بحث عن الإسكندرية تاريخيا وورد doc

للإسكندرية عبر تاريخها الطويل الممتد ثلاثةً وعشرين قرناً فى الزمان، حضورٌ ثقافى خاص،
وشأنٌ مع الحضارة فريد .. ففى ماضى المدينة احتشدت ثقافاتُ العالم القديم ، تلك الثقافات المصرية القديمة، الشرقية، اليونانية .. التى تشكَّلت عبر ألوف السنين ، لتعطى الإسكندريةُ مزيجاً ثقافياً خاصاً ، يعرفه كل مشتغل بتاريخ الأفكار .
وقد عظم شأنُ الإسكندرية الثقافى، بعدما وضع بطليموس الأول سوتير أساس مكتبتها الشهيرة ومتحفها العلمى، وأوكل إلى أكبر مفكرى عصره ديمتريوس الفاليرى مهمة الإشراف عليها.. وفى زمن حكم بطليموس الثانى فيلادلفوس (246-221 قبل الميلاد) وهو العصر الذى يمثل ذروة الرخاء والإزدهار فى الإسكندرية القديمة ، ذاع شأن الإسكندرية كأهم مركز علمى بالعالم آنذاك ، ونشط الموسيون أو المتحف العلمى وحفل محتوى المكتبة بأربعمائة ألف كتاب مخطوط .

وجاء العصر المسيحى لتقدم الإسكندرية آباء الكنيسة، فكان من مفاخر الإسكندرية فى العصر المسيحى المبكر ، أنها أخرجت نجمين لامعين- عرفا بعد ذلك بأباء الكنيسة- هما كليمان (كليمنت Clement ) وأوريجين Origen والأول خرج من الوثنية إلى المسيحية ، وقد أوتى حظاً عظيماً من سعة الإطلاع والمعرفة ، فقام بدور مهم فى المزج والتوفيق بين التعاليم الدينية التى جاءت بها المسيحية ، وبين الثقافة اليونانية .. أما أوريجين فعلى الرغم من أنه كانت تنقصه سعة علم
كليمان ومعرفته الوثيقة بالأدب اليونانى ، فقد وهب عقلاً أرجح ومقدرة أعظم على تفهُّم المبادئ الفلسفية ، وإدراكا أدق لروح البحث العلمى، وفكراً أمعن ابتكاراً .. وهكذا قدَّم آباء الكنيسة ملامح الروح الأصيل للميسيحية .. وقدِّم عوام المسيحيين صفحةً دامية فى صراعهم مع الوثنية ! حيث يشتد تعصُّب بعض الأساقفة، فيرى فى مكتبة الإسكندرية معقلاً للثقافة الوثنية ، ويأمر أتباعه بتخريبها .. فخرَّبوها فى أيام عصيبة، وانتهى التخريب فى اليوم الذى سحب فيه عوام المسيحيين العالمة الرياضية الشهيرة، الجميلة هيباثيا ابنة الرياضى الفيثاغورى العظيم ثيون، فمزَّقوها بعد رجمها فى معبد القياصرة، وأضرموا النار فى بقايا المكتبة .. وهكذا انتهت مرحلة رائعة من تاريخ العلم والثقافة فى الإسكندرية .

وللإسكندرية فضل كبير فى بقاء الديانة اليهودية ! فعلاوة على الدور الذى لعبه فيلون السكندرى فى إثراء هذه الديانة ، بما قدَّمه من تأويلات جديدة أفلاطونية لأسفار التوراة .. كان اليهود لايقرأون النصوص التوراتية -لجهلهم لغتها العبرية- فأحضر الحكام البطالسة اثنين وسبعين حبراً من أحبار اليهود، عكفوا فى الإسكندرية على إنجاز الترجمة السبعينية للتوراة وهى الترجمة اليونانية المعتمدة حتى اليوم، والتى تفضل سائر القراءات العبرية. ولولا ترجمة التوراة هذه، وتأويلات فيلون لها ، لكانت اليهودية قد انطمس أثرها، مثلما حدث مع ديانات عدة كانت أوسع انتشاراً منها .

وفى مجال الأدب تميزت الإسكندرية القديمة بجهود خاصة كان لها أكبر الأثر فى تطور الأدب الإنسانى بعامة. ففى مكتبة الإسكندرية القديمة، تمت على يد ديمتريوس الفاليرى أول عملية تحقيق علمى لنص أدبى فى التاريخ الإنسانى، إذ عكف على جمع الأصول الخطية المختلفة من رائعتى هوميروس: الإلياذة ، الأوديسة واستخرج منها النصَّ المعتمد للملحمتين .ثم أعاد أمين آخر للمكتبة، هو أريستوفانيس تحقيق ملحمتىْ هوميروس ، كما حقق أعمال هزيود وبندار ويوريبيدس وأريستوفانيس الأثينى .. وكان هذا الأمين السكندرى، هو أول من اخترع علامات الترقيم فى الكتابة . ولاننسى أن الإسكندرية كانت أيضاً مهد فهرسة الكتب، ويعدُّ أمين مكتبة الإسكندرