنه مخالف للواقع، فليس فيمن ورد تسميتهم في الروايات أحدٌ من ثَقِيفٍ أو هُذَيْلٍ، بل كلهم إما قُرَشِيٌّ، وإمَّا أنصاريٌّ.(18)
ومِمَّن ورد تسميتهم أيضًا فيمن شارك في هذا الجمع بالكتابة أو الإملاء:
عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبان بن سعيد بن العاص.(19)
وأبان بن سعيد بن العاص، هو عمُّ سعيد بن العاص – أحد الأربعة الذين اختيروا للجمع، وقد ورد أنه شارك في هذا الجمع:
فعن عُمارة بن غَزِيَّة عن ابن شهابٍ عن خارجة بن زيدٍ عن زيد بن ثابت أنَّهُ قَالَ: فَأَمَرَنِي عُثْمَانُ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا. وَقَالَ إنِّي جَاعِلٌ مَعَك رَجُلاً لَبِيبًا فَصِيحًا، فَمَا اجْتَمَعْتُمَا عَلَيْهِ فَاكْتُبَاهُ، وَمَا اخْتَلَفْتُمَا فِيهِ فَارْفَعَاهُ إلَيَّ، فَجَعَلَ مَعَهُ أَبَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.(20)
وأبان بن سعيد بن العاص قتل في سنة اثنتي عشرة يوم أجنادين، قبل وفاة أبي بكر بقليل، أو سنة أربع عشرة يوم مرْج الصُّفْر، في صدر خلافة عمر، وقيل إنه توفي سنة تسع وعشرين، والأول قول أكثر أهل النسب.(21)
قال الحافظ: ووقع في رواية عُمارة بن غَزِيَّة “أبان بن سعيد بن العاص” بدل “سعيد”، قال الخطيب: ووهِم عُمارة في ذلك؛ لأن أبان قُتِل بالشام في خلافة عمر، ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص – ابن أخي أبان المذكور اهـ.(22)
(1) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(2) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30.
(3) فتح الباري (8/634).
(4) يعني الصحف التي كتبت في عهد أبي بكرٍ .
(5) رواه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب باب نزل القرآن بلسان قريشٍ (6/621)ح 3506.
(6) هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، له صحبة، توفي النَّبِيّ وله تسع سنين، وكان أميرًا شريفًا، ذا حلم وعقل يصلح للخلافة، ولي إمرة المدينة لمعاوية ثم ولي إمرة الكوفة، وغزا طبرستان ففتحها، وكان أحد من ندبهم عثمان لكتابة المصاحف؛ لفصاحته وشبه لهجته بلهجة رَسُول اللهِ ، مات سنة سبع أو ثمان وخمسين. سير أعلام النبلاء للذهبي (3/444)، وطبقات ابن سعد (5/30)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة (2/391).
(7) من أشراف بني مخزوم، توفي النَّبِيّ وهو ابن عشر سنين، وكان من نبلاء الرجال، ومن فضلاء المسلمين وخيارهم علمًا ودينًا وعلو قدرٍ، شهد الجمل مع عائشة، وكان صهرًا لعثمان. توفي في خلافة معاوية. أسد الغابة (3/327)، وسير أعلام النبلاء (3/484).
(8) قال الحافظ ابن حجر عن مشاركة ابن عباس وأنس بن مالك في الكتابة: وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب. فتح الباري (8/635).
(9) من كبار التابعين وعلمائهم، وأبوه أبو عامر بن عمرو بن الحارث، صحابي شهد المغازي كلها ما خلا بدرًا، وهو أحد الذين حملوا الخليفة عثمان بن عفان ليلاً إلى قبره. تهذيب التهذيب (10/19).
(10) انظر المصاحف لابن أبي داود ص 29.
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 34.
(12) مولى أبي أيوب الأنصاري، قُتِل في وقعة الحرة سنة 63هـ. شذرات الذهب (1/71).
(13) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(14) أي تُملي، قال تعالى: } فليكتب وليُمْلِلِ الذي عليه الحقُّ { . البقرة 282. قال الجوهري في الصحاح: وأملَّ عليه أيضًا، بمعنى أملى. يُقال: أمللتُ عليه الكتابَ. الصحاح (ملل) (5/1821).
(15) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 34.
(16) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف: باب جمع عمر بن الخطاب القرآن في المصحف ص 17.
(17) انظر ترجمته في تهذيب الكمال (34/316-317).
(18) انظر فتح الباري (8/635).
(19) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 258، شيخ القراء محمد بن علي بن خلف الحسيني الشهير بالحداد في كتابه: الكواكب الدرية ص 21.
(20) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار. (4/193).
(21) أسد الغابة في معرفة الصحابة (1/47).
(22) فتح الباري (8/635)، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/39).
الفصل الثالث
منهج جمع القرآن
في عهد عثمان ومزاياه
المبحث الأول: منهج عثمان في جمع القرآن
1 – عمل عثمان t في جمع القرآن
2 – خطة العمل
المبحث الأول: منهج عثمان في جمع القرآن
1 – عمل عثمان في جمع القرآن
كان المقصود من جمع القرآن زمن عثمان قطع دابر الفتنة التي طرأت على المسلمين من الاختلاف في كتاب الله، بجمع وتحديد الأوجه المتواترة المجمع عليها في تلاوة القرآن، وإبعاد كل ما لم تثبت قرآنيته، سواء بنسخ، أو بأن لم يكن قرآنًا أصلاً.
قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ومفروضٍ قراءتُه وحفظُه؛ خشية وقوع الفساد والشبهة على من يأتي بعد.(1)
فأراد عثمان أن ينسخ من الصحف التي جمعها أبو بكر مصاحف مجمعًا عليها تكون أئمة للناس في تلاوة القرآن.
قال ابن حزم: خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل- رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.(2)
فلم يكن قصد عثمان جمع ما ليس مجموعًا، فقد كان القرآن زمن الصديق قد جُمِع، وإنما قصَدَ نسخَ ما كان مجموعًا منه زمن الصديق في مصاحف يقتدي بِها المسلمون.
قال النووي: خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم .ـ(3)
قال البيهقي: ثم نسخ (زيدٌ) ما جمعه في الصحف (في عهد أبي بكر) في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى .ـ(4)
2 – خطة العمل
شرع الصحابة الموكلون بجمع القرآن في كتابة المصحف الإمام، الذي نسخوا منه بعد ذلك المصاحف المرسلة إلى الأمصار، وكان الخليفة عثمان يتعاهدهم ويشرف عليهم، وكان الموجودون من الصحابة جميعًا يشاركون في هذا العمل.
ويُمكن أن يلخص منهج الجمع العثماني فيما يأتي:
1 – الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق ، ويظهر هذا جليًّا في طلب عثمان الصحف التي جمع فيها أبو بكرٍ القرآن من حفصة -رضي الله عنها، وقد كانت هذه الصحف -كما مرَّ- مستندةً إلى الأصل المكتوب بين يدي النَّبِيّ .
وبذلك ينسد باب القالة، فلا يزعم زاعم أن في الصحف المكتوبة في زمن أبي بكر ما لم يُكتب في المصحف العثماني، أو أنه قد كتب في مصاحف عثمان ما لم يكن في صحف أبي بكر.(5)
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: … فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ.(6)
2 – أن يتعاهد لجنة الجمع ويشرف عليها خليفة المسلمين بنفسه:
فعن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبـْـعَةِ(7) التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم.(8)
3 – أن يأتي كلُّ مَن عنده شيءٌ من القرآن سمعه من الرَّسُول بِما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جُمِع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده شيء منه، ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف، ولا يُشَكُّ في أنه جمِع عن ملأٍ منهم.(9)
ويدل على ذلك ما صحَّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت.(10)
وورد كذلك أن عثمان دعا الناس إلى أن يأتوا بِما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النَّبِيّ ، وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستيثاق.
فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنةً، وأنتم تَمترون في القرآن… فأَعْزِم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيءٌ لَمَا جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم: لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ، وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم.(11)
4 – الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش.
كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.(12)
والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتُها عن النَّبِيّ ، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقةٌ ولا اختلاف، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رَسُول اللهِ لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحدٌ منهم القراءة بِها.
قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم.(13)
فلعلَّ عثمان عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف.(14)
وقد اختلف الصحابة في كلمة (التابوت) هل هي بالتاء أم بالهاء.
كما قال الزهري: واختلفوا يومئذٍ في (التابوت) و(التابوه)، فقال النفر القرشيون: (التابوت)، وقال زيدٌ: (التابوه)، فرُفِع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت)، فإنه بلسان قريشٍ.(15)
على أنه قد ورد أن الذي رأى أنَّها بالتاء هو زيدٌ، كما روى الطحاوي عن زيد ابن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{،(16) قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: (التَّابُوتُ)، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ (التَّابُوتُ).(17)
5 – أن يُمنع كتابة ما نُسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادًا، وما لم تُعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحًا لمعنىً، أو بيانًا لناسخ أو منسوخٍ، أو نحو ذلك.(18)
ومِمَّا يدل لذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(19)
6 – أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بِها القرآن، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة(20) مع مراعاة ما يأتي:
أ- عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجهٍ مختلفةٍ عن النَّبِيّ ، يبقيه الكَتَبَةُ خاليًا عن أية علامة تقصِر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية،(21) فتكتب هذه الكلمات برسم واحدٍ في جميع المصاحف، محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة، ومن أمثلة ذلك:
1 – قوله تعالى: } كَيْفَ نُنْشِزُهَا{،(22) بالزاي المنقوطة، فقد قرأها أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب } نُنْشِرُهَا {، بالراء المهملة.(23)
2 – وقوله : } هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {،(24) بالباء الموحدة من البلوى، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف: } هُنَالِكَ تَتْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {، بالتاء المثناة من التلاوة، مكان الباء الموحدة.(25)
3 – وقوله تعالى: } فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ {،(26) بفتح العين والميم، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف وشعبة: } فِي عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ {، بضم العين والميم.(27)
ب- ما لا يحتمله الرسم الواحد، كالكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، ولم تنسخ في العرضة الأخيرة، ورسمُها على صورة واحدة لا يكون محتملاً لما فيها من أوجه القراء، فمثل هذه الكلمات ترسم في بعض المصاحف على صورة تدل على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى.(28)
ولم يكتب الصحابة تلك الكلمات برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية؛ لئلا يُتَوَهَّم أن الثاني تصحيحٌ للأول، وأن الأول خطأ، وكذلك لأن جعل إحدى القراءات في الأصل والقراءات الأخرى في الحاشية تحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجِّح؛ إذ إنَّهم تلقَّوْا جميع تلك الأوجه عن النَّبِيّ ، وليست إحداها بأولى من غيرها.(29)
ومن الأمثلة على ذلك:
1 – قوله تعالى: } وقالوا اتخذ الله ولدًا {،(30) فقد قرأها عبد الله بن عامرٍ الشامي: } قالوا اتخذ الله ولدًا { بغير واو. وهي كذلك في مصاحف أهل الشام.(31)
2 – قوله : } وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ {،(32) فقد قرأها أبو جعفرٍ، ونافعٌ، وابن عامرٍ: } وَأَوْصَى بِها إِبْرَاهِيمُ { من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين. قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان ، ورسمت في بقية المصاحف بواوين قبل الصاد، من غير ألفٍ بينهما.(33)
3 – وقوله تعالى: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ {،(34) فقد قرأها عبد الله بن كثير المكي: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ {، بزيادة ( مِنْ) قبل (تَحْتِهَا). وهي كذلك في المصحف المكي، وفي بقية المصاحف بحذفها.(35)
4 – وقوله تعالى: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {،(36) في قراءة أبي جعفر، ونافع، ورواية حفص عن عاصم بِهاء بعد الياء في (تَشْتَهِيهِ)، وقد قرأها بقية القراء: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {، دون الهاء الأخيرة.(37)
قال أبو عمرو الداني: في مصاحف أهل المدينة والشام ( تَشْتَهِيهِ ) بِهاءين، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة، وغلط.
وقال أبو عبيد: وبِهاءين رأيته في الإمام. وفي سائر المصاحف (تَشْتَهِي) بِهاء واحدة اهـ.(38)
7 – بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت ، ثم يراجعه عثمان بنفسه.
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ يَقْرَأُ بِها، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ } مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ {،(39) فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.(40)
كانت هذه هي المراجعة الأولى لزيدٍ ، ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء.
فعن زيد بن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{ قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: التَّابُوتُ، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ التَّابُوتَ، ثُمَّ عَرَضَهُ -يَعْنِي الْمُصْحَفَ- عَرْضَةً أُخْرَى، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى حَفْصَةَ أَنْ تُعْطِيَهُ الصَّحِيفَةَ، وَحَلَفَ لَهَا لَيَرُدَّنَّ الصَّحِيفَةَ إلَيْهَا، فَأَعْطَتْهُ فَعَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي شَيْءٍ، فَرَدَّهَا إلَيْهَا وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ يَكْتُبُونَ مَصَاحِفَ.(41)
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بِما جمعه الصديق كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لِمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلافٍ بين الحفَّاظ والعلماء.
وقد نفَّذ الصحابة هذه الضوابط أدقَّ تنفيذٍ، فكانوا ربَّما انتظروا الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانًا، حتى يستثبتوا مِمَّا عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة والإملاء كانوا من الحفاظ القراء.
عن مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ فيمن أملى عليهم، فربَّما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقَّاها من رَسُول اللهِ ، ولعله أن يكون غائبًا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يُرسَل إليه.(42)
ثم أمر عثمان بعد ذلك بنسخ المصاحف عن المصحف الإمام، وإرسالها إلى الأمصار، وهي التي عرفت فيما بعدُ بالمصاحف العثمانية، وحولها يدور الحديث في الفصل الآتي -إن شاء الله.
(1) البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212-213).
(3) التبيان في آداب حملة القرآن ص 96.
(4) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/148).
(5) الكواكب الدرية ص 21.
(6) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(7) الرَّبْعَة: جُونة العطَّار، وصندوق أجزاء المصحف. القاموس المحيط (ربع) ص 929.
(8) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(9) انظر البرهان في علوم القرآن (1/238-239).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30. وقال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فتح الباري (8/634).
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان القرآن في المصاحف. ص 31.
(12) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(13) فتح الباري (8/625).
(14) فتح الباري (8/625).
(15) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان القرآن في المصاحف ص 26، وانظر فتح الباري (8/635).
(16) سورة البقرة من الآية 248.
(17) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(18) انظر البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(19) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(20) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 387-388.
(21) النشر في القراءات العشر (1/33).
(22) سورة البقرة من الآية 259.
(23) النشر في القراءات العشر (2/231).
(24) سورة يونس ، من الآية 30.
(25) النشر في القراءت العشر (2/283).
(26) سورة الهمزة، آية 9.
(27) النشر في القراءات العشر (2/403).
(28) سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين، للشيخ على محمد الضباع. ص 101-106،وانظر أيضًا شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن لإبراهيم المارغني التونسي ص 436 وما بعدها.
(29) مناهل العرفان (1/259)، والكواكب الدرية ص 22-23.
(30) سورة البقرة، من الآية 116.
(31) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 54، والنشر في القراءات العشر (1/11)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(32) سورة البقرة، من الآية 132.
(33) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 51، 54، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(34) سورة التوبة من الآية 100.
(35) النشر في القراءات العشر (1/11)، و(2/280)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 448، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 57.
(36) من الآية 71 من سورة الزخرف.
(37) النشر في القراءات العشر (2/370)، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 53، 56.
(38) شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 455-456.
(39) سورة الأحزاب، من الآية 23.
(40) رواه البخاري في الصحيح كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4988.
(41) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(42) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان القرآن في المصاحف. ص 29.
الفصل الثالث
منهج جمع القرآن
في عهد عثمان ومزاياه
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد عثمان t
المبحث الثالث: الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد عثمان
كان نسخ القرآن في المصاحف في زمن عثمان بن عفان تحقيقًا لوعد الله بحفظ كتابه العزيز، قال تعالى: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {،(1) فقد وحَّد هذا الجمع صف المسلمين وكلمتهم، وردَّ عنهم ما كان محدقًا بِهم من الفتنة العظيمة، واجتث بذور الشقاق من بينهم.
ومِمَّا سبق ذكره من خطة عمل الصحابة في جمع القرآن زمن عثمان يتبين لنا مزايا ذلك الجمع المبارك،(2) ويمكن تلخيص بعضها فيما يأتي:
1. مشاركة جميع من شهد الجمع من الصحابة فيه، وإشراف الخليفة عليه بنفسه.
2. بلوغ من شهد هذا الجمع وأقرّه عدد التواتر.
3. الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، دون ما كانت روايته آحادًا.
4. إهمال ما نسخت تلاوته، وما لم يستقرَّ في العرضة الأخيرة.(3)
5. ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن، بخلاف صحف أبي بكر ، فقد كانت مرتبة الآيات دون السور.
6. كتابة عدد من المصاحف يجمع وجوه القراءات المختلفة التي نزل بِها القرآن الكريم.
7. تجريد هذه المصاحف من كل ما ليس من القرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة من تفسير للفظ، أو بيان لناسخ أو منسوخ، أو نحو ذلك.
ولقد حظي الجمع العثماني برضى من شهده من أصحاب النَّبِيّ والتابعين، وقطع الله به دابر الفتنة التي كادت تشتعل في بلاد المسلمين، إذ جمعهم على ما ثبتت قرآنيته، فانتهى بذلك ما كان حاصلاً من الاختلاف بين المسلمين.
عن مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقَّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعِبْ ذلك أحدٌ.(4)
وقد عُدَّ جمعُ القرآن في المصاحف في زمن عثمان من أعظم مناقبه.
فعن عبد الرحمن بن مهديٍّ(5) قال: خصلتان لعثمان بن عفَّانَ ليستا لأبي بكر، ولا لِعُمَرَ: صبرُهُ نفسَه حتَّى قُتِل مظلومًا، وجمعُهُ الناسَ على المصحف.(6)
وقد دافع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن عثمان في جمع القرآن وإحراق المصاحف؛ لئلا يتهمه من لا فقه له بتضييع القرآن، أو الجرأة عليه، وأخبر أنه فعل ذلك عن رضى من شهده من الصحابة، وأنه لو كان واليًا إذ ذاك لفعل مثل الذي فعل عثمان .
عن سويد بن غفلة قال: سمعت عليَّ بنَ أبي طالبٍ يقول: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا … قال: قال عليُّ: والله لو وليت لفعَلْتُ مثلَ الذي فَعَلَ.(7)
المبحث الثالث: الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث
نستطيع بعد هذا العرض أن نتبين الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث، فقد كان لكل مرة من مرات جمع القرآن أسباب خاصة، وكان لكل مرة أيضًا كيفية خاصة، فالفرق بين المراحل الثلاث كان من حيث الأسباب والكيفيات:
الفرق بين المراحل الثلاث من حيث الأسباب:
1. أسباب جمع القرآن في عهد النَّبِيّ : زيادة التوثق للقرآن، والتحري في ضبط ألفاظه، وحفظ كلماته، وإن كان التعويل في ذلك الوقت إنما كان على الحفظ والاستظهار، وتبليغ الوحي على الوجه الأكمل.
2. سبب جمع القرآن في زمن أبي بكر : الخوف على ضياع شيء من القرآن بِهلاك حفَّاظه، وضياع ما عندهم مِمَّا كُتِب بين يدي النبي .
3. سبب جمع القرآن في عهد عثمان : خوف الفتنة التي وقع فيها المسلمون بسبب اختلافهم في القراءة بحسب ما تعلموه من الأحرف التي نزل بِها القرآن، والمحافظة على كتاب الله من التبديل والتغيير.
الفرق بين المراحل الثلاث من حيث الكيفية:
1. كيفية جمع القرآن في عهد النَّبِيّ : ترتيب الآيات في سورها، وكتابة الآيات فيما تيسر من مواد الكتابة، مع بعثرة ذلك المكتوب، وعدم جمعه في مكان واحد.
2. كيفية جمع القرآن في زمن أبي بكر : جمع المكتوب في عهد النَّبِيّ ونقله في صحفٍ، وهي أوراق مجردة، مرتب الآيات أيضًا، وبحيث تجتمع كل سورة متتابعة في تلك الصحف، لكن من غير أن تجمع تلك الصحف في مجلد أو مصحفٍ واحد.
3. كيفية جمع القرآن في عهد عثمان : نقل ما في صحف أبي بكر في مصحف إمامٍ، ونسخ مصاحف منه، وإرسالها إلى الآفاق، لتكون مرجعًا للناس عند الاختلاف.(8)
قال البيهقي (بعد حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاع)ِ(9): وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي ، ثم كانت مثبتة في الصدور، مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب، فجمعها منها في صحفٍ بإشارة أبي بكرٍ وعمر، ثم نسخ ما جمعه في الصحف(10) في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى .ـ(11)
قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنْزِيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ومفروضٍ قراءتُه وحفظُه؛ خشية وقوع الفساد والشبهة على من يأتي بعد.(12)
وقال ابن حزم: خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.(13)
(1) سورة الحجر آية 9.
(2) انظر مناهل العرفان (1/260-261).
(3) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 383.
(4) رواه الداني في المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 18، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف، ص 19، ولفظه: ولم ينكر ذلك منهم أحدٌ.
(5) هو الإمام الكبير، والحافظ العلم: أبو سعيد العنبري، قال على بن المديني: ما رأيت أعلم منه. توفي سنة 198 هـ. انظر تقريب التهذيب (1/499)، وتذكرة الحفاظ (1/329).
(6) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف، ص 19.
(7) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30، قال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فتح الباري (8/634).
(8) انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/171/172)، ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/262-263)، والكواكب الدرية ص 26-27.
(9) رواه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب في فضل الشام واليمن (5/734) ح 3954 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، والبيهقي في دلائل النبوة (7/147).
(10) يعني في عهد أبي بكر.
(11) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/147-148).
(12) البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(13) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212-213).
الفصل الرابع
المصاحف العثمانية
المبحث الأول: عدد المصاحف العثمانية
فيما مرَّ علينا في الفصل السابق من نسخ المصاحف في زمن عثمان ، علمنا أنه نسخ عددًا من المصاحف وأرسل بِها إلى الأمصار، وعرفت هذه المصاحف فيما بعدُ بالمصاحف العثمانية، نسبة إلى من أمر بنسخها، وهو الخليفة الراشد عثمان ابن عفّان .
وفي هذا الفصل نتناول بالبحث عدد المصاحف التي نسخها عثمان ، والتعريف بالرسم العثماني، وحكم اتباع ذلك الرسم.
المبحث الأول: عدد المصاحف العثمانية
لَمَّا انتهى زيد بن ثابت ومن معه من نسخ المصاحف، أرسل عثمان إلى كل أفقٍ بِمصحف، وأمر الناس بإتلاف ما خالف هذه المصاحف.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أنه قال: حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا.(1)
قال النووي: خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم .ـ(2)
ولَمَّا كان الاعتماد في نقل القرآن على المشافهة والتلقِّي من صدور الرجال، ولم تكن المصاحف كافية في نقل القرآن وتعلُّمه، فقد أرسل عثمان مع كل مصحف من المصاحف قارئًا يعلِّم الناس على ما يوافق المصحف الذي أرسل به، وكان يتخير لكل قارئٍ المصحف الذي يوافق قراءته في الأكثر.(3)
فقد روي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكيّ، وبعث المغيرة بن أبي شهاب مع الشاميّ، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفيّ، وعامر بن عبد قيسٍ مع البصري.(4)
وقد اختلف العلماء في عدد المصاحف التي بعث بِها عثمان إلى البلدان، فالذي عليه الأكثر أنَّها أربعةٌ، أرسل منها عثمان مصحفًا إلى الشام، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى البصرة، وأبقى الرابع بالمدينة.
وقيل كتب خمسة مصاحف، الأربعة المذكورة، وأرسل الخامس إلى مكة.
وقيل ستةٌ، الخمسة المذكورة، وأرسل السادس إلى البحرين.
وقيل سبعة، الستة السابقة، وأرسل السابع إلى اليمن.
وقيل ثَمانية، والثامن هو الذي جمع القرآن فيه أولاً، ثم نسخ منه المصاحف، وهو المسمى بالإمام، وكان يقرأ فيه، وكان في حجره حين قُتِل.(5)
وقيل إنه أنفذ مصحفًا إلى مصر.(6)
عن حمزة الزيات قال: كتب عثمان أربعة مصاحف، فبعث بِمصحفٍ منها إلى الكوفة، فوُضِع عند رجل من مُرادٍ، فبقي حتى كتبتُ مصحفي عليه.(7)
وقال أبو حاتم السجستاني: لَمَّا كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن، كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدًا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.(8)
قال الإمام أبو عمرو الداني: أكثر العلماء على أن عثمان لَمَّا كتب المصاحف، جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدةٍ منهن: فوجّه إلى الكوفة إحداهنَّ، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدةً، وقد قيل إنه جعله سبع نسخٍ، ووجَّه من ذلك أيضًا نسخةً إلى مكةَ، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأول أصحُّ، وعليه الأئمة.(9)
وقال الحافظ ابن حجر والسيوطي: فالْمشهور أنَّها خمسة.(10)
وقال الْجعبري: حبس مصحفًا بالْمدينة للناس، وآخر لنفسه، وسيَّر باقيَها إلى أمرائه.(11)
والْمتعارف عند علماء رسم القرآن ستة مصاحف:
الأول: الْمصحف الإمام، وهو الْمصحف الذي احتبسه عثمان لنفسه، وينقل عنه أبو عبيد القاسم بن سلاَّم.
الثاني: الْمصحف الْمدني، وهو الْمصحف الذي كان بأيدي أهل المدينة، وعنه ينقل الإمام نافع.
الثالث: الْمصحف الْمكي.
ويطلق على الإمام والمدني والمكي: الْمصاحف الحجازية، أو الحرمية.(12)
الرابع: الْمصحف الشامي.
الخامس: الْمصحف الكوفي.
السادس: الْمصحف البصري.
والكوفي والبصري عراقيان، وهما الْمرادان بِمصاحف أهل العراق.(13)
ولعل الصواب في ذلك هو الْمتعارف عند علماء القراءات، إذ قد كثر نقلهم عن هذه المصاحف الستة.(14)
قال الحدَّاد:(15) واختلف في عدد الْمصاحف التي كتبها عثمان، فقيل -وهو الذي صوَّبه ابن عاشرٍ في شرح الإعلان: أنَّها ستةٌ: الْمكي والشامي والبصري والكوفي، والْمدني العامُّ، الذي سيَّره عثمان من محلِّ نسْخِه إلى مقرِّه، والْمدني الخاصُّ به، الذي حبسه لنفسه، وهو الْمسمَّى بالإمام.(16)
(1) رواه البخاري في الصحيح كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) 4987.
(2) التبيان في آداب حملة القرآن ص 96.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/40).
(4) دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 18-19، والكواكب الدرية ص 24، ومناهل العرفان (1/403-404).
(5) دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 11.
(6) الكواكب الدرية ص 26، ومناهل العرفان (1/403).
(7) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما كتب عثمان من المصاحف ص 43.
(8) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما كتب عثمان من المصاحف ص 43، وانظر التبيان في آداب حملة القرآن ص 97.
(9) المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 19، وانظر: البرهان في علوم القرآن (1/240)، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 96-97.
(10) فتح الباري (8/636)، والإتقان في علوم القرآن (1/172).
(11) انظر: الكواكب الدرية ص 2.
(12) نسبة إلى الحرم.
(13) انظر شرح الإعلان بتكملة مورد الظمآن. ص 437.
(14) انظر: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 197، ومناهل العرفان (1/403).
(15) هو الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني، المعروف بالحدَّاد، من فقهاء المالكية بِمصر، ولد بالصعيد سنة 1282 هـ، وتعلم بالأزهر، ثم عيِّن شيخًا للمقارئ المصرية سنة 1323 هـ، وتوفي سنة 1357 هـ. الأعلام (6/304).
(16) الكواكب الدرية ص 26.
المبحث الثاني: الرسم العثماني
الرسم في اللغة والاصطلاح
أوجه الاختلاف بين الرسم العثماني والرسم القياسي
المبحث الثاني: الرسم العثماني
الرسم في اللغة والاصطلاح
الرسم في اللغة: هو الأَثَرُ، وقيل: بقيَّةُ الأَثَرِ، وقيل: ما ليس له شخصٌ من الآثار.(1)
والرسم في الاصطلاح: قسمان: قياسي وتوقيفيّ.
فالرسم القياسيُّ: هو تصوير الكلمة بِحروف هجائها، على تقدير الابتداء بِها، والوقف عليها.
ولِهذا أثبتوا صورة همزة الوصل؛ لأنَّها ملفوظةٌ عند الابتداء، وحذفوا صورة التنوين؛ لأنه غير ملفوظٍ عند الوقف على أواخر الكلم.
والرسم التوقيفيُّ:(2) هو علمٌ تُعْرَفُ به مخالفاتُ خطِّ المصاحفِ العثمانية لأصول الرسم القياسي.(3)
وهذا الرسم التوقيفي هو الذي يعرف بـ (الرسم العثماني)، نسبة إلى عثمان ابن عفان ، إذ هو الرسم الْمُدَوَّنُ في المصاحف العثمانية التي سبق الكلام عليها في الْمبحث السابق.
وقد صنَّف العلماء كُتُبًا في معرفة كيفية كتابة الْمصاحف العثمانية، نقلوا فيها صورةً دقيقة لهذه المصاحف، وكانوا ينقلون عن الْمصاحف العثمانية مباشرةً، أو عن الْمصاحف المنقولة عنها في الأمصار، إذ الْمظنون بِمصاحف الأمصار متابعةُ كلِّ واحدٍ منها مصحف مِصْرِهِ العثمانيَّ، وبيَّن هؤلاء الأئمة المرسوم في الْمصاحف العثمانية مِمَّا خالف قواعد الرسم القياسي.
ومن أهم ما صُنِّف في الرسم العثماني:(4)
1. الْمقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار، للإمام أبي عمرو الداني. المتوفى سنة 444 هـ.
2. التنْزيل، للإمام أبي داود سليمان بن نجاح. المتوفى سنة 496 هـ.
3. عقيلة أتراب القصائد في أسنى الْمقاصد، للإمام أبي محمد القاسم بن فِيرّه الشاطبي، صاحب حرز الأماني، المتوفى سنة 590 هـ. وهي نظم لكتاب الْمقنع الْمذكور، ولها شروح كثيرة.
4. مورد الظمآن، للإمام محمد بن إبراهيم الأموي الشهير بالخراز، المتوفى في أوائل القرن الثامن الهجري، وهو نظم بديع مشتمل على جل المسائل المذكورة في الكتب السابقة، وله شروحٌ، منها: دليل الحيران، للشيخ إبراهيم بن أحمد الْمارغني التونسي، المتوفى سنة 1349 هـ.
أوجه الاختلاف بين الرسم العثماني والرسم القياسي
موضوع الرسم التوقيفي (العثماني) -كما يفهم مِمَّا سبق- حروفُ الْمصاحف العثمانية، وقد كان نَسْخ المصاحف في زمن عثمان بإشرافه، وبِمحضر من الصحابة ، وأكثر الرسم العثماني موافق لقواعد الرسم القياسي، وقد خرجت عنها أشياء، وقد دوَّنَها العلماء في الْمصنفات الخاصة بالرسم العثماني.
وأذكر هنا أنواعَ مخالفةِ الرسم العثماني للرسم الإملائي الحديث بإيجازٍ، وهي منحصرة في خمسة أنواع:
1 – الحــذف(5)
ويكون كثيرًا في الألفات والواوات والياءات.
فمن أمثلة حذف الألفات: حذف الألف التي بعد العين في: قوله: } الْعَـلَمِينَ {،(6) والتي بعد الميم من قوله : } مَـلِكِ {.(7)
ومن أمثلة حذف الواوات: حذف إحدى الواوين من قوله تعالى: } الْغَاوُونَ {،(8) وقوله: } يَسْتَوُونَ {.(9)
ومن أمثلة حذف الياءات: حـذف إحدى الياءين من قوله تعالى: } النَّبِيِّـنَ {،(10) وقوله: } يُحْيِ {.(11)
ويوجد الحذف أيضًا في اللام والنون:
فمن أمثلة حذف اللام: حذف إحدى اللامين من ألفاظ مخصوصة، منها : الَّـيْل .(12)
وحذفت النون الثانية من لفظ (ننجي) في قوله تعالى: وَكَذَ لِكَ نُـْجِي الْمُؤْمِنِينَ .(13)
2 – الزيــادة(14)
وقد وردت زيادة الألف والواو والياء في الرسم العثماني:
فمن أمثلة زيادة الألف: زيادة الألف التي بعد الشين في قوله : } لِشَايْءٍ {،(15) والتي بعد الجيم من قوله : } وَجِايءَ {.(16)
ومن أمثلة زيادة الواو: زيادة الواو في قوله : } سَأُورِيكُمْ {.(17)
ومن أمثلة زيادة الياء: زيادة الياء في قوله تعالى: } بِأَييْدٍ {.(18)
3 – الهمــز(19)
وقد ورد رسم الهمزات في مواضع من الْمصاحف العثمانية على غير الصورة القياسية، فمن ذلك:
تصوير الْهمزة ألفًا كقوله تعالى: } لَتَنُوأُ {.(20)
وتصويرها واوًا كقوله : } يَبْدَؤُا {،(21) حيث وقع من القرآن الكريم.(22)
وتصويرها ياءً كقوله: } وَإِيتَائ {.(23)
وعدم تصويرها في نحو قوله تعالى: } الرُّءْ يا {.(24)
4 – البــدل(25)
ويكون في الألف بتصويرها واوًا أو ياءً:
فتصوَّر واوًا في ألفاظ، منها: } الصَّلـَوةَ {،(26) و} الزَّكـَوةَ {،(27) و} كَمِشْكَوةٍ {.(28)
وتُصوَّر ياءً في الألف الْمنقلبة عن ياء، مثـل: } يَـأَسَفَى {،(29) و} يَتَوَفَّنـكُمْ {.(30)
وتُصوَّر الألف ياءً في بعض ألفات الثلاثيِّ المنقلبة عن واو، مثـل: } وَالضُّحَى {،(31) و} مَا زَكَى {.(32)
وتُصوَّر الألف ياءً في كلماتٍ جُهِل أصلها، وهي: (إلى) و(على) و(أنَّى)، و(متى)، و(بلى)، و(حتَّى)، واختُلف في (لدى) فرسمت في غافر بالياء ترجيحًا، ورسمت في يوسف(33) بالألف اتفاقًا.(34)
5 – الفصل والوصل(35)
فرُسمت بعض الكلمات متصلة ببعضها، والقياس أن تكون منفصلة، لكونِها كلماتٍ مستقلة.
ومن أمثلة ذلك:
(عن) مع (ما)، فقد رسمتا متصلتين في مواضع، منها قول الله : } سُبْحَـنَ اللهِ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {.(36)
(بئس) مع (ما)، فقد رسمتا متصلتين في مواضع، منها: } بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ {.(37)
(كي) مع (لا)، فقد رسمتا متصلتين في مواضع، منها: } لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ {.(38)
(1) لسان العرب (رسم) (3/1646).
(2) يُسَمَّى توقيفيًّا على القول بأن خط المصاحف توقيف من النَّبِيّ ، ويُطلق عليه البعض الرسم الاصطلاحي، نسبة لاصطلاح الصحابة ، وسيأتي الخلاف في رسم المصاحف، وهل هو توقيفي أو اصطلاحي، في المبحث الآتي -إن شاء الله تعالى.
(3) انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 40.
(4) انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 25-29.
(5) انظر البرهان في علوم القرآن (1/388-408)، والإتقان في علوم القرآن (4/147-150).
(6) من مواضع هذا اللفظ: سورة الفاتحة 2.
(7) سورة الفاتحة، من الآية 4، انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 46 وما بعدها.
(8) سورة الشعراء، من الآية 224.
(9) من مواضعه الآية 18 من سورة السجدة، وانظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 202-203.
(10) من مواضعه الآية 61 من سورة البقرة.
(11) من مواضعه الآية 258 من سورة البقرة، انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 197-199.
(12) من مواضعه الآية 164 من سورة البقرة، وانظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 205-207.
(13) سورة الأنبياء، من الآية 88، وانظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 150-151.
(14) انظر البرهان في علوم القرآن (1/381-388)، والإتقان في علوم القرآن (4/151-152).
(15) في سورة الكهف، آية 23.
(16) في سورة الزمر، من الآية 69، وسورة الفجر، آية 23. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 242،245.
(17) في سورة الأعراف، آية 145، وسورة الأنبياء، آية 37. وفي رسمها خلاف، والعمل على زيادة الواو في الموضعين. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 259.
(18) في سورة الذاريات، آية 47. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 256.
(19) انظر الإتقان في علوم القرآن (4/152-153).
(20) من الآية 76 من سورة القصص. والقياس تصويرها واوًا، ثم حذف الواو الثانية لتكررها، فتترك الهمزة بلا صورة، فتوضع رأس العين على السطر هكذا (لتنوء). انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 215.
(21) والقياس فيها أن تكون على ألف هكذا (يبدأ)، ومن مواضع هذا اللفظ الآية 64 من سورة النمل.
(22) انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 222-223.
(23) من الآية 90 من سورة النحل، والقياس ترك الهمزة بلا صورة، فتوضع رأس العين على السطر هكذا (وإيتاء). انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 253.
(24) وهو متعدد، ومن مواضعه الآية 60 من سورة الإسراء، والقياس تصوير الهمزة فيه واوًا هكذا (الرؤيا). انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 221.
(25) انظر البرهان في علوم القرآن (1/409-410)، والإتقان في علوم القرآن (4/154).
(26) من مواضعه الآية 3 من سورة البقرة.
(27) من مواضعه الآية 43 من سورة البقرة.
(28) من الآية 35 من سورة النور. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 282-283.
(29) من الآية 84 من سورة يوسف .
(30) من مواضعه الآية 11 من سورة السجدة. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 261.
(31) الآية 1 من سورة الضحى.
(32) من الآية 21 من سورة النور. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 279-281.
(33) في سورة غافر، الآية 18، وفي سورة يوسف ، الآية 25.
(34) انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 276-278.
(35) انظر البرهان في علوم القرآن (1/417-429)، والإتقان في علوم القرآن (4/155-156).
(36) سورة القصص، آية 68. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 290.
(37) سورة البقرة، آية 90. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 300-301.
(38) سورة آل عمران، آية 153. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 301.
المبحث الثالث: حكم اتباع الرسم العثماني
اختلف العلماء هل رسم المصاحف توقيفي من النَّبِيّ ، أم اجتهادي؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الرسم توقيفيٌّ، فلم يجيزوا مخالفته، وأما القائلون بأنه اجتهاد واصطلاح من الصحابة، فاختلفوا، فمنهم من أوجب اتباع اصطلاحهم، ومنهم من جوَّز مخالفته، وجوز كتابة القرآن على غيره، ومنهم من أوجب كتابةالمصاحف على الرسم القياسي منعًا للَّبْس.
فتلخص أن العلماء في الرسم العثماني على مذهبين: مذهب يوجب اتباعه (سواء من قال بالتوقيف ومن قال بأنه اصطلاح واجب الاتباع)، ومذهب يرى جواز رسم المصاحف على غير الرسم العثماني، وبعضهم يوجب ذلك.
المذهب الأول: أن رسم القرآن توقيفي، فلا تجوز مخالفته، ولا تجوز كتابة المصحف إلا على الكتبة الأولى، وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
1. إقرار النَّبِيّ هذه الكتبة، فقد كان للنَّبِيّ كُتَّاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن على هذا الرسم بين يديه ، وأقرهم على تلك الكتابة، ومضى عهده والقرآن على هذه الكتبة، لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
2. ما ورد من أن النَّبِيّ كان يوقف كُتَّابه على قواعد رسم القرآن، ويوجههم في رسم القرآن وكتابته.
أ- فعن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النَّبِيّ ، فقال له: أَلِق الدواةَ،(1) وحرِّف القلمَ، وأقِم الباء، وفرِّق السينَ، ولا تعوِّر الميم، وحسِّن (الله)، ومدّ (الرحمن)، وجوِّد (الرحيم).(2)
ب- وعن أنس أن النَّبِيّ قال: إذا كتب أحدكم (بسم الله الرحمن الرحيم)، فليمدَّ الرحمن.(3)
3. إجماع الصحابة على ما رسمه عثمان في المصاحف، وعلى منع ما سواه.
4. إجماع الأمة المعصوم من الخطأ بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين على تلقِّي ما نُقِل في المصاحف العثمانية التي أرسلها إلى الأمصار بالقبول، وعلى ترك ما سوى ذلك.(4)
فهذا إجماعٌ من الأمة على ما تضمنته هذه المصاحف، وعلى ترك ما خالفها من زيادة ونقص، وإبدال كلمةٍ بأخرى، أو حرف بآخر.
ولذلك جعل الأئمة موافقة الرسم العثماني ولو احتمالاً شرطًا لقبول القراءة، فقالوا: كل قراءة ساعدها خط المصحف، مع صحة النقل، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب، فهي المعتبرة.(5)
ومِمَّن حكى إجماع الأمة على ما كتب عثمان الإمام أبو عمرو الداني، وروى بإسناده عن مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقَّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعِبْ ذلك أحدٌ.(6)
وقال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن من نقص حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدله بحرفٍ مكانه، أو زاد فيه حرفًا مِمَّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع عليه الإجماع، وأُجمع على أنه ليس من القرآن -عامدًا لكل هذا، فهو كافر.(7)
قال البيهقي: مَن كَتَب مصحفًا، فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا بِها تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مِمَّا كتبوه شيئًا؛ فإنَّهم كانوا أكثرَ علمًا، وأصدقَ قلبًا ولسانًا، وأعظمَ أمانةً منَّا، فلا ينبغي لنا أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم، ولا تسَـقُّطًا لَهم.(8)
وعن زيد بن ثابت قال: القراءة سنةٌ، قال سليمان بن داود الهاشمي: يعني ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع.(9)
قال البيهقي: إنما أراد -والله أعلم- أن اتباع مَن قبلنا في الحروف وفي القراءات سنةٌ متبعةٌ، ولا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمامٌ، ولا مخالفة القراءة التي هي مشهورةٌ، وإن كان غيرُ ذلك سائغًا في اللغة، أو أظهرَ منها.(10)
وقال أيضًا: وبِمعناه بلغني عن أبي عبيد في تفسير ذلك، قال: وترى القرَّاء لم يلتفتوا إلى مذاهب العربية في القراءة، إذا خالف ذلك خطَّ المصحف، وزاد: واتِّباعُ حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحدٍ أن يتعدَّاها.(11)
ونقل أحمد بن المبارك(12) عن شيخه عبد العزيز الدباغ(13) أنه قال: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرةٌ واحدةٌ، وإنما هو توقيفٌ من النَّبِيّ ، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة، بزيادة الألف ونقصانِها، لأسرارٍ لا تَهتدي إليها العقول،… وهو سرٌّ من أسراره خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية،… وكما أن نظم القرآن معجزٌ، فرسمه أيضًا معجزٌ.(14)
قال ابن درستويه: خطان لا يُقاس عليهما: خط المصحف، وخط تقطيع العروض… ووجدنا كتاب الله -جلَّ ذكره- لا يُقاس هجاؤه، ولا يُخالَف خطُّه، ولكنه يُتَلقَّى بالقبول على ما أُودع المصحفَ.(15)
والقول بعدم جواز كتابة المصحف على غير الرسم العثماني هو قول أهل المذاهب الفقهية الأربعة.
قال العلامة محمد بن العاقب الشنقيطي:(16)
رسمُ الكِتابِ سنَّـةٌ متَّبـعهْ كما نحَا أهلُ المناحي الأربعهْ
وقد نقل الإمام الجعبري، وغيره إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتِّباع رسم المصحف العثماني.(17)
وفيما يأتي أقوال بعض فقهاء المذاهب الأربعة في هذه المسألة:
– الأحناف:
قال في المحيط البرهاني: إنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني.(18)
– المالكية:
سئل مالك رحمه الله: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.(19)
قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالكٌ هو الحقُّ، إذ فيه بقاء الحالة الأولى، إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى، ولا شك أن هذا هو الأَحرى بعد الأُخرى، إذ في خلاف ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى.(20)
قال أبو عمرو الداني: ولا مُخالف لِمالكٍ من علماء الأمة في ذلك.(21)
وقال أبو عمرو الداني أيضًا: سئل مالك عن الحروف تكون في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن تُغَيَّر من المصحف إذا وُجدت فيه كذلك؟ قال: لا.(22)
قال أبو عمرو: يعني الواو والألف الزائدتين في الرسم، المعدومتين في اللفظ، نحو الـواو في: } أولئك {، و} أولات {، و} الربوا {، ونحو الألف في: } لن ندعوَا { و} لأَاوْضَعُوا {.(23)
– الشافعية:
قال الشيخ سليمان الجمل: (الربا) تكتب بِهما، أي: الواو والألف معًا، فتكتب الواو أولاً في الباء، والألف بعدها، وهذه طريقة المصحف العثماني، وقوله: “وبالياء”، أي: في غير القرآن؛ لأن رسمه سنةٌ متبعة.(24)
– الحنابلة:
قال الإمام أحمد بن حنبل: يحرم مخالفة مصحف الإمام في واوٍ أو ألفٍ أو ياء، أو غير ذلك.(25)
المذهب الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي، وعليه فتجوز مخالفته.
ومِمَّن جنح إلى هذا الرأي وأيده ابن خلدون في مقدمته، والقاضي أبو بكر في الانتصار، وشيخ الإسلام ابن تيمية.(26)
واستدل القائلون بِهذا الرأي بأدلة منها:
1. أن الرسوم والخطوط ما هي إلا علامات وأمارات، فكل رسمٍ يدل على الكلمة، ويفيد وجه قراءتِها، فهو رسم صحيح.
2. أن كتابة المصحف على الرسم العثماني قد توقع الناس في الحيرة والخطأ، والمشقة والحرج، ولا تمكنهم من القراءة الصحيحة السليمة.
3. أنه ليس في الكتاب العزيز، ولا السنة المطهرة، ولا في إجماع الأمة، ولا في قياس شرعي – ما يدل على وجوب كتابة المصحف برسم معين، وكيفية مخصوصة، ولَم يروَ عن الرَّسُول أنه أمر أحدًا من كتاب الوحي حين كتابة الآيات القرآنية أن يكتبها برسم خاصٍّ، ولا نَهى أحدًا أن يكتبها بِهيئة معينة.
قال ابن خلدون: فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغٍ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسُّط، لمكان العرب من البداوة والتوحُّش، وبُعْدِهم عن الصنائع، وانظر ما وقع من أجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثيرُ من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرُّكًا بما رسمه أصحاب الرَّسُول ، وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله تعالى وكلامه، كما يُقتَفى لهذا العهد خطُّ وليٍّ أو عالمٍ تبرُّكًا، ويُتَّبع رسمه خطأً أو صوابًا، وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه؟ فاتُّبع ذلك، وأُثْبِت رسمًا، ونبَّه العلماء بالرسم إلى مواضعه.
قال: ولا تلتفتنَّ في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنَّهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يُتخيَّل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يُتخيَّل، بل لكل وجه، يقولون في زيادة الألف في } لاأذبحنَّه { إنه تنبيهٌ على أن الذبح لم يقع، وفي مثل زيادة الياء } بأييد { إنه تنبيهٌ على كمال القدرة الربانية، وأمثال ذلك مِمَّا لا أصل له إلا التحكم المحض، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهًا للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمالٌ فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وليس ذلك بصحيح. اهـ.(27)
وقال القاضي أبو بكر: وأما الكتابة، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا، إذ لم يأخذ على كتَّاب القرآن وخطَّاط المصاحف رسمًا بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يُدْرَك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية.
بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهُل، لأن رَسُول اللهِ كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجهًا معينًا، ولا نَهى أحدًا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاحٌ، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. اهـ.(28)
بل ذهب عز الدين بن عبد السلام(29) إلى تحريم الكتابة على الرسم العثماني الأول، ووجوب كتابة القرآن على الاصطلاحات المعروفة عند عامة الناس.
قال الزركشي بعد ذكر قول الإمام أحمد في تحريم مخالفة مصحف عثمان: وكان هذا في الصدر الأول، والعلم غضٌّ حيٌّ، وأما الآن، فقد يخشى الإلباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة؛ لئلا يوقع في تغيير الجهال.(30)
قال البنا الدمياطي: وهذا كما قال بعضهم: لا ينبغي إجراؤه على إطلاقه؛ لئلا يؤدي إلى درس العلم، ولا يترك شيء قد أحكمه السلف مراعاة لجهل الجاهلين، لا سيما، وهو أحد الأركان التي عليها مدار القراءات.(31)
(1) ألاق الدواة فلاقت: لزق المداد بصوفها. لسان العرب (ليق) (5/4115).
(2) ذكره القاضي عياضٌ في الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/357-358)، والحافظ في فتح الباري (7/575).
(3) رواه الديلمي في مسنده، انظر فردوس الأخبار (1/364) ح 1174.
(4) الكواكب الدرية ص 34.
(5) الكواكب الدرية ص 34.
(6) رواه الداني في المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار ص 18، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف، ص 19، ولفظه: ولم ينكر ذلك منهم أحدٌ.
(7) الشفا بتعريق حقوق المصطفى (2/647).
(8) الجامع لشعب الإيمان (5/600).
(9) رواه البيهقي في الجامع لشعب الإيمان (5/600)، وفي السنن الكبرى (2/385)، والحاكم في المستدرك (2/224)، وصححه ووافقه الذهبي.
(10) السنن الكبرى للبيهقي (2/385).
(11) الجامع لشعب الإيمان (5/601)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/380).
(12) أحمد بن المبارك السَّلْجِماسي اللَّمَطِي، فقيه مالكي، عارف بالحديث، ولد في سَلْجِماسة سنة 1090 هـ، 1679م ونشأ فيها، ثم انتقل إلى فاس، فقرأ وأقرأ، حتى صرَّح لنفسه بالاجتهاد المطلق، وتوفي بفاس سنة 1156 هـ، 1743م. الأعلام (1/201-202).
(13) عبد العزيز بن مسعود الدباغ الإدريسي الحسني، متصوفٌ من الأشراف الحسنيين، ولد بفاس سنة 1095 هـ، 1684م، كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولأتباعه مبالغة في الثناء عليه، ونقل الخوارق عنه، توفي بفاس سنة 1132 هـ، 1720م. الأعلام (4/28).
(14) أحمد بن المبارك السلجماسي في كتابه: الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز ص 101.
(15) البرهان في علوم القرآن (1/376)، نقلاً عن الكتاب لابن درستويه ص 7.
(16) انظر التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ ص 27.
(17) بحث في المصاحف العثمانية للدكتور محمود سيبويه البدوي، مجلة كلية القرآن الكريم بالمدينة المنورة، العدد الأول ص 345، نقلاً عن خميلة أرباب المقاصد شرح عقيلة أتراب القصائد للإمام الجعبري.
(18) مناهل العرفان (1/379).
(19) المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 19، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 9.
(20) مناهل العرفان (1/379).
(21) المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 19.
(22) المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 36، والبرهان في علوم القرآن (1/379)، ومناهل العرفان (1/379).
(23) المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 36، والبرهان في علوم القرآن (1/379)، ومناهل العرفان (1/379)، وقد اختلفت المصاحف في هذه الكلمة، ففي بعضها بألف بعد الهمزة، وفي بعضها بغير ألف، والعمل على إسقاط الألف. انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 245.
(24) حاشية الجمل على شرح المنهج، للشيخ سليمان الجمل (3/44).
(25) البرهان في علوم القرآن (1/379)، و الإتقان (4/146).
(26) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 129، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/420-421).
(27) مقدمة ابن خلدون (مقدمة تاريخ بن خلدون) ص 419.
(28) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 129، وانظر: الإبريز ص 99-101، ومناهل العرفان (1/380-381).
(29) هو الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، برع في الفقه والأصول والعربية والتفسير والحديث، رحـل إليه الطلبة من سـائر البلدان، هذا مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. توفي سنة 660?. شذرات الذهب (3/301).
(30) البرهان في علوم القرآن (1/379)، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 9.
(31) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 9-10.
تابع المبحث الثالث: حكم اتباع الرسم العثماني
الرأي الراجح
والرأي الذي تطمئن إليه النفس هو رأي الجمهور الذين ذهبوا إلى أن خط المصاحف توقيف، ولا تجوز مخالفته.
ويترجح هذا الرأي بإجماع الصحابة ومن بعدهم على كتابة المصاحف على هذه الهيئة المعلومة، وعلى رفض ما سواها، فلا يُعتبَر بعد إجماع أهل القرون الأولى خلاف من خالف بعد ذلك، ولا يجوز خرق إجماعهم؛ لأن الإجماع لا يُنْسَخُ.
ويؤيد ذلك أن الرسم الإملائي اصطلاح، والاصطلاح قد يتغير مع تغير الزمان، كما أن قواعد الإملاء تختلف فيها وجهات النظر، فيؤدي ذلك إلى التحريف والتبديل في كلام الله .
فلو أن أهل كل زمانٍ اصطلحوا في كتابة المصاحف على اصطلاح يناسب ما يألفونه من قواعد الإملاء، ثم أتى جيلٌ بعدهم فاصطلح على اصطلاح آخر يناسب ما استجدَّ من القواعد، وانقطعت صلة الأجيال المتتابعة بالمصاحف التي كتبها الصحابة، لو حدث ذلك لوصلنا خلال عقود قليلة إلى نصٍّ مشوَّهٍ من القرآن، وحينئذ لن يستطيع الناس تَمييز القراءة الصحيحة من غيرها، ويؤدي ذلك إلى تحريف كتاب الله، ويحصل الشكُّ في جميعه.
فهذا الرسم العثماني هو أقوى ضمان لصيانة القرآن من التغيير والتبديل.(1)
ومِمَّا يؤيد كون خط المصاحف توقيف: أن الصحابة كتبوا الكلمة الواحدة في بعض المواضع بِهيئة، وفي مواضع أخرى بهيئة أخرى، ولا يظن بعاقلٍ -فضلاً عن الصحابة العلماء النبلاء- أن يسمع الكلمة الواحدة فيكتبها مرة بهيئة ومرة بأخرى إلا أن يكون لذلك علة، ولا علةَ هنا إلا التوقيف.
فقد رسم الصحابة (سعوا) في سورة الحج بزيادة الألف، ولم يزيدوا الألف من نفس اللفظ في سورة سبأ، فرسموها هكذا: (سعو).
وكذلك فعلوا في (عتَوْا) حيث كان فقد رسموه بزيادة الألف، ما عدا موضع الفرقان، فرسموه (عتو) هكذا دون ألف.
وزادوا الألف بعد الواو في قوله : (يعفوا الذي) في سورة البقرة، ولم يزيدوها في قوله تعالى: (يعفو عنهم) في سورة النساء.
وكذلك حذفوا بعض أحرف من كلمات متشابِهة دون بعضٍ، كحذف الألف من (قرء نا) بيوسف والزخرف، وإثباتِها في سائر المواضع.
وحذفوا الألف من (سموت) و(السموت) حيث وقع في القرآن، وأثبتوا الألف التي بعد واو (سموات) في فصلت فقط.
وأثبتوا الألف من (الميعاد) مطلقًا، وحذفوها من الموضع الذي في الأنفال.
وأثبتوا الألف في (سراجًا) حيثما وقع، وحذفوه من موضع الفرقان.
وزادوا الألف بعد واو الجماعة في الأفعال حيث وقع في القرآن كقوله: (آمنوا)، واستثنوا من ذلك: (باءو)، (جاءو)، (تبوءو)، (فاءو).
وزادوا الألف في (مائة) دون (فئة)، وزادوا الواو في (سأوريكم) في سورتي الأعراف والأنبياء، وزادوا الياء في (بأييدٍ)، و(بأييكم)، ولا فرق بين هذه الكلمات وغيرها مِمَّا لم يزيدوا فيه الألف أو الواو أو الياء.
فادعاء أن الصحابة اصطلحوا على هذا الرسم اتِّهامٌ لَهم بِمخالفة النَّبِيّ ، ووصمٌ بالجهل والتفريق بين المتماثلات، وهذا مِمَّا لا يظن بآحاد العقلاء -فضلاً عن صحابة خاتم الأنبياء .
قال الدباغ: وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور، فلا يخفى ما فيه من البطلان؛ لأن القرآن كُتِب في زمان النَّبِيّ ، وبين يديه، وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة، إما أن يكون هو عين الهيئة التي كُتِبَت بين يدي النَّبِيّ أو غيرها، فإن كانت عينها بطل الاصطلاح؛ لأن أسبقية النَّبِيّ تنافي ذلك، وتوجب الاتباع.
وإن كان غير ذلك، فكيف يكون النَّبِيّ كتب على هيئة، كهيئة الرسم القياسي مثلاً، والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى؟
فلا يصحُّ ذلك لوجهين:
أحدهما: نسبة الصحابة إلى المخالفة، وذلك مُحالٌ.
ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن، ولا نقصان حرفٍ منه، وما بين الدفتين كلام الله ، فإذا كان النَّبِيّ أثبت ألف (الرحمن) و(العالمين) مثلاً، ولم يزد الألف في (مائة)، ولا في (لأاوضعوا)، ولا الياء في (بأييدٍ) ونحو ذلك، والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه، لزم أنهم -وحاشاهم من ذلك- تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحلُّ لأحدٍ فعلهُ، ولزم تطرُّق الشكِّ إلى جميع ما بين الدفتين؛ لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة أو زائدة على ما في علم النَّبِيّ ، وعلى ما عنده، وأنها ليست بوحيٍ، ولا من عند الله، ولا نعلمها بعينها -شككنا في الجميع.
ولئن جوزنا لصحابيٍ أن يزيد في كتابته حرفًا ليس بوحيٍ، لزمنا أن نجوز لصحابي آخر نقصان حرف من الوحي؛ إذ لا فرق بينهما، وحينئذٍ تنحل عروة الإسلام بالكلية.(2)
وأما دعوى ابن خلدون -رحمه الله- أن الصحابة لم يكونوا يحكمون الخط، فمبنيٌّ على آثار غير ثابتة أن أهل مكة إنَّما تعلموا الخط من أهل الحيرة، وأن ذلك كان قبيل بعثة النَّبِيّ ، ولا يثبت ذلك من حيث السند.(3)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الخط توقيفيٌّ،(4) وعليه فلم يكن العرب حديثي عهدٍ بالخط زمن بعثة النَّبِيّ ، وبِهذا يتبين عدم ثبوت ما ادعاه العلامة ابن خلدون.
قال ابن فارس: الذي نقوله فيه: إن الخطَّ توقيفٌ، وذلك لظاهر قوله : } اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ! الَّذِي علَّم بالقَلَمِ ! علَّم الإنسانَ ما لَم يعلم {،(5) وقال -جلَّ ثناؤه: } ن والقلم وما يسطرون {،(6) وإذا كان كذا، فليس ببعيدٍ أن يوقف آدم ، أو غيره من الأنبياء -عليهم السلام- على الكتاب.(7)
وذهب بعضٌ آخر إلى أن الكتاب العربي وضع زمن إسماعيل ، فقد أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل.(8)
كما أن دعواه اضطرابَ الصحابة في كتابة المصاحف، ومخالفتهم ما اقتضته صناعة الخط بغير مسوغٍ، فهي اتِّهام لهم بالبلادة وعدم الفهم، كما أسلفنا.
ودعواه -رحمه الله- أن السلف من التابعين ومن بعدهم إنَّما اقتفوا أثر الصحابة في كتابة المصاحف لِمجرد التبرك اتِّهامٌ للأمة جميعها بالتقليد الأعمى، وعدم النظر لِما يصلح دينها.
ومن الواضح البيِّن عدم إصابته -رحمه الله- في ادعاء أن عدم إجادة الخط ليس نقصًا، كيف ذلك، والعقلاء متفقون على أن الأمية نقصٌ يتنَزه عنه عوام الناس، فضلاً عن علمائهم.
وإنَّما لم تكن الأمية نقصًا في حق نبينا لِما أنَّها كانت آية صدقه، إذ مع كونه أميًّا، كان قد حاز من العلوم ما لم يصل إليه غيره من البشر، فكان النقص في حق غيره علامة كمالٍ في حقه ،ـ(9) وتبقى الأمية في حق بقية البشر نقصًا يتنَزه عنه عقلاؤهم.
قال العلامة المارغني معرِّضًا بابن خلدون في رأيه هذا: وقد بلغ التهوُّر ببعض المؤرخين إلى أن قال في مرسوم الصحابة ما لا يليق بعظيم علمهم الراسخ، وشريف مقامهم الباذخ، فإياك أن تغترَّ به.(10)
وأما كلام القاضي الباقلاني فيناقش أيضًا بأن أدلة الجمهور القائلين بوجوب اتباع الرسم العثماني بعضها من السنة، وبعضها من إجماع الصحابة، وهذا يردُّ دعواه عدمَ الدليل على وجوب اتباع رسم المصاحف العثمانية.
وأما قوله: “ولذلك اختلفت خطوط المصاحف … الخ” فغير مسلَّمٍ، لأن الإجماع قد انعقد، وعلم الناس الرسم التوقيفي، كما أن ما ذكره من صور اختلاف الخطوط لا يعدو التغير في صورة الحرف، لا في رسم نفس الكلمة بزيادة حرف، أو نقصان حرف.
ومِمَّا يؤيد الرأي القائل بالتوقيف العلاقة الواضحة بين هذا الرسم العثماني، وبين القراءات القرآنية المتواترة، يدرك هذا من كان له أدنى معرفة بعلم القراءات، إذ يلاحظ بوضوح أن الصحابة عندما خالفوا القياس في الخط، إنَّما كان ذلك لِمقاصد تتعلق بِما ثبتت روايته عن النَّبِيّ من أوجه القراءة في العرضة الأخيرة، فكتبوا في الفاتحة: } ملك يوم الدين {،(11) دون ألف في (ملك) لتحتمل الوجهين من القراءة بالألف (مالِكِ)، وبدونِها (مَلِكِ).
ومن أمثلة ذلك أيضًا كتابتهم قوله تعالى: } إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ {،(12) دون الألفات، ودون النقط والشكل هكذا (ان هـدن لسحرن) فاحتملت جميع أوجه القراءة فيها:
1. فقد قرأ أبو عمرو: } إِنَّ هَـذَينِ لَسَحِرَانِ { بتشديد نون (إن)، وبالياء في (هذين)، وتخفيف النون فيها.
2. وقرأ ابن كثير: } إِنْ هـذَانِّ لَسَحِرَانِ { بتخفيف نون (إنْ)، وبالألف في (هذان)، وتشديد النون منها.
3. وقرأ حفصٌ: } إِنْ هَـذَانِ لَسَحِرَانِ { بتخفيف نون (إنْ)، وبالألف في (هذان)، وتخفيف النون منها.
4. وقرأ بقية القراء العشرة } إِنَّ هَـذَانِ لَسَحِرَانِ { بتشديد نون (إنَّ)، وبالألف في (هذان)، وتخفيف النون منها.(13)
فهل يُعَدُّ مثل هذا الرسم مُخالفًا لقياس أهل صناعة الخط؟!
وكذلك كتابتهم تاء التأنيث بالتاء المفتوحة في بعض المواضع نحو (امرأت)، و(رحمت)، و(نعمت)، فيقف عليها جمهور القراء بالتاء، ولو كتبت بالهاء المربوطة، لَتَغَيَّرَ حكمُ الوقف عليها.(14)
قال السيوطي: أجمعوا على لزوم اتباع رسم المصاحف العثمانية في الوقف إبدالاً وإثباتًا وحذفًا، ووصلاً وقطعًا، إلا أنه ورد عنهم اختلافٌ في أشياء بأعيانِها، كالوقف بالهاء على ما كتب بالتاء، وبإلحاق الهاء فيما تقدم وغيره، وبإثبات الياء في مواضع لم تُرسَم بِها … ثم قال: ومن القراء من يتبع الرسم في الجميع.(15)
قال الزركشي: ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم ذلك – كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز والمد والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا، نحو: } الْخَبْءَ { و} دِفْءٌ {، فصار ذلك كله حجةً.(16)
كما أنه قد يُعترَض على القول بالتوقيف باعتراضين:
أحدهما: كيف كان للنَّبِيّ أن يوقف الصحابة على ما يكتب في المصاحف مع كونه أميًّا؟
ويجاب عن ذلك بأن الأمية لم تكن عيبًا فيه ، وقد كان من الذكاء والفطنة بحيث يستطيع أن يوجههم إلى مثل ذلك.
فقد كان النَّبِيّ مع أميته يعرف أسماء الحروف، وهذا مِمَّا يَجهله الأمي.
فعن عَبْد اللهِ بْن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ.(17)
على أنه قد صح الخبر بِما يدل دلالة قوية على أنه قد علم الخط والكتاب بعدما بُعِثَ.
فَعَنِ الْبَرَاءِ في خبر صلح الحديبية قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ… الحديث.(18)
قال القاضي عياض: وقوله في الرواية التي ذكرناها: “ولا يحسن أن يكتب، فكتب” كالنصِّ أنه كتب بنفسه، قال: والعدول إلى غيره مجازٌ، ولا ضرورةَ إليه.(19)
فلا يَبْعُدُ مع هذا أن يكون من النَّبِيّ التوقيف على ما يُكتب من الحروف وما لا يكتب عند كتابة القرآن بين يديه .
وأما الاعتراض الثاني، فهو: أن يقال: إن كان الرسم توقيفيًّا بوحيٍ إلى النَّبِيّ ، فَلِمَ لم يُنقل تواترًا كما نقلت ألفاظ القرآن، حتى ترتفع عنه الريبة، وتطمئن به القلوب؟
والجواب عن هذا أن رسم المصاحف قد نقل ألفاظًا ورسمًا على الوجه الذي تقوم به الحجة، يدرك ذلك أهل العلم، الذين حفظوا ألفاظه ورسمه، ولم يضيعوا منها شيئًا.
ولا يقدح في ذلك اختلاف علماء الرسم بعض الحروف، إذ إن عثمان قد كتب عددًا من المصاحف، وقد كان بينها بعض الاختلاف لتحتمل ما ثبت من أوجه القراءة، ولا يَضُرُّ جهل مَن جهل دقة هذا النقل، كما لا يَضُرُّ جهل العوامِّ بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه.(20)
وفي ختام هذه المسألة أنوِّه على أنه ليس هناك صعوبة تذكر على قارئ القرآن الكريم، بعد ما أضيف إلى صورة الرسم من رموز النقط والشكل، التي أوضحت مشكله، وأعانت على سلامة النطق به.
وقد مرت القرون على المسلمين، وهم يكتبون المصاحف على ما رسم الصحابة ، ولم يؤدِّ ذلك إلى خطأ في تلاوة القرآن، أو وقوع تحريف، فلله الحمد والمنَّة.
(1) انظر مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 149.
(2) الإبريز لأحمد بن المبارك السلجماسي ص 101-103.
(3) انظر الآثار الواردة في ذلك في كتاب المصاحف لابن أبي داود باب خطوط المصاحف ص 9-10.
(4) المقصود بِهذا القول جميع الخطوط، أي خطوط المصاحف وغيرها مِمَّا يكتبه البشر.
(5) سورة العلق، الآيات 3-5.
(6) سورة القلم آية 1.
(7) الصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس ص 39.
(8) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/145).
(9) انظر تفسير أبي السعود (3/279).
(10) دليل الحيران شرح مورد الظمآن ص 42.
(11) سورة الفاتحة الآية 4.
(12) سورة طه من الآية 63.
(13) انظر النشر في القراءات العشر (2/320-321).
(14) انظر التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية ص 27-29.
(15) الإتقان في علوم القرآن (1/250-251).
(16) البرهان في علوم القرآن (1/378).
(17) رواه الترمذي في جامعه، كتاب فضائل القرآن بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ مَالَهُ مِنَ الأَجْرِ (5/175) ح 2910.
(18) رواه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي بَاب عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، صحيح البخاري مع فتح الباري (7/570-571) ح 4251.
(19) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (12/138).
المبحث الرابع: حرق المصاحف المخالفة
حكم ما بلي من الصحف التي فيها قرآن
المبحث الرابع: حرق المصاحف المخالفة
بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف، وأمضاها إلى الأمصار، كان لا بد من منع كل ما خالفها، فأمر من كان عنده شيء مِمَّا عداها من الصحف التي كانوا يكتبون فيها القرآن أن يحرقه، حتى لا يأخذ أحدٌ إلا بتلك المصاحف التي حصل عليها إجماع الصحابة.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ في جمع عُثْمَانَ المصاحف، قال: حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ.(1)
وقد اختلفت الروايات بالذي فعله عثمان بالمصاحف التي كانت عند الناس، فرواية البخاري السابقة: وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ.
قال الحافظ: في رواية الأكثر (أن يُخرق) بالخاء المعجمة… وفي رواية الإسماعيلي: (أن تمحى أو تحرق).(2)
وعند ابن أبي داود من حديث أنس بن مالك: وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، فذلك زمان حُرِّقَت المصاحف بالعراق بالنار.(3)
وهذه الرواية صريحة في أن ما فعلوه إنَّما هو إحراق تلك الصحف بالنار، إذهابًا لَها، وصونًا عن الوطء بالأقدام.
وعنده أيضًا من طريق أبي قلابة: فلما فرغ من المصحف، كتب إلى أهل الأمصار، أني قد صنعت كذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم.(4)
قال ابن حجر: والْمحو أعمُّ من أن يكون بالغسل أو التحريق، وأكثر الروايات صريحٌ في التحريق، فهو الذي وقع، ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك.
وقد جزم القاضي عياضٌ بأنَّهم غسلوها بالماء، ثم أحرقوها مبالغة في إذهابِها.(5)
وقد روى ابن أبي داود بسنده عن بعض أهل طلحة بن مصرِّف، أنه قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر.(6)
وهذا الأثر ضعيفٌ، ففيه مجهول، وهو الراوي عن طلحة بن مصرِّف، ومع ذلك فهو مناقض لِمَا صحَّ من الآثار السابقة في الصحيح وغيره، أن عثمان أحرق المصاحف، وأنه لم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك.
وقد اتفق الصحابة مع عثمان على ما أراد من تحريق المصاحف التي كانوا يكتبونَها، فاستجابوا له وحرقوا مصاحفهم.
عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله، ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا، قال: واللهِ، لو وُلِّيتُ لفعلتُ مثلَ الذي فعلَ.(7)
وعن مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقَّق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعِبْ ذلك أحدٌ.(8)
وأما الصحف التي كتبت في زمن أبي بكر ، فقد ردَّها عثمان إلى حفصة بعد كتابة المصاحف، كما في حديث أنس بن مالك أنه قال: حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ.(9)
وقد أبقى عثمان الصحف التي كان كتبها أبو بكر، لأنه كان قد وعد حفصة -رضي الله عنها- أن يردَّها إليها، كما في الحديث المذكور آنفًا، عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ.
وعند ابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن سالم قال: فأرسل إليها عثمان، فأبت أن تدفعها إليه، حتى عاهدها ليَرُدَّنَّها إليها، فبعثت بِها إليه.(10)
ويحتمل أنه أبقاها أيضًا لاحتمال الرجوع إليها؛ لأنَّها كانت أصلاً لمصاحفه، وانعقد عليها إجماع الصحابة، وأما غيرها، فقد تكون مخالفةً لمصاحفه؛ فتكون سببًا للاختلاف.
قال الجعبري: ونزل تحريقه ما سواها(11) على مصاحف الصحابة ؛ لأنَّهم كانوا يكتبون فيها التفسير الذي يسمعونه من النَّبِيّ ، ويحتمل ذلك نحو الرقاع؛ لئلا ينقلها من لا يعرف ترتيبها، فيختلَّ، لا الصحف، لاحتمال الرجوع إليها.(12)
ولَما تولى مروان بن الحكم(13) إمرة المدينة في خلافة معاوية ، طلب الصحف من حفصة -رضي الله عنها- ليحرقها؛ حتى لا يرتاب في شأنِها أحدٌ، فيظن أن فيها ما يُخالف المصحف الذي استقرَّ عليه الأمر، أو يظن أنَّ فيها ما لم يكتبه عثمان في المصاحف، فأبت حفصة أن تعطيها إياها، فبقيت تلك الصحف عندها إلى وفاتِها، فلمَّا توفيت حضر مروان جنازتَها، ثم أرسل إلى عبد الله بن عمر بالعزيـمة أن يرسل الصحف إليه، فنشرها بين الناس وأحرقها، ليعلم الجميع بذلك، ولا تتشوَّف نفس أحد إلى ما فيها ظنًّا أنَّها تَختلف عن مصاحف عثمان .
عن سالم بن عبد الله أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كُتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم: فلمَّا تُوفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيـمة إلى عبد الله بن عمر ليُرسِلنَّ إليه بتلك الصحف، فأرسل بِها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بِها مروان فشُقِّقت، فقال مروان: إنَّما فعلت هذا لأن ما فيها قد كُتِب وحُفِظ بالمصحف، فخشيت إن طال بالناس زمانٌ أن يرتاب في شأن هذه الصحف مُرتابٌ، أو يقول: قد كان شيءٌ منها لم يُكْتب.(14)
وفي رواية: ففشاها وحرَّقها، مَخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلافٌ لَمَّا نسخ عثمان -رحمة الله عليه.(15)
وفي رواية فغسلها غسلاً.(16)
ولا يبعد أن يكون مروان قد فعل بالصحف جميع ما ذكر من التمزيق والغسل والتحريق.
قال ابن حجر: ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق، ثم غسل، ثم تحريق.(17)
حكم ما بلي من الصحف التي فيها قرآن
وقد اختلف العلماء في الصحف التي فيها كلام الله إذا بليت، فاحتيج إلى تعطيلها.
فذهب كثيرٌ من العلماء إلى جواز تحريقها صيانة لها من الوطء أو الامتهان، وذهب البعض إلى غسلها بالماء، وبعضهم إلى دفنها في الأرض.
عن ابن طاووس عن أبيه، أنه لم يكن يرى بأسًا أن يحرق الكتب، وقال: إنما الماء والنار خلقان من خلق الله تعالى.(18)
قال ابن بطال معلقًا على قول أنس بن مالك السابق: (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)، قال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وأن ذلك إكرامٌ لَها وصونٌ عن وطئها بالأقدام.(19)
قال السيوطي: لا يجوز وضعها في شقٍّ أو غيره، لأنه قد يسقط ويُوطأ، ولا يجوز تَمزيقها، لِما فيه من تقطيع الحروف، وتفرقة الكلم، وفي ذلك إزراءٌ بالمكتوب.(20)
وقال الحليمي:(21) وله غسلهابالماء، وإن أحرقها بالنار فلا بأس.
قال الزركشي: وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل؛ لأن الغُسالة قد تقع على الأرض.(22)
وجزم القاضي حسين(23) من الشافعية بامتناع الإحراق؛ لأنه خلاف الاحترام، وجزم النووي بالكراهة.(24)
عن أبي موسى الأشعري أنه أُتي بكتاب، فقال: لولا أني أخاف أن يكون فيه ذكر الله لأحرقته.(25)
وفي بعض كتب الحنفية أن المصحف إذا بلي لا يُحرق، بل يُحفر له في الأرض، ويدفن.
قال الزركشي: ونُقل عن أحمد أيضًا، وقد يتوقف فيه؛ لتعرضه للوطء بالأقدام.(26)
والذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال قول من رأى إحراقها بالنار؛ لأنه فعل الصحابة ، ولم يخالف في ذلك أحدٌ منهم، ولو أن بعضهم كره الإحراق لنُقل إلينا.
وقد مرَّ بنا قريبًا الآثار التي فيها تحريق الصحف في زمن عثمان ، والتي فيها رضى الصحابة جميعًا بِما صنع.
(1) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/636).
(3) كتاب المصاحف ص 27.
(4) كتاب المصاحف ص 29.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/636).
(6) كتاب المصاحف لابن أبي داود، باب انتزاع عثمان المصاحف، ص 43.
(7) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30. وقال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فتح الباري (8/634).
(8) رواه الداني في المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 18، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب اتفاق الناس مع عثمان على جمع المصاحف، ص 19، ولفظه: ولم ينكر ذلك منهم أحدٌ.
(9) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب جمع أبي بكر الصديق القرآن ص 16، وعند الطحاوي: وَحَلَفَ لَهَا لَيَرُدَّنَّ الصَّحِيفَةَ إلَيْهَا. تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(11) يعني الصحف التي كتبها أبو بكر.
(12) انظر الكواكب الدرية ص 25.
(13) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص، ولد سنة اثنتين من الهجرة، ولم ير النَّبِيّ ، استعمله معاوية على مكة والمدينة والطائف، وبويع له بالخلافة بعد وفاة معاوية بن يزيد بن معاوية، وكانت مدة ولايته تسعة أو عشرة أشهرٍ. أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/144،145).
(14) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 32، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/159)، وقال ابن كثير: إسنادٌ صحيح. فضائل القرآن ص 46.
(15) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 28.
(16) ذكرها الحافظ في الفتح (8/636).
(17) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/636).
(18) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب حرق المصحف إذا استغني عنه. ص 224.
(19) انظر فتح الباري (8/637).
(20) الإتقان في علوم القرآن (4/165).
(21) هو الإمام أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي البخاري، شيخ الشافيعة، ورئيس المحدثين والمتكلمين بِما رواء النهر، صاحب المنهاج في شعب الإيمان، توفي سنة 403 هـ. انظر شذرات الذهب (3/167-168)، وسير أعلام النبلاء (17/231-232).
(22) البرهان في علوم القرآن (1/477).
(23) هو القاضي أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروزي، شيخ الشافعية في زمانه، وصاحب الفتاوى المشهورة، توفي سنة 462 هـ. انظر شذرات الذهب (3/310).
(24) التبيان في آداب حملة القرآن ص 89، والإتقان في علوم القرآن (4/165).
(25) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب حرق المصحف إذا استغني عنه. ص 224.
(26) البرهان في علوم القرآن (1/477).
الفصل الخامس
دفع الاعتراض على عثمان في جمع القرآن
ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
المبحث الأول: اعتراض ابن مسعود t على عدم توليه الجمع
مصحف ابن مسعود t يوافق مصاحف الجماعة
المبحث الأول: اعتراض ابن مسعود على عدم توليه الجمع
كان عبد الله بن مسعود أحد أئمة القراءة من أصحاب النَّبِيّ ،ـ(1) وكان أول من جهر بالقرآن بين المشركين في مكة،(2) وكان أحد الأربعة الذين أمر النَّبِيّ بأخذ القرآن عنهم.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أنه ذَكَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لاَ أَزَالُ أُحبُّهُ؛ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.(3)
فلمَّا جمع عثمان القرآن، ونسخه في المصاحف، وأرسلها إلى الأمصار، كَرِه ذلك ابن مسعودٍ ، فقد كان يكره أن يُمنع أحدٌ من قراءة شيء سمعه من رَسُول اللهِ .
عن أبي الشعثاء قال: كنا جلوسًا في المسجد، وعبد الله يقرأ، فجاء حذيفة، فقال: قراءة ابن أم عبدٍ، وقراءة أبي موسى الأشعري! والله إن بقِيتُ حتى آتِيَ أمير المؤمنين (يعني عثمان) لأمرتُهُ أن يجعلها قراءةً واحدةً. قال: فغضب عبد الله، فقال لحذيفة كلمةً شديدةً. قال: فسكت حذيفة.(4)
ولَمَّا أرسل عثمان المصحف إلى الكوفة مع حذيفة بن اليمان كره ذلك ابن مسعود،(5) وكان يرى أنه أحق بأن يقوم بجمع القرآن، لِما له من المكانة في القراءة، والتلقِّي عن رَسُول اللهِ .
عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنه قَالَ: عَلَى قِرَاءةِ مَنْ تَأْمُرُونِّي أَقْرَأُ؟ لَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَإِنَّ زَيْدًا لَصَاحِبُ ذُؤَابَتَيْنِ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ.(6)
ولَمَّا أمر عثمان بانتزاع المصاحف المخالفة وإحراقها، رفض ذلك ابن مسعودٍ ، وأمر الناس بأن يغلُّوا المصاحف.
فعَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: } وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {،(7) ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلاَ يَعِيبُهُ.(8)
وقَالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَيَتَوَلاَّهَا رَجُلٌ، وَاللهِ، لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ:} وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {، فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ .ـ(9)
كان هذا هو مجمل اعتراض عبد الله بن مسعودٍ على عثمان في تولية زيدٍ نسخ المصاحف.
ولا شك أن اختيار عثمان زيدًا لنسخ المصاحف كان نظرًا منه لمصلحة الإسلام والمسلمين، لِما يرى من أهليته دون غيره لذلك العمل الجليل، ولو أنه ظنَّ بعبد الله بن مسعودٍ مثل ذلك وعلمه منه، لترتَّب عليه فَرْضُ توليته دون غيره.
ولو حدث ذلك لساغ لآخر أن يقول: ولم اختار ابن مسعود دون غيره؟ ولمَ عدل عن أبيِّ بن كعبٍ مع ما فيه من الفضائل؟ ولمَ ترك زيد بن ثابت، وهو كاتب النَّبِيّ ؟ وهذا باب لا طريق إلى سدِّه.(10)
فاختيار زيد لِهَذِهِ المهمة كان اجتهادًا من الخليفة الراشد عثمان ، وكان نظرًا منه لِمصلحة الأمة، وقد وافقه على هذا الاجتهاد كل من شهده، إلا ما ورد عن ابن مسعود من كراهية ذلك.
ولقد صوَّب العلماء اختيار عثمان زيدَ بن ثابتٍ لِهذا العمل، وعللوا ذلك بأمور، منها:
الأول: أن زيدًا كان هو الذي قام بجمع القرآن في عهد أبي بكر، لكونه كاتبَ الوحي، ولَمَّا كانت المهمة الجديدة، وهي نسخ المصاحف، مرتبطة بالمهمة الأولى -كان اختار زيد أولى من اختيار ابن مسعودٍ، فقد كان لزيد في ذلك أوليةً ليست لغيره.(11)
وقد روى ثعلبة بن مالك عن عثمان أنه قال: من يعْذِرُني من ابن مسعودٍ، يدعو الناس إلى الخلاف والشبهة والتعصب عليَّ إذ لم أوَلِّه نسخ القرآن، فهلاَّ عتب على أبي بكر وعمر، هما عزلاه عن نسخ القرآن وولياه زيدَ بن ثابت، واتَّبعت أثرهما فيما بقيَ من أصحاب النَّبِيّ .ـ(12)
الثاني: أن جمع القرآن في زمن عثمان كان بالمدينة، وكان ابن مسعودٍ إذ ذاك بالكوفة، ولم يؤخر عثمان ما عزم إليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، فقد كانت الفتنة تدق الأبواب بعنفٍ، وكان لا بد من معاجلتها قبل أن تستشري.(13)
الثالث: أن فضل ابن مسعود على زيد بن ثابت لا يسوِّغ تقديـمه عليه في نسخ المصاحف، فقد كان ابن مسعود إمامًا في الأداء، وكان زيدٌ إمامًا في الخط والكتابة، مع كونه في المحل الشريف في حفظ القرآن، وحسن الخط والضبط، وكان من خواص كتبة النَّبِيّ ، فكان اختيار الأعلم بالكتابة والخط والضبط أولى من اختيار الأقدم في التلقي والحفظ.
فلو أن أحدنا أراد أن يكتب اليوم مصحفًا، فلن يلتمس له أقدم أهل عصره حفظًا، أو أقواهم أو أشجعهم، وإنَّما يلتمس أحسنهم ضبطًا وخطًّا، وأحضرهم فهمًا.(14)
وقد ورد أن عبد الله بن مسعود لم يكن قد حفظ كل القرآن في حياة النَّبِيّ ، بل ورد أيضًا أنه مات ولم يختمه، فكان زيدٌ بذلك أولى منه، إذ قد كان حفظ القرآن كله في حياة النَّبِيّ .
قال القرطبي: فالشائع الذائع الْمتَعالَم عند أهل الرواية والنقل أن عبد الله بن مسعود تعلَّم بقية القرآن بعد وفاة رَسُول اللهِ ، وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن.(15)
ويضاف إلى هذا ما كان لزيد بن ثابت من الخصال التي أهلته لجمع القرآن على عهد الصدِّيق، كما مرَّ بنا.(16)
وقد كان يكفي لاختياره لِهذا العمل ثقة النَّبِيّ فيه، إذ أمره أن يتعلم كتاب يهودٍ، فتعلمه في سبعةَ عشرَ يومًا، فضرب بذلك أروع مثلٍ في الفطنة والذكاء، مع حداثة سِنِّه .
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ ، فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، فَتَعَلَّمْتُهُ، فَلَمْ يَمُرَّ بِي إِلاَّ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى حَذَقْتُهُ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ.(17)
وفي رواية أنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : تُحْسِنُ السُّرْيَانِيَّةَ؟ إِنَّهَا تَأْتِينِي كُتُبٌ. قَالَ: قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَتَعَلَّمْهَا. فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.(18)
وقد أنكر الصحابة على ابن مسعود ما فعله من منافرة الجماعة فيما رأوا من نسخ المصاحف واختيار زيد لذلك العمل، ومن تحريضه الناس على عدم تحريق مصاحفهم، كما مرَّ قريبًا في حديث الزهري، وفيه:
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ .ـ(19)
على أن ما جاء عن ابن مسعود من كراهة ذلك إنما كان ظنًّا منه أنه يَمنع من قراءة القرآن على وجه مما صحَّ عن النَّبِيّ أنه قرآن منَزل، مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، فلمَّا تبين له عدم المنع مِمَّا صح من القراءة رجع عن رأيه إلى رأي الجماعة.
قال الباقلاني: وقد وردت الروايات أن عثمان وعظه، وحذَّره الفُرقة، فرجع واستجاب إلى الجماعة، وحثَّ أصحابه على ذلك، فروي عنه في حديث طويل، أنه قال: … فمن قرأ على قراءتي، فلا يدعها رغبةً عنها، ومن قرأ عليَّ شيئًا من هذه الحروف، فلا يدعَنْه رغبةً عنه؛ فإنه من جحد بحرف منه فقد جحده كله.(20)
مصحف ابن مسعود يوافق مصاحف الجماعة
ومِمَّا يدل على أن ابن مسعودٍ قد رجع إلى رأي الجماعة أن قراءته قد رواها عاصم وحمزة والكسائي، وغيرهم، كما مرَّ بنا،(21) وقراءة هؤلاء الأئمة موافقة للمصاحف العثمانية -بلا شكٍّ.
ولا شك أيضًا أن قراءة ابن مسعود كانت موافقة لِمصحفه، فدل ذلك على أنه رجع إلى ما اتفقت عليه جماعة المسلمين، بعد أن ظهر له صوابُهم في ذلك.
قال أبو محمد بن حزم: وأما قولُهم إن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف مصحفنا فباطلٌ وكذبٌ وإفكٌ. مصحف عبد الله بن مسعود إنَّما فيه قراءته بلا شكٍّ، وقراءتُه هي قراءة عاصمٍ المشهورة عند جميع أهل الإسلام في شرق الأرض وغربِها، نقرأ بِها كما ذكرنا، كما نقرأ بغيرها مما صحَّ أنه كل منَزلٌ من عند الله تعالى.(22)
قال البلاقلاني: ولو كان في قراءة ابن مسعود ما يُخالف مصحف عثمان لظهر ذلك في قراءة حمزة خاصةً … إلى أن قال: ولو لقي أحدٌ من أصحاب عبد الله أحدًا مِمَّن قرأ عليه خلاف قراءة الجماعة، لوجب أن ينقل ذلك نقلاً ظاهرًا مشهورًا، وفي عدم ذلك دليلٌ على فساد هذا.(23)
(1) مرَّ ذكره في المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول (الحفاظ من الصحابة).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/275).
(3) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 4999.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(4) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 20.
(5) انظر المصاحف لابن أبي داود ص 44.
(6) رواه النسائي في سننه، كتاب الزينة، باب الذؤابة (8/134) ح 5063، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 21،22.
(7) سورة آل عمران، من الآية 161.
(8) رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (16/16) ح 2462، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 23.
(9) رواه الترمذي في جامعه،كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة (4/348-349) ح 3104، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 24-25.
(10) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 369-370.
(11) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 363، و ص 368، وفتح الباري (8/635).
(12) ذكر هذا الخبر القاضي الباقلاني في الانتصار، انظر: نكت الانتصار لنقل القرآن ص 363.
(13) فتح الباري (8/635)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 372.
(14) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 368-369.
(15) الجامع لأحكام القرآن (1/39).
(16) انظر : من قام بالجمع في عهد أبي بكر، وهو الفصل الثالث من الباب الثاني.
(17) رواه أبو داود في سننه، كتاب العلم باب رواية حديث أهل الكتاب (3/318) ح 3645.
(18) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/223) ح 21077.
(19) رواه الترمذي في جامعه،كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة (4/348-349) ح 3104، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 24-25.
(20) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 264، وروى نحوه الإمام أحمد في مسنده: مسند المكثرين من الصحابة، (1/669) ح 3835.
(21) انظر مبحث الحفاظ من الصحابة، وهو المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول.
(22) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212).
(23) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 380-382.
المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة الأولى: الطعن باستنكار ابن مسعود تولي زيد الجمع
وقد طعن بعض الطاعنين على كتاب الله في جمع القرآن في زمن عثمان بِما ورد عن ابن مسعودٍ من استنكار تولي زيدٍ هذا الجمع، وعدم توليه إياه، مع كونه أعلم أصحاب النَّبِيّ بكتاب الله، واستدلوا على ذلك بالأحاديث السابقة في اعتراض ابن مسعود على عثمان، ومنها:
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: } وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {،(1) ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلاَ يَعِيبُهُ.(2)
وقالوا: إن استنكار ابن مسعودٍ طعنٌ في جمع القرآن، وهو دليلٌ على أن القرآن الذي بين أيدينا ليس موثوقًا، وهو أيضًا طعنٌ في تواتر القرآن، إذ لو كان ما كتبه عثمان متواترًا لَما وسع ابن مسعود استنكاره.(3)
والجواب عن هذه الشبهة:
أولاً: أن الاستنكار المروي عن ابن مسعودٍ لم يكن طعنًا في جمع القرآن، ولا استنكارًا لفعل الصحابة، وإنَّما كان استنكارًا لاختيار من يقوم بِهذا الجمع، إذ كان يرى في نفسه أنه الأولى أن يسند إليه هذا الجمع، مع كمال ثقته في زيدٍ وأهليتِه للنهوض بِما أسند إليه.
ومسألة اختيار من يقوم بجمع القرآن تقديرية، ولا شكَّ أن تقدير عثمان، ومن قبله أبو بكر وعمر أن زيدًا أكفأ من غيره للقيام بِهذا العمل -أصدق من تقدير ابن مسعودٍ له، كما مرَّ بنا قريبًا في تصويب اختيار عثمان زيدًا على غيره لجمع القرآن.(4)
وأما حداثة سِنِّ زيدٍ ، فليست مطعنًا، فكم من صغيرٍ فاق من هو أكبر منه، وقد كان في ثقة النَّبِيّ بزيد -كما مرَّ قريبًا- ما يدل على أهليته وكفايته، وقد قدَّم النَّبِيّ بعض صغار السِنِّ على من هم أكبر منهم لَمَّا رأى من كفايتهم وأهليتهم فيما قدَّمهم فيه، كما قدَّم أسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه كبار المهاجرين والأنصار، وهو ابن ست عشرة سنة، رغم طعن بعض الناس في إمارته، وأنفذ هذا الجيش أبو بكر ، ولم يأبه لاستنكار بعض ذوي السن من الصحابة، محتجًّا في ذلك بتقديم الرَّسُول إياه.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ تِسْعَ غَزَوَاتٍ، مَرَّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ وَمَرَّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ.(5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ.(6)
ولما طلب الناس تأمير من هو أسنُّ من أسامة بعد وفاة النَّبِيّ ، قال أبو بكر لعمر لما كلمه في ذلك: ثكلتك أمُّك يا ابن الخطاب! استعمله رَسُول اللهِ ، وتأمرني أن أنزعه.(7)
ثانيًا: أن استنكار ابن مسعود أن يترك حرفه، هو شهادة لحرفه بالصحة، لأنه أخذه عن رَسُول اللهِ ، وليس في ذلك طعنٌ على حرف زيد من حيث هو، وإنَّما غاية ما هنالك أنه لا يرى ترك حرفه لحرف أحدٍ غيره.
قال الباقلاني: ليست شهادة عبد الله لحرفه وأنه أخذه من فم رَسُول اللهِ طعنًا على حرف غيره، ولكنه عنده حجةٌ في أنه لا يَجِب عليه تركه، وتحريق مصحف هو فيه.(8)
ثالثًا: أنه على فرض كون استنكار ابن مسعودٍ طعنًا في صحة جمع القرآن وتواتره، فقد ثبت بِما لا مجال للشك معه أنه قد رجع عن ذلك -كما مرَّ قريبًا.(9)
رابعًا: أننا لو سلَّمنا أن ابن مسعود استمرَّ على استنكاره، وأن استنكاره كان طعنًا في تواتر القرآن وصحة جمعه في زمن عثمان، فإننا نجيب بأن طعن ابن مسعود في التواتر لا يقدح فيه، فإن التواتر حجة قاطعة بصحة ما روي متواترًا، وإذا كان الجماعة الذين اتفقوا على صحة جمع القرآن في زمن عثمان قد بلغوا حدَّ التواتر وأكثر، فإن إنكار الواحد أو الاثنين لا يقدح في ذلك التواتر، فإن من شهد حجةٌ على من لم يشهد.
خامسًا: أن قول ابن مسعود: وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. ليس قطعًا على أنه ليس فيهم من هو أعلم منه بكتاب الله، وإنما هو اعتقاد ابن مسعود، وهو غير معصوم في هذا الاعتقاد.(10)
(1) سورة آل عمران، من الآية 161.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، بَاب مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (16/16) ح 2462، وابن أبي داود في كتاب المصاحف باب كراهية عبد الله بن مسعود ذلك ص 23.
(3) مناهل العرفان (1/283).
(4) انظر مناهل العرفان (1/283).
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب بعث النَّبِيّ أسامة إلى الحرقات (7/590) ح 4271.
(6) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب مناقب زيد بن حارثة (7/108-109) ح 3730.
(7) تاريخ الطبري (2/246)، وانظر فتح الباري (7/759).
(8) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
(9) انظر المبحث السابق، ومناهل العرفان (1/284).
(10) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 364.
تابع المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة الثانية: الفاتحة والمعوذتان عند ابن مسعود .
طعن بعض الطاعنين على جمع القرآن بأن عبد الله بن مسعود أنكر أن المعوذتين من القرآن، وكان يَمحوهما من المصحف، وأنه لم يكتب فاتحة الكتاب في مصحفه، وزعموا أن في ذلك قدحًا في تواتر القرآن.(1)
وقد ثبت أن عبد الله بن مسعودٍ كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، وروي عنه أنه كان لا يكتب فاتحة الكتاب كذلك.
فعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا،(2) فَقَالَ أُبَيٌّ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ لِي: قِيلَ لِي فَقُلْتُ. قَالَ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ .ـ(3)
وَعَنْه أيضًا أنه قَالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لاَ يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لَهُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ فَقُلْتُهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبِيُّ .ـ(4)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللهِ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(5)
وروى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعودٍ لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة.(6)
وعن ابن سيرين أن أُبَيَّ بن كعبٍ وعثمانَ كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين، ولم يكتب ابن مسعودٍ شيئًا منهن.(7)
الجواب عن هذه الشبهة:
أمَّا فاتحة الكتاب، فإن عدم كتابتها في مصحف ابن مسعود مشكوكٌ فيه، غير مسلم بصحته.
والخبر الذي تعلَّق به أصحاب هذه الشبهة ليس فيه إنكار قرآنية الفاتحة، وإنَّما قصارى ما فيه أن ابن مسعود لم يكن يكتبها، وليس في ذلك جحدٌ بأنَّها من القرآن.
ولو صحَّ عن ابن مسعود هذا الخبر، فإنه لا يجوز لمسلمٍ أن يَظُن خفاء قرآنية الفاتحة على ابن مسعود، فضلاً عن أن يَظُنَّ به إنكار قرآنيتها، وكيف يُظَن به ذلك، وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وقد أوصى النَّبِيّ بقراءة القرآن على قراءته.(8)
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.(9)
كما أن ابن مسعود من السابقين إلى الإسلام، ولم يزل يسمع النَّبِيّ يقرأ بالفاتحة في الصلاة، ويقول: لا صَلاَةَ إِلاَّ بِقِرَاءةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ.(10)
فلو صحَّ عنه هذا النقل، وجب أن يُحمل على أكمل أحواله ، وذلك بأن يُقال: إنه كان يرى أن القرآن كتب في المصاحف مخافة الشك والنسيان، أو الزيادة والنقصان، فلمَّا رأى ذلك مأمونًا في فاتحة الكتاب؛ لأنَّها تثنى في الصلاة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلمها -ترك كتابتها، وهو يعلم أنَّها من القرآن، وذلك لانتفاء علة الكتابة -وهي خوف النسيان- في شأنِها.
فكان سبب عدم كتابتها في مصحفه وضوح أنَّها من القرآن، وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان، والزيادة والنقصان.(11)
قال أبو بكر الأنباري تعليقًا على قول ابن مسعود: “لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة” قال: يعني أن كلَّ ركعةٍ سبيلُها أن تفتتح بأم القرآن، قبل السورة المتلوَّة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لَهَا، ولم أثبتها في موضعٍ فيلزمني أن أكتبها مع كل سورةٍ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة.(12)
ويدل على ذلك أيضًا أنه قد صحَّ عن ابن مسعود قراءة عاصم وغيره، وفيها الفاتحة، وهذا نقلٌ متواتر يوجب العلم.
وأما المعوذتان، فقد ثبت بِما لا مجال للشك معه أنَّهما قرآنٌ منَزَّلٌ.
فقد ورد التصريح بقرآنيتهما عن النَّبِيّ .
كما جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَتَانِ، فَتَعَوَّذُوا بِهِنَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُتَعَوَّذْ بِمِثْلِهِنَّ، يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ.(13)
وعَنْه أيضًا أنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : أُنْزِلَ أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ.(14)
كما ورد أنه صلى بِهما صلاة الصبح، وفي قراءتِهما في الصلاة دليلٌ صريح على كونِهما من القرآن العظيم.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللهِ فِي نَقَبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ، إِذْ قَالَ: أَلاَ تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ فَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللهِ أَنْ أَرْكَبْ مَرْكَبَ رَسُولِ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، وَنَزَلْتُ وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟ فَأَقْرَأَنِي: } قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {، وَ} قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ {، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ؟ اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ.(15)
وقد أنكر كثيرٌ من أهل العلم صحة النقل عن ابن مسعود في إنكاره قرآنية المعوذتين، وفي عدم إثباتِهما في مصحفه.
قال الباقلاني: وأما المعوذتان، فكل من ادَّعى أن عبد الله بن مسعودٍ أنكر أن تكونا من القرآن، فقد جهل، وبعُد عن التحصيل.(16)
وقال ابن حزم: وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذبٌ موضوع، لا يصح، وإنَّما صحَّت عنه قراءة عاصمٍ عن زِرِّ ابن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتان.(17)
وقال النووي: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئًا منه كفر، وما نُقِل عن ابن مسعودٍ في الفاتحة والمعوذتين باطلٌ، ليس بصحيح عنه.(18)
وقد فنَّد هؤلاء العلماء ما ورد عن ابن مسعود من الإنكار أو الْمَحْوِ من المصاحف، وتطلبوا لذلك وجوهًا كثيرةً في الردِّ، منها:
1. أن سبيلَ نقل المعوذتين سبيلُ نقل القرآن، وهو ظاهرٌ مشهورٌ، وأن فيهما من الإعجاز الذي لا خفاء لذي فهمٍ عنه، فكيف يحمل على ابن مسعودٍ إنكار كونِهما قرآنًا، مع ما ذكر من النقل والإعجاز؟
2. أن ابن مسعودٍ لو أنكر أن المعوذتين من القرآن لأنكر عليه الصحابة، ولنقل إلينا نقلاً مستفيضًا، كما أنكروا عليه ما هو أقل من ذلك، وهو اعتراضه على اختيار زيد لجمع القرآن.(19)
3. أن ابن مسعود كان مشهورًا بإتقان القراءة، منتصبًا للإقراء، وقد صحَّ عنه قراءة عاصم وغيره، وفيها المعوذتان، ولو كان أقرأ تلاميذه القرآن دون المعوذتين لنُقل إلينا، فلمَّا لم يروَ عنه، ولا نُقل مع جريان العادة، دلَّ على بطلانه وفساده.(20)
4. أنه لو صحَّ أنه أسقط المعوذتين من مصحفه، فإن ذلك لا يدل على إنكاره كونَهما من القرآن، بل لعله أن يكون أسقطهما لعدم خوف النسيان عليهما، وظن من رأى ذلك مِمن لم يعرف ما دعاه إليه أنه أسقطهما لأنَّهما ليستا عنده بقرآن.(21)
5. ويحتمل أن يكون سمع جواب النَّبِيّ لأُبيٍّ لما سأله عنها، وأنه قال: قيل لي، فقلت، فلما سمع هذا أو أخبر به اعتقد أنَّهما من كلام الله ، غير أنه لا يجب أن تسميا قرآنًا؛ لأنه لم يسمهما بذلك، أو أنه سمع جواب النَّبِيّ لعقبة لما سأله: أقرآنٌ هما؟ فلم يجبه، وأصبح فصلَّى الصبح بِهما، فاعتقد أنَّهما كلام الله تعالى، ولم يسمهما قرآنًا لما لم يسمهما النَّبِيّ بذلك.
6. ويحتمل أن يكون لم ير النَّبِيّ يقرأ بِهما في الصلاة قطُّ، فظن به لأجل ذلك أنه يعتقد أنَّهما ليستا من القرآن.(22)
7. وأنه يُمكن أن يكون سئل عن عوذة من العوذ رواها عن النَّبِيّ ، وظن السائل عنها أنَّها من القرآن، فقال عبد الله: إن تلك العوذة ليست من القرآن، وظن سامع ذلك أو راويه أنه أراد المعوذتين، ويُمكن أن يحمل على ذلك أيضًا جوابه لِمن قال له في المعوذتين: أهي من القرآن؟ فقال بأنها ليست من القرآن، فإنه يحتمل أن يكون سأله عن معوذتين أخريين غير سورة الفلق وسورة الناس.(23)
8. وأما ما روي من حكِّه إياهما من المصحف فذلك بعيدٌ، لأنه لا يَخلو أن يكون حكَّهما من مصحفه، أو من مصاحف أصحابه الذين أخذوا عنه، أو من مصحف عثمان، وما كُتِب منه.
فمحالٌ أن يكون حكَّهما من مصحفه؛ لأنَّهما لم يكونا فيه، لأنه لم يكتبهما.
وكذلك مصاحف من أخذ عنه من أصحابه، فهي بالضرورة موافقة لمصحفه، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون فيها المعوذتان.
وإن كان من مصحف عثمان ، فذلك بعيدٌ، لأنه شقُّ العصا، وخلافٌ شديدٌ يطول فيه الخطب بينهما، ولو حصل ذلك لنقل إلينا، وفي عدم العلم بذلك دليلٌ على بطلانه.
9. وأما قول الراوي: إنه كان يَحكهما، ويقول: لا تخلطوا به ما ليس منه. يعني المعوذتين، فهذا تفسير من الراوي، ويحتمل أنه كان يَحكُّ الفواتح والفواصل.(24)
ويدل على ذلك ما رواه ابن أبي داود عن أبي جمرة قال: أتيت إبراهيم بمصحفٍ لي مكتوبٍ فيه: سورة كذا، وكذا آية، قال إبراهيم: امحُ هذا، فإن ابن مسعودٍ كان يكره هذا، ويقول: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه.(25)
10. ولو ثبت عنه بنصٍّ لا يحتمل الرد أنه حكَّهما، فإن ذلك يَحتمل وجوهًا من التأويل، منها:
أ- أن يكون رآها مكتوبةً في غير موضعها الذي يجب أن تكتب فيه، وأراد بقوله: لا تخلطوا به ما ليس منه: التأليف الفاسد.
ب- أو أنه رآها كتبت مغيَّرةً بضرْبٍ من التغيير، فحكَّها، وقال: لا تخلطوا به ما ليس منه. يعني فساد النظم.(26)
وهذه التأويلات التي ذكروها حسنةٌ، ولكن الرواية بإنكار ابن مسعودٍ قرآنية المعوذتين ومحوهما من المصاحف صحيحة، فلا ينبغي أن تُرَدَّ بغير مستندٍ، ولا محظور حينئذٍ، فتأويل فعل ابن مسعود مُمكن مع صحة هذه الروايات عنه.
قال الحافظ: وأما قول النووي: أجمع المسلمون… ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم… ثم قال: والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستندٍ لا يقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل مُحتملٌ، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر، فهو مخدوش، وإن أراد استقراره، فهو مقبول.(27)
وقال ابن كثير: وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النَّبِيّ ، ولم يتواتر عنده، ثم قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة أثبتوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنَّة.(28)
وعلى صحة هذا النقل يكون الجواب عن هذه الشبهة بوجوه، منها -إضافةً إلى ما سبق:
1- أن ترك كتابة ابن مسعودٍ المعوذتين في مصحفه ليس بالضرورة إنكارًا لقرآنيتهما، إذ ليس يجب على الإنسان أن يكتب جميع القرآن، فلو أنه كتب بعضًا وترك بعضًا، فليس عليه عيب ولا إثم.(29)
2- أنه يحتمل أن يكون ابن مسعودٍ لم يسمع المعوذتين من النَّبِيّ ، ولم تتواترا عنده، فتوقف في أمرهما.
فإن قيل: ولِمَ لَمْ ينكر عليه الصحابة، يجاب بأنَّهم لم ينكروا عليه لأنه كان بصدد البحث والتثبت في هذا الأمر.(30)
3- أنه يَحتمل أنه كان يسمعهما من النَّبِيّ ، وكان يراه يعوِّذ الحسن والحسين بِهما، فظن أنَّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة جميعًا، ثم لَمَّا تيقن قرآنيتهما رجع إلى قول الجماعة.(31)
عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: … وَلَيْسَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ،(32) كَانَ يَرَى رَسُولَ اللهِ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَقْرَؤُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا عُوذَتَانِ، وَأَصَرَّ عَلَى ظَنِّهِ، وَتَحَقَّقَ الْبَاقُونَ كَوْنَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَوْدَعُوهُمَا إِيَّاهُ.(33)
ومِمَّا يؤيد أنه رجع إلى قول الجماعة، ما ذكرناه آنفًا من صحة قراءة عاصم وغيره عنه، وأن فيها المعوذتين.
4- أنه على فرض استمرار عبد الله بن مسعودٍ على إنكار قرآنية المعوذتين، ومَحوهما من المصاحف، يُجاب بأنه انفرد بِهذا الإنكار، ولم يتابعه عليه أحدٌ من الصحابة ولا غيرهم، وانفراده على فرض استمراره عليه لا يطعن في تواتر القرآن، فإنه ليس من شرط التواتر ألاَّ يُخالف فيه مخالفٌ، وإلا لأمكن هدم كل تواتر، وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يُخالف فيه مخالفٌ.
فلو أنه ثبت أن ابن مسعود أنكر المعوذتين، بل أنكر القرآن كله، واستمر على ذلك، فإن إنكاره لا يقدح في تواتر القرآن.
قال البزار: لم يتابع عبدَ الله أحدٌ من الصحابة.(34)
ولا شكَّ أن إجماع الصحابة على قرآنيتهما كافٍ في الردِّ على هذا الطعن، ولا يضرُّ ذلك الإجماع مخالفة ابن مسعود، فإنه لا يُعقل تصويب رأي ابن مسعودٍ وتخطئة الصحابة كلهم، بل الأمة كلها.(35)
وقد استشكل الفخر الرازي على فرض صحة النقل عن ابن مسعودٍ في إنكاره قرآنية المعوذتين أنه إن قيل إن قرآنية المعوذتين كانت متواترةً في عصر ابن مسعودٍ، لزم تكفير من أنكرهما، وإن قيل إن قرآنيتهما لم تكن متواترةً في عصره، لزم أن بعض القرآن لم يتواتر في بعض الزمان، قال: وهذه عقدة صعبة.(36)
ويجاب عن هذا الاستشكال بأن تواتر قرآنية المعوذتين في عصر ابن مسعودٍ لا شكَّ فيه، ولا يلزم من ذلك تكفيره ، إذ إن التواتر -وإن كان يفيد العلم الضروري- فإنه نفسه ليس علمًا ضروريًّا -أي أنه قد يخفى على بعض الناس، فليس من الضروري أن يعلم كلُّ واحدٍ من أهل العصر بتواتر الشيء، فإن خفي عليه هذا التواتر كان معذورًا، فلا يُكَفَّر.
قال ابن حجر: وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعودٍ، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلَّت العقدة بعون الله تعالى.(37)
(1) مناهل العرفان (1/275).
(2) قال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع هذا اللفظ مبهمًا، وكأن بعض الرواة أبْهمه استعظامًا له، وأظن ذلك سفيان، فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبْهام. فتح الباري (8/615).
(3) رواه البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة (قل أعوذ برب الناس) (8/614) ح 4977.
(4) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20682.
(5) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20683. قال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والطبراني، ورجال عبد الله رجال الصحيح، ورجال الطبراني ثقات. مجمع الزوائد (7/152).
(6) رواه عبد بن حميد في مسنده، انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/9)، وفتح القدير للشوكاني (1/62)، ورواه أبو بكر الأنباري، انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(1/81).
(7) رواه عبد بن حميد في مسنده، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، انظر فتح القدير (1/62).
(8) انظر مناهل العرفان (1/276).
(9) رواه ابن ماجه في سننه كتاب المقدمة، باب فضل عبد الله بن مسعود (1/49) ح 138، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة المصاحف حفظًا ص 152-153.
(10) رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (1/216) ح 820.
(11) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 47-49، ومناهل العرفان (1/276).
(12) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(1/81)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/9).
(13) رواه أحمد في مسنده، مسند الشاميين (5/137) ح 16848.
(14) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة المعوذتين (6/96) ح 814.
(15) رواه النسائي في سننه، كتاب الاستعاذة، (8/253) ح 5437، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في المعوذتين (2/73) ح 1462.
(16) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 90.
(17) المحلى (1/13).
(18) المجموع شرح المهذب (3/363).
(19) كما مرَّ في المبحث السابق.
(20) انظر المحلى (1/13)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 90-91، والفصل في الملل والأهواء و النحل (2/212).
(21) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 91.
(22) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 92، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 43.
(23) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 92-93.
(24) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 93.
(25) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة الفواتح والعدد في المصاحف ص 154.
(26) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 93-94.
(27) فتح الباري (8/615).
(28) تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين بن كثير (4/571).
(29) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 49.
(30) انظر مناهل العرفان (1/276)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/571).
(31) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 43.
(32) يعني المعوذتين.
(33) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20684.
(34) مجمع الزوائد (7/152)، وفتح الباري (8/615).
(35) مناهل العرفان (1/276-277).
(36) فتح الباري (8/616).
(37) فتح الباري (8/616).
تابع المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة الثالثة: سورتا الخلع والحفد عند أُبَيِّ بنِ كعبٍ
وردت بعض الآثار التي توحي بأن أُبَيَّ بنَ كعبٍ كان يقرأ دعاء القنوت المعروف بسورتي أُبَيِّ بن كعبٍ على أنه من القرآن:
فعن الأعمش أنه قال: في قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك.(1) اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك بالكفار ملحِق.(2)
كما ورد أنه كان يكتبهما في مصحفه:
فعن ابن سيرين قال: كتب أُبَيُّ بن كعبٍ في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعودٍ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين.(3)
وعن أُبَيِّ بن كعبٍ أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه.(4)
وعن عبد الرحمن بن أبزى أنه قال: في مصحف ابن عباس قراءةُ أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. وفيه: اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد. نخشى عذابك ونرجو رحمتك . إن عذابك بالكفار ملحِق.(5)
كما ورد أن بعض الصحابة كان يقنت بِهاتين السورتين:
فعن عمر بن الخطاب أنه قنت بعد الركوع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجد بالكافرين ملحِق.(6)
قال ابن جريج: حكمة البسملة أنَّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة.(7)
فزعم بعض الطاعنين أن ما روي من إثبات أُبَيٍّ القنوت في مصحفه يطعن على جمع الصحابة للقرآن، ويدل على أنَّهم نقصوا منه، وزعموا أن اشتباه القنوت بالقرآن عند أُبَيٍّ دليلٌ على عدم اشتهار أمر القرآن وعدم انتشاره، وإمكانية التباسه بغيره من الكلام، إذ قد التبس على أُبَيِّ بن كعبٍ، مع كونه من أعلم الناس به، وأحفظهم له.(8)
ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه:
الأول: أن الروايات التي وردت عن أُبَيٍّ في أمر القنوت غير مسلَّم بصحتها، وهي معارَضة بِما عُرِف من فضل أُبَيٍّ، وعقله، وحسن هديه، وكثرة علمه، ومعرفته بنظم القرآن.(9)
الثاني: أن القنوت ليس من القرآن، لأنه لو كان منه لأثبته الرَّسُول وأظهره. ولأن نظمه قاصر عن نظم القرآن، يعلم ذلك أهل البلاغة والفصاحة، فلعل أبيًّا إن كان قال ذلك أو كتبه في مصحفه، إنَّما قاله أو كتبه سهوًا، ثم استدرك وأثبت أنه ليس من القرآن.
وقد يعترض على هذا بأن يقال كيف يُشْكِل على أُبَيٍّ أمر هذا الدعاء، وبأنه يلزم من ذلك أنه لم يكن على معرفةٍ بوزن القرآن من غيره من الكلام.
ويجاب عن ذلك بأنه قد يكون قد ظنَّ أن القنوت -وإن قصر عن رتبة باقي السور في الجزالة والفصاحة، إلا أنه يجوز أن يكون قرآنًا، وأنه يبعد أن يُؤتى بمثله، وإن كان غيره من القرآن أبلغ منه، كما قيل: قد يكون بعض القرآن أفصح من بعضٍ.(10)
الثالث: أنه مِمَّا يدل على ضعف هذا الخبر عن أُبَيٍّ ما عُلِم من أن عثمان تشدد في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه، وتحريقها، والعادة توجب أن مصحف أُبَيٍّ كان من أول ما يُقبض، وأن تكون سرعة عثمان إلى مطالبته به أشدَّ من سرعته إلى مطالبة غيره بِمصحفه؛لأنه كان مِمَّن شارك في ذلك الجمع.(11)
وقد صحت الرواية بِما يدل على أن عثمان قد قبض مصحف أُبَيٍّ .
فعن محمد بن أُبَيٍّ أن ناسًا من أهل العراق قدموا إليه، فقالوا: إنَّما تحمَّلْنا إليك من العراق، فأخْرِجْ لنا مصحفَ أُبَيٍّ. قال محمدٌ: قد قبضَه عثمان. قالوا: سبحان الله! أخْرِجْه لنا. قال: قد قبضَه عثمان.(12)
الرابع: أن ما روي عن أُبَيٍّ ليس فيه أن دعاء القنوت قرآنٌ منَزَّل، وإنَّما غاية ما فيه أنه أثبته في مصحفه.
فإن صحَّ أنه أثبته في مصحفه، فلعله أثبته لأنه دعاءٌ لا استغناء عنه، وهو سنة مؤكدة يجب المواظبة عليه، وأثبته في آخر مصحفه أو تضاعيفه لأجل ذلك، لا على أنه قرآن منَزل قامت به الحجة، وقد كان الصحابة يثبتون في مصاحفهم ما ليس بقرآن من التأويل والمعاني والأدعية، اعتمادًا على أنه لا يُشكل عليهم أنَّها ليست بقرآن.(13)
الخامس: أنه يحتمل أن يكون بعض هذا الدعاء كان قرآنًا منَزلاً، ثم نُسخ، وأُبيح الدعاء به، وخُلط به ما ليس بقرآنٍ، فكان إثبات أُبَيٍّ هذا الدعاء أولاً فنُقِل عنه.(14)
السادس: أنه على فرض التسليم بأن أُبَيًّا كان يرى أن القنوت من القرآن، وأنه استمر على ذلك الرأي، فليس ذلك بِمطعنٍ في صحة نقل القرآن، فإنه على هذا الفرض كان منفردًا بذلك الرأي، ويدل على ذلك عدم إثباته في صحف أبي بكر ، ولا في مصاحف عثمان، إذ كانت كتابة القرآن في عهد أبي بكر في غاية الدقة والالتزام، بحيث لم تقبل قراءة إلا بشاهدين، فلما كانت قراءته فردية لم تقبلْ، كما رُدَّت قراءة عمر في آية الرجم.(15)
فلو سلَّمنا أن أُبَيًّا ظنَّ دعاء القنوت قرآنًا، فأثبته في مصحفه، فإن ذلك لا يطعن في تواتر القرآن، لأنه انفرد به، وقد حصل الإجماع على ما بين الدفتين وتواتره، فلا يضر بعد ذلك مخالفة من خالف.
السابع: أننا لو سلَّمنا أن أُبَيًّا كان يعتقد أن القنوت من القرآن، فقد ثبت أنه رجع إلى حرف الجماعة، واتفق معهم، والدليل على ذلك قراءته التي رواها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وغيرهم، وليس فيها سورتا الحفد والخلع -كما هو معلوم،(16) كما أن مصحفه كان موافقًا لمصحف الجماعة.
قال أبو الحسن الأشعري: قد رأيت أنا مصحف أنسٍ بالبصرة، عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خطُّ أنسٍ وإملاء أُبَيٍّ.(17)
الشبهة الرابعة: دعوى تصرف مروان في قراءة الفاتحة(18)
جاء في بعض الآثار أن مروان بن الحكم(19) كان أول من قرأ قوله تعالى: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { بدون ألف.(20)
فعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَقْرَؤُونَ: } مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ { وَأَوَّلُ مَنْ قَرَأَهَا: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { مَرْوَانُ.(21)
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أيضًا أنه بلغه أنَّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ومعاوية وابنه يزيد كانوا يَقْرَؤُونَ: } مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ { قال الزُّهْرِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ: } مَلِكِ { مَرْوَانُ.(22)
فزعم بعض الطاعنين على نقل القرآن أن مروان قد فعل ذلك من تلقاء نفسه، وأنه حذف الألف دون أن يَرِدَ ذلك عن النَّبِيّ ، فضلاً عن أن يتواتر عنه.
ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه:
الأول : أن هذا كذب فاضح، لا حجة عليه، فإن الآثار الواردة في هذا ليس فيها أن مروان قد فعل من تلقاء نفسه دون ورود القراءة به عن النَّبِيّ ، وإنما غاية ما فيها أنه كان يقرأ دون ألفٍ.
الثاني: أن قول الزهري إن مروان كان أول من قرأ } مَلِكِ {، لا يعدو أن يكون خبرًا شخصيًّا لم يسنده إلى من قبله من الصحابة ، وعدم علم الزهري بِهذه القراءة -على فرض التسليم به- لا يجعلها غير متواترة.
قال ابن كثير: مروان عنده علم بصحة ما قرأه، لم يطلع عليه ابن شهاب، والله أعلم.(23)
الثالث: أنه قد انعقد الإجماع على صحة نقل القرآن، وتم له التواتر، ومنه هذه القراءة، حيث قد قرأ بِها أبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وهؤلاء قرؤوا ونقلت عنهم تلك القراءة(24) قبل أن يقرأ مروان، وإخبار الزهري أن مروان أول من قرأ بِها لا يُردُّ به الثابت القطعي من القرآن الكريم.(25)
الرابع: أن المراد أن مروان كان أول من قرأ بِهذه القراءة من الأمراء في الصلاة بجماعة، وليس في ذلك أن الزهري لم يعلم قراءة: } ملك يوم الدين { قبل مروان مطلقًا، فمن البعيد عن الزهري مع جلالته أن تخفى عنه تلك القراءة المتواترة.(26)
الخامس: أنه قد وردت الروايات أيضًا عند من أخرج خبر الزهري بأن النَّبِيّ كان يقرأ: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { بدون ألف:
فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ قِرَاءةَ رَسُولِ اللهِ: } بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ! الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ! الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ! مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { ، يُقَطِّعُ قِرَاءتَهُ آيَةً آيَةً.(27)
وعَنْها أيضًا أنَّها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُقَطِّعُ قِرَاءتَهُ، يَقُولُ: } الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {، ثُمَّ يَقِفُ، } الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {، ثُمَّ يَقِفُ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ {.(28)
السادس: أن المصاحف العثمانية اتفقت جميعها على رسم (ملك) هكذا دون ألف، وهذا الرسم محتمل للقراءتين بالمد والقصر جميعًا.(29)
دعوى أن الصحابة تصرفوا واختاروا ما شاءوا في كتابة القرآن.
وقريب من الشبهة السابقة ما تُوُهِّم من تصرف بعض الصحابة في اختيار وجه القراءة.
وتعلقوا في ذلك بما روي عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه قال: قالوا لزيدٍ: يا أبا سعيد أوْهَمْتَ! إنَّما هي (ثمانية أزواجٍ من الضأن اثنين اثنين ومن المعز اثنين اثنين ومن الإبل اثنين اثنين ومن البقر اثنين اثنين)، فقال: لا، إن الله تعالى يقول: } فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى{، فهما زوجان، كل واحدٍ منهما زوج: الذكر زوجٌ، والأنثى زوجٌ.(30)
قيل: فهذه الرواية تدل على تصرُّف النُّسَّاخ في المصاحف، واختيارهم ما شاءوا في تلاوة القرآن وكتابته.
والجواب أن كلام زيدٍ في هذا الأثر لا يدل على تصرُّفٍ في اختيار القراءة، وإنَّما بيانٌ لوجه القراءة التي قرأ بِها بعد سماعها من النَّبِيّ ، وكتابتها بين يديه.(31)
(1) قال ابن الأثير: أي: يعصيكَ ويُخالِفكَ. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/414).
(2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف، باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/106) ح 7030.
(3) رواه أبو عبيد، انظر الإتقان في علوم القرآن (1/184).
(4) أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، انظر الإتقان في علوم القرآن (1/185).
(5) رواه ابن الضريس، انظر الإتقان في علوم القرآن (1/185).
(6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب دعاء القنوت (2/211)، وابن أبي شيبة في المصنف باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/106) ح 7031، وفيه أيضًا عن عبد الملك بن سويد الكاهلي أن عليًّا قنت في الفجر بِهاتين السورتين، فذكرهما، ح 7029.
(7) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/185).
(8) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 79، ومناهل العرفان (1/264).
(9) انظر: نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80.
(10) تأويل مشكل القرآن ص 47، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 79-81، ومناهل العرفان (1/271).
(11) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80.
(12) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 32-33.
(13) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 80، مناهل العرفان (1/271)، وتأويل مشكل القرآن ص 47، والبرهان في علوم القرآن (1/251).
(14) مناهل العرفان (1/271)، ومعجم القراءات القرآنية (1/25).
(15) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167-168)، ومعجم القراءات القرآنية (1/25).
(16) انظر مبحث الحفاظ من الصحابة، وهو المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول.
(17) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 81.
(18) هذه الشبهة، وإن لم تكن متعلقة مباشرة بجمع القرآن، إلا أنَّها تتعلق بنقل القرآن، وهو مقصود الجمع، فرأيت أنه من الحسن إثباتها هنا؛ لأن في الرد عليها ردًّا على من زعم أن القرآن لم ينقل إلينا على الوجه الذي جمع الصحابة، وقرأ به النَّبِيّ من قبلهم.
(19) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص، مرت ترجمته في (حرق المصاحف المخالفة).
(20) اختلف القراء في هذا اللفظ، فقرأه نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة (ملك) بدون ألف، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره (مالك) بالألف. انظر النشر في القراءات العشر (1/271).
(21) رواه أبو داود في سننه، كتاب الحروف والقراءات (4/37) ح 4000، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما روي عن رَسُول اللهِ من القرآن فهو كمصحفه ص 103، وانظر الدر المنثور في التفسير المأثور (1/35-36).
(22) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما روي عن رَسُول اللهِ من القرآن فهو كمصحفه ص 104، وانظر الدر المنثور في التفسير المأثور (1/36).
(23) تفسير القرآن العظيم (1/24).
(24) وقد قرأ بِها جمهور القراء، كما مر، انظر النشر في القراءات العشر (1/271).
(25) مناهل العرفان (1/396).
(26) بذل المجهود في حل سنن أبي داود (16/328).
(27) رواه أبو داود في سننه، كتاب الحروف والقراءات (4/37) ح 4001، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما روي عن رَسُول اللهِ من القرآن فهو كمصحفه ص 105.
(28) رواه الترمذي في جامعه، كتاب القراءات باب في فاتحة الكتاب (5/185) ح 2927.
(29) انظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود باب ما اجتمع عليه كُتَّاب المصاحف، ص 117-118، ومناهل العرفان (1/396).
(30) رواه ابن أشتة في كتاب المصاحف، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/277).
(31) مناهل العرفان (1/395).
تابع المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة الخامسة: دعوى أن في المصاحف العثمانية لحنًا
وردت آثار عن بعض الصحابة والتابعين فيها أن القرآن العظيم قد وقع فيه لحنٌ عند جمعه في زمن عثمان .
فعن عكرمة الطائي قال: لَمَّا كتبت المصاحف عُرِضَتْ على عثمانَ، فوجدَ فيها حروفًا من اللَّحْن، فقال: لا تُغَيِّرُوها؛ فإن العرب ستُغَيِّرُها- أو قال ستعربُها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيفٍ، والمملي من هذيلٍ لم توجد فيه هذه الحروف.(1)
وعن سعيد بن جبيرٍ، قال: في القرآن أربعة أحـرفٍ لحـنٌ: } وَالصَّابِئُونَ {،(2) } وَالْمُقِيمِينَ {،(3) } فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ {،(4) و} إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ {.(5)
قال السيوطي: وهذه الآثار مشكلة جدًّا.(6)
وقد تعلَّق بِها بعض الطاعنين على القرآن ونقله، وزعموا أنَّها تدل على أن جمع الصحابة للقرآن لا يوثق به.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الأول: أن ذلك لا يصح عن عثمان، فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع.(7)
الثاني: مِمَّا يدل على ضعف هذه الآثار أن وقوع اللحن في القرآن وسكوت الصحابة عنه مِمَّا يستحيل عقلاً وشرعًا وعادةً، لوجوه:
1. أنه لا يُظَنُّ بالصحابة أنَّهم يلحنون في الكلام، فضلاً عن القرآن، فقد كانوا أهل الفصاحة والبيان.
2. أنه لا يُظَنُّ بِهم اللحن في القرآن الذي تلقوه من النَّبِيّ كما أنزل، وحفظوه وضبطوه وأتقنوه.
3. أن افتراض صحة هذا النقل يعني أن الصحابة اجتمعوا على الخطأ وكتابته، وهذا مما لا يُظَنُّ بِهم.
4. أنه لا يُظَنُّ بِهم عدم تنبههم للخطأ ورجوعهم عنه، مع كثرتهم، وحرصهم، وتوافر الدواعي إلى حفظ الكتاب الكريم.
5. أنه لا يُظَنُّ بعثمان أنه ينهى عن تغيير الخطأ، ولو فعل ذلك لَما سكت عنه الصحابة .
6. أنه لا يُظَنُّ أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ، وهي مروية بالتواتر خلفًا عن سلفٍ.(8)
فقد جَعَلَ عثمانُ للناسِ إمامًا يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنًا ويتركه تقيمه العرب بألسنتها؟ فإذا كان الذين تولَّوا جمعه لم يقيموا ذلك -وهم الخيار- فكيف يقيمه غيرهم؟ فهذه الأوجه مِما يدل على أن هذه الآثار غير صحيحة.
قال ابن الأنباري(9) في الأحاديث المروية في ذلك عن عثمان : لا تقوم بِها حجةٌ؛ لأنَّها منقطعةٌ غير متصلة، وما يشهد عقلٌ بأن عثمان -وهو إمام الأمة الذي هو إمام الناس في وقته، وقدوتُهم- يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبينُ فيه خللاً، ويشاهد في خطه زللاً، فلا يصلحه، كلاَّ والله، ما يَتَوَهَّم عليه هذا ذو إنصافٍ وتمييزٍ، ولا يعتقد أنه أخَّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه، والوقوف عند حكمه.
ومن زعم أن عثمان أراد بقوله: “أرى فيه لحنًا”: أرى في خطه لحنًا، إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسدٍ ولا محرِّفٍ، من جهة تحريف الألفاظ وفساد الإعراب -فقد أبطل ولم يُصِبْ؛ لأن الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه، فهو لاحنٌ في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادًا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتبٍ ولا نطقٍ، ومعلومٌ أنه كان مواصلاً لدرس القرآن، متقنًا لألفاظه، موافقًا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي.(10)
ثم أيد ذلك بما أخرجه أبو عبيد عن هانئ البربري مولى عثمان، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاةٍ إلى أُبَيِّ بن كعبٍ، فيها: (لَمْ يَتَسَنَّ)، وفيها: (لاَتَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ)، وفيها: (فَأَمْهٍلِ الْكَافِرِينَ)، قال: فدعا بالدواة، فمحا أحد اللامين، فكتب: } لِخَلْقِ اللهِ {،(11) ومحا (فَأَمْهٍلِ) وكتب: } فَمَهِّلِ {،(12) وكتب: } لَمْ يَتَسَنَّهْ {،(13) ألحق فيها الهاء.(14)
قال ابن الأنباري: فكيف يُدَّعى عليه أنه رأى فسادًا فأمضاه، وهو يوقَف على ما كُتِب، ويُرْفع الخلافُ إليه الواقع من الناسخين، ليحكم بالحق، ويُلزمهم إثبات الصواب وتخليده.(15)
قال السيوطي: ويؤيد ذلك أيضًا ما رواه ابن أشتة في كتاب المصاحف عن عبد الله بن الزبير أنه قال: فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة، فجئت بالصحف، فعرضناها عليها، حتى قوَّمناها، ثم أمر بسائرها فشققت.
فهذا يدل على أنَّهم ضبطوها وأتقنوها، ولم يتركوا فيها ما يحتاج إلى إصلاح ولا تقويم.(16)
الثالث: أن عثمان لَم يكتب مصحفًا واحدًا، بل كتب عدة مصاحف، فإن قيل: إن اللحن وقع في جميعها، فبعيد اتفاقها على ذلك، أو في بعضها، فهو اعترافٌ بصحة البعض، ولم يذكر أحدٌ من الناس أن اللحن كان في مصحفٍ دون مصحفٍ، ولم تأت المصاحف قطُّ مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءة، وليس ذلك بلحنٍ.(17)
الرابع: على تقدير صحة الرواية أن ذلك محمولٌ على الرَّمْز والإشارة، ومواضع الحذف، نحو (الصـبرين)، و(الكتـب) وما أشبه ذلك.
الخامس: أن المراد به أن فيه لحنًا عند من تَوَهَّم ذلك، وخفي عليه وجه إعرابه، وأنه أراد بقوله: “وستقيمه العرب بألسنتها”، أي: محتجين عليه، مظهرين لوجهه.(18)
السادس: أن المراد باللحن ليس الخطأ، بل هو مؤول على أشياء خالف لفظها رسمها، كما كتبوا: } لاأذبحنه {،(19) بألفٍ بعد (لا)، و} جزاؤا الظالمين {،(20) بواو وألف، و} بأييدٍ {،(21) بيائين، فلو قرئ بظاهر الخط كان لحنًا، وبِهذا الجواب وما قبله جزم ابن أشتة في كتاب المصاحف.(22)
السابع: أن المراد باللحن القراءة واللغة، وليس المراد به الخطأ، فيكون المراد بكلمة (لحن) في الروايات المذكورة: قراءة، ولغة، كقوله تعالى: } وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ {.(23)
والمعنى أن في القرآن ورسم مصحفه وجهًا في القراءة لا تلين به ألسنة جميع العرب، ولكنها لا تلبث أن تلين بالمران وكثرة تلاوة القرآن بِهذا الوجه.
ويكون قول سعيد ابن جبير: “لحن”، بمعنى أنَّها لغة الذي كتبها وقراءته، وأن فيها قراءةً أخرى.(24)
ويدل على ذلك الوجه قول عمر في الحديث عن قراءة أُبَيٍّ:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ : عَلِيٌّ أَقْضَانَا، وَأُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ كَثِيرًا مِنْ لَحْنِ أُبَيٍّ … الحديث.(25)
وقد روى أثر عثمان هذا ابن أشتة في كتاب المصاحف بلفظ خالٍ من هذا الإشكال.
فعن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: لَمَّا فُرِغ من المصحف، أُتِي به عثمانُ، فنظر فيه، فقال: أحسنتم وأجملتم! أرى شيئًا سنقيمه بألسنتنا.
قال السيوطي: فهذا الأثر لا إشكال فيه، وبه يتضح معنى ما تقدم، فكأنه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته ، فرأى فيه شيئًا كُتِب على غير لسان قريشٍ، كما وقع لهم في (التابوة) و(التابوت)، فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريشٍ، ثم وفَّى بذلك عند العرض والتقويم، ولم يترك فيه شيئًا، ولعل من روى تلك الآثار السابقة عنه حرَّفها، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك، ولله الحمد.(26)
(1) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن الأنباري في كتاب الردِّ على من خالف عثمان وابن أشتة في كتاب المصاحف، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/269-270)، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب اختلاف ألحان العرب في المصاحف، عن يحيى ابن يعمر وقتادة وعكرمة. ص 41-42.
(2) من الآية 69 من سورة المائدة.
(3) من الآية 162 من سورة النساء.
(4) من الآية 10 من سورة المنافقون.
(5) من الآية 63 من سورة طه. أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب اختلاف ألحان العرب في المصاحف ص 42، ورواه ابن الأنباري أيضًا، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/270).
(6) الإتقان في علوم القرآن (2/270).
(7) فقد رواه قتادة عن عثمان مرسلاً، ورواه نصر بن عاصم عنه مسندًا، ولكن فيه عبد الله بن فطيمة، وهو مجهول، لا يُقبل خبره. انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 125، والإتقان في علوم القرآن (2/270).
(8) الإتقان في علوم القرآن (2/270).
(9) في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان.
(10) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/271).
(11) من الآية 30 من سورة الروم.
(12) من الآية 17 من سورة الطارق.
(13) من الآية 209 من سورة البقرة.
(14) رواه أبو عبيد، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/271).
(15) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/272).
(16) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/272).
(17) الإتقان في علوم القرآن (2/270)، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) (6/26-27).
(18) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 128.
(19) سورة النمل من الآية 21.
(20) سورة المائدة من الآية 29.
(21) سورة الذاريات من الآية 47.
(22) نكت الانتصار لنق القرآن ص 128-129، والإتقان في علوم القرآن (2/270)، وانظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 51.
(23) من الآية 30 من سورة محمد .
(24) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 125، ومناهل العرفان (1/387-388)، والإتقان في علوم القرآن (2/273).
(25) رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/131) ح 20581.
(26) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/272).
تابع المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة السادسة: دعوى الخطأ على الكُتَّاب في المصاحف العثمانية
ادَّعى بعض الطاعنين على نقل القرآن الكريم أن هذا النقل قد حصل فيه خطأ من الكُتَّاب والقراء عند كتب المصاحف العثمانية، وتعلَّقوا في ذلك بآثارٍ رويت عن بعض الصحابة في ذلك، منها:
1. عن عروة بن الزبير أنه سأل(1) عائشة عن قوله تعالى: } وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ {،(2) وعن قوله: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ {،(3) وعن قوله: } إنَّ هـَذَانِ لَسَاحِرَانِ {،(4) فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكُتَّاب، أخطؤوا في الكتاب.(5)
2. عن أَبي عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّه دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: جِئْتُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْرَؤُهَا. فَقَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقَالَ: } الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا {،(6) أَوِ (الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا)؟ فَقَالَتْ: أَيَّتُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لإِحْدَاهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا، أَوِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَتْ: أَيَّتُهُمَا؟ قُلْتُ: (الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا). قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا، وَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. أَوْ قَالَتْ: أَشْهَدُ لَكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْرَؤُهَا، وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ.(7)
3. عن ابن عباس أنه كان يقرأ: } لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا {،(8) قال: وإنَّما (تستأنسوا) وهم من الكُتَّاب.(9)
4. عن ابن عباس أنه قرأ: (أَفَلَمْ يتبيَّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا)، فقيل له: إنَّها في المصحف: } أَفَلَمْ يَيْأَس {،(10) فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس.(11)
5. عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله تعالى: } وَقَضَى رَبُّكَ {:(12) إنَّما هي (ووصى ربُّك)، التزقت الواو بالصاد.(13)
6. عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياءً)،(14) ويقول: خذوا هذا الواو واجعلوها هنا: (والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم).(15)
7. عن ابن عباس في قوله تعالى: } مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ {،(16) قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنَّما هي: (مثل نور المؤمن كمشكاة).(17)
فزعموا أن هذه الآثار دلت على أن كتاب المصاحف قد أخطؤوا وجه الصواب في كتابة المصاحف، وانبنى على تلك الأخطاء قراءة القراء بعد ذلك.
ويُجاب عن هذه الشبهة بطريقين:
أولاً: الأجوبة العامة:
فقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث في الجملة بوجوه عامة، منها:
1 – جنح ابن الأنباري وغيره إلى تضعيف هذه الروايات، ومعارضتها بروايات أخرى عن ابن عباس وغيره بثبوت هذه الأحرف في القراءة.(18)
ويدل على ضعف هذه الروايات كما سبق في الشبهة السابقة إحالة العادة خفاءَ الخطأ في مثل القرآن، الذي توافرت الْهمم على نقله وحفظه، وعدمَ انتباه الصحابة إليه، وتركَه إذا انتبهوا إليه دون تصحيح لِما زُعم فيه من الخطأ.
قال الزمخشري: وهذا ونحوه مِمَّا لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتًا بين دفتي الإمام، وكان متقلبًا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصًا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، هذه -والله- فريةٌ ما فيها مريةٌ.(19)
2 – ما سبق في ردود الشبهة السابقة من أن الصحابة لم يكتبوا مصحفًا واحدًا، بل كتبوا عدة مصاحف، وأن أحدًا لم يذكر أي المصاحف الذي كان فيه الخطأ، ويبعد اتفاق جميع المصاحف على ذلك الخطأ المزعوم.(20)
قال الطبري: فلو كان ذلك خطأً من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف -غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه- بخلاف ما هو في مصحفنا، وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أُبَيٍّ في ذلك ما يدل على أن الذي في مصحفنا من ذلك صوابٌ غير خطأٍ، مع أن ذلك لو كان خطأً من جهة الخط، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رَسُول اللهِ يُعَلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنُوه للأمة على وجه الصواب، وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً على ما هو به في الخط مرسومًا أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب.(21)
3 – إذا سلمنا صحة تلك الروايات، فإننا نردُّها برغم دعوى صحتها، لأنَّها معارضةٌ للقاطع المتواتر من القرآن الكريم، ومعارض القاطع ساقط، لا يلتفت إليه، والقراءة التي تخالف رسم المصحف شاذَّةٌ لا يلتفت إليها، ولا يُعوَّل عليها.(22)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن زعم أن الكاتب غلط، فهو الغالط غلطًا منكرًا؛ فإن المصحف منقولٌ بالتواتر، وقد كتبت عدة مصاحف، فكيف يُتَصَوَّرُ في هذا غلطٌ.(23)
4 – وتُدفع الروايات الواردة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بوجهٍ عامٍّ بأنه قد أخذ القرآن عن زيد بن ثابت وأُبَيِّ بن كعبٍ، وهما كان في جمع المصاحف في زمن عثمان ، وكان زيدٌ هو الذي جمع القرآن بأمر أبي بكر أيضًا، وكان كاتبَ الوحي، وكان يكتب بأمر النَّبِيّ وإقراره، وابن عباس كان يعرف له ذلك، فمن غير المعقول أن يأخذ عنهما القرآن، ويطعن في ما كتباه في المصاحف.(24)
ويدل على ذلك أن عبد الله بن عباس كان من صغار الصحابة، وقد قرأ القرآن على أبي بن كعب ، وزيد ابن ثابت ،ـ(25) وقد روى القراءة عن عبد الله بن عباس أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وغيرهم من القراء، وليس في قراءتِهم شيءٌ مِمَّا تعلق به هؤلاء، بلقراءته موافقة لقراءة الجماعة.(26)
ثانيًا: الجواب عن كل أثرٍ على حدة:
الأثر الأول:
أن الرواية الواردة عن عائشة في ذلك ضعيفة لا تثبت.(27)
قال أبو حيان في قوله تعالى: } وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ {: وذُكِر عن عائشة وأبان ابن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك؛ لأنَّهما عربيان فصيحان، وقطع النعوت مشهورٌ في لسان العرب.(28)
وقال الزمخشري: ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنًا في خط المصحف، وربَّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب،(29) ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وخفي عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كانوا أبعد همةً في الغيرة على الإسلام، وذبِّ الْمطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثُلمةً يسدها من بعدهم، وخرقًا يَرْفُوهُ من يلحق بِهم.(30)
أنه مِمَّا يدل على ضعف الرواية عن عائشة -رضي الله عنها- في تخطئة الكاتب في رسم } إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ {،(31) أن المصاحف العثمانية اتفقت على رسم (هذان) بغير ألف، ولا ياء،(32) ليحتمل أوجه القراءة المختلفة فيها، وإذن فلا يُعقل أن يُقال أخطأ الكاتب، فإن الكاتب لم يكتب ألفًا ولا ياءً.
ولو كان هناك خطأٌ تعتقده عائشة ما كانت لتنسبه إلى الكاتب، بل كانت تنسبه إلى من قرأ بالتشديد في (إنَّ) مع القراءة بالألف في (هذان).(33)
أنه لم ينقل عن عائشة تخطئة من قرأ: } وَالصَّابِئُونَ {،(34) بالواو، ولم ينقل عنها أنَّها كانت تقرؤها بالياء، فلا يعقل أن تكون خطَّأت من كتبها بالواو.(35)
أننا إذا سلَّمنا بصحة هذا الخبر، فإنه يحتمل أن سؤال عروة لعائشة لم يكن عن اللحن(36) في الكتاب الذي هو الخطأ والزلل والوهم، وإنما سألها عن الحروف المختلفة الألفاظ، المحتملة للوجوه على اختلاف اللغات، وإنما سمَّى عروة ذلك لحنًا، وأطلقت عليه عائشة الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار، وطريق المجاز في العبارة، إذ كان ذلك مخالفًا لمذهبهما، وخارجًا عن اختيارهما، وكان خلافه هو الأولى عندهما.(37)
أنه يحتمل أيضًا أن قول عائشة: ” أخطؤوا في الكتاب” أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه.
أي أن الوجه الظاهر المعروف في هذه الحروف غير ما جاء به المصحف، وأن استعماله على ذلك الوجه غامضٌ أو غلطٌ عند كثير من الناس، ولحن عند من لا يعرف الوجه فيه، لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأٌ خارج عن القرآن، والدليل على ذلك أن غير الجائز من كلِّ شيءٍ مردودٌ بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه.(38)
الأثر الثاني:
أن كلام عائشة في قوله تعالى: } يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا {،(39) ليس فيه إنكار هذه القراءة المتواترة، وإنما غاية ما فيه أن ما قرأت هي به كان مسموعًا عن رَسُول اللهِ منَزَّلاً من عند الله.
أن قولَها: “وَلَكِنَّ الْهِجَاءَ حُرِّفَ” يحتمل أن يكون المراد به أنه ألقي إلى الكاتب هجاءٌ غيرُ ما كان الأولى أن يُلْقَى إليه من الأحرف السبعة.
أنه يحتمل أيضًا أن يكون مأخوذًا من الحرف، الذي هو بمعنى القراءة واللغة، وأنَّها أرادت أن هذه القراءة المتواترة التي رُسم بِها المصحف لغةٌ ووجهٌ من وجوه أداء القرآن الكريم.(40)
الأثر الثالث:
أن هذه الرواية غير ثابتة عن ابن عباس.
قال أبو حيان: ومن روى عن ابن عباس أن قوله: (تستأنسوا) خطأ، أو وهم من الكاتب، وأنه قرأ: (حتى تستأذنوا)، فهو طاعنٌ في الإسلام، ملحدٌ في الدين، وابن عباسٍ بريءٌ من هذا القول، وتستأنسوا متمكنةٌ في المعنى، بيِّنَةٌ الوجه في كلام العرب.(41)
أن ابن عباس قرأها } تستأنسوا { وفسرها بالاستئذان.
فعن ابن عباس في قوله: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا {،(42) قال: الاستئناسُ: الاستئذانُ.(43)
الأثر الرابع:
أن الرواية بذلك عن ابن عباس غير ثابتة.
قال أبو حيان: وأما قول من قال: إنَّما كتبه الكاتب وهو ناعسٌ، فسوَّى أسنان السين، فقول زنديقٍ ملحدٍ.(44)
أنه يحتمل أن قول ابن عباس: “كتبها وهو ناعس”، بِمعنى أنه لم يتدبر الوجه الذي هو أولى من الآخر، وهذا الرد محتمل في كثير من تلك الروايات.
الأثر الخامس:
أنه قد استفاض عن ابن عباس أنه قرأ } وقضى {،(45) وذلك دليل على أن ما نسب إليه في تلك الروايات من الدسائس التي لفَّقها أعداء الإسلام.(46)
قال أبو حيان: والمتواتر هو: } وقضى {، وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة.(47)
الأثر السادس:
في قوله تعالى: } ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً {،(48) فالرواية الواردة عن ابن عباس في تغيير موضع الواو ضعيفة، لا تصح.(49)
الأثر السابع:
أنه لم ينقل أحدٌ من رواة القراءة أن ابن عباس كان يقرأ: (مثل نور المؤمن)، وهذا يدل على عدم صحة هذا النقل عنه، إذ كيف يقرأ ما يعتقد أنه خطأ ويترك ما يعتقد أنه الصواب.
على أنه قد روي أن أُبَيًّا كان يقرأ: (مثل نور المؤمن)، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصاحف، وينبغي أن تحمل على أنه أراد تفسير الضمير في القراءة المتواترة، أو على أنَّها قراءة منسوخة.(50)
(1) وفي بعض الروايات سألت عائشة عن لحن القرآن، عن قول الله … الحديث.
(2) من الآية 162 من سورة النساء.
(3) من الآية 69 من سورة المائدة.
(4) من الآية 63 من سورة طه.
(5) رواه الطبري في تفسيره (6/25)، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب اختلاف ألحان العرب في المصاحف ص 43، وذكره السيوطي في الإتقان (2/269)، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين.
(6) من الآية 60 من سورة المؤمنون.
(7) رواه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار (7/138) ح 24120، (7/208) 24591، وفيه أبو خلف مولى بني جُمَحٍ، وهو مجهول. انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/366).
(8) سورة النور، من الآية 27.
(9) رواه الطبري في تفسيره (18/109-110).
(10) سورة الرعد من الآية 31.
(11) أخرجه ابن الأنباري، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/275)، ورواه الطبري أيضًا في التفسير (13/154) بنحوه.
(12) سورة الإسراء من الآية 23.
(13) رواه سعيد بن منصور، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/275)، وروى نحوه الطبري في التفسير عن الضحاك بن مزاحم (15/63).
(14) والآية في المصحف: } ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً { ، من الآية 48 من سورة الأنبياء.
(15) رواه سعيد بن منصور وغيره، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/276)، والآية في المصحف: } الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم { ، من الآية 173 من سورة آل عمران.
(16) من الآية 35 من سورة النور.
(17) أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم، انظر الإتقان في علوم القرآن (2/276).
(18) الإتقان في علوم القرآن (2/276).
(19) تفسير البحر المحيط (5/383-384).
(20) راجع الرد الثالث على الشبهة السابقة، وانظر الإتقان في علوم القرآن (2/270).
(21) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) (6/26-27).
(22) انظر مناهل العرفان (1/389).
(23) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (15/255).
(24) مناهل العرفان (1/392).
(25) انظر النشر في القراءات العشر (1/112،178)، ومعرفة القراء الكبار (1/45،57).
(26) راجع مبحث الحفاظ من الصحابة، وهو المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول.
(27) مرَّ بنا أن السيوطي -رحمه الله- قال في الإتقان (2/269): صحيحٌ على شرط الشيخين. ولا يخفى أن صحة السند لا تكفي ليصح الحديث، إذ يشترط إلى ذلك سلامة الحديث متنًا وسندًا من العلة القادحة، انظر نزهة النظر في شرح نخبة الفكر ص 29، ولا يخفى أن متن هذه الرواية فيه عدد من العلل، منها هذه، وهي الطعن في فصاحة الصحابة ومعرفتهم بوجوه كلام العرب، والعلة الثانية التي تأتي في الجواب التالي، وهي أنه في قوله تعالى: } إن هذان { لم يكتب الكاتب ألفًا ولا ياءً حتى ينسب إليه خطأٌ في ذلك، وهذا كافٍ -إن شاء الله- في إثبات ضعف هذه الرواية.
(28) تفسير البحر المحيط (3/411).
(29) قال أبو حيان: يريد كتاب سيبويه -رحمه الله. البحر المحيط (3/412).
(30) الكشاف (1/590)، وانظر تفسير البحر المحيط (3/411-412).
(31) من الآية 63 من سورة طه.
(32) انظر المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ص 15، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 304.
(33) مناهل العرفان (1/393).
(34) من الآية 69 من سورة المائدة.
(35) مناهل العرفان (1/394).
(36) كما جاء في بعض الروايات: سألت عائشة عن لحن القرآن، عن قوله … الأثر، كما مرَّ.
(37) انظر المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار ص 121-122.
(38) الإتقان في علوم القرآن (1/273)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 129-130.
(39) من الآية 60 من سورة المؤمنون.
(40) مناهل العرفان (1/395).
(41) تفسير البحر المحيط (6/410)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (2/276).
(42) سورة النور، من الآية 27.
(43) رواه الطبري في تفسيره (18/110).
(44) تفسير البحر المحيط (5/383-384)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (2/276).
(45) سورة الإسراء من الآية 23.
(46) مناهل العرفان (1/391).
(47) تفسير البحر المحيط (6/23).
(48) من الآية 48 من سورة الأنبياء.
(49) انظر الإتقان في علوم القرآن (2/276).
(50) انظر البحر المحيط (6/418)، ومناهل العرفان (1/392).
تابع المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الشبهة السابعة: دعوى تغيير الحجاج بن يوسف مصحف عثمان
ادعى بعض الطاعنين في القرآن الكريم أن الحجاج بن يوسف الثقفي غيَّر حروفًا من مصحف عثمان، وأسقط حروفًا كانت فيه، وأنه كتب ستة مصاحف وجه بِها إلى الأمصار، وجمع المصاحف المتقدمة، وأغلى لَها الخل حتى تقطعت، وأنه قصد بذلك التزلف إلى بني أمية بإثبات خلافتهم، وإبطال خلافة ولد عليٍّ والعباس.(1)
وتعلقوا في ذلك بنحو ما روي عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيَّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفًا، قال:
كانت في البقرة: (لم يتسنَّ وانظر)، بغير هاء، فغيَّرها: } لَمْ يَتَسَنَّهْ {،(2) بالهاء.(3)
وكانت في المائدة: (شريعة ومنهاجًا)، فغيَّرها: } شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا {.(4)
وكانت في يونس: } يَنْشُرُكُمْ { ، فغيَّرها: } يُسَيِّرُكُمْ {.(5)
وكانت في يوسف: (أَنَا آتِيكُم بِتَأْوِيلِهِ)، فغيَّرها: } أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ {.(6)
وكانت في المؤمنين: (سيقولون لله، لله، لله)، ثلاثتهن، فجعل الأخريين: (الله ، الله).(7)
وكانت في الشعراء، في قصة نوح : (مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، وفي قصة لوط : (مِنَ الْمَرْجُومِينَ)، فغيَّر قصة نوح: } مِنَ الْمَرْجُومِينَ{،(8) وقصة لوط: } مِنَ الْمُخْرَجِينَ {.(9)
وكانت في الزخرف: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعَايِشَهُم)، فغيَّرها: } مَعِيشَتَهُمْ {.(10)
وكانت في الذين كفروا: (مِن مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ)، فغيَّرها: } مِن مَاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ{.(11)
وكـانت في الحـديد: (فالذين منكم واتقـوا لهـم أجرٌ كبير)، فغيـَّرهـا: } وَأَنْفَقُوا {.(12)
وكانت في إذا الشمس كُوِّرَتْ: } وَمَـا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِـينٍ {،(13) فغيـَّرها: } بِضَنِينٍ {.(14)
وهذه شبهة باردة لا تستحق الردَّ؛ فإنَّها تحمل في طيَّاتِها أمارات بطلانِها وردها، ولكن نذكر ما أجاب به أهل العلم عن هذه الكذبة، وهي أجوبة كثيرة، منها:
1. أن الروايات التي تعلقوا بِها في هذه الشبهة في غاية الضعف، ولا تقوم بمثلها حجة، فهذا الأثر المروي عن عوف بن أبي جميلة ضعيف جدًّا، ففيه عبّاد بن صهيب، وهو متروكٌ، ضعيف الحديث، وكان قدريًّا داعيةً،(15) وكذلك عوف بن أبي جميلة، وإن كان ثقةً، إلا أنه متهم بالقدر والتشيع، وهذا الأثر -إن ثبت عنه- مما يؤيد دعوى الشيعة وقوع التحريف في القرآن، فهو متهم فيه.(16)
2. أنه لو حصل مثل ذلك لنقل إلينا نقلاً متواترًا، لأنه مِمَّا تتوافر الدواعي على نقله وتواتره. فلما لم ينقل إلينا بالنقل الصحيح، علم أنه كذب لا أصل له.
3. أنه من الْمحال عقلا وعادةً سكوت جميع الأمة عن تغيير شخص لكتابِها الذين تدين الله به، وأئمة الدين والحكم إذ ذاك متوافرون، فكيف لا ينكرون، ولا يدافعون عن كتاب ربِهم؟
4. أن الحجاج لم يكن إلا عاملاً على بعض أقطار الإسلام، ومن المحال أن يقدر على جمع المصاحف التي انتشرت في بلاد المسلمين شرقها وغربِها، فذلك مِمَّا لا يقدر عليه أحدٌ لو أراده.
5. أن الحجاج لو فرض أنه استطاع جمع كل المصاحف وإحراقها، فإنه من المحال أيضًا أن يتحكم في قلوب الآلاف المؤلفة من الحفاظ، فيمحو منها ما حفظته من كتاب الله.(17)
ويدل على ذلك أن أكثر المواضع التي ادُّعي أن الحجاج غيَّرها هي في جميع المصاحف على تلك الصورة التي زعموا أن الحجاج غيرها إليها، وقرأها القراء بِهذا الوجه، وبعضها رسم على الصورتين في المصاحف وقرئ بقراءتين، كما نقله إلينا القراء وعلماء الرسم العثماني، كما أن جل هذه المواضع لم ينقل إلينا نقلاً متواترًا قراءة أحد من القراء بِما يوافق الوجه الذي يزعمون أنه كان ثم غُيِّر، مثل: (شريعة ومنهاجًا)، و(أَنَا آتِيكُم بِتَأْوِيلِهِ)، و(مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، في قصة نوح ، و(مِنَ الْمَرْجُومِينَ) في قصة لوط ، و(نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعَايِشَهُم)، فلو صحَّ هذا النقل لنُقِل إلينا من القراءات في هذه المواضع ما يوافق ما كانت مكتوبةً به أوَّلاً.
6. أنه بفرض أن الحجاج كان له من الشوكة والمنعة ما أسكت به جميع الأمة على ذلك التعدي المزعوم على الكتاب الكريم، فما الذي أسكت المسلمين بعد انقضاء عهده.(18)
7. أنه يحتمل أن الحجاج إنَّما غيَّر حروفًا من بعض المصاحف التي تخالف مصحف عثمان، فقد روي أنه لَمَّا قدم العراق وجد الناس يكتبون في مصاحفهم أشياء، كانوا يكتبون : (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)، و(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج) وأشياء غير هذا، فبعث إلى حفاظ البصرة وخطاطها، فأمر نصر بن عاصم وأبا العالية وعليَّ بن أصمعَ ومالك بن دينار والحسن البصري وأمرهم أن يكتبوا مصاحف ويعرضوها على مصحف عثمان.(19)
وقد كان -فيما روي- من أشد الأمراء نظرًا في المصاحف، وكان شديد الحرص على أن يتَّبع الناس مصحف عثمان، فوكَّلَ عاصمًا الجحدري وناجية ابن رُمْحٍ وعليَّ بن أصمعَ بتتَبُّع المصاحفِ، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحفٍ وجدوه مخالفًا لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهمًا.(20)
8. أن الحروف التي زعموا أن الحجاج غيَّرها ليس فيها حرفٌ واحد في إثبات خلافة بني أمية وإبطال خلافة بني العباس.(21)
(1) مناهل العرفان (1/264).
(2) سورة البقرة من الآية 259.
(3) وقد قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف بحذف الهاء في الوصل، ولا خلاف في إثباتها وقفًا لثبوتها في الخط. انظر النشر في القراءات العشر (2/142)، وإتحاف فضلاء البشر ص 163.
(4) سورة المائدة من الآية 48، ولم يقرأ أحدٌ من القراء (شريعة) بالياء، ولو شاذًّا!
(5) سورة يونس من الآية 22، وقد قرأها أبو جعفر وابن عامر } يَنْشُرُكُمْ { ، من النشر، قال ابن الجزري: وكذلك هي في مصاحف أهل الشام وغيرها، وقرأ بقية القراء: } يُسَيِّرُكُمْ { ، من التسيير، قال ابن الجزري: وكذلك هي في مصاحفهم، وكذلك روى أبو عمرو الداني في المقنع، في باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام. والذي يظهر -والله إأعلم- أنه لا فرق في الخط بين القراءتين، ففيها أربع أسنان، فتكون عند أبي جعفر وابن عامر واحدة للنون وثلاث للشين، وعند الباقين ثلاث للسين وواحدة للياء. انظر النشر في القراءات العشر (2/282) ، وإتحاف فضلاء البشر ص 248، والمقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار ص 108، وانظر تنبيه الخلان إلى شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 448.
(6) سورة يوسف من الآية 45، وفي مصحف أبي بن كعب ( أنا آتيكم بتأويله) ، وهي قراءة شاذة، وقد قرأ بها الحسن. انظر تفسير البحر المحيط (5/314)
(7) سورة المؤمنين من الآية 85، ومن الآية 87، ومن الآية 89. وقد اتفق القراء على قراءة الموضع الأول (لله) بغير ألف؛ لأن قبله } لمن الأرض ومن فيها { ، فجاء الجواب على لفظ السؤال، وقرأ أبو عمرو ويعقوب البصريان في الموضعين الأخيرين (الله) بالألف، وهكذا رسما في المصاحف البصرية، نص على ذلك الحافظ أبو عمرو، وقرأ باقي القراء (لله) بغير ألف، وكذا رسما في مصاحف الشام والعراق. انظر النشر في القراءات العشر (2/329). فأي تغيير ذلك الذي فعله للحجاج في هذه الآيات، وقد رسمتا على الوجهين كليهما؟
(8) سورة الشعراء من الآية 116.
(9) سورة الشعراء من الآية 167.
(10) سورة الزخرف من الآية 32، وقرأ ابن مسعود وابن عباس والأعمش (معايشهم)، وهي قراءة شاذة. انظر تفسير البحر المحيط (8/14).
(11) سورة محمد من الآية 15، وذكر فيها أبو حيان قراءة شاذة (ياسن) بالياء، ولم ينسبها لأحد. انظر تفسير البحر المحيط (8/79).
(12) سورة الحديد من الآية 7.
(13) سورة التكوير من الآية 24، وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير بالظاء المشالة، وقرأ الباقون بالضاد، ولا فرق بينهما في الرسم، إذ لا مخالفة بين الضاد والظاء إلا تطويل رأس الظاء على الضاد، وهي في جميع المصاحف العثمانية بالضاد، وفي مصحف ابن مسعود بالظاء. انظر النشر في القراءات العشر (2/398-399)، وإتحاف فضلاء البشر ص 434.
(14) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب ما كتب الحجاج بن يوسف في المصحف ص 59، وباب ما غيَّر الحجاج في مصحف عثمان ص 129.
(15) انظر لسان الميزان (3/279-280).
(16) وقد أخرج له البخاري في الصحيح. انظر تقريب التهذيب (2/89)، وهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 455.
(17) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 399.
(18) مناهل العرفان (1/273-274).
(19) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 396.
(20) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 51-52، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 397.
(21) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 399.
الباب الرابع
جمع القرآن والأحرف السبعة
الفصل الأول: الأحرف السبعة
الفصل الثاني: الأحرف السبعة في جمع القرآن
الفصل الأول
الأحرف السبعة
المبحث الأول: نزول القرآن على سبعة أحرف
نزول القرآن على سبعة أحرف من الموضوعات الشائكة، ولكن لا بد لنا في هذا البحث من طرق بعض مسائله، للحاجة إليها في مسألة من أهم مسائل هذا البحث، وهي هل جمع القرآن على الأحرف السبعة، أو على حرف واحد؟
فلا بد لنا من ترجيح كفة أحد الأقوال في المراد بالأحرف السبعة لنبني عليه الحكم في هذه المسألة الجليلة الخطر.
المبحث الأول: نزول القرآن على سبعة أحرف
أنزل الله القرآن على نبيه بلسان عربيٍّ مبين، قال : } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {،(1) وقال: } بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ {.(2)
وكان ابتداء نزول القرآن على لسان قريش، إذ كانوا قوم النَّبِيّ ، وقد قال تعالى: } وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ {،(3) وكانوا كذلك أوسط العرب دارًا ولسانًا، فقد كانت تأتيهم وفود العرب في مواسم الحج، وكانت تقام الأسواق للفصاحة والبيان حول الحرم،(4) وكانت العرب تتحاكم إلى قريش لفصاحتها وحسن لغاتِها ورقة ألسنتها، وكانوا إذا أتتهم الوفود تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتِهم وأصفى كلامهم، فصاروا بذلك أفصح العرب.(5)
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ.(6)
قال القاضي الباقلاني: ومعنى قول عثمان: إنه أنزل بلسان هذا الحي من قريش، أي: معظمه وأكثره نزل بلغتها.(7)
وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم.(8)
ولَمَّا كانت الأمة التي أرسل إليها النَّبِيّ أمِّيَّة، وفيهم من لا يقدر على غير لسان قومه، سأل النَّبِيّ جبريل، فأخبره أن القرآن نزل على سبعة أحرف، فكان ذلك تيسيرًا على المكلفين، ليسهل عليهم تلاوة القرآن، وحفظه، والعمل به.
فَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللهِ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلامُ وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.(9)
وقد جاء أن النَّبِيّ سأل الله التخفيف عن أمته في أوجه قراءة القرآن، فخفف الله عنهم بأمره أن يقرئ أمته على سبعة أحرف.
فَعَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ. قَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَؤُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا.(10)
وقد أقرأ النَّبِيّ أصحابه بتلك الأحرف المنزلة عليه، فكانوا يقرؤون بِها، حتى أنكر بعضهم على بعض وجوهًا من القراءة، فأخبرهم النَّبِيّ بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ يَا هِشَامُ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.(11)
وقد روى نزول القرآن عن سبعة نحو ثلاثين صحابيًّا، حتى ذهب أبو عبيد والحاكم والسيوطي إلى أنه من المتواتر.(12)
وقد نازع بعض العلماء في تواتر هذا الحديث رغم حصول عدد التواتر في طبقة الصحابة، بزعم أن هذا العدد لم يتوفر في الطبقات التالية، وهذا خلاف العادة، إذ إن العادة أن الرواة في الطبقات التالية يكونون أكثر، ويكفي نص من نص من العلماء على تواتره، إذ لا شكَّ أنَّهم تحققوا من حصول عدد التواتر في كل طبقة.
وبالجملة، فالحديث ثابت ثبوتًا لا شكَّ فيه، وهو دالٌّ على رحمة الله بِهذه الأمة، وتيسيره تعالى لَها تلاوة هذا القرآن، كما قال : } وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءانَ لِلذِّكْرِ {.(13)
(1) الآية 2 من سورة يوسف .
(2) الآية 195 من سورة الشعراء.
(3) من الآية 4 من سورة إبراهيم .
(4) أي في أماكن قريبة من مكة مثل مَجَنَّة وذي الْمَجاز وعُكاظ، انظر لسان العرب (جنن) (1/706)، و(جوز) (1/726)، و(عكظ) (4/3058).
(5) انظر الصاحبي في فقة اللغة لابن فارس ص 55.
(6) رواه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب باب نزل القرآن بلسان قريشٍ (6/621)ح 3506.
(7) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 385.
(8) فتح الباري (8/625).
(9) رواه الترمذي في سننه، كتاب القراءات، بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (5/194-195) ح 2944، وأحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/157) ح 20699.
(10) ورواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (6/101-103) ح 820، والنسائي في سننه، كتاب الافتتاح، باب جامع ما جاء في القرآن، واللفظ له (2/152-153) ح 939، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (2/76) ح 1478.
(11) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (8/638-639) ح 4992، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (6/98-100) ح 818، والنسائي في سننه، كتاب الافتتاح، باب جامع ما جاء في القرآن، واللفظ له (2/150-151) ح 937، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (2/75-76) ح 1475.
(12) انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص 173-174 ح 197، والإتقان في علوم القرآن (1/131).
(13) من مواضعه الآية 17 من سورة القمر.
المبحث الثاني: المراد بالأحرف السبعة
اختلف العلماء في المراد من الأحرف السبعة في الأحاديث المذكورة اختلافًا كبيرًا، حتى قال السيوطي: اختُلِفَ في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً.(1)
والناظر في تلك الأقوال يقطع بأن أكثرها متداخل، وكثيرٌ منها لا يُعلم قائله، ولا يُعلم له دليلٌ يؤيده عند النظر والتمحيص.
قال المرسي:(2) هذه الوجوه كلها متداخلةٌ، ولا أدري مستندها، ولا عمَّن نُقلت، ولا أدري لمَ خصَّ كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بِما ذكر؛ مع أنَّ كلها موجودة في القرآن، فلا أدري معنى التخصيص! وفيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة، وأكثرها يعارضه حديث عمرَ مع هشام بن حكيمٍ الذي في الصحيح، فإنَّهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه، إنَّما اختلفا في قراءة حروفه، وقد ظنَّ كثيرٌ من العوامِّ أن المراد بِها القراءات السبعة، وهو جهلٌ قبيح.(3)
والذي يستحق المناقشة من هذه الأقوال ستة أقوال:
القول الأول: أن الحديث من المشكل المتشابه الذي لا يُعلم معناه، لأن الحرف مشترك لفظي، يصدق على معانٍ كثيرة، كالكلمة والمعنى، وحرف الهجاء، والجهة، ولم يُعيَّن المراد منها في الحديث.
وهو قول أبي جعفر محمد بن سعدان النحوي.(4)
ويُرَدُّ هذا القول بأنه لا يلزم من مجرد الاشتراك اللفظي الإشكال الصارف عن إدراك معنى المقصود؛ لأن المشترك اللفظي يترجح أحد معانيه بقرينة لفظية أو حالية.
وقد قامت القرائن على تعيُّن أحد المعاني، ومنع ما عداه، فلا يصح إرادة الكلمة هنا، لأن القرآن مؤلف من كلمات كثيرة، وليس من سبع فقط، ولا يصح إرادة المعنى، لأن معاني القرآن كثيرة جدًّا تفوق الحصر، ولا يصح إرادة حرف الهجاء، لأن القرآن مشتمل على جميع حروف الهجاء، لا على سبعة منها فقط، فتعيَّن أن المراد بالحرف هنا هو الجهة، وبذلك يبطل القول بإشكال معنى الحديث.
كما يُرَدُّ بِما ثبت في نص الحديث من أن النَّبِيّ أُمِر أن يقرئ أمته بِهذه الأحرف، وأنه قد فعل، وأمر أمته أن تقرأ القرآن بِها، وقد فعلت، فقرأ الصحابة على هذه الأحرف، فهي معلومة لدى الكثير منهم، فلا يعقل أن يكون الحديث مع كل ذلك من المتشابه الذي لا يُدرى معناه.
ويُرَدُّ أيضًا بأن الحديث نص على أن الحكمة من إنزال الأحرف السبعة هو التيسير على الأمة، فكيف يتحقق التيسير بشيء مجهول؟!
القول الثاني: أن حقيقة العدد غير مرادةٍ، وذلك لأن لفظ السبعة يطلق في لسان العرب ويراد به الكثرة في الآحاد، كما يطلق لفظ السبعين ويراد به الكثرة في العشرات، ولفظ السبعمائة ويراد به الكثرة في المئات.
وهو مذهب القاضي عياض ونحى هذا المنحى القاسمي، والرافعي.(5)
ويردُّ هذا القول أن الأحاديث الواردة في هذا الأمر صريحة في إرادة حصر العدد في السبعة، ففيها استزادة الرَّسُول من جبريل الأحرف حرفًا حرفًا، وهذا قرينة على أن المرادَ العددُ الآحادُ الواقعُ بين الستة والثمانية.(6)
القول الثالث: أن المقصود سبعة أصناف من المعاني والأحكام، وهي: الحلال والحرام، والأمر والزجر، والمحكم والمتشابه، والأمثال.
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بِما روي عن ابن مسعود عن النَّبِيّ أنه قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحدٍ، وعلى حرفٍ واحدٍ، ونزل القرآن من سبعة أبوابٍ، وعلى سبعة أحرف: زاجرٌ وآمرٌ، وحلالٌ وحرامٌ، ومحكمٌ ومتشابهٌ، وأمثال، فأحلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمرتُم به، وانتهوا عمَّا نُهيتهم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بِمحكمه، وآمنوا بِمتشابِهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا.(7)
ويُناقش هذا القول بأن هذا الحديث قد انتقده العلماء، ولم يسلموا بصحته.
قال ابن عبد البر: وهو حديث عند أهل العلم لا يثبت، وهو مجمع على ضعفه.(8)
قال الحافظ ابن حجر: وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظرٌ؛ لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلاً، وقال: هذا مرسل جيدٌ.(9)
كما أن سياق الأحاديث يأبى حمل المراد بالأحرف السبعة على هذه الوجوه، بل هي ظاهرةٌ في أن المراد أن الكلمة الواحدة تُقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة، تَهوينًا وتيسيرًا.
كما أن الشيء الواحد لا يكون حلالاً وحرامًا في آن واحد.
قال الطبري: ومعلومٌ أن تَماريهم فيما تَماروا فيه من ذلك، لو كان تَماريًا واختلافًا فيما دلت عليه تلاوتُهم من التحليل والتحريم، والوعد والوعيد، وما أشبه ذلك لكان مستحيلاً أن يصوِّب جميعهم.(10)
ولذلك ذهب أبو علي الأهوازي وغيره إلى أن قوله: زاجرٌ وآمرٌ… استئناف كلام آخر، أي هو زاجرٌ، أي القرآن، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة.
ويؤيد ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث: زاجرًا وآمرًا… بالنصب، أي: نزل على هذه الصفة.
وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب، لا للأحرف، أي: هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله الله على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحدٍ، كغيره من الكتب.(11)
قال ابن حجر: ومِما يوضح أن قوله زاجرٌ وآمرٌ الخ ليس تفسيرًا للأحرف السبعة: ما وقع في مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنَّما هي في الأمر الذي يكون واحدًا لا يختلف في حلال ولا حرام.(12)
قال ابن عطية: هذا القول ضعيف؛ لأن هذه لا تسمى أحرفًا، وأيضًا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحريم حلالٍ، ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.(13)
القول الرابع: أن المراد سبع لغات من لغات العرب الفصحى أنزل بِها القرآن، فهي متفرقة فيه، لا على أن هذه اللغات تجتمع في الكلمة الواحدة.(14)
وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن يحيى ثعلب، وصححه البيهقي، واختاره ابن عطية، وحكاه بعضهم عن القاضي أبي بكر الباقلاني.(15)
ويكفي في ردِّ هذا القول ما سبق من اختلاف عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم في القراءة، وهما قرشيان، ولغتهما واحدة، فدلَّ على أن اختلافهما لم يكن في اللغات.(16)
كما أن قولهم إن هذه اللغات مفرقة في القرآن الكريم مردودٌ بأنه لو كانت الأحرف السبعة لغات في مواضع متفرقة من القرآن لَما حصل خلاف بين القراء في شيء من القرآن؛ لأن كل موضع سيكون مقروءًا بوجه واحد، ولَما حصلت المناكرة بين الصحابة عند سماع بعضهم قراءة بعضٍ.
ويرد هذا القول أيضًا أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنَّما كان تيسيرًا على المكلفين، بنص الحديث، فلو فرض أن القرآن مؤلف من عدة لغات، كل جزء من لغة، لَما أمكن أهل كل لغة أن يقرؤوا منه إلا جزءًا واحدًا، وهو النازل بلغتهم.(17)
القول الخامس: أن المراد سبع لغات، ولكن على أن تكون في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلمَّ، وتعالَ، وأقبلْ، وإليَّ، ونحوي، وقصدي، وقُرْبي.
وهو قول سفيان بن عيينة وابن جرير الطبري والطحاوي، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء.(18)
ويدل لِهذا القول حديث أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ مِيكَائِيلُ : اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، قَالَ: كُلٌّ شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَاعْجَلْ.(19)
قال السيوطي: إسناده جيد.(20)
ويجاب عن هذا القول بأن الأحاديث التي احتجوا بِها لا تدل على حصر الأحرف في نحو ما ذهبوا إليه، وإنما بيَّن الرَّسُول فيها الأحرف السبعة بِمثال يوضح نوعية هذه الأحرف، وأنَّها لا تؤدي إلى تناقض أو تضاد.
قال أبو عمر بن عبد البر: إنما أراد بِهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنَّها معانٍ متفقٌ مفهومها، مختلفٌ مسموعها، لا يكون في شيء منها معنىً وضده، ولا وجهٌ يخالفُ معنى وجهٍ خلافًا ينفيه ويضادُّه، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده.(21)
ويردُّ هذا القول أيضًا بأن الحكمة من تنْزيل القرآن على سبعة أحرف هي التيسير على المكلفين، لاختلاف ألسنتهم، ولم يكن أكثر اختلاف العرب في استعمال الألفاظ المترادفة، بل أكثر اختلافهم إنَّما كان في اللهجات، من فكٍّ وإدغامٍ، وفتح وإمالة، وهمزٍ وتخفيفٍ، ونحو ذلك، ولا شك أن المشقة عليهم في هذه الأبواب أعظم من المشقة في استعمال هلمَّ مكان تعالَ أو أقبلْ.
كما أنه على قول ابن جرير لا يُدرى كيف يتخرَّج وجود الأوجه المتعددة من القراءات في المصاحف العثمانية، وكلها مثبتة فيها، سواء برسم واحدٍ، أو برسمين.
القول السادس: أن المراد بالأحرف السبعة الأنواع التي يقع بِها التغاير والاختلاف في القراءات القرآنية، أو في لغات العرب، ولا يخرج عنها، نحو الاختلاف في إعراب الكلمة، أو تغير صورتِها بالزيادة أو النقصان، أو اختلاف لغات العرب من الفتح والإمالة والإظهار والإدغام، ونحو ذلك.
وهو قول أبي حاتم السجستاني وابن قتيبة وأبي الفضل الرازي، وابن الجزري.(22)
والقائلون بِهذا القول اختلفوا في تعيين الوجوه التي وقع بِها التغاير اختلافًا كبيرًا:
فذهب أبو حاتم السجستاني إلى أنَّها: إبدال لفظ بآخر، وإبدال حرف بآخر، والتقديم أو التأخير بين الألفاظ أو الحروف، وزيادة حرف أو نقصانه، واختلاف حركات البناء، واختلاف الإعراب، والاختلاف الصوتي بين التفخيم والإمالة والإظهار والإدغام.(23)
ويرى ابن قتيبة والباقلاني أنَّها: الاختلاف بالتقديم والتأخير، والاختلاف بالزيادة والنقصان، والاختلاف بتغيير صورة اللفظ و معناه، والاختلاف بتغيير لفظ الكلمة ومعناها دون صورتِها، والاختلاف في بناء الكلمة ولفظها بِما لا يغير كتابتها ولا معناها، والاختلاف بِما يغير الصورة واللفظ، ولا يغير المعنى، والاختلاف في حركات الإعراب والبناء.(24)
ويرى أبو الفضل الرازي أنَّها: الاختلاف بين الإفراد والتثنية والجمع، والاختلاف في تصريف الأفعال وما يسند إليها، والاختلاف في وجوه الإعراب، والاختلاف بالزيادة والنقص، والاختلاف بالتقديم والتأخير، والاختلاف بقلب وإبدال كلمة بأخرى أو حرف بآخر، واختلاف اللغات.(25)
وذهب ابن الجزري إلى أنَّها: الاختلاف في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة، والاختلاف في الحركات بتغيير المعنى فقط، والاختلاف في الحروف بتغيير المعنى لا الصورة، والاختلاف في الحروف بتغيير الصورة لا المعنى، والاختلاف في الحروف بتغيير الصورة والمعنى، والاختلاف في التقديم والتأخير، والاختلاف بالزيادة والنقصان.(26)
القول الراجح
إذا نظرنا في الأخبار الواردة في الأحرف السبعة، وتفحصنا ألفاظها، لم نجد فيها عبارة صريحة تبين المراد بالأحرف السبعة، والذي يظهر أن ذلك كان لوضوح المراد منها عند السلف الأول، بشكل لا يحتاج معه إلى تفسير، حتى تتحقق الحكمة من الرخصة، فليس من المعقول أن يرخص لهم في شيء مجهول.
ولَما كانت الحاجة في بداية الأمر إلى إزالة ما وقع في نفوس الصحابة من شبهة وقوع التناقض والاضطراب، أو التصرف في كتاب الله تعالى، لأنَّهم ألفوا أول الأمر قراءة القرآن على وجه واحد، ثم سمع بعضهم بعضًا يقرأ على أوجهٍ متغايرة، أزال النَّبِيّ هذه الخواطر بأن أخبرهم بالرخصة، وضرب لَهم مثالاً على أنواع الاختلاف بين هذه الأوجه، وأنه ليس من باب التناقض والتضاد، بل من باب التنوُّع وزيادة المعاني.
وعند تدبر أوجه القراءات المتواترة التي نقلت إلينا نجد أن اللفظ الواحد قد يُقْرأ بأوجهٍ متعددةٍ، والناس إلى يومنا هذا يتناكرون عند سماع هذه الوجوه إذا لم يكن لهم سابقُ علمٍ بِها .
فالذي يظهر والله أعلم أن المراد من الأحرف السبعة في الحديث الشريف أوجه متعددة متغايرة من وجوه القراءة، تكون في الكلمة القرآنية الواحدة، بحيث تُقرأ على وجهٍ واحد، أو أكثر من وجهٍ، إلى سبعة أوجه.(27)
ولا يلزم على هذا القول أن يكون في كل كلمة قرآنية أكثر من وجهٍ، بل توجد هذه الوجوه في بعض الكلمات دون بعض.
وقد ورد مثل ذلك في سورة الفرقان، وقد جمع الحافظ ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري كل ما ورد من الخلاف في هذه السورة من القراءات المتواترة والشاذة، فبلغت مواضع الخلاف فيها مائة وثلاثين موضعًا.(28)
ولا يشكل عليه أيضًا ورود أكثر من سبع قراءات في بعض الكلمات، مثل قوله تعالى: } وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ {،(29) فقد ذكر فيه أبو حيان اثنتين وعشرين قراءة،(30) فإن علماء المسلمين أجمعوا على اشتراط التواتر لثبوت قرآنية أي نصٍّ، وبدون التواتر لا تثبت قرآنيته، وهذا الموضع وغيره إذا عرض على هذا الشرط لم يبق فيه من القراءات المتواترة ما يزيد على السبعة.
ففي الموضع المذكور قراءتان متواترتان: فقرأ حمزة} وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ {، بضم الباء من (عبُد) وخفض (الطاغوت)، وقرأ الباقون} وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ {، بفتح الباء من (عبَد)، ونصب (الطاغوت).(31)
ومع اعتبار أن كثيرًا من أفراد الأحرف التي نزل بِها القرآن قد نسخ في العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، فلا إشكال في عدم وجود كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه، فإن أقصى ما ورد من الأوجه المتواترة في مواضع من القرآن هو ستة أوجه، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: } أَرْجِهْ {،(32) فيها ست قراءات متواترة، وهي:
1. } أَرْجِهِ {، دون همزة، وبكسر الهاء من غير إشباع، قرأ بذلك قالون وابن وردان.
2. } أَرْجِهِ {، كالوجه السابق، لكن مع إشباع كسرة الهاء بوصلها بياء، وقرأ بذلك ورش والكسائي وابن جمَّاز، وخلف في اختياره.
3. } أَرْجِئْهُ و{، بالهمز، مع ضم الهاء وإشباع ضمها بوصلها بواو، وبذلك قرأ ابن كثير وهشام.
4. } أَرْجِئْهُ {، بالهمز، مع ضم الْهاء من غير إشباع، وقرأ كذلك أبو عمرو ويعقوب.
5. } أَرْجِئْهِ {، بالهمز، مع كسر الهاء من غير إشباع، قرأ بذلك ابن ذكوان.
6. } أَرْجِهْ {، دون الهمز، مع سكون الهاء، وهي قراءة الباقين من القراء العشرة.(33)
(1) الإتقان في علوم القرآن (1/131).
(2) هو شرف الدين محمد بن عبد الله السلمي المرسي، عالم بالأدب والتفسير والحديث، ضرير من أهل مرسية بالأندلس، له ثلاثة تفاسير: الكبير والصغير والأوسط، وله مؤلفات في النحو، توفي سنة 565 هـ. انظر سير أعلام النبلاء (23/312)، والأعلام للزركلي (6/233).
(3) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/141)، قال أبو شامة: ظنَّ قومٌ أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل. انظر فتح الباري (8/646)، وقد تكلف الدكتور حسن ضياء الدين عتر الرد على هذا الوهم بِما فيه كفاية، وإن كان من الضعف بحيث لا يحتاج إلى ردٍّ. انظر الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 346-352.
(4) الإتقان في علوم القرآن (1/131)، والبرهان في علوم القرآن (1/213).
(5) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/131)، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل) (1/287)، وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 70-72.
(6) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/132).
(7) رواه الطبري في مقدمة تفسيره، باب القول في البيان عن معنى قول رَسُول اللهِ أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة (1/30).
(8) البرهان في علوم القرآن (1/216).
(9) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/645).
(10) تفسير الطبري، المقدمة (1/20-21).
(11) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/645)، وانظر تفسير الطبري، المقدمة (1/30-31).
(12) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/645)، وروى هذا البلاغ مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، صحيح مسلم مع شرح النووي (6/101) ح 819.
(13) انظر تفسير القرطبي، المقدمة (1/34-35).
(14) وقد اختلف القائلون بهذا القول في تعيين اللغات التي نزل بِها القرآن اختلافًا كبيرًا، وليس هو من مقصود هذا البحث، فليراجعه من شاء في: البرهان(1/219-220)، والإتقان (1/135-136).
(15) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/643)، والإتقان (1/135)، والبرهان في علوم القرآن (1/217)، والجامع لشعب الإيمان للبيهقي (5/221).
(16) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 119، وفتح بشرح صحيح البخاري (8/644).
(17) انظر الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها، للدكتور حسن ضياء الدين عتر، ص 172-173.
(18) الإتقان في علوم القرآن (1/134)، وتفسير الطبري، المقدمة (1/25)، وتأويل مشكل الآثار للطحاوي (4/185-488).
(19) رواه أحمد في مسنده، مسند البصريين (6/37) ح 19992.
(20) الإتقان في علوم القرآن (1/134).
(21) انظر البرهان في علوم القرآن (1/221).
(22) فتح الباري (8/644-645).
(23) مقدمة كتاب المباني ص 221-228، والأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 148-153.
(24) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 36-38، والإتقان في علوم القرآن (1/132).
(25) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/133).
(26) النشر في القراءات العشر (1/25-28)، والإتقان في علوم القرآن (1/133-134).
(27) هذا القول أشار إليه السيوطي في الإتقان (1/135) على طرفين هما القول الثالث والقول الرابع، وكذلك صدر بنحوه الحافظ ابن حجر شرحه لحديث الأحرف السبعة، انظر فتح الباري (8/639).
(28) راجع فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/648-653).
(29) سورة المائدة من الآية 60.
(30) تفسير البحر المحيط ( 3/529-531).
(31) انظر النشر في القراءات العشر (2/255).
(32) في موضعين: الآية 111 من سورة الأعراف، والآية 36 من سورة الشعراء.
(33) النشر في القراءات العشر (1/311-312).
الفصل الثاني
الأحرف السبعة في جمع القرآن
المبحث الأول: الأحرف السبعة في الجمع النَّبويّ وجمع أبي بكر للقرآن
مرَّ بنا أن النَّبِيّ أُمر أن يُقرئ أمته القرآن على سبعة أحرفٍ، فلا شك أنه قد قرأ على هذه الأحرف السبعة؛ ليتعلمها منه أصحابه، وينقلوها إلى الأمة من بعده.
وكان النَّبِيّ يعرض القرآن على جبريل ، في رمضان من كلِّ سنة، فيُثْبِت الله ما يشاء وينسخ ما يشاء، أو يأمر بالقراءة على حرف أو أكثر من الأحرف السبعة.(1)
قال ابن عبد البَرِّ: وقد يُشكل هذا القول على بعض الناس، فيقول: هل كان جبريل يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات؟ فيُقال له: إنَّما يلزم هذا إن قلنا إن السبعة الأحرف تجتمع في حرف واحد، ونحن قلنا كان جبريل يأتي في كل عرضةٍ بحرف، إلى أن تَمُرَّ سبعةٌ.(2)
وقد مرَّ بنا أنًّ النَّبِيّ عرض القرآن على جبريل في العام الذي توفي فيه مرتين، ولا شكَّ أنه قد نسخ بعض القرآن في تلك العرضة، كما نسخت بعض الأحرف السبعة التي نزل بِها القرآن.
ومن أمثلة ذلك حديث عائشة السابق في عدد الرضعات المحرمات.
فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ.(3)
ففيه أن النَّبِيّ توفي، وكانت هذه الآيات المنسوخات مما يتلى من القرآن، مِمَّا يدل على أنَّها نسخت في آخر حياة النَّبِيّ ، وأغلب الظنِّ أن ذلك إنَّما كان في العرضة الأخيرة.
فقد كانت العرضة الأخيرة مراجعة أخيرة للكتاب الحكيم، عرض فيها القرآن مرتين، فنسخ الله من ما شاء، وأثبت فيه ما كتب له البقاء.
وقد وردت الروايات بحدوث النسخ لبعض آيات الكتاب في العرضة الأخيرة.
فَعَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّ الْقِرَاءتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءةَ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: لا بَلْ هِيَ الآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ.(4)
وقال البغوي: يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي.(5)
وقال ابن الجزري: ولا شك أن القرآن نُسخ منه وغُيِّر في العرضة الأخيرة، فقد صحَّ بذلك النصُّ عن غير واحدٍ من الصحابة.(6)
وكل ما نسخ في العرضة الأخيرة من القرآن أو من أوجه القراءة لم يُثبَت في الجمعين النبوي والبكري.
ونستطيع أن نستخلص من العرض السابق الأمور الآتية:
1 – أن النسخ قد شمل بعض الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، ويدل على ذلك عدم ورود كلمة من الكلمات القرآنية تقرأ على أكثر من ستة أوجه من طريق متواتر.
وقد اعترض بعض على ذلك بأن موضوع النسخ لا يشمل الألفاظ.
قال ابن قدامة: وأحال قومٌ نسخ اللفظ، فإن اللفظ إنَّما نزل ليُتلى ويُثاب عليه، فكيف يُرفع؟
والمقصود من ذلك أن النسخ: هو رفع حكم شرعي بخطاب متراخ عنه، وليس في نسخ تلاوة اللفظ رفع حكم شرعي.(7)
ثم أجاب ابن قدامة عن ذلك فقال: فإن التلاوة، وكتابتها في القرآن، وانعقاد الصلاة بِها، من أحكامها، وكل حكمٍ فهو قابل للنسخ، وأما تعلقها بالمكلَّف في الإيجاب وغيره فهو حكم أيضًا يقبل النسخ.(8)
2 – أن الأحرف السبعة لم تنسخ كلها، لأن الأصل إباحة القراءة بِها، ولم يدل دليلٌ على نسخ تلك الإباحة في زمن النَّبِيّ .
3 – أنَّه لا يُعلم قدر ما نسخ من الأحرف السبعة في حياة النَّبِيّ ، إذ لا دليل عليه، ويرى بعض العلماء أن المنسوخ من تلك الأحرف أكثر مِما بقي، نظرًا لِما يرونه من الكثرة العظيمة في الروايات التي تعج بِها كتب التفسير من القراءات غير الثابتة، باعتبار أنَّها في أحسن أحوالها قراءات منسوخة.
وقد اتفق العلماء على أن جمع القرآن في زمن أبي بكر الصديق ، بقي على نفس الصورة التي تركها عليه النَّبِيّ ، ولم يتغير منه شيء، سواء في ذلك من رأى أن الأحرف السبعة باقية كلها، ومن قال إن الأحرف نسخت ولم يبق إلا واحدٌ، ومن ذهب إلى أن الباقي بعض الأحرف السبعة.(9)
(1) انظر الفصل الرابع من الباب الأول، وهو العرضة الأخيرة.
(2) انظر البرهان في علوم القرآن (1/220).
(3) رواه مسلم في صحيحه كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات (10/29-31) ح 1452.
(4) رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/7)، وكتاب المناقب (4/36).
(5) شرح السنة (4/525).
(6) النشر في القراءات العشر (1/32)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/142).
(7) انظر روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة (1/190).
(8) روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة (1/201-202).
(9) انظر: البرهان في علوم القرآن (1/223)، ومناهل العرفان (1/253-254).
المبحث الثاني: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية
اختلف العلماء في بقاء الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية -بناءً على اختلافهم في المراد بالأحرف السبعة- على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على حرف واحد فقط من الأحرف السبعة، وهو حرف قريش، وأن الأحرف الباقية إما نسخت في زمن النَّبِيّ ، أو اتفق الصحابة على تركها درءًا للفتنة التي كادت تفتك بالأمة عندما اختلف الناس في قراءة القرآن.
وإلى ذلك ذهب ابن جرير الطبري، وأبو جعفر الطحاوي، وابن حبان، والحارث المحاسبي، وأبو عمر بن عبد البر، وأبو عبيد الله بن أبي صفرة.(1)
وقال أبو شامة: وصرَّح أبو جعفر الطبري والأكثرون من بعده بأنه حرف منها.(2)
قال ابن عبد البر: فهذا معنى الأحرف السبعة المذكورة(3) في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث، منهم سفيان بن عيينة، وابن وهب، ومحمد بن جرير الطبري، والطحاوي وغيرهم، وفي مصحف عثمان الذي بأيدي الناس منها حرفٌ واحد.(4)
وقال أبو عبيد الله بن أبي صفرة: هذه القراءات السبع إنما شرعت من حرف واحد من السبعة المذكورة في الحديث، وهو الذي جمع عثمان عليه المصحف، وهذا ذكره النحاس وغيره.(5)
وهذا القول مبني على القول بأن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، وهو قول ابن جرير ومن وافقه.
فقد رأى القائلون بِهذا القول ندرة الكلمات القرآنية التي يصدق عليها ما رأوه في المراد بالأحرف السبعة، فقالوا إنَّها نسخت، أو اتفق الصحابة على منع القراءة بِها، وكتبوا المصاحف على حرف واحد، هو لسان قريش.
واحتج القائلون بِهذا القول بأدلة منها:
قول عثمان لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ.(6)
قالوا: وهذا يدل على أنَّهم جمعوا القرآن على حرف واحد، وهو لسان قريش، وتركوا ما سوى ذلك من الأحرف الستة.
أن الأحرف السبعة كانت في أول الأمر خاصة؛ للضرورة؛ لاختلاف لغة العرب ومشقة أخذ جميع الطوائف بلغة واحدة، فلما كثر الناس والكتاب، وارتفعت الضرورة ارتفع حكم هذه السبعة، ورجَّح ذلك قيامُ الخلاف بين القراء، بما كاد يؤدي إلى فتنة عظيمة، فأجمعت الأمة بقيادة إمامها الناصح الشفيق عثمان بن عفان على أن تقتصر على حرف واحد من الأحرف السبعة، جمعًا لكلمة المسلمين، فأخذت به، وأهملت كل ما عداه، فعاد ما يُقرأ به القرآن على حرفٍ واحدٍ.(7)
أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبةً على الأمة، وإنما كانت جائزةً لهم مرخصًا لهم فيها، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعًا شائعًا، وهم معصومون من الضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام.(8)
ثم اختلف القائلون بأن الباقي من الأحرف السبعة هو حرف واحد، هل نسخت الأحرف الستة في حياة النَّبِيّ ، أو أن الصحابة اتفقوا على تركها؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّها نسخت في حياة النَّبِيّ ، واستقر الأمر على حرف واحد، وذلك بعدما لانت ألسنة العرب بالقرآن، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة.
قال القرطبي: ثم اختلفوا: هل استقر في حياته أو بعد وفاته؟ والأكثرون على الأول.(9)
القول الثاني:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على جميع الأحرف السبعة، ولم تُهمل منها حرفًا واحدًا.
وهو ما ذهب إليه جماعات من القراءة والفقهاء والمتكلمين، وهو الذي اختاره القاضي الباقلاني وابن حزم والداودي وغيرهم.
قال القاضي الباقلاني: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رَسُول اللهِ ، وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والجماعة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وإنَّما حذفوا منها ما لم يثبت متواترًا، وأن هذه الأحرف تختلف معانيها تارة وألفاظها أخرى، وليست متضاربة ولا متنافية.(10)
وقال الداودي: وهذه القراءات السبع التي يقرأ الناس اليوم بِها ليس كل حرف منها هو أحد تلك السبعة، بل تكون مفرقة فيها.(11)
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أنه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة؛ لأنَّها قرآن منَزَّل.
أن الصحابة أجمعوا على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر، وقد كانت مشتملة على الأحرف السبعة، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.(12)
أن الأحرف السبعة كان مرخصًا فيها، ولا يجوز أن يُنهى عن القراءة ببعض المرخص فيه، إذ ليس بعضه بأولى من بعضٍ.(13)
أن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف كانت التيسير على الأمة في تلاوة القرآن، والتيسير ما زال محتاجًا إليه، إذ لم تكن قراءة القرآن على حرف واحد، في العصر الأول بين العرب الأقحاح -أصعب منها على من أتى بعدهم من المسلمين في العصور المتأخرة، وقد فشا فيهم اللحن والعجمة، فهم أحوج إلى التيسير من العرب الأُوَل.
القول الثالث:
أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، متضمنة لما ثبت في العرضة الأخيرة.
قال ابن الجزري: وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنَّ هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي على جبريل ، متضمنة لَها، لم تترك حرفًا منها.
قال: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة، والآثار المستفيضة تدلُّ عليه، وتشهد له.(14)
واحتج أصحاب هذا القول بِما احتج به أصحاب المذهب الثاني على بقاء بعض الأحرف السبعة، والحاجة إليها، واحتجوا على أن السبعة لم تبق كلها بِما ورد من الآثار التي تدل على حدوث النسخ في العرضة الأخيرة لبعض أوجه القراءة، فكتب الصحابة في المصاحف عند الجمع ما تيقنوا أنه قرآن ثابت في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.
قال السيوطي: ولا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة وغُيِّر، فاتفق الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.(15)
وقال البغوي في شرح السنة: يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبِها لرسول الله ، وقرأها عليه، وكان يُقرئ بِها الناس حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف.(16)
وقد وردت الآثار بأن القرآن قد نسخ منه وغُيِّر في العرضة الأخيرة، وأن قراءتنا التي جمعها الصحابة هي ما كان في تلك العرضة.
فَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أنه قال: القراءة التي عُرِضَت على رسول الله في العام الذي قبض فيه -هذا القراءة التي يقرأها الناس.(17) يعني بذلك قراءة زيد بن ثابت .
وعن سمرة قال: عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة.(18)
وعن ابن سيرين، قال: كان جبريل يعارض النبي كل سنة في شهر رمضان مرةً، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين، فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.(19)
(1) انظر البرهان في علوم القرآن (1/224،226،239،241)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/100).
(2) البرهان في علوم القرآن (1/223).
(3) يعني القول بأنَّها أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل، وهلم، وتعال… الخ.
(4) انظر البرهان في علوم القرآن (1/220).
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(6) رواه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب باب نزل القرآن بلسان قريشٍ (6/621)ح 3506.
(7) تأويل مشكل الآثار للطحاوي (4/190-191)، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(8) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/395-396).
(9) انظر البرهان في علوم القرآن (1/213).
(10) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100)، والبرهان في علوم القرآن (1/223-224)
(11) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(12) الإتقان في علوم القرآن (1/141-142).
(13) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/395-396).
(14) النشر في القراءات العشر (1/31)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/141-142).
(15) الإتقان في علوم القرآن (1/142).
(16) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526).
(17) رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/155-156).
(18) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. مستدرك الحاكم (2/230)، ورواه البزار في مسنده، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/154).
(19) أخرجه ابن أشتة، انظر الإتقان في علوم القرآن (1/142).
تابع المبحث الثاني: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية
القول الراجح
والقول الذي يظهر صوابه هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف من أن الباقي من الأحرف السبعة هو ما ثبت في العرضة الأخيرة، وأن الصحابة لم يختاروا بعض الأحرف الثابتة دون بعض، بل دونوا ونقلوا كل ما ثبتت قرآنيته، وتركوا ما سوى ذلك.
ولكن ينبغي التنبه إلى أن قولهم: إن المصاحف غير مشتملة إلاَّ على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي على جبريل، متضمنة لها، لم تترك حرفًا منها -فيه نوع تناقض، إذ قد يُفهم منه أن هناك شيئًا من الأحرف السبعة عرضه النَّبِيّ على جبريل في العرضة الأخيرة، ولم يكتبه الصحابة في المصاحف العثمانية.
فالأولى أن يقال جامعة للعرضة الأخيرة، ويلغى التقييد بِما يحتمله رسم المصاحف، إذ قد علمنا أن الصحابة قد كتبوا مصاحف متعددة، وفاوتوا بينها ليحتمل البعض منها من أوجه القراءة ما لا يحتمله البعض الآخر.
ويدل على صحة هذا القول مجموع الأدلة السابقة، فلا شكَّ أن الحكم ببقاء الأحرف السبعة أو عدم بقائها مبنيٌّ على المراد بالأحرف السبعة، ونحن إذا نظرنا إلى كافة الأقوال التي ذكرناها في المراد بالأحرف السبعة، بقطع النظر عن الراجح منها وجدنا في القرآن بعض تلك الأوجه بلا شكٍّ.
أمَّا على القول بأن الحديث مشكلٌ لا يُدرى معناه، فلا إشكال في بقاء الأحرف السبعة أو عدم بقائها، فليس لهذا القول -على ضعفه الشديد- أثرٌ على اعتبار الأحرف السبعة باقية أو غير باقية.
وأمَّا على القول الثاني القائل بأن حقيقة العدد غير مرادةٍ، بل المراد الكثرة، فلا إشكال أيضًا، إذ القراءات المتواترة التي نقلت إلينا فيها كثرةٌ ظاهرةٌ، لا يمكن معها الزعم بأن كل هذه الاختلافات هي حرفٌ واحد.
وأمَّا على القول الثالث القائل بأن المقصود سبعة أصناف من المعاني والأحكام، وهي: الحلال والحرام، والأمر والزجر، والْمحكم والمتشابه، والأمثال، فلا شكَّ أن القرآن المنقول إلينا فيه كل ذلك، وهو أمر ظاهر جلي.
على أن كل الأوجه السابقة في غاية الضعف.
وأمَّا على القول الرابع القائل بأن المراد سبع لغات من لغات العرب الفصحى متفرقة في القرآن لا تجتمع في الكلمة الواحدة، فذلك أيضًا كثيرٌ في القرآن، فقد ورد فيه من غير لسان قريش شيء كثير، وقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، ونقل السيوطي من ذلك الكثير في باب أفرده فيما وقع بغير لغة الحجاز، وذكر فيه ما وقع في القرآن على نحو ثلاثين لغة من لغات العرب.(1)
وقد سبق الرد على هذا القول وبيان ضعفه.
وأمَّا على القول الخامس القائل بأن المراد سبع لغات تكون في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، فهو الذي دعا أصحاب القول الأول إلى زعم أن الأحرف الستة غير باقية في القرآن، وعلى فرض التسليم بأن قولهم هو الصواب في المراد بالأحرف السبعة في الحديث، فإنه ما زال في القرآن كلمات تقرأ باختلاف في اللفظ، مع اتفاق المعنى، ومن أمثلة ذلك من القراءات المتواترة:
قوله -جلَّ ذِكْرُهُ: } قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ {،(2) فقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة، والباقون بالباء، واللفظان متوافقان في المعنى.(3)
قوله تعالى: } إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا {،(4) وقوله: } إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا {،(5) فقد قرأها الجمهور هكذا من التبيُّن، وقرأ حمزة والكسائي وخلف في اختياره: } فَتثَبَّتُوا { من التثبت، والتبين والتثبت متفقان في المعنى.(6)
قوله : } وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ {،(7) فقد قرأ عاصمٌ هكذا من البشر، جمع بشير، وقرأ الباقون من النشر، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في اختياره: } نَشْرًا { على أنه حال، أي: ناشرةً، أو منشورةً، أو ذات نَشْرٍ، وقرأ أبو جعفرٍ ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: } نُشُرًا {، بضم النون والشين جمع ناشر، وقرأ عبد الله بن عامر: } نُشْرًا { بضم النون وسكون الشين، كالسابق مع التخفيف بتسكين الشين، والبشر والنشر متوافقان في المعنى.(8)
وأمَّا على القول السادس بأن المراد بالأحرف السبعة الأنواع التي يقع بِها التغاير والاختلاف في القراءات القرآنية، أو في لغات العرب، فالموجود منها في القراءات المتواترة يفوق الحصر، وهو كل ما اختلف فيه القراء، من فتح وإمالة، وإثبات وحذف، واختلاف حركات الإعراب، والزيادة والنقصان.(9)
ومن أظهر الأدلة على أن الصحابة عندما نسخوا المصاحف في زمن عثمان كتبوا كل ما ثبت عرضه في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة -اختلافُ المصاحف العثمانية وتفاوتُها، كما مرَّ بنا،(10) إذ لو كانت مكتوبة بلغة واحدة، على حرف واحد لَما كان بينها اختلافٌ.
وأمَّا القول الأول القائل بأن الأحرف السبعة قد ذهبت ولم يبق إلا حرفٌ واحدٌ، فيجاب عن أدلته بِما يأتي:
أما استدلالهم بقول عثمان : فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. فقد سبق بيان أن ما نقل إلينا متواترًا من القرآن فيه الكثير من غير لغة قريش، وسبق أيضًا بيان أن مراد عثمان من ذلك أن أكثر القرآن ومعظمه نزل بلسانِهم، أو أن ابتداء نزوله كان كذلك، وعليه فلا إشكال في هذا الأثر على القول بأن بعض الأحرف باقٍ، إذ ليس فيه أن عثمان أمر بإلغاء تلك الأحرف.(11)
قال الباقلاني: ومعنى قول عثمان: إنه أنزل بلسان هذا الحي من قريش، أي: معظمه وأكثره نزل بلغتها، ولم تقم حجة قاطعة على أن القرآن بأسْرِه نزل بلغة قريش… ويجزئ من الدليل قوله تعالى: } إنا جعلناه قرآنًا عربيًّا{،(12) ولم يقل قرشيًّا…(13)
كما أن قول عثمان : إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ… يدل على أنه لم يأمر بإلغاء الأحرف السبعة، فاللفظ صريحٌ في أنه أمر بإثبات لغة قريش عند الاختلاف فقط، أما عند الاتفاق فليكتبوا بأي لغة صحَّ أن النَّبِيّ قرأ بِها في العرضة الأخيرة، ولم ينقل إلينا أنَّهم اختلفوا في شيء إلا في لفظ (التابوت) كما مرَّ.(14)
وأما احتجاجهم بأن الأحرف السبعة كانت في أول الأمر ضرورة لاختلاف لغات العرب، ومشقة أخذ جميعهم بلغة واحدة، فقد سبق الكلام على أن المشقة ما زالت باقية، فما زال في الأمَّةِ: (الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلامُ وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ)، بل لعلها الآن أشد مِمَّا كانت عليه فيما مضى.
وأما قولهم إن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة، فنحن نوافق على ذلك، ولكن نخالف في أن القراءة غير الحفظ، فإنه وإن لم يكن واجبًا على الأمة أن تقرأ بالأحرف السبعة جميعها، فإنه لا شكَّ أن حفظ هذه الأحرف التي هي بعض القرآن من الضياع واجبٌ على الأمة.
ويدل على بقاء الأحرف التي ثبتت في العرضة الأخيرة أيضًا أنه قد ثبت أن كُتَّاب المصاحف في زمن عثمان إنما انتسخوا ما كتبه الصديق في الصحف في مصاحف وأرسلوها إلى الأمصار، وقد علمنا أن جمع أبي بكر للقرآن لم يلغ شيئًا مِمَّا ثبت في العرضة الأخيرة باتفاق، فثبت بذلك أن جمع عثمان لم ينقص شيئًا مِمَّا جمع في زمن أبي بكر .
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: … فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ ابْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ.(15)
ويردُّ دعوى أن عثمان إذ نسخ المصاحف ألغى الأحرف الستة واقتصر على حرف واحد -أنه لم يرد في خبر صحيح، ولا ضعيف أنه أمر كُتَّاب المصاحف أن يقتصروا في كتابتها على حرف واحد، ويلغوا الستة الباقية.(16)
ويردُّ هذه الدعوى أيضًا أنه لو صحَّ أن عثمان جمع الناس على حرف واحد، وألغى الستة الباقية، وأجمع معه على ذلك الصحابة لكان ذلك كافيًا في القطع بالْمراد بالأحرف الستة، ولَمَا اختلف العلماء بعد ذلك في المراد منها كل هذا الاختلاف، ولَمَا حصل خلاف بعد الإجماع الأول في بقاء الأحرف السبعة من عدمه، إذ الإجماع حجة عند المسلمين، ولا يسوغ بعده خلافٌ.(17)
ومِمًّا يرد به هذا القول أيضًا أنه يحمل طعنًا في الصحابة ، واتِّهامًا لهم بالتصرف برأيهم في كتاب الله تعالى، ولا يكاد يصدق مؤمنٌ يعلم قدر الخليفة الراشد عثمان بن عفان أنَّه قرر برأيه إلغاء الأحرف الستة والإبقاء على حرف واحد، ولا يكاد يتصور أيضًا أن الصحابة وهم كثرة كاثرةٌ في ذلك الوقت يقرونه على ذلك الفعل.
والخلاف الذي زعموا أنه استدعى إلغاء تلك الأحرف كان قد حصل مثله في زمن النَّبِيّ ، كما جاء في الروايات التي أوردناها قريبًا في أول هذا الباب، فلم يؤدِّ إلى إلغاء الأحرف المنَزلة، بل أرشدهم النَّبِيّ إلى أن القرآن أنزل على جميع تلك الأوجه، وأقر كل واحد من المختلفين على قراءته.(18)
ويدل أيضًا على عدم صحة هذه الدعوى أن عثمان لو أراد أن يجمع مصاحف الناس جميعًا لَما استطاع، ولو استطاع لَمَا قدر على أن يسلبهم ما يحفظون من الكتاب، إذ قد كانت دولة الإسلام في ذلك الوقت متسعة إلى حدِّ يستحيل معه مثل هذا، فجمعه كان أن كتب للناس مصاحف أئمة يُرجع إليها عند الاختلاف.
قال ابن حزم: كل هذا(19) باطلٌ ببرهان كالشمس، وهو أن عثمان لم يلِ إلاَّ وجزيرة العرب كلها مَملوءة بالمسلمين والمصاحف والمساجد، والقراء يعلمون الصبيان والنساء، وكل من هبَّ ودبَّ، واليمن كلها في أيامه مدن وقرى، والبحرين كذلك، وعُمان كذلك، وهي بلاد واسعة، مدن وقرى وملكها عظيم، ومكة والطائف، والمدينة والشام كلها كذلك، في كل هذه البلاد من المصاحف والقراء ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى وحده، فلو رام عثمان ما ذكروا ما قدروا على ذلك أصلاً.
وأما قولهم: إنه جمع الناس على مصحف، فباطلٌ، ما كان يقدر على ذلك لِمَا ذكرنا، ولا ذهب عثمان قطُّ إلى جمع الناس على مصحف كتبه، إنما خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل -رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.
وأما قول من قال أبطل الأحرف الستة، فقد كذب من قال ذلك، ولو فعل عثمان ذلك وأراده لخرج عن الإسلام، ولَمَا مطل ساعة، بل الأحرف السبعة عندنا موجودة كلها قائمة كما كانت، مبثوثة في القراءات المشهورة المأثورة، والحمد لله رب العالمين.(20)
وأما القول الثاني القائل بأن جميع الأحرف السبعة باقية فيُرَدُّ بِما مرَّ من ثبوت وقوع النسخ لبعض وجوه القراءة في العرضة الأخيرة، وكذلك بأنه لا يوجد في القرآن ما يقرأ على سبعة أوجه بالنظر إلى الخلاف في المراد بالأحرف السبعة على أغلب الأقوال، إلا باعتبار وجوه القراءة الشاذَّة، ولا يخفى أنَّ الشاذَّ لا يثبت له الحكم بالقرآنية حتى تبنى عليه مثل هذه المسألة.
والخلاصة أننا إذا نظرنا إلى حقيقة الخلاف بين الفريقين الثاني والثالث وجدناه خلافًا شكليًّا، إذ كلاهما متفقٌ على أن الصحابة لم يزيدوا ولم ينقصوا مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة شيئًا، وإنما اختلفوا هل الأحرف كلها بقيت في العرضة الأخيرة أم لا، ولا يخفى أن النسخ قد ورد على كثير من تلك الأحرف كما مرّ بنا، فخلافهم إذن هو في حصول ذلك النسخ أو عدم حصوله.
وأما الفريق الأول القائل بأن الباقي حرف واحد، فأكثرهم يرى أن ذلك لثبوت النسخ وعدم العرض في العرضة الأخيرة، وهو ما يوافق القولين الثاني والثالث، وإذًا يصبح الخلاف شكليًّا أيضًا، باعتبار أن البعض يرى أن اختلاف القراء هو الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، والبعض يرى أن هذا الاختلاف هو حرف واحد، مع اتفاق الجميع على أن الصحابة لم ينقصوا مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة شيئًا.
وأما الذين يرون أن الصحابة اتفقوا على أن تركوا ستة أحرف، وجمعوا الناس على حرف واحد بتصرف منهم واتفاق، بعد أن ترك النَّبِيّ الأحرف السبعة وقرأ الناس بِها زمن أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، فهؤلاء هم الذين اختلفنا معهم، وناقشنا أدلتهم ورددنا عليها.
(1) انظر الإتقان في علوم القرآن (1/89-104)، والبرهان في علوم القرآن (1/283-286).
(2) من الآية 219 من سورة البقرة.
(3) انظر إتحاف فضلاء البشر ص 157، والنشر في القراءات العشر (2/227).
(4) من الآية 94 من سورة النساء.
(5) من الآية 6 من سورة الحجرات.
(6) النشر في القراءات العشر (2/251).
(7) من الآية 57 من سورة الأعراف.
(8) انظر النشر في القراءات العشر (2/269-270)، وإتحاف فضلاء البشر ص 226.
(9) انظر: والنشر في القراءات العشر (1/25-28)، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 36-38، والإتقان في علوم القرآن (1/132-134).
(10) انظر المبحث الأول من الفصل الثالث من باب جمع القرآن في زمن عثمان .
(11) انظر البرهان في علوم القرآن (1/284)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 385، وفتح الباري (8/625).
(12) من الآية 3 من سورة الزخرف.
(13) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 385.
(14) انظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 26، وفتح الباري (8/635). وتأويل مشكل الآثار للطحاوي (4/193)، وقد مرّ الحديث عن ذلك في الفصل الثالث من الباب الثالث.
(15) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(16) لا يخفى أن الحديث الذي هو عمدة القائلين بذلك القول في أمر عثمان الكتاب بأن يرجعوا إلى لغة قريش عند الاختلاف لا يدل على الأمر بإلغاء الأحرف الستة، إذ قصارى ما فيه -كما أسلفنا- الاقتصار على لغة قريش عند الاختلاف فقط.
(17) انظر مناهل العرفان (1/178).
(18) انظر مناهل العرفان (1/177).
(19) يعني دعوى أن عثمان جمع الناس على حرف واحد وترك الأحرف الستة.
(20) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212-213).
الباب الخامس
الجمع الصوتي للقرآن الكريم
الفصل الأول: مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
الفصل الثاني: مشروع كلية القرآن بالمدينة النبوية لجمع القرآن بالقراءات العشر
الفصل الأول
مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
المبحث الأول: فكرة الجمع الصوتي للقرآن الكريم
تمهيـــــد
فكرة الجمع الصوتي
القرآن الْمرتل، أو المصحف المرتل
المبحث الأول: فكرة الجمع الصوتي للقرآن الكريم
تمهيد
شهد القرن الأخير من الزمان تطوُّرًا علميًّا هائلاً، وكان من ذلك اختراع آلة التسجيل الصوتي (الفونوغراف phonograph) على يد المخترع الأمريكي توماس إديسون Thomas Edisonـ (847-1931م) في عام 1887م.(1)
واستفاد المسلمون من آلات التسجيل الصوتي منذ وصولها إلى بلاد المسلمين، فسُجِّلت بعض الخطب والكلمات للعلماء، وبعض التلاوات القرآنية لمشاهير القراء، ولعل أقدم ما وصل إلينا من التسجيلات القرآنية -تسجيلات القارئ الشيخ محمد رفعت.(2)
على أن التسجيلات في ذلك الوقت لم تعدُ ما كان يقرؤه القراء من أجزاء السور أو قصارها في الحفلات والمناسبات.
كان يدور بخلد صاحب هذا المشروع قبل سنين من تقديم مشروعه -وجوب الاستفادة مِمَّا وصل إليه العلم من تسجيل الأصوات في جمع القرآن جمعًا صوتيًّا، إذ لمح أن العلماء من كل فنٍّ أتيح لهم البقاء، ومواصلة العطاء ولو بعد الموت، بِما يدونونه من كتبهم، أما القراء، فتراثهم الصوتي يفنى بفنائهم.
لا يشكُّ أحدٌ أن علم القراء ينتقل إلى تلاميذهم، فيحوزون بذلك الثواب العظيم من الله تعالى، ولكن لا شكَّ أنَّ إتقان الأداء الصوتي والتميز فيه لا ينتقل دائمًا إلى التلاميذ، والكثير من القراء الحاذقين يخلفهم من لا يعدلهم أستاذية وحذقًا.
فكرة الجمع الصوتي
في شهر شعبان من سنة 1378هـ،(3) تقدم الدكتور لبيب السعيد(4) إلى الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم باقتراح بشأن تسجيل القرآن الكريم صوتيًّا بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة.
وجاء في نص الاقتراح:
بسم الله الرحمن الرحيم
اقتراحٌ مقدَّمٌ إلى مجلس إدارة الجمعية من رئيسها
لبيب السعيد
بشأن تسجيل القرآن الكريم صوتيًّا بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة
يُمكن الآن أن يتجاوز المسلمون التسجيل الكتابي للقرآن الكريم إلى تسجيله صوتيًّا، فيصبح لديهم التسجيلان كلاهما. وقديمًا تطور تسجيل الكتاب العزيز من الكتابة على العظام واللخاف وعسيب النخل، إلى تسطيره على الجلد والقماش، ثم الأوراق بأنواعها.
وكما تطورت طريقة كتابة المصحف بأن أضيف إليه النقط والشكل والضوابط والمحسنات الخطية، تطورت أيضًا طريقة التسجيل من الكتابة باليد إلى الطباعة.
على أن أهم وسيلة لنقل القرآن الكريم عبر الدهور، كانت وما زالت: روايته وتلقينه مباشرة وشفاهًا، فمًا لفمٍ، وهذا هو المعتمد عند علماء القراءة، لأنَّ في القراءة ما لا يمكن إحكامه إلا عن طريق السماع والمشافهة.
ومتابعة للتطور، وتأكيدًا لطريقة النقل الشفوي، وتطويرًا لَها، يمكن الآن الاتجاه إلى تسجيل القرآن الكريم تسجيلاً صوتيًّا، ولعل هذا الأسلوب أن يكون هو أصلح أساليب العصر، وأكثرها تيسيرًا على المسلمين في تلقِّي الكتاب العزيز، مجوَّدًا ومتلوًّا بمختلف القراءات.
ومعلوم أن لدى دور الإذاعة تسجيلاتٌ من آي الذكر الحكيم من ترتيل بعض القارئين، ولكن التسجيلات التي نريدها من طراز آخر، فالتطريب ليس من أغراضها، وإنما التعليم هو غرضها الأول، ومفهوم أن الفرد العاديَّ لا يستطيع، ولا يجب عليه في حياته العملية، أن يقرأ القرآن بالطريقة التلحينية التي يذيعه بِها الآن القراء في دور الإذاعة، وفي المحافل.
والملاحظ الآن أن كثيرًا من المسلمين لا يُحسنون -مع الأسف- أداء الكتاب العظيم، حسب أصول التجويد، مع أنهم بالضرورة يؤمنون بِهذا الكتاب، ويحبونه، ويستهدونه. والملاحظ أيضًا أن أغلب حفاظ القرآن الكريم لا يعرفون غير رواية حفص، وهذا وذاك أمران بالغا الخطورة، ويتعين على الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم، وهي التي تعمل ليظل ميراث القرآن محفوظًا أحسن حفظ على مدى الزمن، أن تطَبَّ(5) لهذه الحال عاجلاً. وربَّما كان مشروع تسجيل القرآن صوتيًّا من كبار علماء القرآن هو السبيل العملية السهلة إلى العلاج المنشود.
ولست هنا بصدد التنويه بفضل القرآن الكريم على العالمين، ولا الإشارة إلى ما يرجى من وراء تعلمه واتباعه وتلاوته حق التلاوة، من خيرٍ يعمُّ البشرية، ويهيئ للمسلمين والعرب الإمامة في الأرض، فهذا كله أوضح من أن يوضح، ولكن الذي أشير إليه هو أن المسلمين -في مختلف البقاع- يتلهفون على وسيلة ميسورة يتعلمون عن طريقها كتابهم الأقدس، ويتلونه على نسقها تلاوة صحيحة يقوى عليها الفرد العادي.
ولا ريب أن الحاجة إلى هذه الوسيلة -بالنسبة للدول الإسلامية غير العربية- أمَسُّ، وأن انتشار القرآن بفضل هذه الوسيلة سيكون أوسع، وطلابه سيكونون أكثر، وأن المصحف المسموع سيكون سببًا خطيرًا لزيادة توثق العلاقات بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربِها…
وفيما يختص بالتسجيل نفسه، أقترح أن يشمل تلاوة الكتاب العزيز كله بقراءة حفص، ثم بمختلف القراءات المتواترة والمشهورة وغير الشاذة، وعلى أن لا تُرَدَّد الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة، كما يشمل التسجيل دروسًا عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة ميسرة، تمكن الجمهور العادي من الانتفاع بِها.
أما فيما يختص بِمن يتولون القراءة والتدريس العملي، فيجب أن يكونوا من أعلم علماء القرآن، مع مناسبة أصواتِهم للتسجيل، وأن تختارهم لجانٌ لَها خبرتُها القرآنية العظمى، ويشارك فيها الأزهر الشريف، والهيئات العلمية واللغوية والثقافية الأخرى.
وأقترح تشكيل لجنة من أعضاء الجمعية تضم إليها من تشاء مِمَّن يُرجى نفعه لأعمالها، وتضع اللجنة منهاجًا كاملاً مفصلاً لتنفيذ المشروع، سواء من الناحية القرآنية، أو ناحية التسجيل الفني، أو من الناحيتين التمويلية والإدارية، كما تحدد المعاونات الممكن الحصول عليها من الجهات الحكومية والشعبية المختلفة، وكذلك تتولى اللجنة ترشيح أعضاء اللجان التي يعهد إليها باختيار علماء القرآن الكريم ممن سيناط بِهم التسجيل.(6)
القرآن الْمرتل، أو المصحف الْمرتل
لفظ (المصحف) اسم مجموعة صحائف القرآن، مرتبة الآيات والسور، وقد شاع استعمال لفظ “المصحف” كعلم على ما جمعت فيه صحف القرآن الكريم.
قال الفيروزأبادي: والمُصْحَفُ، مُثَلَّثَةَ الميم، من أُصْحِفَ، بالضمِّ: أي: جُعِلَتْ فيه الصُّحُفُ.(7)
وقد وردت بعض الأحاديث النبوية التي سمِّي فيها ما جمع فيه القرآن مصحفًا:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ.(8)
وعنه أيضًا مرفوعًا: الغرباء في الدنيا أربعة قرآن في جوف ظالم ومسجد في نادي قوم لا يصلي فيه ومصحف في بيت لا يقرأ فيه ورجل صالح مع قوم سوء.(9)
وعن ابن عمرَ أنَّ رَسُول اللهِ نَهى أن يُسافَر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدوُّ.(10)
كما ورد أن الصحابة -بعد جمع القرآن- اصطلحوا على تسمية ما جمعوه فيه مصحفًا.
عن ابن شهاب، قال: لَمَّا جمعوا القرآن، فكتبوه في الورق، قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا، فقال بعضهم: السِّفْر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكرٍ أول من جمع كتاب الله وسمَّاه المصحف.(11)
وقال المظفري في تاريخه: لَمَّا جمع أبو بكر القرآن، قال: سمُّوه، فقال بعضهم: سمُّوه إنجيلاً، فكرهوه، وقال بعضهم: سمُّوه السِّفْر، فكرهوه من يهود، فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتابًا يدعونه المصحف، فسمَّوْه به.(12)
والقرآن كلام الله المعجز، المنَزَّل على نبيِّه محمدٍ ، بواسطة جبريل ، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا بالتواتر، المتحدى بأقصر سورة منه، المتعبَّد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس.(13)
ويصح إطلاق لفظ (القرآن) على المقروء، كما يصح إطلاقه على المكتوب في المصاحف، ويصح إطلاقه على البعض، كما يصح إطلاقه على الكل، فهو مشترك لفظي.(14)
وقد دعا البعض إلى إطلاق اسم “القرآن الْمرتل” على مجموعة أسطوانات القرآن، بدلاً من اسم ” المصحف الْمرتل” ، ولكن صاحب فكرة الجمع الصوتي آثر استعمال نفس الاسم الذي استُعمل لصحف القرآن، لوروده في الأحاديث النبوية، أو لاختيار المسلمين ذلك الاسم على عهد الخليفة الأول .ـ(15)
وقد لاحظ في ذلك أن إطلاق الصحابة اسم (المصحف) على ما جُمع فيه صحف القرآن، كان تفريقًا بين الصحف -وهي ما يُكتَب فيه، وبين المكتوب فيها -وهو القرآن الذي هو كلام الله تعالى، كما كان هذا الإطلاق تنْزيهًا للفظ (القرآن) من الامتهان، بأن يقال مثلاً: قرآن ابن مسعودٍ أو قرآن أبيٍّ، بدل مصحف ابن مسعود، أو مصحف أبيٍّ، أو أن يقال: وجد خطأٌ في قرآن فلانٍ، يريد مصحفه، أو نحو ذلك.(16)
فيكون اختيار اسم “المصحف” لِمجموعة الأسطوانات أو الأشرطة التي سُجِّل فيها القرآن الكريم مقروءًا -تشبيهًا لَها بالصحف التي كُتِب فيها القرآن.
وهذا تجوُّزٌ يسير مقبول، فإن اسم “المصحف” أصبح في الاستعمال مقتصرًا على ما جُمِع فيه القرآن، فلا مانع من إطلاقه على ما سُجِّل فيه القرآن متلوًّا، ويكون الجامع بين المصحف المكتوب والمصحف المقروء أن كلاًّ منهما قد جُمِع فيه كلام الله تعالى.
أمَّا استعمال لفظ (الْمرتل) في اسم ذلك المجموع في الأسطوانات، فهو مأخوذ من الترتيل.
والتَّرْتيلُ: التَّرْسيلُ في القِراءةِ، والتبيين بغير بغي، وهو مأخوذ من الرَّتَلُ، محرَّكةً: وهو حُسْنُ تَناسُقِ الشيءِ، والحَسَنُ من الكلامِ، والطَّيِّبُ من كلِّ شيءٍ، يُقال: رَتَّلَ الكلامَ تَرْتِيلاً: أحْسَنَ تأليفهُ.(17)
والترتيل في اصطلاح القراء: القراءة بتؤدة واطمئنان، وإخراج كل حرف من مخرجه، مع تدبر المعاني، ومراعاة الوقوف.(18)
قال الجرجاني: وقيل: هو خفض الصوت، والتحزين بالقراءة.(19)
والترتيل هو أفضل مراتب القراءة، إذ هو صفة قراءة النَّبِيّ ، كما نعتت أم سلمة قراءته بأنَّها مفسَّرة حرفًا حرفًا،(20) وقالت عائشة -رضي الله عنها: وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا.(21)
ومعظم السلف على تفضيل القراءة بالترتيل؛ لأنه يساعد على التدبُّر، فالمقصود من القرآن فهمُه والتفقه فيه، والعمل به، ولأن القراءة بالترتيل أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد أثرًا في نفس القارئ والسامع.(22)
قال الغزالي: واعلم أن الترتيل مستحبٌّ، لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يُسْتَحبُّ له أيضًا في القراءة الترتيل والتؤدة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال.(23)
واختيار وصف ذلك المصحف الصوتي بـ (الْمرتل)، لأن صاحب الفكرة أراد أن تكون تسجيلات ذلك المصحف على طريقة الترتيل كما اصطلح عليها القراء، مع الاعتماد على دقة الأداء، وعمق المعرفة بتطبيق أحكام التجويد، والتزام طرق القراءات.(24)
(1) موسوعة مايكروسوفت إنكارتا Microsoft Encarta 98 Encyclopedia. © 1993-1997 Microsoft Corporation، مادة “Phonograph”.
(2) هو القارئ الشيخ محمد بن محمود رفعت، أشهر القراء في العصر الأخير، وأعلم قراء مصر بمواضع الوقف من الآيات، امتاز ببراعة في الترتيل، وإتقانٍ للتجويد، في صوتٍ عذب ينفذ إلى القلوب، وتطمئن إليه النفوس، ولد بالقاهرة سنة 1300هـ، 1882م، وكُفَّ بصره وهو في السادسة، وتوفي بالقاهرة سنة 1369هـ، 1950م. الأعلام لخير الدين الزركلي (7/91).
(3) الموافق أواخر (شباط) فبراير، أو أوائل (آذار) مارس 1959م.
(4) كان الدكتور لبيب السعيد من المهتمين بالقرآن الكريم، عمل مراقبًا بوزارة الاقتصاد المصرية، ومدرسًا للأدب العربي بكلية الآداب، بجامعة عين شمس، وكان رئيس الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم. من مواضع متفرقة من كتابه: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم.
(5) الطَّبِّ: الـحِذْق بالأَشياءِ والمهارةُ بِها، وطب للشيء: ترفق لإصلاحه. انظر لسان العرب (طبب) (4/2631).
(6) الجمع الصوتي للقرآن الكريم 102-105.
(7) القاموس المحيط (صحف) ص 1068.
(8) رواه ابن ماجة في سننه كتاب المقدمة باب ثواب معلم الناس الخير ح 242 (1/88-89).
(9) رواه الديلمي في مسنده، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير (4/409)ح 5791.
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب السفر بالمصاحف إلى أرض الكفر. ص 206.
(11) أخرجه ابن أشتة في كتاب المصاحف. انظر الإتقان في علوم القرآن (1/149).
(12) الإتقان في علوم القرآن (1/149). وقد ذكر بعض الباحثين أن للكلمة أصلاً في الحبشية، وأن ليس في اللغة العربية فعلٌ ثلاثي يمكن أن تشتق منه كلمة المصحف. انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 84 بالحاشية. ولا شك أن في هذا بعدًا عن الصواب، فمادة (صحف) معروفة في اللغة العربية، ومنها الصحيفة لما يكتب فيه، وقد قال عز وجل: } في صحف مكرمة { ، سورة عبس آية 13، وقال: } يتلو صحفًا مطهرة { سورة البينة من الآية 2.
(13) انظر مناهل العرفان (1/18-21).
(14) انظر مناهل العرفان (1/22-23).
(15) الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 85.
(16) استعمل بعض الطاعنين في القرآن من المستشرقين هذا اللفظ بهذه الصورة الملبسة، حيث عثر بعضهم، وهما: ألفونس منجانا Alphonse Mingana، وآجنس سميث لويس Agnes Smith Lewis على أوراق من مصاحف قديمة، فنشراها بعنوان “أوراق من ثلاث قرآنات قديمة، يمكن أن تكون سابقة للمصحف العثماني، مع قائمة بِما فيها من اختلافات. انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 411.
(17) القاموس المحيط (رتل) ص 1297، (رسل) ص 1300، والصحاح (رتل) (4/1704).
(18) انظر التمهيد في علم التجويد لابن الجزري ص 48-49، والتعريفات للجرجاني ص 82-83.
(19) التعريفات للجرجاني ص 82-83.
(20) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب استحباب الترتيل في القراءة (2/73-74) ح1466، والنسائي في كتاب الافتتاح باب تزيين القرآن بالصوت (2/181) ح 1022.
(21) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب جواز النافلة قائما وقاعدًا (6/13) ح 733، ومعنى قولها: حتى تكون أطول من أطول منها، أي: حتى يظن سامعها أنَّها أطول مِمَّا هو أطول منها من السور التي يقرؤها السامع قراءة سريعة غير متئدة.
(22) انظر النشر في القراءات العشر (1/208-209)، والتمهيد في علم التجويد ص 48-49.
(23) انظر النشر في القراءات العشر (1/209).
(24) في البداية أطلق الدكتور لبيب السعيد على مشروع تسجيل القرآن الكريم اسم “المصحف المسموع”، ولكن أبلغه الأستاذ الشيخ حسن مصطفى وهدان أن شيخ الأزهر آنذاك (المرحوم الشيخ محمود شلتوت) يعترض على اسم المشروع، ويقول: إن العامة تجعل (المسموع) مرادفًا ل(المشهور)، ولذلك يرى تغيير الاسم، ففكر الدكتور لبيب السعيد في تغيير الاسم، وورد على خاطره صفات مثل: الْمرتل، الصائت، الناطق، فاختار الْمرتل. انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 108، وانظر المرجع نفسه أيضًا ص 112.
المبحث الثاني: أهداف الجمع الصوتي للقرآن الكريم
أولاً: الحفظ
1 – تحقيق التلقي الشفوي
2 – المحافظة على القراءات الثابتة
ثانيًا: التعليم
1 – وضع النماذج الصوتية للتلاوة المتقنة
2 – علاج مشكلة اختلاف رسم المصاحف عن الرسم الإملائي
ثالثًا: الدفـــاع
1 – معاضدة المصحف العثماني المجمع عليه
2 – درء التحريف
المبحث الثاني: أهداف الجمع الصوتي للقرآن الكريم
رأينا في الأبواب السابقة أن الجمع البكري والجمع العثماني للقرآن الكريم، كانا لأسباب ألجأت الصحابة إليه، ولضرورة ملحَّة دعتهم إلى التفكير في سبيل حفظ الكتاب الكريم في عهد الصديق ، ودرء الفتنة عن المسلمين في زمن عثمان ، وقد كان جمعهم ذلك كافيًا لحفظ الكتاب العزيز إلى آخر الزمان.
أما الجمع الصوتي للقرآن الكريم، فلا يبلغ الباعث عليه حدَّ الضرورة، ولكن كانت له أهدافٌ في الجملة خادمةٌ لحفظ الكتاب، ومساعدة عليه.
فقد كانت أهداف الجمع الصوتي للقرآن الكريم في ثلاث جهات: الحفظ، والتعليم، والدفاع.
أولاً: الحفظ
أنزل الله كتابه، ووعد بحفظه، وقد قام المسلمون على مرِّ العصور بِما يجب عليهم تجاه الكتاب الكريم من الحفظ والعناية، فكان من ذلك جمع الصحابة للقرآن في زمن الصديق وعثمان -رضي الله عنهما، وكان واجبًا على المسلمين في كل عصر أن يقوموا بِما يستطيعون للمحافظة على كتاب ربِّهم، وكانت فكرة الجمع الصوتي للقرآن الكريم في العصر الحديث مِمَّا يصبُّ في ذات القناة، ويساعد على حفظ القرآن الكريم من التحريف، ويتبين ذلك في عدة أمورٍ مِمَّا يفيده الجمع الصوتي، وهي:
1 – تحقيق التلقِّي الشفوي(1)
كان التلقِّي الشفوي هو الطريقة المعتمدة في نقل القرآن منذ عهد النَّبِيّ إلى زماننا هذا، فالأداء الصوتي لا يُمكن تعلمه من الكتاب، ولذلك قالوا: لا تأخذ القرآن من مُصْحَفِيٍّ.
فقد تنوعت طرق النقل والتحمُّل في علوم الشريعة من السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، إلى المناولة والإجازة والمكاتبة والوصية والإعلام والوجادة،(2) وظاهرٌ أنَّ هذه الطرق تصلح لنقل لجميع علوم الشريعة، أما نقل القرآن، فإن ما عدا الطريقتين الأوليين لا يتأتى فيه، لذا فقد اقتصر القراء في نقل القرآن على السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، وهذا أمرٌ يعتمد على المشافهة.(3)
ويستدل لِهاتين الطريقتين بعرض النَّبِيّ القرآن على جبريل ، كما مرَّ بنا،(4) كما كان الصحابة يقرءون على النَّبِيّ ، ويتعلمون منه مشافهة:
فعن شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.(5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ : اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَة: } فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا {،(6) قَالَ: حَسْبُكَ الآنَ. فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.(7)
وكان النَّبِيّ يقرأ أيضًا على أصحابه، ليستمعوا إلى قراءته، ويتعلموا منه :
فعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللهُ عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ لأُبَيٍّ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. قَالَ أُبَيٌّ: آللهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: اللهُ سَمَّاكَ لِي فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.(8)
وقد اقتصر القراء على طريقة المشافهة في نقل القرآن لأن الهيئات الصوتية من تفخيم وترقيق، ومدٍّ وقصرٍ، وإدغام وإظهارٍ، وفتح وإمالة، وغيرها -لا يمكن تَمييزها وإتقان النطق بالكتاب، بل لا بدَّ في كل ذلك من المشافهة.(9)
وبعد مرور نحو أربعين سنة على تسجيل أول المصاحف المرتلة الكاملة، لا يشكُّ أحد أن المصاحف المرتلة المسجلة كان لَها أثرٌ ظاهرٌ في تسهيل تطبيق تلك الأحكام الصوتية، وأنَّها سهَّلت على الكافَّة الأخذ بِها.(10)
2 – المحافظة على القراءات الثابتة(11)
مرَّ بنا في الباب الثالث أن عثمان أرسل المصاحف إلى الأمصار، وأرسل مع كل مصحفٍ قارئًا يقرئ الناس بِما يوافق المصحف الذي أرسل معه، فتتابع القراء بعد ذلك يقرءون بِما يوافق مصاحف بلدانِهم، مِمَّا تلَقَّوه عن مشايخهم، ثم نقلت إلينا اختيارات عشرة من الأئمة في القراءة،(12) فما زالت مقروءة منقولة إلى الآن.
وقد اتفق على أن قراءات الأئمة العشرة متواترة، مقروء بِها، وعلى أن ما خالفها من اختيارات غيرهم شاذة، غير مقروء بِها.(13)
قال عبد الوهاب بن علي السبكي: القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف -متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلومٌ من الدين بالضرورة أنه منَزَّل على رَسُول اللهِ ، لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهلٌ، وليس تواتر شيء منها مقصورًا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلمٍ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ولو كان مع ذلك عامِّيًّا جلفًا، لا يحفظ من القرآن حرفًا.(14)
وقال أيضًا: القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين.(15)
فكان من أهداف الجمع الصوتي التي رمى إليها صاحب المشروع -أن يجمع القرآن على جميع الروايات الثابتة، ويقصد بِها الروايات التي رويت عن الأئمة العشرة، على أن تجمع كل رواية في ختمة مستقلةٍ على غرار ما فعل عثمان في جمع المصاحف، لَمَّا وزَّع ما لا يحتمله الرسم الواحد على أكثر من مصحف من المصاحف التي كتبها.
وكان الهدف من جمع تلك الروايات جمعًا صوتيًّا -نشرُها بين المسلمين، إذ إن معرفة عوامِّ المسلمين بالقراءات في تناقص مستمر، ولا فضل لقراءة على غيرها، فجميعها وحيٌ منزل، وكلها كلام الله تعالى، ولا شكَّ أن تيسيرها للناس مسموعةً يسهل نشرها، فإن معرفة القراءات من بطون الكتب عسيرة على المتخصصين في العلوم الشرعية، فضلاً عن العوامِّ، ولا يمكن معرفتها إلا عن طريق شيوخ القراءة، ومن العسير على الكثيرين الوصول إليهم، لأنهم قليلٌ، كما تخلو كثير من البلدان منهم، وفوق ذلك تحتاج تلك المعرفة إلى دراسة شاقة طويلة، ولا يحتاج إليها العامَّة، بل يكفيهم أن يسمعوا كافة الروايات كما يسمعون الرواية المشهورة في بلادهم في الصلوات وغيرها.
ومِمَّا يلحق بِهذا الهدف المنع بالقراءة بغير تلك القراءات المتواترة من القراءات الشاذة التي تخالف مصحف عثمان ، وإن صحَّ سندها، وكان لَها وجهٌ من العربية.(16)
وقد نقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشواذِّ، ولا يُصَلَّى خلف من يقرأ بِها.(17)
وقال ابن الصلاح: يُشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رَسُول اللهِ قرآنًا واستفاض نقله بذلك، وتلقته الأمة بالقبول، كهذه القراءات السبع؛ لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع -على ما تقرر وتَمهَّد في الأصول- فما لم يوجد فيه ذلك مِمَّا عدا العشرة، فممنوعٌ من القراءة به، منعَ تحريمٍ، لا منعَ كراهةٍ، في الصلاة وخارج الصلاة…، وواجبٌ على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك…، ويجب منع القارئ بالشواذِّ وتأثيمه بعد تعريفه، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه.(18)
ولا شك أن المعرفة بالأوجه الثابتة المتواترة عن طريق التلاوات المسجلة يعين الكافة على التمييز بين القراءات المتواترة والشاذة.
ثانيًا: التعليم
تعليم القرآن شعارٌ من شعارات الدين، أخذ به المسلمون، ودرجوا عليه في جميع البلدان، وجعلوه أصل كل تعليمٍ، فبدءوا تعليم الصغار به، ووقف أثرياء المسلمين الكثير من أموالهم على هذا التعليم.
ولا شك -كما مرَّ قريبًا- أن تعليم القرآن يحتاج إلى المشافهة والسماع، وكثير من المسلمين قد يتعذر عليهم هذا الأمر بسبب بعد القراء عنهم، كما أن في المجتمع النساءُ اللاتي لا يتيسر لهن من يعلمهن القرآن؛ بسبب المنع من الخلوة بالمرأة، كما روى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.(19)
فالمصاحف المسجلة بلا شكٍّ تساعد هذه الفئة من النساء التي لا يتيسر لَها قراءة القرآن على القراء المتخصصين، فيستطعن سماع هذه المصاحف في كل وقت، وفي كل مكان، مع كون القارئ خبيرًا نموذجي الأداء، ولا يضر مع ذلك الخلوة به.
وهناك فئة أخرى لا تستطيع الاعتماد عند الحفظ إلا على التلقي الشفهي، وهم المكفوفون، فهؤلاء عندما يتعلمون القرآن يتطلبون من المعلم جهدًا كبيرًا، لأنه لا مرجع لهم من الصحف يرجعون إليه، وهذه المصاحف المسجلة تيسر عليهم وجود القارئ معهم، وتقلل عناء المقرئين الذين يعلمونَهم.
وقد طبع القرآن بطريقة بريل (Braille)ـ(20) في مصر في عام 1959م ليستفيد به المكفوفون، غير أن هناك صعوبات كثيرة في استعمال هذه الطريقة، إذ لا يؤمن معها تعرض القارئ للخطأ، كما أنَّها تكون في مجلدات كثيرة، يثقل حملها، وتستلزم تدريبًا خاصًّا لا يتاح لكل مكفوف، فكانت هذه المصاحف المسجلة من أعظم المساعدين على تعلم هؤلاء المكفوفين القرآن.(21)
وتفيد المصاحف المسجلة متعلمي القرآن الكريم في بطريقين أساسيين، هما:
1 – وضع النماذج الصوتية للتلاوة المتقنة
كما مرَّ في فكرة الجمع الصوتي قريبًا -أراد صاحب هذا المشروع أن يجمع القرآن صوتيًا على طريقة الترتيل المرسل، على نحو يشبه قراءة الأئمة في الصلوات، وأن يبتعد القراء في ذلك الجمع عن القراءة التطريبية، وهذه النماذج المقترحة من القراءة المرسلة أقرب إلى التدبر والخشوع، وأعون للمتعلم على إتقان التلاوة، كما أنَّها في طوق كافة الناس، بخلاف القراءة التطريبية التي تحتاج إلى قوة الصوت، وطول النفس، وتحتاج إلى دراسة قواعد خاصة بِها.(22)
وأود الإشارة هنا إلى أمر خطير في شأن التسجيلات الصوتية للقرآن الكريم، فقد انتشر في العصر الأخير تسجيل القرآن كله أو بعضه في كثير من بلاد المسلمين، حتى صارت تتنافس فيه الإذاعات، وتجاوز الأمر التسجيل في الإذاعات إلى تسجيل قراءات الأئمة في المساجد في صلاة التراويح وغيرها.
وهذه الأعمال خطيرة من وجوه:
الأول: أن القائمين على هذه التسجيلات لا يراعون فيها شيئًا أكثر من جمال صوت القارئ -في غالب الأحيان، أو شهرته.
والثاني: أن هذه المصاحف يكون فيها من الأخطاء ما لا يغتفر مثله في موضع التسجيل، وإن اغتفر في الصلاة مثلاً، لأن القارئ عرضة للخطأ، ولا يتيسر له تصحيح الأخطاء دائمًا، بخلاف المصاحف المسجلة، فإن سامعها يثق أنَّها قرآن صحيح لا خطأ فيه.
والثالث: أن هذه التسجيلات لا يتوفر لَها من يراجعها لا في أثناء القراءة، لا قبل العرض والإذاعة، فضلا عن أن يوجه القارئ إلى وجه الصواب أثناء قراءته، ولا شك أن القارئ -غالبًا- أقل بصرًا بأخطائه ممن يسمعه، خاصة إذا كانوا من أهل الحذق والإتقان.
وسيأتي -إن شاء الله بيان ما لقِيَتْه المصاحف التي سجلت في مصر تنفيذا لهذا المشروع من العناية والدقة، ومن الواجب على القراء الآن أن يرجعوا إليها ويقتفوا أثرها في الدقة والعناية، وأن لا يثق القارئ بنفسه، فيترفع عن أن يراجع قراءته غيره، ولنا في رَسُول اللهِ أسوة حسنة، فقد كان مع فصاحته وعصمته في البلاغ عن الله، يدارس جبريل القرآن ويعرضه عليه في رمضان من كل عام، كما مر بنا.(23)
2 – علاج مشكلة اختلاف رسم المصاحف عن الرسم الإملائي
سبق في الحديث عن المصاحف العثمانية(24) بيانُ أوجه اختلاف خطها عن الخط الإملائي القياسي، ولا شك أن المتعلم المبتدئ في تعلم القرآن يلقى صعوبات كثيرة في التعامل مع الخط العثماني، وما تلبث هذه الصعوبات أن تزول إذا ما لان لسانه بكتاب الله، وتعلم منه بعض السور.
ومع ما رأيناه من رجحان القول بوجوب التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، ومع الصعوبات التي نراها في صورة هذا الرسم المخالفة للرسم القياسي، والصعوبات الناشئة عن اختلاف طريقة ضبط المصاحف بين المشارقة والمغاربة، مع هذه الصعوبات تظهر قيمة التسجيلات الصوتية، التي تأخذ سامعها مباشرة إلى الوجه الصحيح في الأداء، فتوفر عليه عناء التفكير في كل هذه الخلافات.
لا شك أن المصحف المسجل صوتيًّا يحل مشكلة كبيرة في أمر اختلاف الرسم العثماني عن القياسي، واحتمال خطأ القارئ فيه، وقديما لما كثر اللحن والخطأ بين الناس، وضع العلماء علامات نقط الحروف، ثم علامات الضبط، ووقع أيضًا التصحيف على بعض الناس، فالتمسوا لذلك حيلةً، فلم يقدروا إلا على الأخذ من أفواه الرجال، فرجع الأمر إلى ما كان عليه أولاً من أهمية التلقي الشفهي، وهذه المصاحف المسجلة بالشروط التي تضمن الدقة والإتقان توفر جهدًا كبيرًا على المعلمين والمتعلمين.(25)
ثالثًا: الدفـــاع(26)
1 – معاضدة المصحف العثماني المجمع عليه
سبق في الأبواب الثلاثة الأولى من هذا البحث عرض الطعون التي طعن بِها أعداء الدين على جمع القرآن الكريم ونقله، والرد عليها، والجمع الصوتي يدفع الكثير من هذه الطعون، ويعضد المصحف العثماني المجمع عليه، وذلك بالالتزام بِما ثبت من القراءات التي من شروط قبولها موافقة أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالاً.(27)
2 – درء التحريف
وكذلك في التسجيل الصوتي للقرآن الكريم صيانة له عن التحريف.
وقد يحصل التحريف بغير قصد، كما نرى من انتشار اللحن بين الناس منذ زمن بعيد، وشدة انتشاره في هذا الزمان، لِما أصبح عليه الناس من البعد عن لغة العرب، فأصبحوا في حاجة إلى سماع القرآن على الوجه الصحيح، وتأكد في حقهم وجوب التلقي الشفهي، وعدم الاكتفاء بالمصاحف المكتوبة.
كما قد شنَّ بعض أعداء الإسلام في العصر الأخير حربًا شعواء على القرآن، حتى قد ظهر من يحاول تحريف القرآن جهارًا، كما فعلت إسرائيل في عام 1960م من طبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم، تحتوي على الكثير من التحريف والتبديل، من أخطاء لفظية ومطبعية، ومن حذف بعض الكلمات، وإسقاط بعض الآيات، وقام العلماء المسلمون بالواجب عليهم تجاه تلك الهجمة الشرسة، فبينوا ما في تلك المصاحف من الأخطاء، وأبرزوها للمسلمين وحذروهم منها، ومن تداول تلك المصاحف.(28)
وقد اعتبر مشروع المصحف المرتل وسيلة فعالة لِمقاومة هذه الجريمة، واعتبر حدثًا عالَميا لمكافحة تحريف إسرائيل للقرآن، وتقرر توزيع المصحف المرتل في البلاد التي وزعت فيها إسرائيل مصاحفها المحرفة.(29)
(1) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 131 وما بعدها.
(2) هذه الثمانية هي طرق نقل وتحمُّل الحديث، كما يذكرها المحدثون، ينظر في التعريف بكل طريقة منها: مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص 132-180.
(3) الإتقان في علوم القرآن (1/279).
(4) في الفصل الرابع من الباب الأول (العرضة الأخيرة).
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5000.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(6) من الآية 41 من سورة النساء.
(7) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ (8/711) ح 5050.
(8) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن باب سورة } لم يكن{ (8/597) ح 4960، ومسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين بَاب اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْحُذَّاقِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ (6/85) ح 799.
(9) انظر التمهيد في علم التجويد لابن الجزري، ص 53-59.
(10) لا شكَّ أن التلقي بالسماع فقط دون عرض على الشيخ يعسر معه الإتقان، خاصة في العصور المتأخرة التي انحرفت فيها ألسنة الناس، ولكن يبقى أن البعض ممن وُهب أذنًا دقيقة السمع، يستطيع أن يستفيد الكثير من هذه المصاحف المسجلة، وقد كانت بداية تعلُّمي التجويد عن طريق هذا السماع، فبلغت منه في شهور قليلة مبلغًا حسنًا، ثم قرأت بعد ذلك على القراء، فاستفدت فوائد كثيرة لا يمكن تحصيلها عن طريق السماع فقط.
(11) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 161.
(12) مرَّ ذكرهم في مبحث الحفاظ من الصحابة (المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول).
(13) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر ص 7.
(14) النشر في القراءات العشر (1/46).
(15) النشر في القراءات العشر (1/45).
(16) انظر النشر في القراءات العشر (1/9-10).
(17) البرهان في علوم القرآن (1/333).
(18) البرهان في علوم القرآن (1/332).
(19) رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح بَاب لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ (9/242) ح 5233.
(20) لويس بريل(Louis Braille) (1809-1852م) مدرس فرنسي كان مكفوفًا من سن الثالثة من عمره، وعمل في تعليم المكفوفين في معهد باريس الوطني لصغار المكفوفين، وفي عام 1828 استطاع أن يطور طريقة من الكتابة البارزة كان ابتكرها ضابط في الجيش الفرنسي يدعى تشارلز باربيه (Charles Barbier) في عام 1821م، كان يستخدمها في إرسال الراسائل الحربية المشفرة، فطوَّرها بريل لتمكن المكفوفين من القراءة، وما زالت هذه الطريقة تستخدم بنجاح إلى اليوم. انظر المعجم المختصر للتراث الأمريكي The American Heritage® Concise Dictionary, Third Edition Copyright © 1994 by Houghton Mifflin Company، وموسعة مايكروسوفت إنكارتا Microsoft® Encarta® 98 Encyclopedia. © 1993-1997 Microsoft Corporation، في مواد: (Braille)، و(Braille, Louis)، و(Blindness).
(21) كانت طباعة القرآن بطريقة بريل (Braille) بعد موافقة من المجلس الأعلى للأزهر، وقد نشرت الموافقة جريدة الأهرام المصرية في عددها الصادر يوم 10 (تَموز) يوليو 1958م، وقد قام المركز النموذجي لرعاية المكفوفين العرب بالقاهرة بطبع هذه النسخة، نشرت ذلك جريدة الأهرام المصرية في عدديها الصادرين 8 آب (أغسطس) 1958م، و17 كانون الأول (ديسمبر) 1959م. عن الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 366.
(22) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 307 وما بعدها.
(23) في الفصل الرابع من الباب الأول (العرضة الأخيرة).
(24) في الفصل الرابع من الباب الثالث (المصاحف العثمانية).
(25) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 367 وما بعدها.
(26) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 403 وما بعدها.
(27) يقصد العلماء بكلمة (احتمالاً) في هذا الشرط: أن تكون القراءة مِمَّا يحتمله رسم أحد المصاحف العثمانية، ولو مع تقدير زيادة أو نقصان حرف مدٍّ مثلاً، كما يحتمل رسم (ملك) للقراءتين: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { ، بدون ألف، و} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {. انظر النشر في القراءات العشر (1/9-11).
(28) الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 472-473، عن جريدة الأهرام المصرية في عددها الصادر 28 كانون الأول (ديسمبر) 1960م.
(29) الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 476، عن جريدة الجمهورية المصرية في عددي 2،4 يناير 1961م.
المبحث الثالث: خطة المشروع وتنفيذه
الطرق المختارة لتسجيل القرآن بالقراءات العشرة
المبحث الثالث: خطة المشروع وتنفيذه
وضع صاحب المشروع خطة عمل تكفل له الدقة الممكنة للوصول إلى تسجيلات يريد لَها أن تكون مصاحف مرتلة أئمة، يرجع إليها، ويوثق بِما فيها.
وتلخصت هذه الخطة في الخطوات الآتية:
1. تشكيل لجنة من علماء القراءة من أصحاب الخبرة الكبيرة في تدريس كتاب الله، تتولى اختيار القراء الذين سيناط بِهم التسجيل، كما تشرف على التسجيلات من الناحية العلمية.
وقد شكلت اللجنة الأولى من الأساتذة: فضيلة الشيخ عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي،(1) والشيخ عامر السيد عثمان،(2) والشيخ عبد العظيم خياط، والشيخ محمد سليمان صالح، والشيخ محمود حافظ برانق، والأربعة الأخيرون من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر.
2. اختيار القراء الذين سيقومون بالتسجيل، على أن يكونوا من أعلم القراء، مع مناسبة أصواتهم للتسجيل.
3. اقتضاء كل قارئ غاية الدقة في الأداء، وإلغاء كل تسجيل لا يصل الأداء فيه إلى حد الامتياز، واعتبار هذا مبدأً لا يجوز أبدًا الترخص فيه.
4. استماع لجنة التسجيل جميعها إلى الحصة القرآنية المراد تسجيلها، للتأكد من دقة أداء القارئ، ومراعاته للأحكام، وتزويده بِما قد يلزمه من توجيهات، وخاصة فيما يتعلق بمواضع الوقف والابتداء.
5. أن يتم تسجيل القرآن الكريم بالقراءات الثابتة المتواترة، فيسجل لكل قارئ من القراء العشرة برواية اثنين من رواته، بأشهر طرق الرواية عنهم، ثم يتبع بعد ذلك بالطرق الأخرى.(3)
6. مراعاة التزام القارئ بطريق الرواية التي يقرؤها، وعدم خلط طرق القراءة بعضها ببعض، فيلتزم من أول القرآن إلى آخره نفس الطريق الذي بدأ به، ولا يتجاوز في ذلك أبدًا.(4)
ومن هذه الخطة يتبين لنا مدى تجاوز أولئك الذين يقدمون على تسجيل القرآن مرتلا، في شتى البلدان، دون وجود لجان علمية مؤهلة تراجع قراءة القارئ، وتجيزها، وكيف يكون القارئ قارئًا وحاكمًا على قراءته في ذات الوقت، ونحن نلاحظ أن أخطاء القارئ في التلاوة يعسر عليه إدراكها غالبًا، كما مرَّ قريبًا.
الطرق المختارة لتسجيل القرآن بالقراءات العشرة
دعا صاحب مشروع الجمع الصوتي إلى تسجيل القرآن بكل قراءاته الثابتة، وخطط -كبداية للمشروع- أن تختار روايتان لكل قراءة من القراءات العشر، وأن يختار لكل رواية أربعةً من أشهر طرق رواية تلك القراءة، ثم حدد بمعاونة الأستاذين الشيخين: محمود حافظ برانق، ومحمد سليمان صالح(5) الطرق المختارة ليبتدأ بِها الجمع الصوتي للقرآن الكريم، فجاءت على النحو الآتي:(6)
1 – قراءة نافع(7)
رواية قالون:
من طريق أبي نشيط، من طريقي: ابن بويان، والقزاز.(8)
ثم من طريق الحلواني من طريقي: ابن أبي مهران، وجعفر بن محمد.(9)
رواية ورش:
من طريق الأزرق، من طريقي: إسماعيل النحاس، وابن سيف.(10)
ثم من طريق الأصبهاني، من طريقي: ابن جعفر، والمطوعي.(11)
2 – قراءة ابن كثير
رواية البزي:
من طريق أبي ربيعة، من طريقي: النقاش، وابن بُنان.(12)
ثم من طريق ابن الحباب، من طريقي: ابن صالح، وعبد الواحد بن عمر.(13)
رواية قنبل:
من طريق ابن مجاهد، من طريقي: السامريِّ، وصالح.(14)
ثم من طريق ابن شنبوذ، من طريقي: أبي الفرج، والشطوي.(15)
3 – قراءة أبي عمرو
رواية الدوري:
من طريق أبي الزعراء، من طريقي ابن مجاهد، والمعدل.(16)
ثم من طريق ابن فرح، من طريقي: زيد بن أبي بلال، والمطوعي.(17)
رواية السوسي:
من طريق ابن جرير، من طريقي عبد الله بن الحسين، وابن حبش.(18)
ثم من طريق ابن جمهور، من طريقي: الشذائي، والشنبوذي.(19)
4 – قراءة ابن عامر
رواية هشام:
من طريق الحلواني، من طريقي: ابن عبدان، والجمال.(20)
ثم من طريق الداجوني، من طريقي: زيد بن علي، والشذائي.(21)
رواية ابن ذكوان:
من طريق الأخفش، من طريقي: النقاش، وابن الأخرم.(22)
ثم من طريق الصوري، من طريقي الرملي، والمطوعي.(23)
5 – قراءة عاصم
رواية شعبة:
من طريق يحيى بن آدم، من طريقي: شعيب، وأبي حمدون.(24)
ثم من طريق العليمي، من طريقي: ابن خليع، والرزاز.(25)
رواية حفص:
من طريق عبيد بن الصبَّاح، من طريقي: أبي الحسن الهاشمي، وأبي طاهر بن أبي هاشم.(26)
ثم من طريق عمرو بن الصبَّاح، من طريقي: الفيل، وزرعان.(27)
6 – قراءة حمزة
رواية خلف:
من طرق: ابن عثمان، وابن مقسم، وابن صالح، والمطوعي -عن إدريس.(28)
رواية خلاد:
من طرق: ابن شاذان، وابن الهيثم، والوزان، والطلحي.(29)
7 – قراءة الكسائي
رواية أبي الحارث:
من طريق محمد بن يحيى، من طريقي: البطي، والقنطري.(30)
ثم من طريق سلمة بن عاصم، من طريقي: ثعلب، وابن الفرج.(31)
رواية الدوري:
من طريق جعفر النصيبي، من طريقي: ابن الجلندا، وابن ديزويه.(32)
ثم من طريق أبي عثمان الضرير، من طريقي: ابن أبي هاشم والشذائي.(33)
8 – قراءة أبي جعفر
رواية ابن وردان:
من طريق الفضل بن شاذان، من طريقي: ابن شبيب، وابن هارون.(34)
ثم من طريق هبة الله بن جعفر، من طريقي: الحنبلي، والحمامي.(35)
رواية ابن جماز:
من طريق أبي أيوب الهاشمي، من طريقي: ابن رزين، والأزرق الجمال.(36)
ثم من طريق الدوري، من طريقي: ابن النفاخ، وابن نَهشل.(37)
9 – قراءة يعقوب
رواية رُوَيْسٍ:
من طرق: النخاس، وأبي الطيب، وابن مقسم، والجوهري -عن التمار.(38)
رواية رَوْح:
من طريق ابن وهب، من طريقي: المعدّل، وحمزة بن علي.(39)
ثم من طريق الزبيري، من طريقي: غلام بن شنبوذ، وابن حبشان.(40)
10 – قراءة خلف البزار
رواية إسحاق الوراق:
من طريق السوسنجردي، وبكر بن شاذان- عن إسحاق.(41)
ثم من طريق ابنه محمد بن إسحاق، والبرصاطي.(42)
رواية إدريس:
من طرق: الشطي، والمطوعي، وابن بويان، والقطيعي.(43)
(1) ولد الشيخ القاضي في دمنهور بشمال مصر سنة 1325هـ، وحفظ القرآن ثم قرأ القراءات ببلده، ثم انتقل إلى القاهرة، ودرس في الأزهر حتى حصل على إجازة التخصص القديم (تعادل الدكتوراه حاليا) سنة 1355هـ، وتولى مناصب كثيرة، منها رئاسة قسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر حينذاك، وعين مفتشًا عامًّا بالمعاهد الأزهرية، ثم وكيلا عامًّا للمعاهد الأزهرية، ثم رحل إلى المدينة النبوية فشارك في إنشاء كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية، وتولى رئاسة قسم القراءات فيها إلى وفاته سنة 1403هـ، وله تصانيف كثيرة في القراءات وعلوم القرآن والفقه والفرائض. بحث بعنوان (العلامة الشيخ عبد الفتاح القاضي وأثره في الدراسات القرآنية) للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، في العدد الأول من مجلة كلية القرآن الكريم ص 297 وما بعدها.
(2) شيخ عموم المقارئ المصرية سابقًا، توفي بالمدينة النبوية سنة 1409هـ.
(3) سأذكر بعد خطة التسجيل الطرق التي اختارتها اللجنة للتسجيل بِها، وما تم تسجيله منها -إن شاء الله تعالى.
(4) المقصود أن رواة القراء العشرة رويت عنهم رواياتهم بطرق تختلف في بعض الوجوه، وقد اتفق العلماء على عدم جواز الخلط بين الطرق والروايات إذا كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى، وكذلك إذا قرأ على سبيل النقل والرواية، فإن فاعل ذلك يكون كاذبًا على الراوي، واختلفوا في جواز ذلك على سبيل القراءة والتلاوة، فأجازه أكثر العلماء، إذ الكل منزل، تهوينا على أهل الملة، ولو كان واجبا عليهم تمييز الروايات عن بعضها، لانقلب التيسير مشقة وتعسيرًا. انظر النشر في القراءات العشر (1/18-19).
(5) المدرسين بمعهد القراءات التابع للأزهر آنئذ.
(6) انظر الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ص 218 وما بعدها.
(7) سبقت تراجم القراء العشرة في المبحث الرابع من الفصل الأول من الباب الأول (الحفاظ من الصحابة)، أما رواتهم فتركت الترجمة لهم بغية الاختصار، وقد ألف الشيخ العلامة عبد الفتاح القاضي كتابًا في تراجم هؤلاء الأئمة العشرة ورواتهم فليرجع إليه من شاء الاستزادة، وهو كتاب تاريخ القراء العشرة، طبع عدة مرات، منها طبعة وزارة الأوقاف الكويتية بتاريخ 1410هـ، 1989م.
(8) انظر النشر في القراءات العشر (1/99)، (1/101).
(9) انظر النشر في القراءات العشر (1/102)، (1/106).
(10) انظر النشر في القراءات العشر (1/106)، (1/108).
(11) انظر النشر في القراءات العشر (1/110).
(12) انظر النشر في القراءات العشر (1/117).
(13) انظر النشر في القراءات العشر (1/117).
(14) انظر النشر في القراءات العشر (1/117-118).
(15) انظر النشر في القراءات العشر (1/119).
(16) انظر النشر في القراءات العشر (1/123)، (1/127).
(17) انظر النشر في القراءات العشر (1/128)، (1/130).
(18) انظر النشر في القراءات العشر (1/131).
(19) انظر النشر في القراءات العشر (1/132).
(20) انظر النشر في القراءات العشر (1/135-136).
(21) انظر النشر في القراءات العشر (1/137-138).
(22) انظر النشر في القراءات العشر (1/139)، و(1/141).
(23) انظر النشر في القراءات العشر (1/142-143).
(24) انظر النشر في القراءات العشر (1/146)، و(1/148).
(25) انظر النشر في القراءات العشر (1/150-151).
(26) انظر النشر في القراءات العشر (1/152).
(27) انظر النشر في القراءات العشر (1/153-154).
(28) انظر النشر في القراءات العشر (1/158-160).
(29) انظر النشر في القراءات العشر (1/160-164).
(30) انظر النشر في القراءات العشر (1/167-168).
(31) انظر النشر في القراءات العشر (1/169).
(32) انظر النشر في القراءات العشر (1/170).
(33) انظر النشر في القراءات العشر (1/170-171).
(34) انظر النشر في القراءات العشر (1/174-175).
(35) انظر النشر في القراءات العشر (1/175-176).
(36) انظر النشر في القراءات العشر (1/176-177).
(37) انظر النشر في القراءات العشر (1/177).
(38) انظر النشر في القراءات العشر (1/180-182).
(39) انظر النشر في القراءات العشر (1/183-185).
(40) انظر النشر في القراءات العشر (1/185).
(41) انظر النشر في القراءات العشر (1/188).
(42) انظر النشر في القراءات العشر (1/189).
(43) انظر النشر في القراءات العشر (1/189-190).
الفصل الثاني
مشروع كلية القرآن الكريم بالمدينة النبوية(1)
لجمع القرآن بالقراءات العشر
المبحث الأول: مشروع الجمع الصوتي للقراءات المتواترة
المبحث الثاني: خطة العمل في المشروع وتنفيذه
خطة العمل
تنفيذ المشروع
المبحث الثالث: تقويم المشروع
المبحث الأول: مشروع الجمع الصوتي للقراءات المتواترة
في عام 1402هـ تقريبًا طرحت كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية مشروعًا لتسجيل مصحف (واحد) بالقراءات العشر المتواترة، وكان المخطط لهذا المشروع أن يكون على ثلاث مراحل:(2)
المرحلة الأولى: تسجيل ختمة كاملة بالقراءات السبع بِمضمن الشاطبية.(3)
المرحلة الثانية: تسجيل ختمة كاملة بالقراءات العشر الصغرى (بِمضمن الشاطبية والدرة).(4)
المرحلة الثالثة: تسجيل ختمة كاملة بالقراءات العشر الكبرى (بِمضمن الطيبة والنشر).(5)
المبحث الثاني: خطة العمل في المشروع وتنفيذه
خطة العمل
كانت الخطة المقترحة للعمل في هذا المشروع على النحو الآتي:
1. أن يتم هذا الجمع على ثلاث مراحل، كما سبق قريبًا، ويبدأ في ذلك بجمع القرآن بالقراءات السبع بِمضمن الشاطبية.
2. أن يتم الجمع بين أوجه القراءات في التلاوة الواحدة، في المراحل الثلاث: السبع ثم العشر الصغرى، ثم العشر، وذلك على طريقة الجمع بالوقف.(6)
وجمع القرآن بالقراءات بطريقة الوقف هو أن يشرع القارئ بقراءة لأحد القراء، حتى ينتهي إلى وقفٍ يسوغ الابتداء بِما بعده فيقف، ثم يرجع إلى القارئ الذي بعده فيأتي بخلافه مع القارئ الأول، إلى الموضع الذي وقف فيه، ثم يفعل ذلك بقارئٍ قارئٍ، حتى تنتهي خلافاتُهم، ويبتدئ بما بعد ذلك الوقف، وهذه الطريقة يراد منها توفير الوقت عند عرض القراءات على الشيوخ، فينتهي القارئ من العرض في وقت أقل بكثير مِمَّا لو قرأ كل رواية على حدة.(7)
3. أن يقوم أساتذة القراءات في الكلية المذكورة بالإشراف على عملية التسجيل وتوجيه القراء، وإلقاء بعض الشروح والتعليقات على القراءة.
4. أن يُختار من طلابِ الكلية المتقنين من يقوم بالقراءة.(8)
تنفيذ المشروع
بدأت الكلية في تجارب المرحلة الأولى من المشروع، وهي تسجيل القرآن بالقراءات السبع بِمضمن الشاطبية، حيث سُجِّلت سورة البقرة في نحو مائة ساعة،(9) مع بعض الشروح والتوجيهات.(10)
وفي عام 1404هـ كانت الكلية قد انتهت من التسجيل من أول القرآن الكريم إلى آخر سورة النساء، فجاءت سورة البقرة في ستين ساعة، وسورة آل عمران في إحدى وثلاثين ساعة، وسورة النساء في ثمان وعشرين ساعة، كل ذلك بالقراءات السبع بِمضمن الشاطبية، وأذيعت هذه التسجيلات من إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية تحت عنوان: (دروس من القرآن الكريم).(11)
ثم استمرت الكلية في متابعة التسجيلات، وإلى الآن لم تنته تسجيلات المرحلة الأولى (تسجيل القراءات السبع بِمضمن الشاطبية)، وكان آخر عهدي بِهم في السنة التي تخرجت فيها من الكلية(12) أنَّهم كانوا قد وصلوا في تسجيلات المرحلة الأولى إلى أواخر سورة التوبة.
أما المرحلتان الثانية والثالثة ( وهما تسجيل القراءات العشر الصغرى والكبرى)، فلم تشرع الكلية فيهما إلى الآن. ولا يدرى هل ما زال في عزم إدارتِها متابعة المرحلتين الباقيتين من المشروع أم لا.
المبحث الثالث: تقويم المشروع
لا شك أن مشروع جمع القراءات في ختمة واحدة بذل فيه جهدٌ كبيرٌ، ولا ينكر عارفٌ ما فيه من الفائدة لدارسي القراءات، ولغيرهم من المسلمين، ولكن الناظر في طريقة ذلك الجمع، وما تم تسجيله منه يجزم بأن ذلك لا يعد جمعًا للقرآن بالقراءات بقدر ما قد يعتبر كتابًا في القراءات، على نحو ما صنف القدماء من تفصيل خلافات القراء، والفرق أن تصانيف القدماء كانت مكتوبة، وهذا الجمع مقروء مسموع، وفي ذلك فائدة عظيمة من جهة التطبيق والتدريب.
وقد رأينا فيما مرَّ(13) أنَّ الصحابة أبَوْا أن يدرجوا في نسخة واحدة من المصحف أكثر من وجه من أوجه القراءة، فجاء عملهم هذا مُعَظِّمًا لتلك القراءات أن تكون إحداها أصلاً، والأخرى فرعًا، ولذا كتبوا مصاحفَ يختلف بعضها عن بعض في تلك الكلمات الخلافية التي لا يحتملها رسمٌ واحد.
وقد كره كثير من الأئمة خلط شيء مع القرآن، حتى لو كان وجوه القراءات.
قال الحليمي في وجوه تعظيم القرآن: ومنها أن لا يُخلَط في المصحف ما ليس من القرآن بالقرآن، كعدد الآيات، والسجدات، والعشرات، والوقوف، واختلاف القراءات، ومعاني الآيات.(14)
فالأجدر أن لا يطلق اسم المصحف إلا على ما كان مجردًا من غير القرآن، وما كان مفردًا لوجه واحد، أما ما كان فيه ذكر الخلاف، فهو أشبه بكتب التفسير وكتب القراءات.
كما أن التسجيلات التي تَمت لِهذا المشروع تحتوي ما ليس بقرآن، وهو توجيهات المشايخ للقراء، وشروحهم وتعليقاتُهم عليها، فجدير بِهذا العمل أن يعد من المصنفات التطبيقية في علم القراءات، أما أن يكون مصحفًا مجموعًا، فظاهر أن ذلك بعيد غير مقبول.
وقد عدَّ علماء القراءة الأولون جمع القراءة في التلاوة الواحدة مخالفة لما كان عليه حال سلف الأمة، واعتبروه كجمع أوجه الاختلاف في القراءة في المصحف الواحد، وهو ما منعه الصحابة .
فقد كان من عادة الأئمة إفراد كل قارئ من القراء بِختمة، لا يخلط فيها قراءته بقراءة غيره، وكانوا يبالغون في تحرير الطرق والوجوه، حتى لو اقتضى ذلك الواحد منهم ملازمة شيخه دهرًا طويلاً، ومن ذلك أن الأستاذ أبا الحسن الحصري القيرواني قرأ القراءات السبع على شيخه أبي بكر القصري تسعين ختمة في عشر سنين، قال في قصيدته الرائية:(15)
وأذكر أشيــاخي الذين قرأتُها عليهم فأبــدا بالإمـام أبي بكرِ
قرأتُ عليه السبـع تسعين ختمةً بدأتُ ابن عشرٍ ثم أكملتُ في عشرِ
وقد استمر عمل المقرئين على ذلك زمنًا، ثم لما فترت همم الناس، واحتاجوا إلى سرعة العرض، ظهر الجمع بين القراءات في الختمة الواحدة.
قال ابن الجزري: وهذا الذي كان عليه الصدر الأول، ومن بعدهم، إلى أثناء المائة الخامسة، عصر الداني ابن شيطا والأهوازي والهذلي ومن بعدهم، فمن ذلك الوقت ظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة، واستمر إلى زماننا، وكان بعض الأئمة يكره ذلك من حيث إنه لم تكن عادة السلف عليه، ولكن الذي استقر عليه العمل هو الأخذ به، والتقرير عليه، وتلقيه بالقبول، وإنما دعاهم إلى ذلك فتور الهمم، وقصد سرعة الترقي والانفراد…(16)
فإن كان ابتكار طريقة الجمع لحاجة الناس إلى سرعة العرض، وتوفير الوقت، فإن هذه الحاجة غير موجودة في مصحف يراد له أن يكون حافظًا لقراءات القرآن، فإن الجمع بِهذه الطريقة تكون وجوه القراءات فيها مدرجة متتابعة، لا يستطيع تمييزها إلا قارئ ماهر متقن، فلا شك أن جدواها عند عوام المسلمين قليلة.
والمشروع فيما عدا ذلك عظيم النفع في الناحية العلمية والتدريسية، ففيه التدريب العملي لدارسي القراءات، مع ما فيه من التوجيه للقارئ، والتطبيق العملي للأحكام التي يعسر على القارئ تعلمها دون سماع، من الفتح والإمالة، والتفخيم والترقيق، والإشمام والروم وغير ذلك.
(1) اختصت مدينة الرَّسُول بأن لَها أسماء عديدة، وأشهرها المدينة، فإذا أطلق انصرف إليها دون غيرها، ومن ذلك قوله تعالى: } ما كان لأهل المدينة .. { من الآية 120 من سورة التوبة، واشتهر وصفها بالمدينة النبوية عند كثير من السلف، كسعيد بن المسيب، ومن المتأخرين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وعلي بن عبد الله السمهودي مؤرخ المدينة، أما وصفها بالمنورة الذي اشتهر بين الناس اليوم فأغلب الظن أنه من صنع متأخري الأتراك، ومعناه صحيح، إن أريد به أنه نورت بنور النبوة والوحي، ولكن وصفها بالنبوية أجل وأوضح معنىً، لأن النبوة أهم اعتبار شرفت به المدينة. انظر التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية ص 22-24.
(2) انظر دليل كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية – بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية للعام الدراسي 1404هـ – 1405هـ ص 32-33، ومجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية- العدد الأول ص 372.
(3) هي القصيدة اللامية، المسماة بِحرز الأماني ووجه التهاني، من نظم الإمام العلامة ولي الله أبي القاسم بن فيره بن خلف الرعيني الأندلسي الشاطبي الضرير، المتوفي بالقاهرة سنة 590هـ. وهي من عيون الشعر، مع جمعها القراءات السبع المتواترة، على ما في كتاب التيسير للإمام أبي عمرو الداني، وقد سارت بِها الركبان وتلقاها العلماء في سائر الأعصار والأمصار بالقبول. النشر في القراءات العشر (1/61).
(4) الدرة المضية في القراءات الثلاث المروية، قصيدة لامية على وزن وقافية الشاطبية، نظم فيها الإمام ابن الجزري مضمن كتاب تحبير التيسير في القراءات الثلاث المكملة للعشرة، وهو كتاب جمع فيه ابن الجزري القراءات الثلاث على الوجه الذي جمع عليه الإمام الداني القراءات السبع في التيسير، وسَماه تحبير التيسير فكأنه زيَّن التيسير حيث كمله بالثلاث لتتم القراءات العشر، وطريقه وطريق التيسير واحد، فلذا تعارف علماء القراءات على تسمية القراءات العشر من هذا الطريق بالعشر الصغرى، وهو ما يعنونه بِمضن الشاطبية والدرة، إذ طرقها أقل بكثير من طرق طيبة النشر التي تجاوزت الألف طريق. انظر شرح الدرة المضية في القراءات الثلاث المروية للنويري (1/142).
(5) طيبة النشر في القراءات العشر، نظم فيها الإمام ابن الجزري ما جمعه في كتابه العظيم: النشر في القراءات العشر، وهو أوسع الكتب التي جمعت طرق الرواية الثابتة للقرآن الكريم بقراءاته العشر، وقد ضمنه صاحبه أكثر من ألف طريق، ولذا تعارف علماء القراءات على تسمية القراءات العشر من طريق الطيبة بالعشر الكبرى. انظر النشر في القراءات العشر (1/190-191).
(6) للقراء في الأخذ بطريقة الجمع مذهبان، أحدهما الجمع بالحرف، وهو أن يشرع القارئ في القراءة، فإذا مرَّ بكلمة فيها خلافٌ أعاد تلك الكلمة بِمفردها، حتى يستوفي ما فيها من الخلاف، وهو مذهب المصريين، وهو أوثق في استيفاء أوجه الخلاف، وأسهل في الأخذ، وأخصر، ولكنه يخرج القراءة عن رونقها، والثاني هو هذا، وهو الجمع بالوقف، وهو أشد في الاستحضار، ولا يذهب رونق القراءة. انظر النشر في القراءات العشر (2/201)، وغيث النفع في القراءات السبع بِهامش سراج القارئ ص 29-30.
(7) النشر في القراءات العشر (2/201).
(8) وقد شارك في التسجيلات عدد كبير من الطلاب بالفعل.
(9) يلاحظ اختلاف مدة تسجيل سورة البقرة بين التسجيل التجريبي، والتسجيل النهائي، والتفاوت سببه طول الشروح التي يقوم بِها الأساتذة أو قصرها، أما مدة التلاوة الحقيقية فلا تحتمل مثل هذا التفاوت.
(10) مجلة كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية- العدد الأول ص 372.
(11) وما زال هذا البرنامج يذاع إلى الآن، ويقوم فيه الطالب بالقراءة، ويسأله الشيخ المقرئ عن الأوجه التي قرأ بِها، ويقوم بشرح بعض الأمور الخاصة بتلك الأوجه، فهو برنامج تعليمي، يستفيد منه طلاب القراءات وغيرهم. انظر دليل كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية – بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية للعام الدراسي 1404هـ – 1405هـ ص 32.
(12) وهي سنة 1413هـ الموافق 1993م.
(13) انظر مبحث: منهج عثمان في جمع المصاحف، المبحث الأول من الفصل الثالث من الباب الثالث.
(14) الجامع لشعب الإيمان للبيقهي (4/487).
(15) النشر في القراءات العشر (2/194)، وغيث النفع في القراءات السبع بِهامش سراج القارئ ص 29-30.
(16) النشر في القراءات العشر (2/195).
الـخــاتمـــــة
خلاصة البحث والتوصيات
بعد الانتهاء من هذا البحث، أستطيع أن ألخص أهم نتائجه فيما يأتي:
1- أن القرآن الكريم لقي من المسلمين على مر العصور ما يليق به من العناية بالحفظ والنقل، فكان ذلك مصداقًا لقوله تعالى: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{.(1)
2- أنه قد قام بحفظ القرآن من الصحابة في زمن النَّبِيّ مَن لا يُحصَى كثرةً، فتجاوز عدد الحفاظ بذلك عدد التواتر، الذي يثبت به نقل القرآن ثبوتًا قطعيًّا.
3- أن جمع القرآن بإطلاقاته الثلاثة، وهي الحفظ في الصدور، وترتيب الآي والسور، والتدوين بالكتابة قد حصل في عهد النَّبِيّ .
4- أن النَّبِيّ أولى القرآن الكريم بعناية عظيمة، وأمر بتدوينه، وأن القرآن كتب كله بين يديه .
5- أن ما أثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على جبريل هو القرآن المنَزل، وأنه قد نسخ فيها بعض القرآن.
6- أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان أول من أمر بجمع القرآن في مجلد واحد، وكان ذلك بإشارة عمر بن الخطاب ، وقام بذلك الجمع زيد بن ثابت .
7- أن جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق حظي بإجماع الصحابة عليه، ولم يترك شيئًا مِمَّا كتب بين يدي النَّبِيّ ، فكان جامعًا لِما ثبت في العرضة الأخيرة، دون خلاف من المسلمين.
8- أن الاعتراض الوارد على أبي بكر بأنه فعل ما لم يفعله النَّبِيّ ، مدفوع بأن أصل الكتابة مأمورٌ به، وأن النَّبِيّ إنَّما تركه لأسباب زالت بوفاته ، فأصبح الجمع على هذه الكيفية من باب فعل المأمور به.
9- أن الشبهات التي أثيرت حول جمع أبي بكر للقرآن واهية مدفوعة بالبراهين النقلية والعقلية، وهي لا تستند إلى أدلة غير الوهم والتخرص، وخاصة ما زعمه الرافضة من الزيادة والنقص في القرآن الكريم.
10- أن جمع القرآن في عهد عثمان كان لِما حدث بين المسلمين من بوادر الفتنة والاختلاف في تلاوة القرآن.
11- وأن عثمان ، إنَّما نسخ ما جمعه أبو بكر في مصاحف وأرسل منها نسخًا إلى الأمصار، لتكون مرجعًا للناس عند الاختلاف.
12- أن جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان قد حظي بإجماع الصحابة، حيث قد رجع من خالفه أول الأمر إلى رأيه.
13- أن رسم المصاحف العثمانية واجب الاتباع، ولا يجوز مخالفته، وقد أجمع القراء على عدم جواز مخالفته في مقطوع أو موصول، أو إثبات أو حذف، أو تاء تأنيث، وما شابه ذلك.
14- أن الشبهات التي أثيرت حول جمع عثمان القرآن شبه مردودة، وأغلبها لا يستند على دليل صحيح، وأن ما له شبه دليل منها مردود بِما ذكر في كل شبهة على حدة.
15- أن نزول القرآن على سبعة أحرف كان تيسيرًا على الأمة، وأن هذه الأحرف قد نسخ بعضها في العرضة الأخيرة، وبقي بعضها.
16- أن عثمان بن عفان إذ نسخ ما جمعه أبو بكر الصديق في المصاحف وأرسلها إلى الأمصار -لم يترك شيئًا مِمَّا ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة، وأن ما يقال من أنه ترك ستة أحرف عن اتفاق الصحابة لا يصح استدلال من ذهب إليه عليه بقول عثمان : إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. إذ لا دليل فيه على الأمر بترك شيء من الأحرف، وإنَّما قصارى ما فيه الاقتصار على لغة قريش عند الاختلاف، أما في عند الاتفاق، فقد كتبوا ما اتفقوا عليه، وإن كان بأكثر من حرف.
17- أن الْمجال ما زال متسعًا لتقديم الجديد في مجال حفظ القرآن، والاهتمام بنقله، وأن عناية المسلمين ببذلك، واستحداث الطرق الجديدة للمحافظة على نقل القرآن بالصورة السليمة لم تقف عند عصر الصحابة والتابعين، بل حتى في عصرنا هذا، كان تسجيل المصاحف المرتلة المتقنة آية من آيات الله في المحافظة على النقل الصحيح للقرآن بالألسنة الفصيحة، في زمان عزَّت فيه الفصاحة، واستولت العُجْمة واللُّكْنة (2) على ألسنة الناس.
18- أنه مِمَّا يجب على المسلمين، وخاصة المسؤولين عن الإذاعات أن يولوا التسجيلات القرآنية أكبر عناية، من حيث طلب القراء المتقنين، وعرض قراءاتِهم على لجان علمية متخصصة لإجازتِها، حتى لا يؤدي سماع القرآن غير متقن إلى أن يتلقنه الناس على وجه الخطأ.
19- التوصية بإكمال مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، ذلك المشروع العظيم الذي رمى إلى تسجيل القرآن الكريم بجميع الروايات الثابتة، وذلك بإكمال الروايات والطرق التي لم يستطع صاحب ذلك المشروع إكمالها، على أن يتم ذلك بنفس الضوابط والدقة التي اتبعت في تسجيل الروايات التي تم تسجيلها.
20- التوصية بإكمال مشروع كلية القرآن الكريم بالمدينة النبوية، على الطريقة التي سار عليها، لا على اعتبار أنه مصحف واحد بالقراءات السبع أو العشر، بل على اعتبار أنه ككتاب متلوٍّ في أوجه القراءة، ولا شك أن ذلك نافع لدارسي علم القراءات، والفائدة منه لهم عظيمة، خاصة مع ندرة المتخصصين في ذلك العلم، ونقصانِهم بِمرور الزمن.
21- التوصية بالبحث عن المخطوطات الكاملة لكتاب الإمام الباقلاني (الانتصار لنقل القرآن)، فهو عمدة المدافعين عن نقل القرآن، وقد اختصر هذا الكتاب أبو عبد الله الصيرفي وسمى مختصره: نكت الانتصار لنقل القرآن، وقد طبعت هذه النكت في مصر سنة 1971م، (3) غير أنَّها لم تحظ بالتحقيق العلمي اللائق بِها، فحبذا لو اهتم بِهذا المختصر الباحثون أيضًا، على أن الكتاب الأصل أوضح برهانًا وعرضًا من المختصر، على ما رأيت من مقارنة نصوصه بالنصوص المنقولة عن الانتصار نفسه.
والله تعالى الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2) اللُّكنة، بضم اللام: عدم إقامة العربية لعجمة اللسان. انظر القاموس المحيط مادة (لكن) ص 1589.
(3) بتحقيق الدكتور محمد زغلول سلام، أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابِها بجامعة الإسكندرية.
جمع القران
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وجعله سراجًا منيرًا للسالكين سبيله، ويسر لنقله إلينا من اختاره ووفقه من أئمة الهدى، فوصل إلينا غضًّا كما أنزل، لم تصل إليه يد التبديل والتحريف، ولم تطمح إلى النيل منه أطماع الجاحدين والمعاندين، فكان ذلك مصداقًا لقوله -جلَّ ذِكره- في كتابه الحكيم: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{.(1)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله في الأمة الأمية، فعلمها ونصحها، فقامت بحفظ كتاب ربِّها، ونقلته إلينا كما أنزل، على أدق أوجه التحري والإتقان.
أما بعد، فلا يخفى ما للقرآن العظيم من مكانة عند المسلمين، فهو كتاب ربهم وشرعه ودستوره الذي ارتضاه للناس إلى يوم الدين، وهو معجزة نبيهم التي تحدى بِها العرب والعجم.
وقد لقي القرآن من المسلمين على مر العصور أبلغ العناية، وحظي بأقصى درجات الحرص والحيطة، فكان أهل كل عصر يجتهدون في المحافظة عليه بشتى الوسائل التي تتاح لهم، فلم يخل عصر من العصور، ولم يخل مصر من الأمصار، من حامل للقرآن، يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، كما لم يخل من مصحف شريف، سطرت فيه آيات القرآن، وحفظت من التحريف.
ففي زمن النبي ، اجتهد صلوات الله وسلامه عليه في حفظ القرآن الكريم، حتى كان يعجل بحفظ القرآن حال نزوله عليه، إلى أن طمأنه الله بأن تحفيظه مضمون عليه ، فقال: } إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ{ .(2) كما حفظ القرآن خلائق لا يحصون من أصحابه .
وفي ذلك العصر دوِّن القرآن الكريم بين يدي النبي ، فكان ذلك التدوين درعًا لكتاب الله وحافظًا له من الضياع والتحريف.
ثم انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى، وخرج حفاظ القرآن إلى المواطن يجاهدون في سبيل الله، فاستحر فيهم القتل، ففزع أصحاب رسول الله ، فأشار الفاروق عمر على أبي بكر – رضي الله عنهما، بأن يجمع القرآن خوفًا عليه من الضياع، فكان ما أراد، وحفظ الله كتابه فصدَّق ما وعد به من التكفل بحفظه.
وفي زمن عثمان رضي الله عنه، كادت فتنةٌ عظيمةٌ تقع بين المسلمين في الأمصار بسبب الاختلاف في حروف القرآءات، فقام الإمام ومن معه من الأصحاب، فنسخوا المصاحف، وأرسلوها إلى الأمصار، وأرسلوا معها معلمين، يقرئون الناس بِها، فصارت هذه المصاحف مراجع لأهل تلك البلدان، واستقامت قراءاتِهم على قراءة من أرسل إليهم من القراء.
واستمرت محافظة المسلمين على القرآن، واجتهادهم في ضبط وكتابة الكتاب المبين، بِما حفظه -بإذن الله- من التبديل والتحريف، فلم يعدم أهل كل عصر أن يجدوا ما يبذلونه في سبيل حفظ كتاب الله، حتى صار المسلمون على مرِّ الزمان مشاركين جمعيًا في المحافظة على القرآن الكريم.
حتى في عصرنا الحاضر، مع ما منَّ الله به علينا من النعم العظيمة، وأظهر على أيدي بني آدم من الابتكارات النافعة المفيدة، وجه الله بصيرة بعض المعاصرين إلى ضرورة الاستفادة من الوسائل الحديثة في حفظ القرآن الكريم، فكان مشروع العصر، متمثلاً في الجمع الصوتي للقرآن الكريم، فكان غيثًا، في عصر أجدبت فيه الألسن، فما عادت تنطق بالفصيح، وكان ذلك العمل حفظًا لكتاب الله، بحفظ تلاوات الأئمة من القراء المجودين.
وقد كان يدور بفكري وأنا طفل صغير خاطرة كانت توقفني كثيرًا، فقد كنت أفكر في نفسي وأقول: هل يعقل أن القرآن نقل إلينا عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولم يتبدل من ألفاظه شيء؟؟ وهل هذا النطق الذي ينطقه القراء هو نفس النطق الذي نطق به النبي وأصحابه؟؟
ثم أنعم الله علي بحفظ كتابه، وكان هذا فضلاً منه تعالى وكرمًا، أن تحمل كلام العزيز الحكيم نفس هذا المقصر المفرِّط، ثم بالغ الله عز وجل في إنعامه وإكرامه، فمنَّ علي بالتخصص في المرحلة الجامعية الأولى في دراسة القرآن الكريم، وفيما يتعلق به من التفسير وعلوم القرآن، والقراءات، وما يتعلق بِها من رسم المصاحف وضبطها، فكان هذا اختيارًا منه تعالى لي، بعد أن كنت متوجهًا إلى المدينة النبوية لدراسة الحديث الشريف وعلومه، ولكن ساقني سبحانه سوقًا إلى هذا التخصص، فأحمده -جلت قدرته- على ما أنعم علي به من حسن الاختيار.
وفي تلك الفترة من دراستي اختلفت إلى دروس القراءات، فرأيت ما لا ينقضي منه العجب من عناية ناقلي القرآن بنقله، كتابة ونطقًا، تجويدًا وتحريرًا، حتى في أدق الهيئات، من إشارة بشفة، أو همسٍ بجزءٍ من حركة.
فرأيت عن كثبٍ جواب ما كان يدور بِخاطري من الوساوس، وأن القوم قد اعتنوا بالكتاب، وقاموا بِما أمروا به من حفظه ونقله إلى الأجيال من المسلمين بعدهم.
ورأيت في دراسة القراءات ورسم المصاحف عمق الرابطة بين نقل القرآن، وبين الرسم العثماني، فمن درس هذين العِلْمين رأى عيانًا أن القراءات المتواترة هي ترجمة دقيقة منطوقة لذلك الرسم، مما يوضح الجهد العظيم، والقدر الرفيع للمصاحف العثمانية، التي أجمع عليها أصحاب النبي .
وقد خفي على كثير من المسلمين في العصور المتأخرة، كثيرٌ من أوجه عناية المسلمين الأوائل بنقل القرآن، حتى صار البعض يشكك في تواتر بعض أوجه القراءة، من الهيئات وينكر وجوب أخذ القرآن مجودًا كما نزل، فدعاني هذا وغيره من الأسباب التي سأوضحها بعد إلى اتخاذ جمع القرآن موضوعًا لأطروحة استكمال متطلبات درجة التخصص ـ الماجستير، فأرجو الله أن أكون موفقًا في عملي هذا، وأن أكون قد جلوت الغبار عن صفحات ناصعة من عناية السلف بنقل القرآن.
(1) الآية 9 من سورة الحجر.
(2) الآيات من 17-19 من سورة القيامة.
أسباب اختيار البحث
كان وراء اختياري موضوع (جمع القرآن) في بحث الماجستير أسباب كثيرة، منها:
أن القرآن هو الأصل الأول عند المسلمين في تلقي أحكام الشرع، وقد توجهت عناية علماء المسلمين على مر التاريخ إلى الاهتمام بنقله على أدق الأوجه، ودفع الشبهات عنه.
خفاء الكثير من أوجه عناية النَّبِيّ ، والصحابة فمن بعدهم بنقل القرآن، وبذلهم غاية الجهد في نقله نقلاً صحيحًا دقيقًا متقنًا.
ما أثاره أعداء الإسلام من الشبهات حول جمع القرآن في مراحله المختلفة، بدءًا من عصر النبوة، إلى وقتنا هذا.
تشكيك بعض المتأخرين في نقل هيئات القراءة (1) ووجوب التزام أحكام التجويد.
الدعوات التي ظهرت قرنًا بعد قرن تدعو إلى كتابة القرآن الكريم على الرسم الإملائي، وتطعن في الرسم العثماني المجمع عليه.
وهذا البحث يبرز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويؤكد أن نقل القرآن حظي بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرد على شبهات الطاعنين من أعداء الإسلام على نقل القرآن…
————-
(1) المقصود بذلك أحكام التجويد من المد والقصر والإدغام والإظهار والإخفاء، وما إلى ذلك …
خطة البحث
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وتَمهيد وخمسة أبواب وخاتمة:
مــقدمـــة
ذكرت فيها أسباب اختيار الموضوع، وخطة البحث، والمنهج المتبع فيه.
تمهيـــد
في معنى الجمع في اللغة والمراد بجمع القرآن عند علماء المسلمين
الباب الأول: جمع القرآن في عهد النبي
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: حفظ القرآن في الصدور
وتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
المبحث الثاني: حفظ النَّبِيّ للقرآن الكريم
المبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النَّبِيّ القرآن أو إسقاطه عمدًا
المبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
الفصل الثاني: تدوين القرآن الكريم
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأمر بكتابة القرآن
المبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
المبحث الثالث: كُتَّاب الوحي
الفصل الثالث: ترتيب الآيات والسور
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الآية والسورة لغةً واصطلاحًا
المبحث الثاني: ترتيب الآيات
المبحث الثالث: ترتيب السور
الفصل الرابع: العرضة الأخيرة
وتضمن ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عرض القرآن في كل سنة على جبريل
المبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
المبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن:
الباب الثاني: جمع القرآن في عهد أبي بكر
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر
الفصل الثاني: أول من جمع القرآن من الصحابة
الفصل الثالث: من قام بالجمع في عهد أبي بكر
الفصل الرابع: منهج ومزايا جمع أبي بكر للقرآن
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: منهج أبي بكر في جمع القرآن
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن، ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن
المبحث الثاني: رد الشبهات المثارة حول جمع أبي بكر للقرآن
الباب الثالث: جمع القرآن في عهد عثمان
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد عثمان
الفصل الثاني: من قام بالجمع في عهد عثمان
الفصل الثالث: منهج جمع القرآن في عهد عثمان ومزاياه
وتضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: منهج عثمان في جمع القرآن
المبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد عثمان
المبحث الثالث: الفرق بين جمع القرآن في مراحله الثلاث
الفصل الرابع: المصاحف العثمانية
وتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: عدد المصاحف العثمانية
المبحث الثاني: الرسم العثماني
المبحث الثالث: حكم اتباع الرسم العثماني
المبحث الرابع: حرق المصاحف المخالفة
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على عثمان في جمع القرآن ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: اعتراض ابن مسعود على عدم توليه الجمع
المبحث الثاني: رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني
الباب الرابع: جمع القرآن والأحرف السبعة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: الأحرف السبعة
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: نزول القرآن على سبعة أحرف
المبحث الثاني: المراد بالأحرف السبعة
الفصل الثاني: الأحرف السبعة في جمع القرآن
وتضمن مبحثين:
المبحث الأول: الأحرف السبعة في الجمع النَّبويّ وجمع أبي بكر للقرآن
المبحث الثاني: الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية
الباب الخامس: الجمع الصوتي للقرآن الكريم
الفصل الأول: مشروع الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
المبحث الأول: فكرة الجمع الصوتي للقرآن الكريم
المبحث الثاني: أهداف الجمع الصوتي للقرآن الكريم
المبحث الثالث: خطة المشروع وتنفيذه
المبحث الرابع: قيمة الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم
الفصل الثاني: مشروع كلية القرآن بالمدينة النبوية لجمع القرآن بالقراءات العشر
المبحث الأول: مشروع الجمع الصوتي للقراءات المتواترة
المبحث الثاني: خطة العمل في المشروع، وتنفيذه
المبحث الثالث: تقويم المشروع
الخاتِمة
وتضمنت أهم نتائج البحث، والتوصيات والاقتراحات
منهج العمل في البحث
1- جمعت الآيات والأحاديث والآثار التي تتعلق بالمبحث أو المسألة.
2- توخيت في النظر في الأحاديث والآثار الصحة في المواضع التي يحتاج فيها إلى الصحة للاستدلال.
3- عزوت الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم.
4- قمت بتخريج الأحاديث من مصادرها التي رواها فيها أصحابُها بأسانيدهم ما أمكن ذلك.(1)
5- عرضت الآراء في حالة الاختلاف عرضًا واضحًا دون ميل إلى رأي دون الآخر، ثم قمت ببيان الرأي الراجح مع التدليل عليه.
6- ترجمت للأعلام الذين أنقل أقوالهم، وتركت الترجمة لمن اتسعت شهرتُهم من الصحابة والعلماء.
7- قمت بشرح وضبط الكلمات الغريبة التي ترد في أثناء الكلام.
8- قدمت قائمة المحتويات على البحث؛ لتكون أسهل تناولاً، ثم ذيلت البحث بفهارس علمية، وهي كالآتي:
1- فهرس الآيات القرآنية مرتبة حسب ترتيب السور في المصحف الشريف.
2- فهرس الأحاديث والآثار مرتبة ترتيبًا هجائيًّا.
3- فهرس الأعلام المترجمين مرتبين ترتيبًا هجائيًّا.
4- قائمة المراجع، مرتبة ترتيبًا هجائيًّا.(2)
والله أسأل أن أكون قد وفقت فيما طرقته من مسائل ومباحث، فما كان فيه من صواب فمن الله، وبِمنِّهِ وفضله، وما كان فيه من خطأٍ فمني ومن الشيطان، فهو عمل بشري، يعتريه النقص الذي يعتري البشر.
قال العماد الأصفهاني: إني رأيت أنه لا يكتبُ أحدٌ كتابًا في يومه، إلا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زِيد هذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر.
أسأل الله أن يهدينا إلى سـواء السبيل. إنه على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) حيث قد وجدت بعض الآثار، ولم أجد من أسندها، وذكرتُها استئناسًا لا استدلالاً.
(2) لم أذكر بيانات المراجع في أول موضع لَها في البحث، وتركت ذلك للقائمة التي في نِهاية البحث، لأن مأخذ ذلك أسهل على من يريد الوصول إلى بيانات المرجع.
تمهيد
الجمع في اللغة وجمع القرآن عند علماء المسلمين
الجمع في اللغة
جمع القرآن عند علماء المسلمين
الجمع في اللغة:
قال ابن فارس:(1) الجيم والميم والعين أصلٌ واحدٌ، يدلُّ على تضامِّ الشيء.(2)
فالْجَمْعُ ضَّمُّ المتفرِّقِ بتقريبِ بعضِهِ من بعضٍ، وَهُوَ خِلاَفُ التَّفْرِيقِ وَهُوَ مَصْدَرُ جَمَعَ يَجْمَعُ مِنْ بَابِ مَنَعَ.(3)
يقال: جَمَعْتُ الشَّيْءَ عَنْ تَفْرِقَةٍ أَجْمَعُهُ جَمْعًا وَأَجْمَعْـتُهُ، وَجَمَّعْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ مُبَالَغَةٌ فَاجْتَمَعَ وَاجْدَمَعَ.
ويقال للمجموع (وهو الذي جُمِعَ من هاهنا وهاهنا، وإن لم يُجْعَل كالشيء الواحد): جَمْعٌ وجميعٌ وجماعةٌ.(4)
وَيُقَالُ أَجْمَعَ الْمَسِيرَ وَعَلَى الْمَسِيرِ – يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ: عَزَمَ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَتُهُ جَمَعَ رَأْيَهُ عَلَيْهِ، وَمنهُ الْحَدِيثُ: مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ،(5) أَيْ: مَنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ فَيَنْوِيه.
وَأَجْمَعُوا عَلَى الأَمْرِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ وَاسْتَجْمَعُوا بِمَعْنَى تَجَمَّعُوا، وَاسْتَجْمَعَ السَّيْلُ اجْتَمَعَ مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاسْتَجْمَعَتْ لِلْمَرْءِ أُمُورُهُ اجْتَمَعَ لَهُ مَا يُحِبُّهُ.
ويُقَالُ رَجُلٌ مُجْتَمِعٌ إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ؛ لأَنَّهُ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْقُوَى، أَوْ لأَنَّ لِحْيَتَهُ اجْتَمَعَتْ.
وَالْجَمْعُ الدَّقَلُ؛ لأَنَّهُ يُجْمَعُ وَيُخْلَطُ مِنْ تَمْرِ خَمْسِينَ نَخْلَةً، وَقِيلَ: كُلُّ لَوْنٍ مِنْ النَّخْلِ لاَ يُعْرَفُ اسْمُهُ فَهُوَ جَمْعٌ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى التَّمْرِ الرَّدِيءِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ” بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا”.(6)
وَالْجَمْعُ أَيْضًا الْجَمَاعَةُ، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَيُجْمَعُ عَلَى جُمُوعٍ مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ.
وَجَمْعٌ اسْمٌ لِلْمُزْدَلِفَةِ، إمَّا لأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ بِهَا، وَإِمَّا لأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ بِحَوَّاءَ وَازْدَلَفَ إلَيْهَا أَيْ دَنَا.
والجمع: مصدر قولك: جمعت الشيء، والجمع: المجتمعون، وجمعه: جموع، والجماعة والجميع والْمَجْمَع والْمَجْمَعَةُ: كالجمع.
وفي الحديث: له سَهْمُ جَمْعٍ،(7) أي له سهمٌ من الخير جُمِعَ فيه حظَّانِ، وقيل: أراد بالجمع الجيشَ، أي: كسهمِ الجيشِ من الغنيمة.(8)
وَالْمَجْمَعُ – بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا مِثْلُ الْمَطْلَعِ وَالْمَطْلِعِ – يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ وَعَلَى مَوْضِعِ الاجْتِمَاعِ، وَالْجَمْعُ الْمَجَامِعُ.
وفي الحديث: بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ(9) أَيْ كَانَ كَلاَمُهُ قَلِيلَ الأَلْفَاظِ كَثِيرَ الْمَعَانِي.
وَحَمِدْتُ اللهَ تعالى بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ. أَيْ: بِكَلِمَاتٍ جَمَعَتْ أَنْوَاعَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تعالى.(10)
نستخلص مِمَّا سبق أن الجمع يطلق في اللغة على عدة معان،(11) هي:
1 – الْجَمْعُ هو ضم الأشياء المتفرقة بتقريب بعضها من بعض.
2 – الْجَمْعُ مصدر جَمَعَ الشَّيْءَ يجمعُه إذا كان متفرِّقًا فضَمَّ بعضَهُ إلى بعضٍ.
3 – الْجَمْعُ: المجتمعون، تسمية بالمصدر، كالجماعة والجميع والْمَجْمَع والْمَجْمَعَةُ.
4 – الْجَمْعُ: الجيش، كالجميع.
5 – جَمْعٌ: الْمُزْدَلِفَةُ، لأن الناس يجتمعون بِها، أو لأن آدم اجتمع هناك بحواء.
6 – الْجَمْعُ: الدَّقَل؛ لأَنَّهُ يُجْمَعُ وَيُخْلَطُ، وَقِيلَ هُوَ كُلُّ لَوْنٍ مِنْ النَّخْلِ لاَ يُعْرَفُ اسْمُهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الرَّدِيءِ مِنَ التَّمْرِ.
جمع القرآن عند علماء المسلمين:
ثم إن علماء الشرع أطلقوا جمع القرآن(12) على أربعة معانٍ، وهي:
1 – حفظ القرآن في الصدور.
2 – تأليف سور القرآن الكريم.
3 – تأليف الآيات في السورة الواحدة من القرآن الكريم.
4 – كتابة القرآن الكريم في الصحف والمصاحف.
أما الإطلاق الأول فقد حصل في عصر النبي ، حيث حفظ القرآنَ الكريمَ عن ظهر قلبٍ النبيُّ وجمعٌ من أصحابه ، ومنه قوله : } إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {،(13) قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ.(14)
وعن قَتَادَةُ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ.(15)
وأما الإطلاقان الثاني والثالث، فقال الزركشي: قال أبو الحسين أحمد بن فارسٍ في كتاب المسائل الخمس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطُّوال ، وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة رضي اله عنهم(16) وأما الجمع الآخر، فضمُّ الآي بعضها إلى بعضٍ، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيءٌ تولاَّه رسول الله ،ـ(17) كما أخبر به جبريل عن أمر ربه .ـ(18)
وأما الإطلاق الرابع، فيتضمن مرحلتين: الأولى جمع متَفَرِّقِهِ في صحفٍ، وهو ما حدث في عصر الصِّدِّيق ، والثانية: جمع تلك الصحف في مصحفٍ واحدٍ، وهو ما حدث في عصر عثمان بن عفان .ـ(19)
(1) هو الإمام العلامة اللغوي المحدث أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني، صاحب كتاب مجمل اللغة، كان رأسًا في الأدب، بصيرًا في فقه مالكٍ، مناظرًا متكلمًا، وكان من رءوس أهل السنة، المجردين على مذهب أهل الحديث، توفي في صفر سنة395 هـ. سير أعلام النبلاء (17/103)، شذرات الذهب لابن العماد (3/132).
(2) أبو الحسين أحمد بن فارس- مقاييس اللغة (1/479).
(3) جمهرة اللغة لابن دريد (2/103)، وتهذيب اللغة للأزهري (1/397).
(4) الراغب الأصفهاني – المفردات في غريب القرآن – تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني – دار المعرفة – بيروت -ص 96-97، وتهذيب اللغة للأزهري (1/397).
(5) رواه أبو داود في سننه عن حفصة – رضي الله عنها -: كتاب الصوم، باب النية في الصوم (2/329) ح: 2454، والنسائي في سننه عن حفصة – رضي الله عنها: كتاب الصيام، باب النية في الصيام – اختلاف الناقلين لخبر حفصة: سنن النسائي مع شرح السيوطي والسندي (2/196-198)، ورواه مالكٌ في الموطأ عن عبد الله بن عمر وعائشة وحفصة : كتاب الصيام، باب من أجمع الصيام قبل الفجر ص 193.
(6) اَلْجَنِيبُ على وزن فَعِيلٍ مِنْ أَجْوَدِ أنواع التَّمْرِ – القاموس المحيط (جنب) ص 89، والحديث متفقٌ عليه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما، البخاري في صحيحه: كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (4/467) ح: 2202-2202، ومسلم في صحيحه: كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا: صحيح مسلم مع شرح النووي (11/20-21).
(7) رواه أبو داود في سننه عن أبي أيوب: كتاب الصلاة، باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم (1/158) ح: 578، ومالك في الموطأ عن أبي أيوب: كتاب صلاة الجماعة، باب إعادة الصلاة مع الإمام، والنسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري: كتاب الغسل والتيمم، باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة: سنن النسائي مع شرح السيوطي والسندي (1/213).
(8) ابن الأثير الجزري – النهاية في غريب الحديث والأثر – تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي – المكتبة العلمية – بيروت – (1/296)، وابن منظور الإفريقي – لسان العرب – دار المعارف – القاهرة – (1/678-683).
(9) رواه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي بعثت بجوامع الكلم (13/261) ح 7273.
(10) انظر مادة ( جمع ) في: تهذيب اللغة (1/397-402)، ولسان العرب (1/678-683)، والصحاح (3/1198-1200)، والقاموس المحيط ص 917-918.
(11) مقاييس اللغة (1/479-480)، ولسان العرب (1/678-679،682)، والقاموس المحيط ص 917، والصحاح (3/1198)، وانظر المعجم الوسيط (1/135).
(12) انظر مناهل العرفان (1/239).
(13) الآيتان 16،17 من سورة القيامة.
(14) رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، باب 4، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (1/39)ح 5.
(15) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(16) بحث ترتيب السور، وهل هو توقيفي أو باجتهاد من الصحابة .يأتي في الفصل الثالث من الباب الأول – إن شاء الله.
(17) كما في حديث عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وفيه: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: ضَعْ هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. رواه وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وأحمد في مسنده – مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501.
(18) البرهان في علوم القرآن – الزركشي (1/258-259).
(19) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/148)، وانظر مناهل العرفان (1/239).
الباب الأول
جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الأول: حفظ القرآن في الصدور
الفصل الثاني: تدوين القرآن الكريم
الفصل الثالث: ترتيب الآيات والسور
الفصل الرابع: العرضة الأخيرة
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
المبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
الْمبحث الثاني: حفظ النبيr للقرآن الكريم
بواعث حفظ النبي r للقرآن
الْمبحث الأول: فضل حفظ القرآن الكريم
شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم، وهي أنَّهم يقرءون كتاب ربِهم عن ظهرقلبٍ، كما جاء في صفة هذه الأمة عن وهب بن منبه:(1) أمة أناجيلهم في صدورهم،(2) بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.(3)
وقد تكفَّل الله بحفظ هذا الكتاب، كما قال: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { ،(4) وكان من حفظه لكتابه أن وفَّقَ هذه الأمة إلى حفظه واستظهاره.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك:
1 – علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به، فعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ.(5)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ، وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ.(6)
2 – وما ورد من أن حافظ القرآن لا تحرقه النار، فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ(7) ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ.(8)
قال ابن الأثير:(9) … وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له..(10)
3 – ومنه تشفيعه في أهله، فعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.(11)
4 – ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ.(12)
5 – وكذلك إكرام والدي حافظ القرآن، وإعلاء منزلتهما، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيامَةِ، ضَوْءهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا – لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟(13)
6 – ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:(14) حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ(15) أَهْلِ الْجَنَّةِ.(16)
وعن طاوس أنه سأل ابن عباس – رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة ؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.(17)
الْمبحث الثاني: حفظ النبي للقرآن الكريم
كان العرب قبل الإسلام أمَّةً أمِّـيَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، والأمي(18) إنما يعتمد في حفظ ما يحتاج إلى حفظه على ذاكرته، فليس ثَمَّ كتابٌ يحفظ عليه ما يريد حفظه، وقد كان العرب يحفظون في صدورهم ما يحتاجون إلى حفظه من الأنساب والحقوق والأشعار والخطب.
قال : } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّـيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ { .(19)
ولما بُعِثَ النبي في هذه الأمة كانت إحدى آيات ودلائل نبوته أنه أميٌّ؛ حتى لا يتطرق إلى أوهام من يدعوهم أن دعوته مبنية على علمٍ حصَّله من مُعَلِّمٍ، كما قال : } وَمَا كُنْتَ تَـتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِنِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمبْطِلُونَ { .(20)
فلما كان النبي أُمِّـيًّا، فلا غروَ كان كذلك يعتمد على ذاكرته في الحفظ، فلما شرَّفه الله بالرسالة، وكان القرآن الكريم آيته التي تحدى بِها الناس كافة والعرب خاصةً – كان شديد الحرص على حفظ القرآن حال إنزاله – وهو من أشد الأحوال عليه، حتى لقد كان يعاني مشقة عظيمة لتَعَجُّلِهِ حفظَ القرآن الكريم، مخافة أن ينساه، حتى أنزل الله عليه ما يثبت به فؤاده، ويُطَمْئِنُهُ أن القرآن لن يَتَفلَّتَ منهُ:
قال الله : } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ! فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ { .(21)
فطمأنه الله تعالى أن حفظ وبيان القرآن إليه ، وأمره أن ينصت إلى الوحي، كما قال : } وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا { .(22)
قال الحافظ ابن حجر: ولما كان من أصل الدين أن الْمبادرة إلى أفعال الخير مطلوبةٌ، فنُـبِّه على أنه قد يَعترضُ على هذا الْمطلوب ما هو أجَلُّ منهُ، وهو الإصغاء إلى الوحي، وتَفَهُّمُ ما يَرِدُ منه، والتشاغل بالحفظ قد يَصُدُّ عن ذلك، فأُمِرَ ألاَّ يُبَادر إلى التحفظ ؛ لأن تحفيظه مضمونٌ على ربه اهـ.(23)
عن سعيد بن جبيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – فِي قَوْلِهِ تعالى: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ { قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ،(24)
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يُحَرِّكُهُمَا،
وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { قَالَ: جَمْعُـهُ لَكَ فِي صَـدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، } فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ { قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، } ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ كَمَا قَرَأَهُ.(25)
وظاهر السياق يحتمل أن يكون إنما كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ للمشقة التي كان يجدها عند نزول الوحي، فكان يتعجل بأخذه لتزول الْمشقة سريعًا.
وفي روايةٍ أخرى عند البخاري: كان يُحَرِّكُ به لسانه مخافة أن ينفلت منه.(26)
فهذه الرواية صريحةٌ في أن سبب الْمبادرة هو خشية النسيان، أي كان يحرك لسانه لئلا يفلت منه حرف أو تضيع منه لفظة.
وعن الشَّعْبِيِّ في هذه الآية: } لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ { قال: كان إذا نزل عليه الوحي عَجِلَ يتكلم به من حُبِّه إيَّاه.(27)
وهذه الرواية تدل على أن سبب الْمبادرة هو حب الرسول للقرآن، وحب الشيء يستلزم الخوف عليه، والخوف من ذهابه عنه.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بُعْدَ في تعَدُّدِ السببِ.(28)
بواعث حفظ النبي للقرآن
يُمكن أن نستخلص مِمَّا سبق بواعث حفظ النبي للقرآن الكريم، وهي:
1 – أنه الْمبلِّغ عن ربه تعالى، والحفظ ضروري للبلاغ على الوجه الأكمل الذي أمره الله به.
2 – حب النبي للقرآن الكريم.
3 – خوف نسيان القرآن.
4 – التوثُّق للقرآن، والتحري في ضبط ألفاظه وحفظ كلماته.
(1) تابعي ثقة، ولد سنة 34 هـ، وأخذ عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وغيرهم من الصحابة، كان إخباريًّا قصاصًا، غزير العلم بالإسرائليات وصحائف أهل الكتاب، ومن الْمشهورين بالعبادة والوعظ، تولي قضاء صنعاء. توفي سنة 110 هـ، وقيل سنة 113 هـ، وقيل سنة 114 هـ. سير أعلام النبلاء (4/544)، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/150).
(2) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب صفة رسول الله في التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب، وصفة أمته (1/379).
(3) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/400).
(4) الآية 9 من سورة الحجر.
(5) رواه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير، سورة عبس. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (8/560) ح: 4937.
(6) رواه ابن ماجه في سننه: كتاب الأدب، باب ثواب القرآن. (2/1242) ح: 3780.
(7) الإهاب، ككِتَابٍ: الجِلْد. القاموس الْمحيط ( أهب ) ص 77.
(8) رواه أحمد في الْمسند: مسند الشاميين (5/148) ح 16914، و (5/156) ح 16967، والدارمي في سننه: كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن (2/430) ح 3310
(9) هو القاضي الرئيس العلامة الأوحد، مجد الدين أبو السعادات بن الأثير الجزري، صاحب جامع الأصول وغريب الحديث، وغير ذلك، توفي سنة 606? . سير أعلام النبلاء (21/488).
(10) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/83).
(11) رواه ابن ماجه في سننه: الْمقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (1/78) ح: 216. ورواه الترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن ح: 2905، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وأحمد في الْمسند: مسند العشرة الْمبشرين بالجنة عن علي بنحوه (1/239) ح 1271، و (1/241) ح 1281.
(12) رواه ابن ماجه في سننه: الْمقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه (1/78) ح: 215.
(13) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن (2/70)ح: 1453 وأحمد في مسنده: مسند الْمكيين (4/466) ح 15218.
(14) عطاء بن يسار الْمدني الفقيه، مولى ميمونة أم الْمؤمنين، تابعي ثبت حجة، كبير القدر، كان إمامًا فقيهًا واعظًا، قاضيًا بالْمدينة، توفي سنة ? . شذرات الذهب (1/125)، وسير أعلام النبلاء (4/448).
(15) العرفاء جمع عَرِيف، وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس – لسان العرب ( عرف ) (4/2899).
(16) رواه الدارمي في سننه: كتاب فضائل القرآن، باب في ختم القرآن (2/470) ح: 3484، ورواه الطبراني عن الحسين بن علي مرفوعًا بلفظ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ. قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن إبراهيم بن سعد الْمدني، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (7/164)، وانظر الإتقان (4/104).
(17) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/218).
(18) الأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ، أو منسوب إلى الأم، كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها، أو على أنه أشبه بأمه منه بأبيه، إذ إن نساء العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة، ووصف النبي بالأمي إما على أحد الْمعاني السابقة، أو على أنه منسوب إلى أمة العرب، وهي الأمة الأمية، وكانوا في الجاهلية لا يعرفون القراءة والكتابة إلا النادر، ولذلك كان أهل الكتاب يصفونهم بالأميين، أو على أنه منسوب إلى أم القرى – شرفها الله. القاموس الْمحيط ص 1392، والجامع لأحكام القرآن (7/190)، وتفسير أبي السعود (3/279).
(19) من الآية 2 من سورة الجمعة.
(20) الآية 48 من سورة العنكبوت.
(21) سورة القيامة، الآيات 16-18.
(22) من الآية 114 من سورة طـه.
(23) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/548) بتصَرُّفٍ يسير.
(24) في كتاب التفسير من صحيح البخاري أن سفيان بن عيينة وصف تحريكه لسانه بقوله: يريد أن يحفظه، قال الحافظ في الفتح: وفي رواية أبي كريب: تعَجَّل يريدُ حفظَه، فنـزلت. فتح الباري (8/548-549).
(25) رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (1/39) ح: 5.
(26) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، كتاب التفسير، باب } إن علينا جمعه وقرآنه { (8/549) ح: 4928.
(27) رواه الطبري في التفسير (29/187).
(28) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/550).
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
الْمبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النبي r القرآن أو إسقاطه عمدًا
مسألة وقوع النسيان من النبي r
الْمبحث الثالث: الرد على دعوى جواز نسيان النبي القرآن أو إسقاطه عمدًا
شكَّك بعض الْملاحدة في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن الكريم وجمعه، وهو حفظ النبي للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي ، واستدلوا على ذلك بدليلين:
الأول: قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { .(29)
فزعموا أن الآيات تدل – بطريق الاستثناء – على أن محمدًا قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي .
والثاني: ما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها.(30)
فزعموا أن النبي أسقط عمدًا بعض آيات القرآن، أو أُنسِيَها.
الجواب عما تعلق به أصحاب هذه الشبهةِ
فيجاب عن دعواهم أن الآيات الكريمات تدل على جواز نسيان النبي بعض القرآن:
أولاً: بأن قوله : } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى { وعدٌ كريمٌ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن، إذ إن (لا) في الآية نافية، وليست ناهية، بدليل إشباع السين، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه.
وقيل (لا) ناهيةٌ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والقول الأول أكثر.(31)
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين: والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف، وعليها القراء.(32)
ومعنى الآية على هذا: سنعلمك القرآن، فلا تنساه، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه.
ثانيًا: إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه، ولم تقع الْمشيئة، بدليل ما مر من قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ { ، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته.
ثالثًا: الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى شيئًا من القرآن، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ، فهو للتبرك، وليس هناك شيءٌ استُثني.
قال الفراء:(33)لم يشأ أن ينسى شيئًا، وهو كقوله: } خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك { ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك، والنية ألا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان، يُستثنى فيها، ونية الحالف التمام.(34)
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي القرآن هو محض فضل الله وإحسانه، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه، وفي ذلك إشعارٌ للنبي أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح .ـ(35)
القول الثاني: أن الاستثناء حقيقي، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه ما يقرؤه، إلا ما شاء – سبحانه – أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة، أو على أن الْمراد به الترك، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم.
عن الحسن وقتادة } إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { : أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنَّ.
وقال الطبري: وقال آخرون: النسيان في هذا الْموضع: الترك، قالوا: ومعنى الكلام: سنقرئك يا محمد، فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه.(36)
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات، إذ لا يفهم منها أن النبي قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه.
والجواب عما زعموه في الحديث الشريف:
أولا: أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين بلغ عددهم مبلغ التواتر- والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ بالآيات، وكان قد أُنسيها، أو أسقطها نسيانًا، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي كانوا نسوها جميعًا، حتى يخاف عليها الضياع.(37)
ثانيًا: أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ.(38)
قال الباقلاني(39) وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادةٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له، ولا قادح في آياته، ولا مفسد لكمال صفاته، ولا مسقط لقدره، ولا منزل له عنه، ولا معرضٍ بتهمته.(40)
ثالثًا: أن قوله : ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى: ( أُنْسِيتُها )، فدل على أنه أسقطها نسيانًا لا عمدًا، فلا محل لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن.
قال النووي: قوله : “كنت أُنْسِيتُها” دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(41)
وترد هنا مسألة وقوع النسيان من النبي ، وهي الْمسألة الآتية.
مسألة وقوع النسيان من النبي
وقوع النسيان من النبي يكون على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه فيما ليس طريقه البلاغ.
فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه من الطبيعة البشرية.
والثاني: وقوع النسيان منه فيما طريقه البلاغ.
وهذا جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً.
قال النووي في شرح قوله : “كنت أُنْسِيتُها”: دليل على جواز النسيان عليه فيما قد بلَّغه إلى الأمة.(42)
الشرط الثاني: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره: إما بنفسه، وإما بغيره.(43)
وقال القاضي عياضٌ(44) – رحمه الله: جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يُقَرُّ عليه، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره.(45)
ونسيان النبي لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا:
قال الإسماعيلي:(46) النسيان من النبي لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله في حديث ابن مسعود في السهو: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون.(47)
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال، لظاهر قوله : } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { .(48)
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: } سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ { ،(49) على بعض الأقوال.
وهذا القسم داخل في قوله : } مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا { .(50)(51)
وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه النسيان في شيء أصلاً، وإنما يقع منه صورته، ليَسُنَّ.(52)
قال القاضي عياضٌ: وهذا تناقض مردودٌ، ولم يقل بِهذا أحد مِمَّن يقتدى به، إلا الأستاذ أبو الْمظفر الإسفراييني(53) من شيوخنـا، فإنه مال إليه ورجحـه، وهو ضعيفٌ متناقض.(54)
(29) سورة الأعلى، الآية 6، وبعض الآية 7.
(30) رواه البخاري في صحيحه، انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (5/312) كتاب الشهادات ح: 2655، و(8/702-705) كتاب فضائل القرآن ح:5037،5038،5042، و(11/140) كتاب الدعوات ح: 6335، ورواه مسلم في صحيحه، صحيح مسلم بشرح النووي كتاب صلاة الْمسافرين، باب الأمر بتعهد القرآن (6/75)، وأبو داود في سننه: كتاب الصلاة – باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (2/37) ح: 1331، وفي أول كتاب الحروف والقراءات (4/31) ح: 3970.
(31) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312، وفتح القدير (5/420)، تفسير القرآن العظيم (4/500).
(32) الجامع لأحكام القرآن (20/14).
(33) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الأسدي مولاهم، العلامة صاحب التصانيف، إمام النحاة، وصاحب الكسائي، توفي بطريق الحج سنة 207هـ. سير أعلام النبلاء (1/118)، وتذكرة الحفاظ (1/372).
(34) معاني القرآن للفراء (3/256).
(35) مناهل العرفان (1/267-268).
(36) تفسير الطبري (30/154)، وفتح القدير (5/422)، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/702).
(37) مناهل العرفان (1/265).
(38) مناهل العرفان (1/266).
(39) هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، الإمام العلامة، سيف السنة ولسان الأمة، الْمتكلم على لسان أهل الحديث، صاحب التصانيف، وكان يُضرب الْمثل بفهمه وذكائه، وكان ثقة إمامًا بارعًا. صنف في الرد على الرافضة والْمعتزلة وغيرهم من الفرق، مات في ذي القعدة سنة 403هـ . سير أعلام النبلاء (17/190).
(40) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 312.
(41) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(42) شرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(43) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(44) أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض، الإمام العلامة الحافظ شيخ الإسلام، استبحر في العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، وهو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بالنحو واللغة وكلام العرب، من مؤلفاته الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى، ومشارق الأنوار. توفي سنة 544هـ . سير أعلام النبلاء (20/212).
(45) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/161)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76).
(46) هو الإمام الحافظ الفقيه الحجة شيخ الإسلام، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي الشافعي، صنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، وكان واحد عصره، وشيخ الْمحدثين والفقهاء. توفي سنة 371. سير أعلام النبلاء (16/292).
(47) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ. (1/600) ح 401.
(48) الآية 9 من سورة الحجر.
(49) الآية 6 وبعض الآية 7 من سورة الأعلى.
(50) من الآية 106 من سورة البقرة.
(51) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/703).
(52) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/147)، و(2/161).
(53) هو العلامة الْمفتي طاهر بن محمد الطوسي الشافعي، صاحب التفسير الكبير، كان أحد الأعلام، توفي سنة 471هـ . سير أعلام النبلاء (18/401).
(54) الشفا بتعريف حقوق الْمصطفى (2/163-164)، وشرح النووي على صحيح مسلم (6/76-77).
الفصل الأول
حفظ القرآن في الصدور
الْمبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
أسانيد القراء العشرة إلى الصحابة
الْمبحث الرابع: الحفاظ من الصحابة
كان أصحاب النبي يحفظون القرآن بسماعه منه، فهذه أم هشام بنت حارثة ابن النعمان(55) تحفظ سورة من القرآن من في رسول الله :
عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللهِ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ } ق وَالْقُرْآنِ الْمجِيدِ { ،(56) إِلاَّ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.(57)
ومع حرص أصحاب النبي الشديد على تلقي القرآن منه وحفظه – كان يشجعهم ويحثهم على تعلُّم القرآن وتعليمه:
عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ.(58)
وكان يحرص أن يتعلم كل من التحق بدار الإسلام بالْمدينة القرآن، فكان يختار لهم من يعلِّمهم:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ(59) قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يُشْغَلُ، فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ.(60)
ولقد حفظ القرآن الكريم من الصحابة جمع كبير يصعب حصره، فقد ثبت في الصحيحين أنه قتل في بئر معونة(61) سبعون من القراء:
عَنْ أَنَسِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْماءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ.(62)
وروي أنه قتل في وقعة اليمامة(63) كثير من القراء، ويدل على ذلك قول عُمَرَ : إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْموَاطِنِ.(64)
قال الحافظ في الفتح: وهذا يدل على أن كثيرًا مِمَّن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون الْمراد أن مجموعهم جَمَعَهُ، لا أن كل فرد جَمَعَهُ.(65)
وقد عرف من قراء الصحابة كثيرون، منهم الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ ابن جبل، وأبو زيد الأنصاري، وسالْم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر،(66) وأبو أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ومُجَمِّع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وأُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارثِ الأَنْصَارِيِّ، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب بن أبي السائب الْمخزومي، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة .ـ(67)
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أنه ذَكَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فقالَ: لاَ أَزَالُ أُحبُّهُ ؛ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالْم، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.(68)
وعن شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً.(69)
وعن قَتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ(70) يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ. وفي رواية أَبُو الدَّرْدَاءِ مكان أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.(71)
وعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ(72) وَكَانَتْ قَدْ جَمَعَتِ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا، وَكَانَ لَهَا مُؤَذِّنٌ، وَكَانَتْ تَؤُمُّ أَهْلَ دَارِهَا.(73)
ثم دارت أسانيد القراء العشرة على ثمانية من الصحابة (74) هم:
1 – عثمان بن عفان.
2 – علي بن أبي طالب.
3 – أبي بن كعب.
4 – عبد الله بن مسعود.
5 -زيد بن ثابت.
6 – أبو موسى الأشعري.
7 – أبو الدرداء.(75)
8 – عمر بن الخطاب.
أسانيد القراء العشرة إلى الصحابة
أذكر هنا مَن تصل إليه أسانيد القراء العشرة من الصحابة:
1 – قراءة نافع بن عبد الرحمن الْمدني:(76)
عن ستة من الصحابة هم: عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة.(77)
2 – قراءة عبد الله بن كثير الْمكي:(78)
عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن السائب.(79)
3 – قراءة أبي عمرو البصري:(80)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن السائب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة.(81)
4 – قراءة عبد الله بن عامر الشامي:(82)
عن عثمان بن عفان، وأبي الدرداء.(83)
5 – قراءة عاصم بن أبي النجود:(84)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب.(85)
6 – قراءة حمزة بن حبيب الزيات:(86)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والحسين بن على بن أبي طالب.(87)
7 – قراءة علي بن حمزة الكسائي:(88)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة، والحسين بن علي بن أبي طالب.(89)
8 – قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع:(90)
عن زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعبد الله بن عياش، وأبي هريرة.(91)
9 – قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي:(92)
عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن السائب، وأبي هريرة.(93)
10 – قراءة خلف بن هشام البزار:(94)
عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، والحسين بن على بن أبي طالب.(95)
(55) وقيل أم هاشم، صحابية أنصارية مشهورة، روت حديث قراءة سورة ق على الْمنبر يوم الجمعة، وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة لأمها. أسد الغابة في معرفة الصحابة (7/403)،و(7/406)، وتقريب التهذيب ص 759 ترجمة 8779.
(56) الآية 1 من سورة ق.
(57) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة ح: 873، انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (6/162)، والنسائي في سننه: كتاب الجمعة، باب القراءة في الخطبة ح1411، انظر سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي (3/107)، وأبو داود في سننه كتاب الصلاة باب الرجل يخطب على قوس (1/288) ح 1100.
(58) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ (8/691) 5027.
(59) هو أبو الوليد عبادة بن الصامت الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، ومن أعيان البدريين، شهد الْمشاهد كلها مع رَسُول اللهِ ، وسكن بيت الْمقدس، مات بالرملة سنة 34 هـ . سير أعلام النبلاء (2/5)، وأسد الغابة (3/160)، وشذرات الذهب (1/40-62).
(60) رواه أحمد في مسنده باقي مسند الأنصار (6/443) ح 22260.
(61) محل شرقي الْمدينة، بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم قِبَل نجدٍ، وبِها أرسل النَّبِيّ نفرًا من القراء إلى أهل نجد يدعونهم إلى الإسلام، فغدر بِهم عامرُ بن الطفيل فقتلهم، وكانوا سبعين رجلاً، وكان ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة. السيرة النبوية لابن هشام (3/103-108)، والْمصباح الْمنير ص 170.
(62) البخاري في كتاب الجهاد والسير باب من يُنْكَب في سبيل الله. صحيح البخاري مع فتح الباري (6/23) ح2801، ومسلم في كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد ح 677. صحيح مسلم مع شرح النووي (13/46-47).
(63) اليمامة من حروب الردة، وهي الوقعة التي قاتل فيها الْمسلمون مسيلمة الكذاب ومن معه سنة 11 هـ ، استشهد فيها من الصحابة أكثر من ستمائة رجل، وكان جملة القتلى من الْمسلمين نحو 960 رجلاً، وقتل من الْمرتدين أكثر من عشرين ألف رجلٍ. تاريخ الأمم والْملوك – الطبري (2/283)، والبداية والنهاية (6/330)، وتاريخ الإسلام للذهبي في جزء حوادث سنة 11-40 هـ ص 73، وذكر الحافظ في الفتح أن القتلى من القراء كانوا سبعين، فتح الباري (8/668)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/199-204).
(64) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/626) ح 4986.
(65) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(66) قال الذهبي بعد ذكر معاذ بن جبل، وأبي زيد، وسالْم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر: ولكن لم تتصل بنا قراءتهم. معرفة القراء الكبار (1/42).
(67) انظر: جمال القراء وكمال الإقراء (2/424)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 67-70، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/668)، والإتقان (1/199-204).
(68) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 4999.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(69) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5000.انظر الصحيح مع فتح الباري (8/662).
(70) قال النووي: هو سعد بن عبيد بن النعمان الأوسي، من بني عمرو بن عوف، بدري، يُعرف بسعد القارئ، استشهد بالقادسية سنة خمس عشرة في أول خلافة عمر بن الخطاب ، قال ابن عبد البر: هذا هو قول أهل الكوفة، وخالفهم غيرهم فقالوا: هو قيس بن السكن الخزرجي، من بني عدي بن النجار، بدري، قال موسى بن عقبة: استشهد يوم جيش أبي عبيد بالعراق، سنة خمس عشرة أيضًا. شرح النووي على صحيح مسلم (16/20).
وقال ابن الأثير بعد أن ذكر ترجيح الواقدي أنه قيس بن السكن: هذا كله قول الواقدي. وغيره يصحح أنَّهما – يعني هذا (سعد بن عبيد ) وقيس بن السكن – جميعًا جمعا القرآن على عهد رسول الله . أسد الغابة في معرفة الصحابة (6/128).
وذكر الحافظ ابن حجر عن علي بن الْمديني أن اسمه أوس، وعن يحيى بن معين: هو ثابت بن زيد. فتح الباري (7/159)، وذكر أيضًا قولاً أنه قيس بن أبي صعصعة، وقولاً أنه سعد بن الْمنذر. فتح الباري (8/669).
(71) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(72) وقيل أم ورقة بنت نوفل، وهي صحابية، كانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النَّبِيّ أن تتخذ مؤذنًا، فأذن لها، فكانت تؤم أهل دارها، ماتت في خلافة عمر، قتلها خدمها، وكان النَّبِيّ يسميها الشهيدة. أسد الغابة في معرفة الصحابة (7/408-409)التقريب ص 759، ترجمة 8780.
(73) رواه أحمد في مسنده: مسند القبائل (7/554) ح 26739، وانظر الإتقان (1/203).
(74) هؤلاء الثمانية هم الذين قرءوا على النبي مباشرة، وإن كان في أسانيد القراء من لم يقرأ على النبي، بل قرأ على بعض الصحابة، كابن عباس والحسينبن علي، وأبي هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد الله بن عياش، كما سيأتي.
(75) قال الإمام الذهبي: فهؤلاء الذين بلغنا أنَّهم حفظوا القرآن في حياة النبي ، وأُخذ عنهم عرضًا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة. اهـ . معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (1/42).، وقد وردت رواية القرآن عن عمر كما سيأتي قريبًا في ذكر من روى عنهم القراء من الصحابة، وانظر النشر في القراءات العشر (1/112،120).
(76) هو الإمام حبر القرآن، نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم، أبو رويم الْمقرئ الْمدني، أحد الأعلام، ولد سنة بضع وسبعين للهجرة، قرأ وجوَّد كتاب الله على طائفة من التابعين من أهل الْمدينة، منهم: الأعرج، وأبو جعفر، قال عنه مالك: نافعٌ إمام الناس في القراءة، وكان طيب الخلق، يباسط أصحابه، إذا تكلم يشم من فيه رائحة الْمسك، توفي سنة 169 هـ . شذرات الذهب (1/270)، ومعرفة القراء الكبار (1/107)، وسير أعلام النبلاء (7/336).
(77) أبو هريرة أسلم متأخرًا، وابن عباس وابن عياش من صغار الصحابة، وقد قرؤوا جميعًا على أبي بن كعب ، وقرأ أبو هريرة وابن عباس على زيد بن ثابت أيضًا. انظر النشر في القراءات العشر (1/112،178)، ومعرفة القراء الكبار (1/45،57).
(78) هو الإمام العلم، مقرئ مكة، ولد سنة 48 هـ، قرأ على عبد الله بن السائب الْمخزومي، ومجاهد ودرباس مولى ابن عباس، وكان مهيبًا فصيحًا مفوَّهًا واعظًا كبير الشأن، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وشبل بن عباد، وطائفة غيرهم. معرفة القراء الكبار (1/86)، وسير أعلام النبلاء (5/318).
(79) عبد الله بن السائب من صغار الصحابة، وقد قرأ على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب، وقرأ عليه ابن كثير من غير واسطة. انظر النشر في القراءات العشر (1/120)، ومعرفة القراء الكبار (1/47).
(80) هو شيخ القراءة والعربية، الإمام مقرئ أهل البصرة، أخذ القراءة عن أهل الحجاز، كمجاهد وابن كثير من مكة، وأبي جعفر ويزيد بن رومان من الْمدينة، وكذلك عن أهل البصرة، كيحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم، وكان أكثر القراء العشرة شيوخًا، ويلاحظ ذلك من كثرة من قرأ بقراءتهم من الصحابة. وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة، وكان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. توفي 154 هـ . معرفة القراء الكبار (1/100)، وسير أعلام النبلاء (6/407).
(81) النشر في القراءات العشر (1/133).
(82) هو الإمام الكبير مقرئ الشام، وأحد الأعلام، أبو عمران اليحصبي الدمشقي، ولد سنة 21 هـ، وقرأ على أبي الدرداء، والْمغيرة بن أبي شهاب، صاحب عثمان، توفي سنة 118 هـ. معرفة القراء الكبار (1/82)، وسير أعلام النبلاء (5/292).
(83) قطع الحافظ أبو عمرو الداني، وصحح ابن الجزري أن عبد الله بن عامر قرأ على أبي الدرداء دون واسطة. النشر في القراءات العشر (1/144).
(84) هو عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي مولاهم الكوفي، الإمام الكبير، انتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزِرِّ بن حبيش، وقرأ عليه خلق كثير، كالأعمش، والْمفضل الضبي، وحفص بن سليمان، توفي آخر سنة 127 هـ، وقيل 128 هـ. معرفة القراء الكبار (1/88)، وسير أعلام النبلاء (5/256)، وشذرات الذهب (1/175).
(85) النشر في القراءات العشر (1/155).
(86) هو الإمام القدوة، شيخ القراءة، أبو عمارة التيمي مولاهم الكوفي، كان إمامًا قيمًا لكتاب الله، قانتًا لله، ثخين الورع، رفيع الذكر، عالْما بالفرائض والحديث، عديم النظير. توفي سنة 156 هـ. معرفة القراء الكبار (1/111)، وسير أعلام النبلاء (7/90)، وشذرات الذهب (1/240).
(87) قرأ الحسين على أبيه علي بن أبي طالب- رضي الله عنهما، النشر في القراءات العشر (1/155،165).
(88) هو الإمام شيخ القراءة والعربية، أحد الأعلام، ولد في حدود سنة عشرين ومائة، وقرأ القرآن على حمزة وعيسى الهمداني، وإليه انتهت الإمامة في القراءة والعربية، كان أعلم الناس بالنحو، وكان أوحد الناس في القرآن، أدَّب الرشيد وولده الأمين، فنال ما لم ينله أحدٌ من الجاه والْمال والإكرام، وحصل له رياسة العلم والدنيا. شذرات الذهب (1/321)، ومعرفة القراء الكبار (1/120)، وسير أعلام النبلاء (9/131).
(89) النشر في القراءات العشر (1/172).
(90) قارئ الْمدينة، الزاهد العابد، رفيع الذكر، قرأ على أبي هريرة، وابن عباس، وقرأ عليه نافع وغيره، وكان من أفضل أهل زمانه، رؤي بعد موته على ظهر الكعبة يخبر أنه من الشهداء الكرام، توفي 129 هـ. شذرات الذهب (1/176)، ومعرفة القراء الكبار (1/72).
(91) قرأ أبو جعفر على عبد الله بن عياش وابن عباس وأبي هريرة بغير واسطة، وقيل إنه قرأ أيضًا على زيد بن ثابت نفسه، قال ابن الجزري: وذلك محتمل، فإنه صح أنه أتي به إلى أم سلمة زوج النبي فمسحت على رأسه، ودعت له، وأنه صلى بابن عمر بن الخطاب، وأنه أقرأ الناسَ قبل الحرة، وكانت الحرة سنة 63 هـ.. النشر في القراءات العشر (1/178).
(92) قارئ أهل البصرة في عصره، أحد الأئمة الأعلام، قرأ على أبي الْمنذر سلام بن سليم، كان من أعلم الناس بالحروف والاختلاف في القرآن العظيم، وتعليل مذاهبه، ومذاهب النحويين، توفي سنة 205 هـ. شذرات الذهب (2/14)، ومعرفة القراء الكبار (1/157).
(93) النشر في القراءات العشر (1/185-186).
(94) هو الإمام الحافظ الحجة، شيخ الإسلام، أبو محمد البغدادي البزار، ولد سنة 150 هـ، قرأ على سليم عن حمزة، وله اختيار خالف فيه حمزة، وقرأ عليه أحمد بن يزيد الحلواني، والكسائي الصغير، وغيرهم، وكان عابدًا فاضلاً من النبلاء، كثير العلم، صاحب سنة. توفي سنة 229 هـ. معرفة القراء الكبار (1/208)، وسير أعلام النبلاء (10/276).
(95) النشر في القراءات العشر (1/191).
الرد على طعن الْملاحدة في تواتر القرآن
تعلق بعض الْملاحدة بحديث أنس في حصر من جمع القرآن في عهد النبي :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ.(96)
وفي رواية قتادة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ.(97)
فقالوا: كيف يكون القرآن متواترًا، مع ما يروى عن أنس مِن حَصْر مَن جمع القرآن في هؤلاء الأربعة.
وتعلقوا أيضًا بأن أسانيد القراء تدور على ثمانية فقط من أصحاب النبي ، فقالوا: إن هذا العدد لا يبلغ مبلغ التواتر.
ويجاب عن حديث أنس بوجوه:
أولاً: الجواب بأن الحصر في كلام أنس إضافي، لا حقيقي.
أي أن قول أنس (أَرْبَعَةٌ) لا مفهوم له؛ وليس الحصر في كلامه حقيقيًّا، بل هو حصر إضافي، أي: بالإضافة إلى غيرهم، وإلا فأين الخلفاء الأربعة، وأين سالْم مولى أبي حذيفة، وأين أبو موسى وغيرهم.ولذلك ثلاثة أدلة:
الأول: كثرة الحفاظ من الصحابة:
فقد روي حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي ، وثبت في الصحيح أنه قُتِل يوم بئر معونة سبعون مِمَّن جمع القرآن،(98) وروي أنه قتل في وقعة اليمامة(99) مثلهم.
فهؤلاء الذين قتلوا من جامعيه يومئذ، فكيف الظن بِمن لم يُقتل مِمَّن حضرها، ومن لم يحضرها وبقي بالْمدينة أو بمكة أو غيرهما.
الثاني: استحالة إحاطة أنس بحال كل الصحابة وأنَّهم لم يجمعوا القرآن كله.
أي بتقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف له الإحاطة بكل من جمع القرآن مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلدان، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي ، وهذا في غاية البعد في العادة. وقد يكون مراده: الذين علمهم من الأنصار أربعة، وأما غيرهم من الْمهاجرين والأنصار الذين لا يعلمهم فلم ينفهم، ولو نفاهم كان الْمراد نفي علمه، وإذا كان الْمرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك.
كما أنه لم يذكر في هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من كبار الصحابة، الذين يبعد كل البعد أنَّهم لم يجمعوه،(100) مع كثرة رغبتهم في الخير وحرصهم على ما دون ذلك من الطاعات، وكيف نظن هذا بِهم، ونحن نرى أهل العصور اللاحقة يحفظ القرآن منهم في كل بلدة ألوف، مع بعد رغبتهم في الخير عن درجة الصحابة؟ مع أن الصحابة لم يكن لهم أحكام مقررة يعتمدونَها في سفرهم وحضرهم إلا القرآن، وما سمعوه من النبي ، فكيف نظن بِهم إهماله ؟ فكل هذا وشبهه يدل على أنه لا يصح أن يكون معنى الحديث أنه لم يكن في نفس الأمر أحد جمع القرآن إلا الأربعة الْمذكورون.(101)
الثالث: اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة
فمِمَّا يدل على إرادة الحصر الإضافي اختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة، ففي رواية: أبي ومعاذ وزيد وأبو زيد،(102) وفي رواية أخرى أبو الدرداء مكان أبيٍّ،(103) وهذا دليل على عدم إرادة الحصر الحقيقي، فهو صادق في كلتا الروايتين ؛ لأنه ليس معقولاً أن يكذب نفسه، فتعين أن الْمراد بالحصر هنا حصر إضافي، بأن يقال: إن أنسًا تعلق غرضه في وقت ما بأن يذكر الثلاثة، ويذكر معهم أبي بن كعب دون أبي الدرداء، ثم تعلق غرضه في وقت آخر بأن يذكر الثلاثة، ويذكر معهم أبا الدَّرْداء دون أُبَيِّ بن كعبٍ.(104)
كما اختلف العلماء في تحديد أبي زيدٍ الْمذكور في هذا الحديث، فبعضهم يَجعله سعد بن عبيد الأوسي، وبعضهم يجعله قيس بن السكن الخزرجي، وبعضهم يصحح أنَّهما جميعًا جمعا القرآن على عهد رسول الله ،ـ(105) وبعضهم يجعله قيس بن أبي صعصعة.(106)
والاختلاف في تحديد الْمعدود الْمحصور يدل على عدم إرادة الحصر الحقيقي.
ثانيًا: الجواب بتقدير مراد أنس بالحصر الإضافي:
وذلك بوجوه:
الأول: أن الْمراد به: لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بِها إلا أولئك.
الثاني: أن الْمراد: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته، وما لم ينسخ غيرهم.
الثالث: أن الْمراد بجمعه: تلَقِّيهِ من فِي رسول الله بغير واسطة، بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة.
الرابع: أنَّهم تصدوا لإلقائه وتعليمه، فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عُرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه.
الخامس: أن الْمراد بالجمع في هذا الحديث الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة، وحفظوه عن ظهر قلب.
السادس: أن الْمراد أن أحدًا لم يفصح بأنه جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله إلا هم، بخلاف غيرهم، فلم يفصح أحد منهم بأنه أكمل حفظه إلا عند رسول الله حين نزلت آخر آية منه، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة مِمَّن جمع جميع القرآن.(107)
ثالثًا: مع التسليم بثبوت كلام أنس على الحصر الحقيقي، فإن ذلك لا يقدح في تواتر القرآن.
فلو ثبت أنه لم يجمعه إلا الأربعة، لم يقدح ذلك في تواتر القرآن ؛ فإن أجزاءه حفظ كلَّ جزءٍ منها خلائق لا يحصون، يحصل التواتر ببعضهم، وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعُهم جميعَه، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك، ولم يخالف في هذا مسلمٌ ولا ملحدٌ.(108)
وهناك احتمالات ضعيفة فيها تكلف،(109) منها:
1 – أن الْمراد بجمعه السمع والطاعة له، والعمل بموجبه.
2 – أن الْمراد إثبات ذلك للخزرج فقط دون الأوس، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من الْمهاجرين ومن جاء بعدهم.
أما دوران أسانيد القراء على ثمانية من الصحابة فقط، فيجاب بأن هؤلاء الثمانية هم الذين نقل إلينا قراءتهم، ولا ينفي ذلك إقراء غيرهم، ومعرفتهم بقراءة هؤلاء، وإقرارهم عليها، كما أن تواتر القرآن يختلف عن تواتر الحديث، فعند علماء الحديث من أقسام الْمتواتر: تواتر الطبقة، ومثلوا له بتواتر القرآن، فقد تلقاه جيل عن جيلٍ، فهو لا يحتاج إلى إسناد.(110)
(96) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663). وقد صرح أنس في هذه الرواية بصيغة الحصر، قال الحافظ: وقد استنكره جماعة من الأئمة.( يعني التصريح)، انظر فتح الباري (8/668).
(97) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159) ح 3810، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(98) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب من يُنْكَب في سبيل الله. صحيح البخاري مع فتح الباري (6/23) ح2801، ومسلم في كتاب الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد ح 677. صحيح مسلم مع شرح النووي (13/46-47).
(99) اليمامة من حروب الردة، وقعت سنة 11 هـ، سبق الحديث عنها ص 15.
(100) والذين منهم من كان يقول: وَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلاَ أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلاَّ أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ. كما روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ـ (8/662) ح 5002.
(101) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 67، وفتح الباري (8/667-668)، وشرح النووي على صحيح مسلم (16/19)، والإتقان (1/200).
(102) رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(103) رواه البخاري في فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي . انظر الصحيح مع فتح الباري (8/663) ح 5004.
(104) مناهل العرفان (1/243-245).
(105) أسد الغابة في معرفة الصحابة (6/128).
(106) ذكره ابن أبي داود فيمن جمع القرآن. انظر فتح الباري (8/669).
(107) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 68-69، وفتح الباري (8/667)، والإتقان (1/200-201).
(108) شرح النووي على صحيح مسلم (16/20)، وفتح الباري (8/668)، والإتقان (1/200).
(109) انظر فتح الباري (8/668-669).
(110) تعليقات اليماني على نزهة النظر ص 22.
الفصل الثاني
تدوين القرآن الكريم
الْمبحث الأول:الأمر بكتابة القرآن
سبب جمع القرآن كتابة في العصر النبوي
مواد الكتابة في العصر النبوي
الْمبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
الْمبحث الأول: الأمر بكتابة القرآن
كان تعويل النبي وأصحابه أول الأمر على جمع القرآن في القلوب بِحفظه واستظهاره، ضرورةَ أنَّه نبي أمي، بُعِث إلى أمة أميَّةٍ.
قال ابن الجزري: (1) ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط الْمصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة.(2)
ففي الحديث الذي رواه مسلم عن النبي فيما يَحكيه عن الله أنَّه قَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ الْماءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ.(3)
فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالْماء.(4)
ثم كان من مزيد عناية النبي وأصحابه أن اعتنوا بكتابة القرآن الكريم، حتى يكون ذلك حصنًا ثانيًا لِحمايته من التغيِير والضياع.
فأمر النبي بكتابة القرآن، حفظًا له في السطور بعد أن حفظه هو وأصحابه في الصدور، ونَهى في بداية الأمر(5) عن كتابة غير القرآن ؛ حتى لا يلتبس به:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلاَّ الْقُرْآنَ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ.(6)
قال النووي : وكان النهي(7) حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلمَّا أُمن ذلك أذن في الكتابة ، وقيل: إنَّما نَهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة ؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة.(8)
وزاد الحافظ ابن حجر وجهًا أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره.(9)
وقد بلغ من عناية النبي بتدوين القرآن أنَّه كان إذا أنزل عليه شيءٌ يدعو أحد كُتَّابه ، ويأمره بكتابة ما نزل عليه – ولو كان كلمة واحدة ، أو سورة طويلة – بمجرد نزوله عليه :
فعن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قال: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا تَنَزَّلُ عَلَيْهِ الآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: ضَعْ هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(10)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ فَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ عَلَى فَخِذِي فَمَا وَجَدْتُ ثِقْلَ شَيْءٍ أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اكْتُبْ فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لَمَّا سَمِعَ فَضِيلَةَ الْمجَاهِدِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَضَى كَلامَهُ غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي وَوَجَدْتُ مِنْ ثِقَلِهَا فِي الْمرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمرَّةِ الأُولَى ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَقَالَ اقْرَأْ يَا زَيْدُ فَقَرَأْتُ } لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ { فَقَالَ رَسُولُ اللهِ } غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ { ،(11) الآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَأَنْزَلَهَا اللهُ وَحْدَهَا، فَأَلْحَقْتُهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِفٍ.(12)
وروى أبو صالح عن ابن عباس في سورة الأنعام، قال: هي مكية، نزلت جُملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم.(13)
سبب جمع القرآن كتابة في العصر النبوي
وعد الله تعالى بحفظ الكتاب الكريم، قال تعالى: } إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {،(14) ولما كانت الكتابة من أسباب الحفظ، فقد يسرها الله للمسلمين، وأمر بِها النبي ، وفعلها كُتَّابه بحضرته ، هذا، وقد كان لكتابة القرآن أسباب أخرى، منها:
1 – أن النبي كان مطالبًا بتبليغ الوحي، قال تعالى: } يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك {،(15) والتبليغ في حاجة ماسَّة إلى الكتابة، فبها تقوم الحجة على من يرى الكتاب ممن لم يسمع البلاغ باللسان، إما لبعد داره أو بعد زمانه عن دار وزمان النبي .
2 – أن الكتابة أدعى إلى حفظ التنزيل وضبطه، وأبعد عن ضياعه ونسيانه،فاقتضى ذلك تعضيد الْمحفوظ في الصدور بالْمكتوب في السطور، لأنَّه وإن كان النبي حيًّا بين أظهرهم، إلا أنَّه بصدد أن يموت، ولا يُدرى متى يموت، كما أنَّه لا يُؤمَن أن يفنى حُفَّاظُه في أي ساعة، وقد مرَّ أن سبعين منهم قتلوا في بئر معونة، ومثلهم أو يزيد قتلوا في وقعة اليمامة،(16) فاقتضى ذلك أن يُكْتَب القرآن بِمجرد نزوله.(17)
مواد الكتابة في العصر النبوي
كان أصحاب النبي يستعملون في كتابة القرآن كل ما توفَّر في بيئتهم وتيسَّر لَهم من أدوات الكتابة كالجلود والعظام والحجارة ونحوها، فكانوا يكتبون القرآن على الرِّقَاع،(18) وَالأَكْتَافِ،(19) وَالْعُسُبِ،(20) واللخاف،(21) والأضلاع،(22) والأقتاب،(23) والأَلواحِ،(24) وقطع الأديم،(25) والكرانيف.(26)
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قال: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ.(27)
وفي رواية: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ.(28)
وفي رواية :ومن الأضلاع، وفي رواية: والأقتاب.(29)
وعَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقال: ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ.(30)
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا بِالْمرْبَدِ فَجَاءَ رَجُلٌ أَشْعَثُ الرَّأْسِ بِيَدِهِ قِطْعَةُ أَدِيمٍ أَحْمَرَ، فَقُلْنَا: كَأَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؟ فَقَالَ: أَجَلْ. قُلْنَا: نَاوِلْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ الأَدِيمَ الَّتِي فِي يَدِكَ، فَنَاوَلَنَاهَا فَقَرَأْنَاهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ …(31)
قال ابن الأثير: وحديث الزهري: والقرآن في الكرانيف. يعني أنَّه كان مكتوبًا عليها قبل جمعه في الصحف.(32)
هذه الآثار وغيرها تدلنا على عظيم بلاء الصحابة في كتابة القرآن، وما تحملوه من الْمشقات، حيث إن مواد الكتابة في ذلك العهد لم تكن متوفرة، كما أن الْموجود منها لم يكن سهل الاستعمال، بل كان يحتاج إلى جهد كبير في التجهيز والإعداد.
وبقي القرآن مكتوبًا على هذه الأشياء محفوظًا عند النبي وأصحابه، ولم يجمع في صحف أو مصاحف في ذلك العهد.(33)
قال القسطلاني:(34) وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور.(35)
الْمبحث الثاني: أسباب عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد
توفي النبي والقرآن مفرقٌ في الرقاع والعسب والعظام والأحجار، ولم يُجمع القرآن في زمنه في صحف ولا مصاحف:
فعن زيد بن ثابت قال: قُبِضَ النَّبِيُّ ، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ جُمِعَ فِي شَيْءٍ.(36)
قال السيوطي: ولا ينافي ذلك؛(37) لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة.(38)
قال القسطلاني: وقد كان القرآن كله مكتوبًا في عهده ، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور.(39)
وإنَّما ترك النبي جمع القرآن في مصحف واحد لاعتبارات كثيرة، منها:(40)
1 – أنَّه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعًا في صحف أو مصاحف مثل ما وجد على عهد أبي بكر حتى كتبه في صحف ، ولا مثل ما وجد في عهد عثمان حتى نسخه في مصاحف، فالْمسلمون وقتئذ بخير، والقراء كثيرون، والإسلام لم تتسع دولته، والفتنة مأمونة، والتعويل لا يزال على الحفظ أكثر من الكتابة ، وأدوات الكتابة غير ميسورة ، والنبي بين أظهرهم، وعنايته باستظهار القرآن تفوق الوصف، فلا خوف على ضياع شيء منه في تلك الْمدة .
2 – أن النبي كان بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله نسخه من القرآن، ولو جمع القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة لتغيير الْمصاحف كلما وقع نسخ .
3 – أن القرآن لم يَنْزِل جملة واحدة ، بل نزل منجمًا في مدى عشرين سنة أو أكثر، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النُّزُول، ولو جُمِع القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة لتغيير الْمصاحف كلما نزلت آية أو سورة.
(1) هو الإمام العلامة محمد بن محمد بن محمد بن علي بن الجزري، الْمقرئ الْمجود، صاحب التصانيف العظيمة في القراءات، كالنشر وتقريبها، والدرة والطيبة، وغيرها كثير، وألف أيضًا في التفسير والحديث والفقه والعربية، ونظم كثيرًا في العلوم وغير ذلك في فنون شتى. توفي سنة 833 هـ. مقدمة النشر في القراءات العشر (1/د).
(2) النشر في القراءات العشر (1/6)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/400).
(3) مسلم في الصحيح كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها بَاب الصِّفَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ (17/198) ح 2865، وأحمد في مسند الشاميين (5/166) ح 17030.
(4) في شرح قوله: لا يَغْسِلُهُ الْماءُ قال ابن الأثير: أراد أنَّه لا يُمحى أبدًا، بل هو محفوظ في صدور الذين أوتوا العلم، } لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { وكانت الكتب الْمنزلة لا تُجمع حفظًا ، وإنما يعتمد في حفظها على الصحف، بخلاف القرآن، فإن حفاظه أضعاف مضاعفة لصحفه . النهاية في غريب الحديث والأثر (3/367).
(5) ورد التصريح بكتابة الحديث بعد ذلك ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في فتح مَكَّةَ: فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ. قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ . رواه مسلم في كتاب الحج بَاب تَحْرِيمِ مَكَّةَ وَصَيْدِهَا وَخَلاهَا وَشَجَرِهَا وَلُقَطَتِهَا إِلا لِمُنْشِدٍ عَلَى الدَّوَامِ (9/129) ح 1355 ، والبخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم (1/248) ح 112. قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر اختلاف السلف من الصحابة والتابعين في كتابة العلم: استقر الأمر وانعقد الإجماع على جواز كتابة العلم ، بل على استحبابه ، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم . فتح الباري (1/246)، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (18/129-130).
(6) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم – صحيح مسلم مع شرح النووي (18/129) ح 3004، والدارمي في الْمقدمة.باب من لم ير كتابة الحديث (1/119) ح 450 .
(7) يعني عن كتابة الحديث.
(8) شرح النووي على صحيح مسلم (18/130)، والْمدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي ص 410 وما بعدها.
(9) فتح الباري (1/251).
(10) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وأحمد في مسنده – مسند العشرة الْمبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501.
(11) من الآية 95 من سورة النساء.
(12) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير باب قول الله } لا يستوي القاعدون … { (6/53) ح 2832 ، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة بَاب سُقُوطِ فَرْضِ الْجِهَادِ عَنِ الْمعْذُورِينَ (13/42-43) ح 1898، وأبو داود في سننه كتاب الجهاد بَاب فِي الرُّخْصَةِ فِي الْقُعُودِ مِنَ الْعُذْرِ (3/11) ح 2507.
(13) ذكره ابن الجوزي في زاد الْمسير في علم التفسير (3/1) ، ومحاسن التأويل (تفسير القاسمي) (6/2230).
(14) الآية 9 من سورة الحجر.
(15) سورة الْمائدة ، الآية 67.
(16) راجع مبحث الحفاظ من الصحابة.
(17) مناهل العرفان (1/362).
(18) الرقاع جمع رُقْعة، وهي التي يكتب فيها، وتكون من جلد أو كاغد. لسان العرب مادة (رقع) (3/1705).
(19) الأكتاف جمع كَتِف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدوابِّ، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. النهاية في غريب الحديث (4/150).
(20) العسب جمع عسيب ، وهو جريد النخل ، كانوا يكشطون الخوص، ويكتبون في الطرف العريض، وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعف.النهاية في غريب الحديث (3/234)، ولسان العرب مادة (عسب) (4/2936).
(21) اللخاف جمع لَخْفة، وهي صفائح الحجارة البيض الرقاق، فيها عرض ودقة، وقيل هي الخزف يصنع من الطين الْمشوي.وقد فسرها بعض الرواه بالحجارة. انظر كتاب الْمصاحف لابن أبي داود ص 13،14، وبعضهم بالخزف. انظر فتح الباري (13/195) ح 7191.
(22) الأضلاع هي عظام الجنبين، جمع ضِلَعٍ، وهو محنيَّة الجنب. لسان العرب مادة (ضلع) (4/2598).
(23) الأقتاب جمع قَتَب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع ظهر البعير ليركب عليه. فتح الباري (8/630).
(24) الألواح جمع لَوْح، وهو كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب، والكتف إذا كتب عليها سميت لوحًا. لسان العرب مادة (لوح) (5/4095).
(25) الأديم هو الجلد ما كان، وقيل الأحمر منه، وقيل هو الْمدبوغ. لسان العرب مادة (أدم) (1/45).
(26) الكرانيف جمع كُرْنافة ، وهي أصل السَّعَفة الغليظة. النهاية في غريب الحديث (4/168).
(27) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب } لقد جاءكم رسول من أنفسكم… { (8/194-195) ح 4679.
(28) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا (13/195) ح 7191.
(29) رواهما ابن أبي داود في كتاب الْمصاحف ص 14،15.
(30) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ (8/637-638) ح 4990.
(31) رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء بَاب مَا جَاءَ فِي سَهْمِ الصَّفِيِّ (3/153) ح 2999.
(32) النهاية في غريب الحديث (4/168).
(33) مناهل العرفان (1/247). (1/368).
(34) أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني القتيبي الْمصري، ولد سنة 851 هـ، له تصانيف عظيمة، منها إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، ولطائف الإشارات في علم القراءات، وغيرها من الْمصنفات الْمفيدة. توفي سنة 923 هـ. الأعلام للزركلي (1/232).
(35) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، وانظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17.
(36) أخرجه الديرعاقولي في فوائده، انظر فتح الباري (8/627)، والإتقان في علوم القرآن (1/164)، ورواه الطبري عن الزهري مرسلاً مرفوعًا، تفسير الطبري، الْمقدمة (1/28).
(37) يعني أن القرآن كان مكتوبًا زمنه .
(38) يعني أن الذي نفاه زيدٌ من الجمع هو جمع متفرق القرآن في صحف، وجمع الصحف في الْمصاحف، كتابة جميع القرآن. انظر الإتقان في علوم القرآن (1/164).
(39) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، ودليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17.
(40) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/446)، والإتقان (1/164)، ومناهل العرفان (1/248-249)، ودليل الحيران شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للمارغني ص 17، ودلائل النبوة (7/154).
الْمبحث الثالث: كُتَّاب الوحي
كان للنبي كُتَّاب يكتبون الوحي، فكان إذا أنزلت عليه الآية أو الآيات دعا بعض كُتَّابه، فأملَّ عليه ما نزل، فكتب بين يديه، وكان يأمرهم بوضع الآيات في مواضعها الْمخصوصة من سورها.
فعَنْ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، قال: كَانَ النَّبِيُّ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(1)
وقد كتب الوحي لرسول الله جماعة من أصحابه، ومن أشهر كُتَّابه :
1 – زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري:
كاتب النبي ، كما ترجم له البخاري:(2) بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ، وذكر فيه حديثين:
الأول: عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، … الحديث.(3)
والثاني: عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ فَقال: ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ… الحديث.(4)
وكان قد جمع القرآن في عهد النبي ، كما صح في الحديث،(5) وقد كتب الوحي بين يدي النبي في غير ما موطن، وهو الذي جمع القرآن بأمر أبي بكر الصديق، ونسخ الْمصاحف بأمر عثمان بن عفان .ـ(6)
وهو أكثر من كان يكتب للنبي بالْمدينة، ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه (الكاتب) بلام العهد.(7)
2 – أبيُّ بن كعب الأنصاري:
سيد القراء، وأحد الذين أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم، وكان قد جمع القرآن على عهد الرسول ،ـ(8) وهو أول من كتب الوحي بين يدي النبي في الْمدينة.(9)
قال أبو بكر بن أبي شيبة: كان أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله أبيَّ بنَ كعب، فإن لم يحضر كتب زيد بن ثابت.(10)
3 – عبد الله بن سعد بن أبي سرح:
هو أول من كتب الوحي للنبي بِمكة ، ثم ارتد عن الإسلام، ولَحق بالْمشركين بمكة، فلما فتحها رسول الله أسلم وحسُن إسلامه.(11)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّار، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللهِ .ـ(12)
ومن كُتَّاب النبي أيضًا: الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي:
أما أبو بكر فقد ذكر ابن كثير رواية موسى بن عقبة في قصة سراقة بن مالك، وأنَّه سأل رسول الله أن يكتب له كتابًا، فأمر أبا بكر فكتب له كتابًا، ثم ألقاه إليه.
وقد روى البخاري وأحمد أن عامر بن فهيرة هو الذي كتب الكتاب.(13)
قال ابن كثير: فيحتمل أن أبا بكر كتب بعضه، ثم أمر مولاه عامرًا فكتب باقيه.(14)
وأما عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان – رضي الله عنهما: فكتابتهما بين يدي النبي مشهورةٌ.(15)
وأما علي بن أبي طالب ، فهو الذي كتب الصلح بين رسول الله وبين قريش يوم الحديبية،(16) وكتب غير ذلك من الكتب بين يديه .ـ(17)
ومن كتاب الوحي أيضًا: معاوية بن أبي سفيان: فقد أسلم عام الفتح، وحسُن إسلامه، وكتب للنبي .ـ(18)
عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ : يَا نَبِيَّ اللهِ ثَلاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمسْلِمِينَ.(19)
وعن ابْن عَبَّاسٍ أيضًا أنَّ النبيَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ -وَكَانَ كَاتِبَهُ- قَالَ: فَسَعَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللهِ ؛ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ.(20)
ومنهم عبد الله بن أرقم بن أبي الأرقم: أسلم عام الفتح أيضًا، وكتب للنَّبِيّ .
قال الأعمش: قلت لشقيق بن سلمة: من كان كاتب النبي ؟ قال: عبد الله ابن الأرقم.(21)
ومنهم الزبير بن العوام بن خويلد الأسَدي: أحد العشرة الْمبشرين بالجنة، حواريُّ رسول الله .ـ(22)
ومن كتاب الوحي أيضًا حنظلة بن الربيع الأُسَيِّدِيُّ التميمي الكاتب:
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ ، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ … الحديث.(23)
ومنهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق:
في حديث الهجرة عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ، قال: فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ.(24)
ومِمَّن كتب الوحي للنبي أيضًا أرقم بن أبي الأرقم الْمخزومي:
كان من السابقين إلى الإسلام، ومن الْمهاجرين الأولين، وهو الذي كان النَّبِيّ وأصحابه يستخفون في داره لَمَّا خافوا الْمشركين.(25)
ومنهم أيضًا ثابت بن قيس بن شماس: خطيب الأنصار، وخطيب النبي .ـ(26)
ومِمَّن كتب له أيضًا: خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، ومعيقيب ابن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد.(27)
ومِمَّن يُروى أنَّه كان يكتب للنبي السِّجِلُّ: إن صحَّ الحديث فيه عَنِ ابن عباس.
فقد روى الطبري في تفسير قوله تعالى: } يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ { ،(28) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّه قَالَ: (السِّجِلُّ) كَاتِبٌ كَانَ لِلنَّبِيِّ .ـ(29)
قال ابن كثير: وقد عرضت هذا الحديث على شيخنا الحافظ أبي الحجاج الْمزِّيِّ فأنكره جدًّا، وأخبرته أن شيخنا العلامةَ أبا العباس بن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع، وإن كان في سنن أبي داود، فقال شيخنا الْمزِّيّ: وأنا أقوله.(30)
وقال الطبري: ولا يُعرف لنبينا كاتبٌ كان اسمه السِّجِلَّ، ولا في الْملائكة ملك ذلك اسمه.(31)
قال ابن كثير: وهذا الذي أنكره الطبري من كون السجل اسم صحابي أو ملك قوي جدًّا، والحديث في ذلك منكر جدًّا.(32)
(1) رواه أحمد في مسنده – مسند العشرة الْمبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086.
(2) ترجم البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن: بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ، وذكر فيه حديثين في كتابة زيد للنبي . الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/637).
(3) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ .ـ(8/637) ح 4989.
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن بَاب كَاتِبِ النَّبِيِّ ـ(8/637-638) ح 4990.
(5) الذي رواه البخاري في كتاب الْمناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810 (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، راجع الفصل الأول مبحث الحفاظ من الصحابة.
(6) السيرة النبوية لابن كثير (4/682-683).
(7) فتح الباري (8/638).
(8) راجع الفصل الأول مبحث الحفاظ من الصحابة.
(9) فتح الباري (8/638)، والسيرة النبوية لابن كثير (4/671).
(10) السيرة النبوية لابن كثير (4/669)، وانظر فتح الباري (8/638).
(11) السيرة النبوية لابن كثير (4/689)، وفتح الباري (8/638).
(12) رواه أبو داود في سننه كتاب الحدود باب الحكم فيمن ارتد (4/128)ح 4358 ، والنسائي في سننه كتاب تحريم الدم باب توبة الْمرتد (7/107) ح 4069.
(13) رواه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه (7/281) ح 3906، وأحمد في مسنده مسند الشاميين (5/187-188) ح 17141، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/685-686).
(14) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(15) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والْمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (5/388-392) ح 2731-2732، ولم يصرح فيه باسم الكاتب ، لكن جاء التصريح به في رواية البيهقي وغيره، انظر دلائل النبوة (4/146).
(17) السيرة النبوية لابن كثير (4/691)، وفتح الباري (8/638).
(18) السيرة النبوية لابن كثير (4/695)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة (5/209).
(19) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة بَاب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ـ(16/62) ح 2501.
(20) رواه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة والآداب باب من لعنه النبي ـ(16/155-156) ح 2604، وأحمد في مسنده – مسند بني هاشم (1/480) ح 2646.
(21) السيرة النبوية لابن كثير (4/687-688).
(22) السيرة النبوية لابن كثير (4/677-678)، وفتح الباري (8/638).
(23) صحيح مسلم مع شرح النووي كتاب التوبة بَاب فَضْلِ دَوَامِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ … (17/65-66) ح 2750، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/673).
(24) رواه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه (7/281) ح 3906، وأحمد في مسنده مسند الشاميين (5/187-188) ح 17141، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (4/685-686).
(25) السيرة النبوية لابن كثير (4/671)
(26) السيرة النبوية لابن كثير (4/672)، وفتح الباري (8/638).
(27) فتح الباري (8/638)، ومناهل العرفان (1/367)، والسيرة النبوية لابن كثير (4/669-697).
(28) سورة الأنبياء، من الآية 104.
(29) تفسير الطبري (17/100)، ورواه أبو داود في سننه كتاب الخراج والإمارة والفيء باب اتخاذ الكاتب (3/132). ح 2935.
(30) السيرة النبوية لابن كثير (4/683-684).
(31) تفسير الطبري (17/100).
(32) السيرة النبوية لابن كثير (4/685).
الفصل الثالث
ترتيب الآيات والسور
الْمبحث الأول:الآية والسورة لغة واصطلاحًا
الآية لغة
الآية اصطلاحًا
السورة لغة
السورة اصطلاحًا
الْمبحث الثاني: ترتيب الآيات
مسألة: ترتيب الآيات في السورة توقيفي
المبحث الأول: الآية والسورة لغةً واصطلاحًا
الآية لغة
اشتقاق (الآية) إما من (أيٍّ)؛ فإنَّها التي تبين أيًّا من أيٍّ (أيْ شيئًا من شيء)، وإما أن يكون اشتقاقها من (التأيِّي)، الذي هو التثبت والإقامة، أو من (أوى إليه) الذي يدل على التجمع، فمن جعلها من (أيي) فموضع العين عنده ياء، ومن جعلها من (أوى) فموضع العين عنده واو.(1)
وحقيقة الآية أنَّها: كلُّ شيء ظاهرٍ هو ملازمٌ لشيء لا يظهر ظهورَه، فمتى أدرَك مُدركٌ الظاهر منهما، علِم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمهما سواءً، وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات، فمَن علِم بملازمة العَلَم للطريق المنهج، ثم وجد العَلَم – علِم أنه وجد الطريق، وكذا إذا عليم شيئًا مصنوعًا علِم أنه لا بدَّ له من صانع.(2)
واختلف في وزنِها، فقال الخليل وسيبويه: (فَعَلَة)، بفتح العين، والعين ياء أو واوٌ،(3) فلما تحركت وانفتح ما قبلها أبدلت ألفًا.
وقال الفراء والكسائي: وزنُها (فَاعِلةٌ) والذاهبة اللام، ولو جاءت تامةً لجاءت آيِيَة، فخففت، وقيل الذاهبة العين تخفيفًا أيضًا.
وقيل هي على وزن (فَعْلَة) بسكون العين، فقلبت الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها، وهذا قلب شاذٌّ.(4)
وتطلق الآية في اللغة على ثلاثة معانٍ: العلامة، والجماعة، والأمر العجيب.
فالآية: العلامة، قال تعالى: } إن آية ملكه إن يأتيكم التابوت {.(5)
والآية الأمر العجيب، قال تعالى: } وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً {،(6) وهي الولادة دون الفحل.
وآية الرجل: شخصُه، وتقول: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم، ومنه آية القرآن؛ لأنَّها جماعةُ الحروف.(7)
قال ابن منظور:(8) والآية من التنزيل، ومن آيات القرآن العزيز، قال أبو بكر: سميت الآية من القرآن آية؛ لأنَّها علامة لانقطاع كلامٍ من كلامٍ.
ويقال: سميت الآية آية لأنَّها جماعة من حروف القرآن.
وقال ابن حمزة: الآية من القرآن، كأنَّها العلامة التي يُفضى منها إلى غيرها، كأعلام الطريق المنصوبة للهداية.(9)
وقيل: سميت آية لأنَّها علامة على صدق من أتى بِها، وعلى عجز المتحدى بِها.
وقيل: لأنَّها علامة على انقطاع ما قبلها من الكلام منها، وانقطاعها مِمَّا بعدها.(10)
الآية اصطلاحًا
قال التهانوي(11) نقلاً عن جامع الرموز: … وشرعًا: ما تبيَّن أوله وآخره توقيفًا من طائفة من كلامه تعالى بلا اسم.
قال: وقوله: بلا اسم احتراز عن السورة … وهذا التعريف أصح.(12)
قال الجعبري:(13) حدُّ الآية قرآن مركب من جمل، ولو تقديرًا، ذو مبدأ ومقطع، مندرج في سورة.
وقال غيره: الآية طائفة من القرآن، منقطعة عما قبلها وما بعدها.
وقيل: هي الواحدة من المعدودات في السور.
وقال بعضهم: الآية طائفة من حروف القرآن عُلم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذي بعدها في أول القرآن، وعن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن، وعما قبلها وما بعدها في غيرها،(14) غير مشتمل على مثل ذلك، وبِهذا القيد خرجت السورة؛ لأنَّها تشتمل على آيات، والآية لا تشتمل على آية أصلاً.(15)
والصحيح أن الآية إنَّما تُعلم بتوقيف من الشارع، كمعرفة السور.
قال الزمخشري: الآيات علم توقيفي، لا مجال للقياس فيه، ولذلك عدوا } الم { آية حيث وقعت، ولم يعدوا } المر { … (16)
السورة لغةً
السورة واحدة سُوَر القرآن، وهي إما أن تكون من ( السؤر )، وهو ما بقي في الإناء من الشراب، بإبدال الهمزة واوًا، وتكون سميت سورة لأنها قطعة من القرآن.
أو من (السُّور)، وهو حائط المدينة الذي يحيط بالبيوت، قال جرير:(17)
سُورُ المدينةِ والْجبالُ الخشَّعُ لَما أتى خبرُ الزُّبَيرِ تواضَعَتْ
وتكون سميت سورة لإحاطتها بآياتِها، واجتماعها كاجتماع البيوت بالسُّور.
أو من السورة بِمعنى المنزلة الرفيعة، قال النابغة:(18)
ترى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يتذبْذبُ ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أعْطاكَ سُـورةً
وتكون سُمِّيت بذلك لارتفاعها؛ لأنَّها كلام الله تعالى.
أو من السورة من البناء، وهي ما حسُن وطال منه، أو كلُّ منزلة من البناء، وتكون سميت سورة لارتفاع قدرها، أو لأنَّها منزلةٌ بعد منزلةٍ، مقطوعةٌ عن الأخرى.
أو من التسور، بمعنى: التصاعد، يقال: تسَوَّرت الحائط، إذا علوته، ومنه قوله تعالى: } إذ تَسَوَّروا المحرابَ {،(19)فتكون سميت سورة لتركيب بعضها على بعض.(20)
السورة اصطلاحًا
قال الجعبري: السورة بعض قرآن يشتمل على آيٍ، ذو فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات.(21)
وقيل: السورة الطائفة المترجمة توقيفًا، أي: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاصٍّ، بتوقيفٍ من النبي .ـ(22)
وقيل: السورة بعض كلام منزل مبين أوله وآخره، إعلامًا من الشارع، قرآنًا كان أو غيره، بدليل ما يقال سورة الزبور وسورة الإنجيل.(23)(24)
المبحث الثاني: ترتيب الآيات
كان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله ، ويرشده إلى السورة التي هي منها، ويرشده أيضًا إلى موضعها من تلك السورة.
وكان النبي بعد ذلك يأمر كتبة الوحي بكتابتها، وإدراجها في الموضع الذي أرشده إليه جبريل .
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ(25) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بِبَصَرِهِ، ثُمَّ صَوَّبَهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْزِقَهُ بِالأَرْضِ، قَالَ: ثُمَّ شَخَصَ بِبَصَرِهِ، فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ:} إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {.(26)
وعَنِ عُثْمَانَ بن عفَّان قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا.(27)
وقد جُمِع القرآن كلُّه من هذا الوجه (وجه ترتيب الآيات) في زمن النبي :
فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ.(28)
قال البيهقي: وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي .ـ(29)
وقال ابن فارسٍ: … وأما الجمع الآخر، فضمُّ الآي بعضها إلى بعضٍ، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيءٌ تولاَّه رسول الله ، كما أخبر به جبريل عن أمر ربه .ـ(30)
مسألة: ترتيب الآيات في السورة توقيفي
انعقد الإجماع على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي عن الله تعالى، وأنه لا مَجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعْلَم في ذلك مُخالفٌ.(31)
قال السيوطي: الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك، أما الإجماع، فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير(32) في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه وأمره، من غير خلاف في هذا بين المسلمين. اهـ.(33)
قال مكي(34) وغيره: ترتيب الآيات في السور هو من النَّبِيّ ، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: ترتيب الآيات أمر واجبٌ، وحكم لازمٌ، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.(35)
وقال في الانتصار: الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذين أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله هو الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان ، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه شيء، وأن ترتيبه ونظمه ثابتٌ على ما نظمه الله تعالى، ورتب عليه رسوله من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر، ولا أخر منه مقدم… (36)
وقال أيضًا: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة -على ما هي عليه الآن في المصحف- توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها .ـ(37)
والنصوص التي تدل على ذلك كثيرة، منها: حديث عثمان بن أبي العاص، وحديث عثمان بن عفان، وحديث زيد بن ثابت السابقة قريبًا.
ومنها الأحاديث في خواتيم سورة البقرة، فمنها:
عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ الأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ فَتَلاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.(38)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي.(39)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ(40) أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: إِنَّ اللهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءكُمْ فَإِنَّهُمَا صَلاةٌ وَقُرْآنٌ وَدُعَاءٌ.(41)
ومنها ما رواه مسلم عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ.(42)
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَلا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.(43)
عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا { إِلَى قَوْلِهِ: } غَيْرَ إِخْرَاجٍ { قَدْ نَسَخَتْهَا الأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ قَالَ: تَدَعُهَا، يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.(44)
فهذا حديثٌ صريحٌ في أن إثبات هذه الآية في مكانِها مع نسخها توقيفي، لا يستطيع أحدٌ أن يتصرَّف فيه، لأنه لا مجال للرأي في مثله.(45)
قال السيوطي: ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالاً: ما ثبت من قراءته لسور عديدة كالبقرة وآل عمران والنساء في حديث حذيفة،(46) والأعراف في المغرب،(47) وقد أفلح في الصبح…(48) ثم قال: تدل قراءته لها بِمشهد من الصحابة أن ترتيب آيها توقيفيٌّ، وما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبًا سمعوا النبي يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر.(49)
ولا يَرِد على هذا الإجماع ما رواه أحمد وابن أبي داود عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَتَى الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ(50) بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ بَرَاءةَ } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ { إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا قَالَ لا أَدْرِي وَاللهِ إِلاَّ أَنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ وَوَعَيْتُهَا وَحَفِظْتُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَسَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ، ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَتْ ثَلاَثَ آيَاتٍ لَجَعَلْتُهَا سُورَةً عَلَى حِدَةٍ فَانْظُرُوا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَضَعُوهَا فِيهَا فَوَضَعْتُهَا فِي آخِرِ بَرَاءةَ.(51)
قال الحافظ ابن حجر: ظاهر هذا أنَّهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنَّهم لم يفعلوا شيئًا من ذلك إلا بتوقيف.(52)
فالجواب عن هذا الخبر بوجهين:
الأول: أنه معارض للقاطع، وهو ما أجمعت عليه الأمة، ومعارض القاطع ساقطٌ عن درجة الاعتبار، فهذا خبر ساقطٌ مردودٌ على قائله.
الثاني: أنه معارض لِمَا لا يُحصى من الأخبار الدالة على خلافه.(53)
قال السيوطي:(54) يعارضه ما أخرجه ابن أبي داود أيضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُمْ جَمَعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى هَذِهِ الآيَةِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءةٌ: } ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {،(55) فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ أَقْرَأَني بَعْدَهَا آيَتَيْن:ِ } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ { آخر السورة.(56)
ومثله أيضًا في الإيراد والرد حديث عبد الله بن عباس عن عثمان في سورة الأنفال وسورة براءة، وفيه قول عثمان: “فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا”، وسيأتي -إن شاء الله- الكلامُ على متنه وسنده في المبحث الآتي.
(1) المفردات في غريب القرآن ص 33، وبصائر ذوي التمييز (2/63)، ولسان العرب ( أيا ) (1/185-187).
(2) بصائر ذوي التمييز (2/63).
(3) على الخلاف الذي مرَّ هل هي من ( أوى ) أو من (أيي).
(4) مجمل اللغة لابن فارس (1/106)، ولسان العرب ( أيا ) (1/185)، والبرهان في علوم القرآن (1/266).
(5) من الآية 248 من سورة البقرة.
(6) من الآية 50 من سورة المؤمنون.
(7) مجمل اللغة لابن فارس (1/106).
(8) هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الإفريقي المصري، جمال الدين، الإمام اللغوي الأديب، كان مولعًا باختصار كتب الأدب المطولة، فاختصر الأغاني، والذخيرة والعقد، وترك بخطه خمسمائة مجلد، وجمع في اللغة كتاب لسان العرب، ضمنه جل فوائد من سبقوه، وجوده ورتبه ترتيب الصحاح. ولد سنة 630هـ، وتوفي سنة 711هـ. مقدمة لسان العرب (1/7)، والأعلام للزركلي (7/108).
(9) لسان العرب (1/185).
(10) البرهان (1/267)، والإتقان (1/188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(11) هو محمد بن علي بن القاضي محمد حامد الفاروقي الحنفي التهانوي، عالم وباحث هندي، له كشاف اصطلاحات الفنون، وسبق الغايات في نسق الآيات، توفي بعد 1158هـ. الأعلام للزركلي (6/295).
(12) كشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(13) الشيخ الإمام العالم المقرئ إبراهيم بن عمر بن إبراهيم أبو إسحاق، له شرح على الشاطبية كامل في معناه، وغيره من المؤلفات النافعة، توفي سنة 732هـ في رمضان ببلد الخليل . معرفة القراء الكبار (2/743).
(14) أي: إذا كانت في غير أول القرآن أو آخره.
(15) البرهان في علوم القرآن (1/266-267)، والإتقان في علوم القرآن (1/187-188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(16) البرهان في علوم القرآن (1/267)، والإتقان في علوم القرآن (1/188)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/105).
(17) لسان العرب (3/2147).
(18) انظر ديوان النابغة الذبياني ص 73، والبحر المحيط (1/242)، والإتقان (1/150).
(19) من الآية 21 من سورة ص.
(20) لسان العرب (سور) (3/2147)، وكشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، والبرهان (1/263-264)، والإتقان (1/150).
(21) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، والإتقان (1/150)، والبرهان (1/264).
(22) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658)، وقال السيوطي: وقد ثبت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك. الإتقان (1/150).
(23) بين العلماء خلاف: هل كانت الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن مسورة أو لا؟ انظر في ذلك: البرهان في علوم القرآن (1/265)، والإتقان في علوم القرآن (1/186-187).
(24) كشاف اصطلاحات الفنون (2/658) نقلاً عن التلويح.
(25) الأمير الفاضل المؤتَمن أبو عبد الله الثقفي الطائفي، أسلم سنة 9 مع وفد ثقيف، وأمَّره النَّبِيّ عليهم لما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين. أسد الغابة في معرفة الصحابة (3/579)، وسير أعلام النبلاء (2/374)، وشذرات الذهب (1/36).
(26) الآية 90 من سورة النحل، والحديث رواه أحمد في مسنده: مسند الشاميين (5/254) ح 17459.
(27) رواه أحمد في مسنده – مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086.
(28) رواه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب في فضل الشام واليمن (5/734) ح 3954 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، والبيهقي في دلائل النبوة (7/147).
(29) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/147).
(30) البرهان في علوم القرآن (1/258-259).
(31) مناهل العرفان (1/346).
(32) هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ القراء والمحدثين بالأندلس: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، ولد سنة 627هـ، أفاد الناس في القراءات وعللها ومعرفة طرقها، وأحكم العربية، أخذ عنه الإمام أبو حيان النحوي، توفي سنة 708هـ. تذكرة الحفاظ (4/1484).
(33) الإتقان في علوم القرآن (1/172)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/258).
(34) هو الإمام العلامة المقرئ، مكي بن أبي طالب القيسي، ولد سنة 355هـ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كان خيِّرًا متدينًا، مشهورًا بالصلاح، توفي سنة 437هـ. معرفة القراء الكبار (1/394)، وشذرات الذهب (3/260).
(35) البرهان في علوم القرآن (1/256)، وانظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 83.
(36) الإتقان في علوم القرآن (1/175)، وانظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 59.
(37) نقل هذا الكلام الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (8/656).
(38) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن بَاب } يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا { يُذْهِبُهُ (8/51) ح 4541، ومسلم في كتاب المساقاة بَاب تَحْرِيمِ بَيْعِ الْخَمْرِ (11/5)ح 1580.
(39) رواه أحمد في مسنده مسند الأنصار (6/188) ح 20837، 20838، و(6/229) ح 21054.
(40) هو جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، أسلم في حياة النَّبِيّ ، وكان باليمن، فلم يره، وروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، وكان من علماء أهل الشام، من أئمة التابعين بحمص ودمشق، توفي سنة 80هـ، وقيل سنة 75هـ. أسد الغابة (1/324)، وسير أعلام النبلاء (4/76)، وشذرات الذهب (1/88).
(41) رواه الدارمي في سننه كتاب فضائل القرآن بَاب فَضْلِ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ (2/450)ح 3390.
(42) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ (6/92-93) ح 809.
(43) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل ثومًا … (5/51-54)567.
(44) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن بَاب } وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا { (8/48) ح 4536.
(45) مناهل العرفان (1/348).ٍ
(46) هو حديث حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً… الحديث رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ (6/61) ح 772، وأبو داود في كتاب الصلاة باب (1/230) ح871.
(47) رواه النسائي في سننه كتاب الافتتاح الْقِرَاءة فِي الْمَغْرِبِ بِـ } المص { عن زيد بن ثابت وعائشة (2/169-170) ح 989-990-991.
(48) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الصلاة وإقامة السنة فيها بَاب الْقِرَاءةِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ عن عبد الله بن السائب (1/269) ح 820.
(49) الإتقان في علوم القرآن (1/173-174)، وانظر دلائل النبوة للبيهقي (7/151-152).
(50) الحارث بن خزمة الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا وأحدًا، والخندق والمشاهد كلها، وتوفي سنة 40 في خلافة علي . أسد الغابة (1/389).
(51) رواه أحمد في مسنده مسند الصحابة بعد العشرة (1/327) ح 1717، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب قول الله : } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ { ص 38، وفيه محمد بن إسحاق، قال الحافظ ابن حجر: صدوق يدلس، ورمي بالقدر والتشيع. تقريب التهذيب (2/144).
(52) فتح الباري (8/654).
(53) انظر مناهل العرفان (1/349-350).
(54) الإتقان (1/174).
(55) سورة التوبة – آية 127.
(56) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب قول الله : } لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ { ص 38، والإمام أحمد في مسند الأنصار (6/161) ح 20720.
الْمبحث الثالث: ترتيب السور
القول الراجح
المبحث الثالث: ترتيب السور
وأما ترتيب السور على ما هي عليه الآن، فاختلف: هل هو توقيف من النبي ، أو من فعل الصحابة، أو يُفَصَّل؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور: أن النبي فوَّضَ ذلك إلى أمته من بعده، يعني أن هذا الترتيب من فعل الصحابة . ومِمَّن ذهب هذا الْمذهب الإمام مالكٌ، والقاضي أبو بكر الباقلاني فيما استقر عليه رأيه من قوليه.(1)
قال الزركشي: قال أبو الحسين أحمد بن فارسٍ في كتاب المسائل الخمس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطُّوال، وتعقيبها بالْمئين، فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة ….ـ(2)
وقد استدلوا على مذهبهم بأدلة، منها:
أولاً: أنه لو كان ترتيب السور بتوقيف من النبي لظهر وفشا ونقل مثله، وفي العلم بعدم ذلك النقل دليلٌ على أنه لم يكن منه توقيف فيه.(3)
ثانيًا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل جمع القرآن في عهد عثمان ، ولو كان الترتيب توقيفيًّا منقولاً عن النبي ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه.(4)
فمن ذلك أن مصحف أُبَيِّ بن كعب قدمت فيه النساء على آل عمران، ثم تلت آل عمران سورة الأنعام، ثم الأعراف ثم المائدة …، ومصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأعراف، ثم الأنعام … الخ ما فيهما من خلاف مصاحفنا اليوم، وروي أن مصحف علي كان مرتبًا على النزول، فأوله سورة العلق، ثم المدثر، ثم ق، ثم المزمل ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.(5)
ثالثًا: حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ سُورَةُ الأَنْفَالِ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ سُورَةُ بَرَاءةٌ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ.(6)
فقول عثمان : “فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا” صريحٌ في عدم التوقيف.(7)
فهذا الحديث يدل عندهم على أن ترتيب السور لم يكن بتوقيف من النبي ، بل كان باجتهاد من الصحابة .
رابعًا: عن يُوسُفَ بْنِ مَاهَكٍ قَالَ: إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِي الله عَنْهَا، إِذْ جَاءهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ؟! قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ. قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ … قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ.(8)
ووجه الدلالة فيه أن السائل كان يسأل عن ترتيب السور، بدليل قول عائشة له: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ لأن السلف متفقون على المنع من قراءة القرآن منكوسًا، بأن يقرأ من آخر السورة إلى أولِها، ولو كان السائل يسأل عن ترتيب الآي لأنكرت عليه عائشة قراءة القرآن غير مؤلف.(9)
ففي هذه الأحاديث، وغيرها حجة لِمن قال إن ترتيب السور كان اجتهاديًّا، وليس بتوقيف من النبي .
القول الثاني: أن هذا الترتيب توقيف من النبي ، وبه قالت طائفة من أهل العلم.
قال أبو جعفر النحاس:(10) المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالبٍ.(11)
وقال الكِرْماني:(12) ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.(13)
وقال أبو بكر بن الأنباري:(14) أنزل القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرِّق في بضعٍ وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابًا لمستخبر، ويقف جبريلُ النبيَّ على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كله عن النبي ، فمن قَدَّم سورة أو أخَّرَها، فقد أفسد نظم الآيات.(15)
واستدلوا على ذلك بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان، ولم يُخالف منهم أحد، وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف؛ لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بِمخالفتهم، ولكنهم عدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعًا.(16)
واستدلوا بأحاديث، منها: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ كان يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي.(17)
فذكرها نسقًا كما استقر ترتيبها.
وعن واثلة بن الأسقع أن النبي قال: أُعْطِيتُ مكانَ التَّوْراة السبعَ الطِّوالَ، وأُعْطِيتُ مكان الزبور الْمِئِينَ، وأُعْطِيتُ مكان الإنجيل المثانيَ، وفُضِّلْت بالمفصَّلِ.(18)
قال أبو جعفر بن النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي ، وأنه مؤلف من ذلك الوقت.(19)
وقال مالك: إنَّما أُلِّف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رَسُول اللهِ .ـ(20)
قال ابن حجر:(21) ومِمَّا يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفيًّا:
عَنْ أَوْسِ الثَّقَفِيِّ(22) قَالَ: كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ أَسْلَمُوا مِنْ ثَقِيفٍ… الحديث، وفيه: قُلْنَا مَا أَمْكَثَكَ عَنَّا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَرَدْتُ أَنْ لا أَخْرُجَ حَتَّى أَقْضِيَه.ُ قَالَ: فَسَأَلْنَا أَصْحَابَ رسول الله حِينَ أَصْبَحْنَا، قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: نُحَزِّبُهُ ثَلاَثَ سُوَرٍ وَخَمْسَ سُوَرٍ وَسَبْعَ سُوَرٍ وَتِسْعَ سُوَرٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سُورَةً وَثَلاَثَ عَشْرَةَ سُورَةً وَحِزْبَ الْمُفَصَّلِ مِنْ قَافْ حَتَّى يُخْتَمَ.(23)
قال ابن حجر: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي …ـ (24)
قال السيوطي:(25) ومِمَّا يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت ولاءً، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، بل فصل بين سورها، وفصل بين (طسم) الشعراء و(طسم) القصص بـ (طس) مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهاديًّا لذكرت المسبحات ولاءً، وأُخِّرت (طس) عن القصص.
وقد سئل ربيعة:(26) لم قُدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضعٌ وثمانون سورة بمكة، وإنَّما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قُدِّمتا، وأُلِّف القرآن على علم ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مِمَّا يُنْتَهى إليه، ولا يُسْأل عنه.(27)
قال الكِرْماني: وعلى هذا الترتيب كان يعرضه على جبريل كل سنة، أي: ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين.(28)
وقال أبو بكر الباقلاني: … فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري.(29)
قال ابن حجر: وفيه نظرٌ، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول.(30)
والذي يظهر -والله أعلم- قول الكرماني والباقلاني وابن الأنباري، فإنه لا يُعلم دليلٌ يدلُّ على كيفية عرض النبي القرآن على جبريل ، وقد عُلم أن عامة(31) قراءة النبي كانت على ما عليه ترتيب المصحف الآن.(32)
القول الثالث: أن ترتيب كثير من السور كان بتوقيف من النبي وعلم ذلك في حياته، وأن ترتيب بعض السور كان باجتهاد من الصحابة .
واستدلوا على ذلك بورود أحاديث تفيد ترتيب بعض السور، كالأدلة التي احتج بِها الفريق القائل بالقول الثاني، وورود آثار تصرح باجتهاد الصحابة في ترتيب بعض السور كحديث ابن عباس عن عثمان السابق.
واختلف القائلون بِهذا القول في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد:
فقال القاضي أبو محمد بن عطية: إن كثيرًا من السور قد علم ترتيبها في حياة النبي كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل.
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مِمَّا نصَّ عليه ابن عطية، ويبقى منها قليلٌ يُمكن أن يجري فيها الخلاف، واحتج بأحاديث منها حديث عبد الله بن مسعود، وحديث عبد الله بن عباس السابقة في أدلة القول الأول.(33)
قال ابن حجر: ترتيب بعض السور على بعض، أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيًّا، وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، واحتج بحديث ابن عباس السابق.(34)
قال السيوطي: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي، إلا براءة والأنفال، ولا ينبغي أن يستدل بقراءته سورًا ولاءً على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ لا يَرِدُ حديث قراءته النساء قبل آل عمران؛ لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجبٍ، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز.(35)
القول الراجح
هوَّن الزركشي من أمر هذا الخلاف، فقال: والخلاف يرجع إلى اللفظ؛ لأن القائل بأن الترتيب كان عن اجتهاد منهم يقول: إنه رمز إليهم بذلك، لعلمهم بأسباب نزوله، ومواقع كلماته؛ ولِهذا قال الإمام مالك: إنَّما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي ، مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه: هل ذلك بتوقيف قولي، أم بِمجرد استناد فعلي، وبحيث بقي لَهم فيه مجال للنظر.(36)
قال السيوطي: وسبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير.(37)
والذي أميل إلى ترجيحه هو القول الثاني القائل بأن ترتيب سور الكتاب العزيز كلها توقيفيٌّ، بما سبق من الأدلة عند حكاية هذا القول.
أما أدلة الفريق القائل بأن ترتيب السور اجتهادي فمردودة بما يأتي:
1 – أما دعواهم أنه لو كان ترتيب السور بتوقيف من النبي لظهر وفشا ونقل مثله، وأن في العلم بعدم ذلك النقل دليلاً على عدم التوقيف، فيجاب بأن عدم النقل ليس دليلاً على عدم وجود النص، بل إن إجماع الصحابة على هذا الترتيب دليلٌ على وجود النص بالتوقيف؛ لأنهم لا يُجمعون على خلاف السنة.(38)
2 – فإن قيل كيف يكون الصحابة مجمعين على هذا الترتيب مع أن مصاحفهم كانت مختلفة في ترتيب السور قبل جمع القرآن في عهد عثمان ، ولو كان الترتيب توقيفيًّا منقولاً عن النبي ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه، وهو دليلهم الثاني، فيجاب بأنهم إنَّما اختلفوا في هذا الترتيب بادئ الأمر، قبل أن يعلموا بالتوقيف، فلما علموا بالتوقيف تركوا ترتيب مصاحفهم، وقد يرجع الاختلاف أيضًا إلى أن مصاحفهم كانت شخصية فردية، ولم يكونوا يكتبونَها للناس، فالواحد منهم لا يُثبت في مصحفه إلا ما وصل إليه مجهوده، وقد يفوته ما لم يفت الجماعة من تحقيق أدق وعلم أوسع.(39)
3 – أما حديث ابن عباس عن عثمان،(40) وهو أقوى حججهم، فهو أوهاها إذا نظر إليه بعين التمحيص، ففيه ضعف لا يُنكر سندًا، وفيه الرد على شبهتهم متنًا:
أما من ناحية السند فإن مدار الحديث على يزيد الفارسي.(41)
قال الشيخ أحمد شاكر: وفي إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جدًّا، بل هو حديث لا أصل له.(42)
وقد اختلف الْمُحدِّثُون في يزيد هذا، اختلافًا كثيرًا:
قال البخاري في ترجمة يزيد بن هرمز: قال عبد الرحمن بن مهدي: يزيد الفارسي هو ابن هرمز، قال: فذكرته ليحيى فلم يعرفه، قال: وكان يكون مع الأمراء.(43)
وقال ابن أبي حاتم: يزيد بن هرمز، اختلفوا فيه، هل هو يزيد الفارسي أم لا؟ فقال عبد الرحمن بن مهدي، فيما سمعت أبي يَحكي عن علي بن الْمديني عنه أنه قال: يزيد الفارسي، هو يزيد بن هرمز، وكذا قاله أحمد بن حنبل…، وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحدًا، فعن علي بن المديني قال: ذكرت ليحيى قول عبد الرحمن بن مهدي: إن يزيد الفارسي هو يزيد بن هرمز، فلم يعرفه.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: يزيد بن هرمز هذا، ليس بيزيد الفارسي، هو سواه، وكان يزيد بن هرمز من أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة وجالسوا أبا هريرة، وليس هو بيزيد الفارسي البصري الذي يروي عن ابن عباس، روى عنه عوف الأعرابي.(44)
وقال ابن حبان: يزيد بن هرمز المدني، هو الذي يروي عنه عوف الأعرابي، ويقول: حدثنا يزيد الفارسي عن ابن عباس.(45)
وأثبته البخاري في الضعفاء بالاسمين: ابن هرمز والفارسي،(46) فهما ضعيفان عنده.
فعلى هذا فالحديث ضعيف، إما لضعف يزيد بن هرمز إن كان هو نفسه يزيد الفارسي، أو لجهالة أو ضعف يزيد الفارسي إن كان غير ابن هرمز.
قال العلامة أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولاً، حتى شُبِّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره … فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي… وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك.
ثم قال: فلا علينا إذا قلنا إنه حديث لا أصل له… فلا عبرة في هذا الموضع بتحسين الترمذي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بموافقة الذهبي، وإنَّما العبرة للحجة والدليل.(47)
وأما متنًا، فإنه يَحمل تناقضَا ظاهرًا، ويحمل طعنًا في التوقيف في ترتيب الآي.
أما التناقض، فلأنه أثبت للأنفال وبراءة اسمين مختلفين، وفيه مع ذلك أن عثمان ظن أن براءة من الأنفال فقرنَها بِها، وكان الأولى أن يقول: إنهما سورة واحدة.
قال الباقلاني: وقد تضمن ذلك أنَّهما سورتان؛ لأنه سمى كل واحدة باسمها.(48)
وأما الطعن في التوقيف في ترتيب الآي، فلأن قول عثمان: “فظننا أنَّها منها” يدل على أن النبي لم يفصح بأمر براءة، فأضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادًا منه .
وهذا مخالف لِما لا يُحصى من الأخبار الصحيحة الدالة على التوقيف في ترتيب آي السور، ومخالف للإجماع المنقول عن أهل العلم على أن ترتيب آي السور ليس محلاًّ للاجتهاد، وإنَّما كان بتوقيف من النبي .ـ(49)
كما أن قول ابن عباس: “عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ … فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ” يحمل ما يرد احتجاج هؤلاء بِهذا الحديث، فهو ذا يذكر أن الأنفال من المثاني، وأن براءة من المئين، ويقول: فوضعتموهما في السبع الطوال، وهذا يدل على أن السبع الطوال كانت معلومة توقيفًا قبل الجمع، وكذلك المثاني، وكذلك المئون، وإلا فما وجه استنكار ابن عباس هذا الترتيب؟!
4 – أما حديث يوسف بن ماهك عن عَائِشَةَ -رَضِي الله عَنْهَا- فيرد عليه بأن هذا العراقي إنَّما سأل عن ترتيب السور، وكان مِمَّن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة، لم يوافق أول الأمر على الرجوع عن قراءته، ولا على إعدام مصحفه، وكان تأليف مصحفه مغايرًا لتأليف مصحف عثمان، فلذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف.(50)
وأما الفريق الثالث القائل بالتفصيل، فيجاب بنفس الأجوبة، إذ لم يأت بدليل جديد، كما يرد عليهم أيضًا بأن العلم بتوقيف البعض يدل على التوقيف في الكل، إذ لو علم الصحابة التوقيف لَما فاتَهم أن يسألوا عن كل سورة بعينها، والنبي حَيٌّ بين أظهرهم، وإلا لكانوا -وحاشاهم- مقصرين في حفظ القرآن.
فإن قيل: إن الروايات الْمحتج بِها وأمثالها خاصة بِمحالِّها، ثم هي ظنية في الدلالة على كون الترتيب عن توقيف.
فالجواب أن إجْماع الصحابة على هذا الترتيب يدل على انسحاب ما دلت عَلَيْهِ هذه الروايات من الترتيب على كل القرآن، ويقطع الظن في دلالتها.
وإن قيل: إن الإجماع الذي استندتم إليه لا يدل على التوقيف في ترتيب جميع السور، لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص.
فالجواب أن أمر ترتيب السور لم يكن أمرًا حادثًا حتى يُقال إن الإجماع عليه لا يدل على نص بالتوقيف، بل إن أمرَ ترتيبِ سور القرآن معروفٌ من عهد النبي ، فلا يرد أن إجماعهم كان عن اجتهاد غير مستند إلى نص سابق.
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82، والبرهان (1/257)، وفتح الباري (8/655).
(2) البرهان في علوم القرآن – الزركشي (1/258-259).
(3) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(4) مناهل العرفان (1/353).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/181-183)، والبرهان في علوم القرآن (1/259)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 81، ومناهل العرفان (1/353).
(6) رواه أحمد في المسند مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وقال: حديث حسن.
(7) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(8) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن (8/654) ح 4993.
(9) انظر فتح الباري (8/655).
(10) هو العلامة إمام العربية أحمد بن محمد بن إسماعيل المصري النحوي، صاحب التصانيف، أخذ عن الزجاج، وكان من أذكياء العالم. توفي سنة 338هـ. سير أعلام النبلاء (15/401)، وشذرات الذهب (2/346).
(11) البرهان (1/258).
(12) هو تاج القراء، برهان الدين أبو القاسم محمود بن حمزة الكرماني، عالم بالقراءات، كان عجبًا في دقة الفهم وحسن الاستنباط، توفي في حدود سنة 505هـ. الأعلام للزركلي (7/168).
(13) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(14) هو الإمام الحافظ اللغوي ذو الفنون، محمد بن القاسم بن بشار المقرئ النحوي، ولد سنة 272هـ، ألف الدواوين الكبار في علوم القرآن والغريب والمشكل، والوقف والابتداء، وكان من أعلم الناس بنحو الكوفيين وأكثرهم حفظًا للغة. توفي سنة 328هـ. سير أعلام النبلاء (15/274)، وشذرات الذهب (2/310).
(15) البرهان (1/260).
(16) مناهل العرفان (1/354).
(17) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب تأليف القرآن (8/654) ح 4994.
(18) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده كتاب باب (1/136)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/475)، وأشار إليه السيوطي بالحسن: فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/565).
(19) البرهان (1/258).
(20) رواه أبو عمرو الداني في كتاب المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار ص 18.
(21) فتح الباري (8/658).
(22) هو أوس بن أبي أوس الصحابي، وفد على النَّبِيّ مع وفد الطائف، وروى حديث تحزيب القرآن. أسد الغابة (1/167).
(23) رواه أبو داود في سننه كتاب باب (2/55-56) ح 1393، وابن ماجه في سننه كتاب إقامة الصلاة باب في كم يستحب يختم القرآن (1/427) ح 1345 وأحمد في مسند المدنيين ح 15733
(24) فتح الباري (8/658).
(25) الإتقان (1/179).
(26) هو الإمام، مفتي المدينة أبو عبد الرحمن القرشي التيمي مولاهم، المشهور بربيعة الرأي، كان فقيهًا عالمًا بالحديث من أئمة الاجتهاد. توفي سنة 136هـ. سير أعلام النبلاء (6/89)، وشذرات الذهب (1/194).
(27) الإتقان (1/179).
(28) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(29) فتح الباري (8/658).
(30) فتح الباري (8/658).
(31) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(32) من قراءته بخلاف ترتيب المصحف: ما رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءةِ فِي صَلاةِ اللَّيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا … الحديث. صحيح مسلم مع شرح النووي (6/61) ح 772.
(33) البرهان في علوم القرآن (1/257-258)، والإتقان في علوم القرآن (1/177)، ومناهل العرفان (1/356-358).
(34) فتح الباري (8/658).
(35) الإتقان (1/179)، وانظر دلائل النبوة للبيهقي (7/152).
(36) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(37) الإتقان في علوم القرآن (1/177).
(38) انظر الرسالة للإمام الشافعي ص 322.
(39) مناهل العرفان (1/360).
(40) وقد سبق قريبًا، وفيه قوله: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى سُورَةِ بَرَاءةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ.
(41) رواه أحمد في المسند مسند العشرة المبشرين بالجنة (1/92)ح 401، (1/111) ح 501، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من جهر بِها (1/208-209)ح 786، والترمذي في كتاب تفسير القرآن باب سورة التوبة (5/272) ح 3086، وفي رواياتهم يزيد الفارسي. قال الترمذي: يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ هُوَ يَزِيدُ ابْنُ أَبَانَ الرَّقَاشِيُّ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ. جامع الترمذي (5/272). وورد في رواية البيهقي من طريق هوذة بن خليفة عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الرقاشي. دلائل النبوة (7/152)، وأخرجه الحاكم من طريق هوذة بن خليفة أيضًا،ومن طريق روح بن عبادة، عن عوف عن يزيد الفارسي، وزعم أنه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! المستدرك على الصحيحين (1/221)، و(1/330).
(42) مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/399).
(43) التاريخ الكبير (4/2/367)
(44) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/2/293).
(45) الثقات لابن حبان 5/531).
(46) الضعفاء الصغير ترجمة 407 ص 122.
(47) مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر (1/399-401).
(48) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 82.
(49) راجع مسألة ترتيب الآيات في السورة توقيفي ص 26، والرد على ما يورد من الشبهة بِهذا الحديث ص 28.
(50) انظر فتح الباري (8/655).
الفصل الرابع
العرضة الأخيرة
الْمبحث الأول:عرض القرآن في كل سنة على جبريل
ترتيب عرض النبي r القرآن على جبريل u:
الْمبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
من حضر العرضة الأخيرة من الصحابة
الْمبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
المبحث الأول: عرض القرآن في كل سنة على جبريل
كان من عناية النبي بالقرآن الكريم -كما سبق- حفظُه واستظهارُه، وكان لذلك يعرض القرآن على جبريل ، ليؤكد حفظه، وليعلم ما طرأ عليه نسخ منه، وليعلم ما يؤمر به من القراءة على الأحرف السبعة، وليتعلم منه معانيه.
فكان جبريل ينزل على النبي في شهر القرآن من كل سنة فيدارسه فيما نزل عليه حتى وقت المدارسة، يقرأ على النبي ، ويقرأ عليه النبي :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.(1)
فلفظ المدارسة يحتمل أن كلاًّ منهما كان يعرض على الآخر، وفي رواية: يعرض عليه رسول الله القرآن، وفي رواية: يَعرض على النبي القرآن. أي: جبريل . فهاتان الروايتان صريحتان في أن كلاًّ منهما كان يعرض على الآخر.(2)
قال الكوثري:(3) والمعارضة تكون بقراءة هذا مرة واستماع ذاك، ثم قراءة ذاك واستماع هذا، تحقيقًا لِمعنى المشاركة، فتكون القراءة بينهما في كل سنة مرتين.(4)
ويظهر أن عرض القرآن في كل سنة مرة كان لفوائد كثيرة، منها:
1 – تأكيد الحفظ والاستظهار.
2 – معرف ما طرأ عليه النسخ من القرآن.
3 – معرفة الأحرف السبعة التي أُمر بقراءة القرآن عليها.
4 – معرفة معاني ما يحتاج إلى معرفة معانيه من القرآن، أو مدارسة ما عُرِف من هذه المعاني.
ترتيب عرض النبي القرآن على جبريل :
لم ترد رواية تصرح بالترتيب الذي عرض به النبي القرآن على جبريل ، ومن ثَمَّ فقد اختلف العلماء في هذا الترتيب:
فذهب بعضهم إلى أن العرض كان على ترتيب القرآن الذي بين أيدينا:
قال أبو بكر الباقلاني: … فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب (يعني ترتيب المصحف الآن) ، وبه جزم ابن الأنباري. (5)
قال الكِرْماني: وعلى هذا الترتيب كان يعرضه على جبريل كل سنة، أي: ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين.(6)
وذهب بعض العلماء إلى أن العرض كان على ترتيب النزول:
قال ابن حجر: وفيه نظرٌ (يعني قول الباقلاني)، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول.(7)
والذي يظهر -والله أعلم- قول الكرماني والباقلاني وابن الأنباري، فإنه لا يُعلم دليلٌ يدل على كيفية عرض النبي القرآن على جبريل ، وقد عُلم أن عامة قراءته (8) كانت على ما عليه ترتيب المصحف الآن.(9)
المبحث الثاني: العرضة الأخيرة للقرآن الكريم
لما كانت معارضة النبي لِجبريل بالقرآن بغرض تأكيد الحفظ والاستظهار وغير ذلك من الفوائد كما سبق، وكانت الحاجة إلى هذا التأكيد بعد وفاة النبي آكد، فلما اقترب زمن وفاة النبي عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وذلك في رمضان من السنة التي تُوُفِّي فيها ، وكان ذلك إرهاصًا بقرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى:
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ، فَيُصْبِحُ رَسُولُ اللهِ مِنْ لَيْلَتِهِ الَّتِي يَعْرِضُ فِيهَا مَا يَعْرِضُ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، لا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ، حَتَّى كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي هَلَكَ بَعْدَهُ عَرَضَ فِيهِ عَرْضَتَيْنِ.(10)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ.(11)
وعَنْ عائشةَ في حديث وفاة النبي أنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ: إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي.(12)
قال الكوثري: … فتكون القراءة بينهما في كل سنة مرتين، وفي سنة وفاته أربع مرات، فتفرَّس النبي من تكرير المعارضة في السنة الأخيرة قربَ زمن لحوقه بالرفيق الأعلى.(13)
فكانت هذه العرضة الأخيرة بِمنْزلة الْمراجعة النهائية للكتاب الحكيم، عرض فيها القرآن الكريم مرتين، فأُثبِت فيه جميع الأوجه الثابتة غير المنسوخة، وترك ما نُسِخ منه، فما ثبت في هذه العرضة هو القرآن المحكم المعجز المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، وما لم يثبت فإما أن يكون قرآنًا منسوخًا، وإما أنه ليس بقرآن، وكلاهما ليس له حكم القرآن من التعبد والإعجاز.
وأما ما نزل بعد رمضان الأخير من زمن النبي -وهو رمضان سنة عشر من الهجرة، وتوفي النبي في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وقد نزل قرآن فيما بعد ذلك الرمضان، فكأن الذي نزل بعد تلك العرضة لَمَّا كان قليلاً اغتفر أمر معارضته.(14)
ومما نزل بين هذه العرضة الأخيرة وبين وفاة النَّبِيّ
1 – قوله تعالى: } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا {،(15) فقد نزلت في يوم عرفة والنبي بِها باتفاق.(16)
2 – آية الربا، وهي قوله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا{،(17) فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا، قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ آيَةُ الرِّبَا.(18)
3 – قوله : } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ {،(19) وقد ورد أنَّها آخر ما نزل من القرآن الكريم.(20)
4 – آية الدَّيْن، وهي قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ {،(21) الآية. فقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.(22)
قال السيوطي: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات، في آيـة الربا، } وَاتَّقُوا يَوْمًا { ، وآية الدين؛ لأن الظاهر أنَّها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنَّها في قصة واحدة، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخِرٌ، وذلك صحيح.(23)
من حضر العرضة الأخيرة من الصحابة
كان تعويل الصحابة في قراءة القرآن، ثم في جمعه بعد زمن النبي على تلك العرضة الأخيرة؛ لأن ما لم يثبت فيها من أوجه القراءة فقد نسخ، وما ثبت فيها فهو القرآن المُتَعَبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة.
ولا شك أن النبي كان يخبر أصحابه بِما يطرأ على آيات الكتاب من النسخ، وبِما يُحتاج إلى معرفته من معاني الكتاب التي تعلمها من جبريل .
وقد ورد من الروايات ما يدل على أن من الصحابة من حضر تلك العرضة كزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود وغيرهم .
قال أبو عبد الرحمن السلمي:(24) قرأ زيد بن ثابتً على رَسُول اللهِ في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت؛ لأنه كتبها لرَسُول اللهِ ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(25)
وَعَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَيُّ الْقِرَاءتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءةَ عَبْدِ اللهِ. قَالَ: لا بَلْ هِيَ الآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ.(26)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتْ قِرَاءةُ عَبْدِ اللهِ آخِرَ الْقِرَاءةِ.(27)
وَعَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ(28) أنه قال: القراءة التي عُرِضَت على رسول الله في العام الذي قبض فيه – هذا القراءة التي يقرأها الناس.(29) يعني بذلك قراءة زيد بن ثابت .
وعن سَمُرة قال: عُرض القرآنُ على رَسُول اللهِ عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة.(30)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها.(31)
وذكر النووي عن بعض أهل العلم أنه لا يُدرى أي القراءات كانت العرضة الأخيرة.
قال النووي: قال غيره (يعني النحَّاس): … ولا يُدرى أي هذه القراءات كان آخر العرض على النَّبِيّ .ـ(32)
ويردُّ هذا القولَ ما مرَّ بنا من الآثار الصحاح التي تدل على أن قراءة زيد بن ثابت وقراءة عبد الله بن مسعود كانت آخر عرضة عرضها النَّبِيّ على جبريل .
المبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
كانت العرضة الأخيرة للقرآن الكريم هي المرجع والأساس لقراءة أصحاب النبي ، كما كانت الفيصل بينهم إذا تنازعوا في شيء من كتاب الله ، ولَمَّا أرادوا جمع القرآن الكريم كانت هي أيضًا أساس هذا الجمع، فقد اتفقوا على كتابة ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.(33)
وقد مرَّ بنا في المبحث السابق بعض الآثار التي تدل على أن القراءة التي يقرؤها الناس -وهي القراءة التي جمع عليها القرآن- هي ما عرض في العرضة الأخيرة، وفي هذا دلالة على أثر هذه العرضة الأخيرة في جمع القرآن.(34)
قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه.(35)
وقال أيضًا: قرأ زيد بن ثابتٍ على رَسُول اللهِ في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سُمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابتٍ؛ لأنه كتبها لِرَسُـول اللهِ ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(36)
وقال البغوي:(37) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي.(38)
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(39)
وهكذا فقد كانت هذه العرضة عمدة هذه الأمة في معرفة القرآن، إذ إنَّها قد جمعت ما ثبتت تلاوته من الكتاب الحكيم، وأخرجت ما ثبت نسخه.
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي (1/40) ح 6، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل بَاب كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (15/68) ح 2308.
(2) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (8/659-661) ح:4997 ، و 4998.
(3) هو الفقيه الحنفي محمد زاهد الكوثري، جركسي الأصل، ولد بالأستانة سنة 1296هـ، له اشتغال بالأدب والسير، وله تعليقات كثيرة على كتب الفقه والحديث والرجال، وكذلك له مؤلفات عديدة في مختلف ميادين الشريعة. توفي بمصر سنة 1371هـ. الأعلام للزركلي (6/129).
(4) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(5) فتح الباري (8/658).
(6) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(7) فتح الباري (8/658).
(8) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(9) ومن قراءته بخلاف ترتيب المصحف: ما رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا … الحديث. صحيح مسلم مع شرح النووي (6/61) ح 772.
(10) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/382) ح 2043، (1/537) ح3003، ورواه البيهقي في جامع شعب الإيمان (5/196-197)، وعبد بن حميد في المنتخب (1/553) ح 646.
(11) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي ـ (8/659) ح 4998.
(12) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (6/728) ح 3624 ، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة بَاب فَضَائِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلاة وَالسَّلام (16/5-7) ح 2450.
(13) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(14) فتح الباري (8/660).
(15) سورة المائدة، من الآية 3.
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه (1/129) ح 45.
(17) من الآية 278 من سورة البقرة.
(18) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ (8/52) ح 4544.
(19) سورة البقرة، من الآية 281.
(20) احتج لذلك البخاري بالحديث السابق، فبوَّب بِهذه الآية، وأورد تحتها ذلك الحديث. قال الحافظ: ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس، فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النَّبِيّ : } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ ، وأخرجه الطبري من طرق عنه… قال: وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهن. فتح الباري (8/53)، وانظر تفسير الطبري (3/114-115)، والإتقان (1/77-78).
(21) من الآية 282 من سورة البقرة.
(22) تفسير الطبري (3/115)، قال السيوطي: مرسل صحيح الإسناد. الإتقان (1/78).
(23) الإتقان في علوم القرآن (1/78).
(24) هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي، تابعي جليلٌ، ولد في حياة النَّبِيّ ، وقرأ القرآن على عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو مقرئ الكوفة، ظل يقرئ الناس بمسجدها الأعظم أربعين سنة. معرفة القراء الكبار (1/52-53)، وشذرات الذهب (1/92).
(25) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(26) رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/7)، وكتاب المناقب (4/36).
(27) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/535) ح 2992.
(28) عبيدة السلماني الفقيه الْمُرادي الكوفي، أحد الأعلام، أسلم عام الفتح، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود، وكان يقرئ الناس، ويفتيهم. توفي سنة 72 على الصحيح. سير أعلام النبلاء (4/40)، وشذرات الذهب (1/78).
(29) رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/155-156).
(30) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. مستدرك الحاكم (2/230)، ورواه البزار في مسنده، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/154).
(31) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/395).
(32) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(33) الإتقان في علوم القرآن (1/142).
(34) وانظر: الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 270-271.
(35) شرح السنة للإمام البغوي (4/525)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(36) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(37) الشيخ الإمام القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، المفسر، صاحب التصانيف، كان إمامًا في الفقه والتفسير، زاهدًا قانعًا باليسير. توفي سنة 516هـ. سير أعلام النبلاء (19/439)، وشذرات الذهب (4/48).
(38) شرح السنة (4/525).
(39) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33.
الباب الثاني
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
الفصل الأول: الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر رضي الله عنه
الفصل الثاني: أول من جمع القرآن من الصحابة رضي الله عنهم
الفصل الثالث من قام بالجمع في عهد أبي بكر t
الفصل الرابع: منهج ومزايا جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن
الفصل الخامس: دفع الاعتراض على أبي بكر في جمع القرآن ورد الشبهات المثارة حول هذا الجمع
الفصل الأول
الأسباب الباعثة على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر
1 – لحوق النبي r بالرفيق الأعلى
2 – انقضاء زمن نزول القرآن الكريم
3 – وقعة اليمامة
لم يُجمع القرآن على عهد النبي في مصحف واحد لعدم توفر الدواعي ولوجود الموانع التي سبق ذكرها، فلما انتفت هذه الموانع، ووجدت الأسباب الداعية إلى جمع القرآن في كتاب واحد فعل ذلك أصحاب النبي ، وكانت أهم هذه الأسباب:
1 – لحوق النبي بالرفيق الأعلى
كان وجود النبي بين ظهراني المسلمين أمانًا لهم من حصول الخلاف فيما بينهم، كما كان وجوده أمانًا من ضياع شيء من القرآن، كما سبق بيانه في أسباب عدم جمع القرآن الكريم في صحف أو مصاحف في عهده .
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ قال: … وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ.(1)
ولما بلغ الرسول رسالة ربه إلى الأمة، وأتم الله به شرائع دينه الذي اختاره للناس علمًا وعملاً، وأقام به الملة العوجاء، وكان الموت نَهاية كل حي، فقد اختار الله رسوله لجواره في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية.
ومنذ اللحظة الأولى لوفاته بدأ الخلاف بين المسلمين، فكان أول شيء يَختلفون فيه: هل مات رسول الله أو لا؟ ثم تتابع الخلاف بين الأمة في غير الأمور المعلومة بالضرورة من دين الله، إذ ليس فيهم معصوم مؤيد بالوحي بعده .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ،(2) فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ . قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلاَّ ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُذِيقُكَ اللهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ.
فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وَقَالَ: } إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ{،(3) وَقَالَ: } وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{،(4) قَال:َ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ …
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِي اللهُ عَنْهَا: شَخَصَ بَصَرُ النَّبِيِّ ، ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ثَلاثًا… الحديث. قَالَتْ: فَمَا كَانَ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللهُ بِهَا؛ لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا، فَرَدَّهُمُ اللهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى، وَعَرَّفَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: } وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{.(5)
وقد كان فقد النبي أعظم ما منيت به الأمة الإسلامية من المصائب.
فعن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن رسول الله قال: لِيُعَزِّ المُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِم: المُصِيبَةُ بِي.(6)
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: ما أُصِبْنا بعدها بِمصيبة إلاَّ هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به .ـ(7)
ومع انتقاله إلى الرفيق الأعلى توقف الوحي، فانتفى المانع الذي من أجله لم يجمع القرآن في مصحف واحد في زمنه ، وانضمَّ إلى ذلك ما سيأتي من أسباب، فقد كانت وفاة النبي أول الأسباب الداعية إلى جمع القرآن الكريم في زمن الصدِّيق .
2 – انقضاء زمن نزول القرآن الكريم
مرَّ بنا أنَّ القرآن لم يجمع في كتاب واحد على عهد رَسُول اللهِ لِما كان يَتَرَقَّبُهُ من نزول الوحي،(8) ومعلومٌ أن الوحيَ إنَّما كان ينزل مفرَّقًا على ما يناسب الحوادث والمسائل، وقد كان ينسخ من السورة الآياتُ أو تزاد عليها، فلو أن القرآن جمع في كتاب واحد ثم طرأ نسخٌ أو زيادة لزم إعادة الكتابة مرة أخرى، فحصل بذلك مشقة عظيمة، فلمَّا انقطع بوفاة النبي خبرُ السماء، أُمِن نزول شيء من القرآن يتغير معه ترتيب الآيات في السور، أو نقص أو زيادة بعضها.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ . فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا.(9)
فكان انقضاء نزول القرآن سببًا لجمعه في كتابٍ واحد؛ حفاظًا عليه من الضياع والتبديل.
3 – وقعة اليمامة(10)
ما إن توفي رسول الله ، وانتقل الأمر إلى أبي بكر الصديق حتى ارتد كثير من العرب، ومنع كثير منهم ما كان يؤديه من الزكاة إلى رسول الله باعتبار الزكاة خراجًا أو ضريبة كانت مفروضة للنبي .
وادعى بعض الأدعياء من العرب النبوة، فاضطلع أبو بكر بِمهمة قتال هؤلاء المرتدين ومانعي الزكاة ومدعي النبوة.
وكان من أعتى أدعياء النبوة مسيلمة الكذاب،(11) وكان قومه بنو حنيفة قد التفوا حوله واتبعوه.
وكان بنو حنيفة يسكنون اليمامة، فأرسل إليهم أبو بكر الصديق جيشًا بقيادة عكرمة بن أبي جهل، وأمده بشرحبيل بن حسنة، وانْهزم عكرمة أول الأمر، ثم جاءهم خالد بن الوليد بِمدد وقاد الجيش إلى النصر.
وكانت موقعة اليمامة سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية، وقُتِل فيها مسيلمة الكذاب، وكثير مِمَّن كان معه، لَمَّا حوصروا في الحديقة التي عرفت فيما بعد بِحديقة الموت، فقد قتل فيها من بني حنيفة نحو سبعة آلاف رجل، وكان جملة القتلى من بني حنيفة ومن معهم أكثر من عشرين ألف رجلٍ، وبلغ القتلى من الصحابة نحو ستين وست مائة رجلٍ، وكان جملة القتلى من المسلمين نحو ستين وتسعمائة رجلٍ.(12) وقيل بلغ القتلى من الصحابة نحو خمسين وأربعمائة رجل، وبلغت جملة القتلى من المسلمين مائتين وألف رجلٍ.(13)
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا، أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ. قَالَ: وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ ، وَيَوْمُ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.(14)
وعن سعيد بن المسيب قال: قُتِل من الأنصار يوم اليمامة سبعون.(15)
إذا كان هذا هو عدد القتلى من أصحاب النبي في يوم اليمامة، فلا شك أن الكثير منهم كان مِمَّن حفظ القرآن، إما كله أو بعضه، فيكون الْمجموع حافظًا لكل القرآن.
قال عمر في كلامه لأبي بكر حاثًّا إياه على جمع القرآن: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ.(16)
قال الحافظ في الفتح: وهذا يدل على أن كثيرًا ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أن مجموعهم جَمَعَهُ، لا أن كل فرد جَمَعَهُ.(17)
ولا شك أن أكثر هؤلاء القتلى كان مِمَّن حفظ شيئًا من القرآن، غير أن المشهور أن القتلى من الحفاظ يومئذ كان سبعين رجلاً.(18)
راعت هذه الكارثة العظيمة –كارثة فقد حفَّاظ كتاب الله تعالى- عمرَ الفاروقَ ، فهرع إلى خليفة رسول الله ، وطلب منه أن يسرع إلى حفظ الكتاب بجمعه مكتوبًا، حتى لا يذهب بذهاب حُفَّاظه.
فمع موت كثيرٍ من الحفاظ، أصبح من الْمخوف الْمحتمل أن تفقد إحدى القطع التي كُتِبَ القرآن بين يدي النبي ، ومن الْمحتمل أيضًا أن يستشهد الذين يحفظون الْمكتوب في هذه القطعة، فيترتب على الأمرين معًا ضياع الْمكتوب فيها.
فتردد أبو بكر أول الأمر، لأنه كَرِهَ أن يجمع القرآن على وجهٍ يُخالف ما فعله النَّبِيّ من جمع القرآن، حيث اكتفى بتدوين القرآن على الجلود والعظام والعسب وغير ذلك، ولم يجمعه في صحفٍ أو مصاحف، فقد كَرِهَ أن يُحِلَّ نفسه محلَّ مَنْ تَجَاوَزَ احتياطُه للقرآن احتياطَ النَّبِيّ .
ولكن عمر ما زال يراجعه حتى شرح الله صدره لهذا الأمر، فدعا زيد بن ثابت ، وطلب منه أن يقوم بجمع القرآن، فتردد زيد لنفس الأمر الذي تردد له أبو بكر أول الأمر، وما زال أبو بكر يراجعه حتى شرح الله صدره له، فشرع في العمل متهيبًا وَجِلاً من عظم المسؤولية.
قال الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ، قال: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قال: أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ ؟ فَقال: عُمَرُ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لاَ يَتَكَلَّمُ. فَقال أَبُو بَكْر:ٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلاَنِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ ؟ فَقال أَبُو بَكْر:ٍ هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ. فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِه: } لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ{ إِلَى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(19)
ولقد كانت هذه الوقعة أهم الأسباب التي اكتملت بِها الحاجة إلى جمع القرآن، ودفعت الصحابة إلى هذا العمل، لَمَّا رأَوْا أن مصلحة الدين، وحفظ الكتاب الحكيم لا تتم إلا به.
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة بَاب بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ أَمَانٌ لأَصْحَابِهِ وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ أَمَانٌ لِلأُمَّةِ. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/82-83) ح 2531.
(2) بضم السين والنون، أو بضم السين وسكون النون، يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ، موضع معروف بالمدينة النبوية، إلى الجنوب من المسجد النبوي، كانت فيه منازل بني الحارث بن الخزرج. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/407).
(3) سورة الزمر، الآية 30.
(4) سورة آل عمران، الآية 144.
(5) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النَّبِيّ : لو كنت متخذًا خليلاً. (7/23-24)، الأحاديث: 3667-3670.
(6) رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الجنائز 16، باب جامع الحسبة في المصيبة 14، حديث رقم 41. موطأ الإمام مالك رواية يحيى الليثي- طبعة دار الشعب ص 162.
(7) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في عظم المصيبة التي نزلت بالمسلمين بوفاة رسول الله (7/267).
(8) وهو المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول. راجع صفحة 56 وما بعدها.
(9) رواه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أم أيمن ح 2454. صحيح مسلم مع شرح النووي (16/9-10)، والبيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في عظم المصيبة التي نزلت بالمسلمين بوفاة رسول الله (7/266).
(10) اليمامة: قريةٌ من نجد بوادي حنيفة، وهي القرية المسماة اليوم بالجُبَيْلة قرب العيينة. معجم البلدان (5/505).
(11) هو مسيلمة بن حبيب الحنفي، وقال ابن هشام مسيلمة بن ثمامة، ويكنى أبا ثمامة، وهو المعروف بمسيلمة الكذاب، ادعى النبوة، وكان قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. قتل في حديقة الموت يوم اليمامة من حروب الردة. انظر السيرة النبوية لابن هشام (4/164،182)، وشذرات الذهب (1/23)، والكامل في التاريخ (2/243-248).
(12) تاريخ الأمم والملوك – الطبري (2/283)، والبداية والنهاية (6/330)، وتاريخ الإسلام للذهبي في جزء حوادث سنة 11-40 هـ ص 73، والكامل في التاريخ (2/243-248).
(13) شذرات الذهب (1/23).
(14) رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب من قتل من المسلمين يوم أحد، انظر الصحيح مع الفتح (7/433) ح4078.
(15) رواه البيهقي في دلائل النبوة باب عدد من استشهد من المسلمين يوم أحد (3/277).
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/626) ح 4986.
(17) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(18) ذكر الحافظ في الفتح أن القتلى من القراء كانوا سبعين، فتح الباري (8/668)، وانظر الإتقان في علوم القرآن (1/199-204).
(19) رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب } لقد جاءكم رسول من أنفسكم … { انظر الصحيح مع شرحه فتح الباري (8/194) ح 4679، وفي كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن، (8/626) ح 4986.
الفصل الثاني
أول من جمع القرآن من الصحابة
1 – أبو بكر الصديق t أول من جمع القرآن الكريم
2 – ما جاء أن أول من جمع القرآن علي بن أبي طالب t
3 – ما جاء أن أول من جمع القرآن عمر بن الخطاب t
4 – ما جاء أن أول من جمع القرآن سالم مولى أبي حذيفة t
1 – أبو بكر الصديق أوَّل من جمع القرآن الكريم
دلَّت عامَّة الروايات على أن أول من أمر بجمع القرآن الكريم من الصحابة أبو بكر الصديق عن مشورة عمر بن الخطاب، وأن الذي قام بِهذا الجمع هو زيد ابن ثابت الأنصاري .ـ(1)
فمن ذلك ما مرَّ بنا من حديث زيد بن ثابت، وقوله: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقال: أَبُو بَكْرٍ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقال: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ… الحديث.(2)
ومن ذلك ما رواه ابن أبي داود بسند حسنٍ عن عبْدِ خَيْرٍ عن علِيٍّ قال: رحمةُ اللهِ على أبي بكرٍ؛ كانَ أعظمَ الناسِ أجرًا في جمع المصاحفِ، وهو أوَّل من جمع بين اللَّوْحَيْنِ.(3)
قال الحافظ ابن حجر: أخرجه ابن أبي داود في “المصاحف” بإسنادٍ حسنٍ.(4)
وقال السيوطي: بسندٍ حسنٍ.(5)
غير أنه قد وردت روايات تدل على أن أول من قام بِهذا الجمع غير أبي بكر، فمن ذلك:
2- ما جاء أن أول من جمع القرآن عليُّ بن أبي طالبٍ
– عن محمد بن سيرين قال: لَمَّا تُوُفِّي النَّبِيّ أقسمَ عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لِجمعة، حتى يجمع القرآن في مصحف، ففعل.(6)
قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظًا، فمراده بِجمعِه حفظُه في صدره…، وما تقدم من رواية عبدِ خَيْرٍ عن عَلِيٍّ أصحُّ، فهو المعتمد.(7)
– عن عكرمة قال: لَمّا كان بعد بيعةِ أبي بكر ، قعد عليُّ بن أبي طالبٍ في بيته، فقيل لأبي بكرٍ: قد كره بيعتكَ. فأرسل إليه فقال: أكرهت بيعتي؟ فقال: لا، والله. قال: ما أقعدك عني؟ قال: رأيت كتاب الله يُزاد فيه، فحدَّثت نفسي أن لا ألبَسَ ردائي إلا لصلاةٍ حتى أجمعه. فقال أبو بكر: فإنك نعمَ ما رأيتَ.(8)
وهذا الحديث فيه انقطاعٌ، فعكرمة وُلِدَ سنةَ خمسٍ وعشرين من الهجرة،(9) والحادثة المذكورة من تأخر عليٍّ في بيعة أبي بكر وقعت سنة إحدى عشرةَ.
كما أن فيه رائحة التشيع، إذ فيه أن المسلمين -وأكثرهم إذ ذاك من الصحابة- كانوا يزيدون في كتاب الله ما ليس منه، وحاشا لأصحاب النَّبِيّ أن يفعلوا ذلك.
وبتقدير صحته يُمكن أيضًا حمله على الجمع في الصدر، والحفظ عن ظهر قلب كما مرَّ، أو على أنه أراد أن يجرِّد مصحفه مِمَّا ليس من القرآن، كالتفسير والأحكام.
كما أنه قد قيل إنَّ جَمْعَ عليٍّ كان أشبه بكتاب علم، جمع فيه غير القرآن مع القرآن، وإذن فصُورتُه غير صورة الجمع البكري، وغرضُه غير غرضِهِ.
فقد روى هذا الخبر ابن أشتة في كتاب المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، وفيه أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وأن ابن سيرين قال: فطلبتُ ذلك الكتاب، وكتبتُ فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه.(10)
3 – ما جاء أن أول من جمع القرآن عمر بن الخطاب
عن الحَسَن أن عُمَر بن الخطاب سألَ عن آيةٍ من كتاب الله، فقيل: كانت معَ فلانٍ، فقُتل يوم اليمامة. فقال: إنا لله، وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه في المصحف.(11)
وإسناد هذا الأثر منقطع،(12) والظن أنَّها لا تعدو رواية البخاري التي أسلفناها، والتي تقرِّر أنَّ عمر هو فعلاً صاحب فكرة الجمع الأول، وأنه أشار بِها على أبي بكر، ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدره لها.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا منقطع، فإن كان محفوظًا حُمِل على أن المراد بقوله: فكان أول من جمعه، أي: أشار بجمعه في خلافة أبي بكر، فنُسِب الجمع إليه لذلك.(13)
4 – ما جاء أن أول من جمع القرآن سالم مولى أبي حذيفة
عن ابن بريدة، قال: أول من جمع القرآن في مصحفٍ سالمٌ مولى أبي حذيفة، أَقْسَمَ لا يرتدي برداء حتى يجمعه، فجمعه.(14)
وهذا من غريب ما ورد في أول من جمع القرآن.
قال السيوطي: إسناده منقطعٌ أيضًا، وهو محمولٌ على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكرٍ .ـ(15)
ووصف الآلوسي(16) قول السيوطي هذا بأنه عثرةٌ لا يُقال لها لعًا،(17) لأن سالِمًا قُتِل في وقعة اليمامة التي كان موت الحُفَّاظ فيها هو سبب الجمع.(18)
والصواب -والله أعلم- أن أوَّلية أبي بكر في جمع القرآن أولية خاصةٌّ، إذ قد كان للصحابة مصاحف كتبوا فيها القرآن قبل جمع أبي بكر، وهذا لا يعكر صفو القول بأن أول من جمع القرآن هو الصدِّيق ، لأن مصاحف الصحابة الأخرى إنَّما كانت أعمالاً فردية، لم تظفر بِما ظفر به مصحف الصدِّيق من دقَّة البحث والتحرِّي، ومن الاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، ومن بلوغها حدَّ التواتر، ومن إجماع الأمة عليها، إلى غير ذلك من الْمزايا التي كانت لمصحف الصدِّيق.
فلا يضير مع كل هذه الْمزايا أن يُروى أن عليًّا أو عمر أو سالِمًا كان أول من جمع القرآن، فقُصارى تلك الروايات أنَّها تثبت أن بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف، ولكنها لا تُعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية، ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للمصحف الذي جمع على عهد أبي بكر . (19)
(1) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 353-354.
(2) سبق تخريجه، قريبًا.
(3) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب جمع القرآن. ص 11-12.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(5) الإتقان في علوم القرآن (1/165).
(6) كتاب المصاحف، باب جمع علي بن أبي طالب القرآن في المصحف. ص 16، وذكره ابن كثير في فضائل القرآن، وقال: فيه انقطاع. فضائل القرآن ص 45.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(8) رواه ابن الضريس في فضائل القرآن ص 76-77.
(9) انظر تهذيب الكمال (20/291-292).
(10) كتاب المصاحف لابن أشتة مفقود، وقد ذكر هذا الخبر السيوطي في الإتقان (1/166).
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عمر بن الخطاب القرآن في المصحف. ص 16.
(12) لأن الحسن لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فقد ولد لسنتين بقيتا من خلافته ، انظر تهذيب الكمال (6/95-97). قال السيوطي في هذا الأثر: إسناده منقطع. انظر الإتقان في علوم القرآن (1/166).
(13) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/628).
(14) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 353.
(15) الإتقان في علوم القرآن (1/166).
(16) أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين الآلوسي، ولد سنة 1273هـ، الإمام المؤرخ الأديب الداعية المصلح المجاهد، تصدر للتدريس، وحارب البدع، صاحب التصانيف المفيدة، وأعظمها روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، توفي سنة 1342هـ. الأعلام للزركلي (7/172).
(17) يُقال للعاثر: لعًا لكَ، دعاءٌ له بأن ينتعش. قال كعب بن زهير:
فإن أنت لم تفعل فلستُ بآسفٍ ولا قائـلٍ إمَّا عثَرْتَ لـعًا لكـَا
انظر: الصحاح للجوهري (لعا) (6/2483)، وشرح قصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد) لابن هشام الأنصاري ص 34.
(18) روح المعاني (1/22).
(19) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/254-255).
الفصل الثالث
من قام بالجمع في عهد أبي بكر
مرَّ فيما سبق أن الذي أشار بجمع القرآن كان عمر بن الخطاب ، وأن أبا بكر ندب لِهَذِهِ المهمة زيد بن ثابت الأنصاري .
وقد بين أبو بكر الصديق أسباب اختياره زيدَ بن ثابت في الحديث الذي أسلفناه، حيث قال له: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ.(1)
وقد ورد أيضًا أن زيد بن ثابت كان قد حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ.
أضف إلى ذلك أن زيد بن ثابت كان ممن جمع القرآن حفظًا في صدره في حياة رَسُول اللهِ .
فَعَنْ قَتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا زَيْدٍ.(2)
فتبين أن أبا بكر إنَّما اختار لِهذه المهمة الشاقة زيد بن ثابت للأسباب الآتية:(3)
1 – أنه كان شابًّا، وفي ذلك خصال توافق غرض الصديق، حيث إن الشابَّ أقوى وأجلدُ على العمل الصعب من الشيخ، كما أن الشابَّ لا يكون شديد الاعتداد برأيه، فعند حصول الخلاف يسهل قبوله النصح والتوجيه.(4)
2 – أن زيد بن ثابت كان معروفًا بوفرة عقله، وهذا مِمَّا يؤهله لإتْمام هذه المهمة الجسيمة.
3 – أنه كان غير متهم في دينه، فقد كان معروفًا بشدة الورع، والأمانة وكمال الخلق، والاستقامة في الدين.
4 – أنه كان يلي كتابة الوحي لرَسُول اللهِ ، ويرى إملاء رَسُول اللهِ ، فكان يشاهد من أحوال القرآن ما لا يشاهده غيره، وهذا يؤهله أكثر من غيره ليكتب القرآن، ويجمعه.
5 – أنه كان حافظًا للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وكان حفظه في زمن النَّبِيّ على العرضة الأخيرة.
6 – أنه فيما روي كان مِمَّن شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، كما مرَّ علينا.(5)
وقد كان زيد بن ثابت جديرًا بِهذه الثقة، ويدل على ذلك قوله لَمَّا أمره أبو بكر بجمع القرآن: فَوَاللهِ! لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ.(6)
قال ابن حجر: وإنَّما قال زيد بن ثابت ذلك لِما خَشِيَهُ من التقصير في إحصاء ما أُمِر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك، كما قال تعالى: } ولقد يسرنا القرآن للذكر{.(7)
وشرع زيد بن ثابت يَجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعظام والجلود وصدور الرجال، وأشرف عليه وعاونه في ذلك أبو بكر وعمر وكبار الصحابة.(8)
فقد شارك في العمل في هذا الجمع عدد من كبار الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وأُبَيُّ بن كعب، وغيرهما.
فعن عروة بن الزبير قال: لَمَّا استحرَّ القتل بالقراء يومئذٍ، فَرِق أبو بكرٍ على القرآن أن يضيعَ، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.(9)
وعن أبي العالية عن أُبَيِّ بن كعب أنَّهم جَمعوا القرآن في مصحفٍ في خلافة أبي بكرٍ، فكان رجالٌ يكتبون، ويُملي عليهم أُبَيُّ بن كعبٍ ….(10)
وبِهذه المشاركة أخذ هذا الجمع الصفة الإجْماعية، فقد اتفق عليه الصحابة ، وتعاونوا على إتْمامه على أكمل وجه.
(1) سبق تخريجه قريبًا.
(2) رواه البخاري في كتاب المناقب باب مناقب زيد بن ثابت ح 3810. صحيح البخاري مع فتح الباري (7/159)، وفي فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي ح 5004 (8/663)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أبي بن كعب. انظر صحيح مسلم مع شرح النووي (16/19) ح 2465.
(3) وانظر في ذلك أيضًا: مقدمة كتاب المباني ص 25، الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 271.
(4) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 369.
(5) في مبحث العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وهو المبحث الثاني من الفصل الرابع من الباب الأول.
(6) سبق تخريجه قريبًا.
(7) من الآية 17 من سورة القمر. وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/629).
(8) مناهل العرفان في علوم القرآن (1/250).
(9) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص 12، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات مع انقطاعه. فتح الباري (8/630).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع أبي بكر القرآن في المصاحف ص 15. وفي باب خبر قوله : } لقد جاءكم رسول { ص 38،ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن باب فيما نزل من القرآن بمكة وما نزل بالمدينة
الفصل الرابع
منهج ومزايا جمع أبي بكر للقرآن
الْمبحث الأول:منهج أبي بكر t في جمع القرآن الكريم
الْمبحث الثاني: مزايا جمع القرآن في عهد أبي بكر t
المبحث الأول: منهج أبي بكر في جمع القرآن
بلغ اهتمام الصحابة بالْمحافظة على القرآن الغايةَ القصوى، فمع أنَّهم شاهدوا تلاوة القرآن من النَّبِيّ عشرين سنة، ومع أن القرآن كان بالفعل مكتوبًا على عهد النَّبِيّ ، إلا أنه كان مفرَّقًا، ومع أن تزوير ما ليس منه كان مأمونًا، ومع أن زيد بن ثابت (الذي قام بالجمع) كان هو وغيره من الصحابة يَحفظون القرآن -فقد اتَّبعُوا في جمع القرآن على عهد أبي بكرٍ منهجًا دقيقًا حريصًا، أعان على وقاية القرآن من كل ما لَحق النصوص الأخرى من مظنة الوضع والانتحال.
ويُمكن تلخيص ذلك المنهج في النقاط الآتية:
1 – أن يأتي كلُّ من تلَقَّى شيئًا من القرآن من رَسُول اللهِ به إلى زيد بن ثابت ومن معه.
ويدل لذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب قام في الناس فقال: من كان تلقى من رَسُول اللهِ شيئًا من القرآن فليأتنا به وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح و العُسُب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان.(1)
2 – أن لا يُقبل من أحدٍ شيءٌ حتى يشهد عليه شهيدان، أي أنه لم يكن يكتفي بِمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد عليه شهيدان.
ويدل على ذلك أثر عمر السابق، وكذلك قول أبي بكرٍ لعمر بن الخطاب ولزيد ابن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.(2)
وقد اختلف في المراد بالشهادة هنا:
فقال السخاوي:(3) المراد أنَّهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِب بين يدي رَسُول اللهِ ، أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بِها القرآن.
وقال ابن حجر: وكأن الْمراد بالشاهدين الحفظ والكتاب.(4) ثم ذكر احتمال الوجهين الأولين.
قال السيوطي: أو المراد أنَّهما يشهدان على أن ذلك مِمَّا عُرض على النَّبِيّ عام وفاته.(5)
والذي يظهر -والله أعلم- أن المراد الشهادة على كتابته بين يدي النَّبِيّ ، وأنه مِمَّا عُرض على جبريل في العام الذي توفي فيه رَسُول اللهِ ، إذ القرآن كان مَحفوظًا في صدور كثير من الصحابة ، فلو أرادوا الإشهاد على حفظه لوجدوا العشرات.
3 – أن يكتب ما يؤتى به في الصحف.
ويدلُّ عليه قول زيدٍ في حديث جمع القرآن السابق: وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.(6)
وما في موطَّأ ابن وهب عن ابن عمر قال: جمع أبو بكر القرآن في قراطيس.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري قال: لَمّا أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر، وخاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل الناسُ بما كان معهم وعندهم، حتى جُمِع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف.(7)
4 – أن لا يُقبل مِمَّا يُؤتى به إلا ما تحقق فيه الشروط الآتية:
أ- أن يكون مكتوبًا بين يدي النَّبِيّ ، لا من مُجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا الشرط.
قال أبو شامة:(8) وكان غرضهم ألا يُكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النَّبِيّ ، لا من مجرد الحفظ.(9)
ب- أن يكون مما ثبت عرضه على النَّبِيّ عام وفاته، أي في العرضة الأخيرة.
وذلك أن ما لم يثبت عرضه في العرضة الأخيرة لم تثبت قرآنيته، وقد مرَّ قريبًا احتمال كون الإشهاد على أن المكتوب كان مِمَّا عرض في العرضة الأخيرة.
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(10)
5 – أن تكتب الآيات في سورها على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون عن النَّبِيّ .(11)
وقد التُزم في هذا الجمع كل الضوابط السابقة بدقة صارمة، حتى إنه روي أَنَّ عمر بن الخطاب أتى بآية الرجم، فلم تُقْبل منه؛ لأنه كان وحده.
فقد أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوَّل من جمع القرآن أبو بكر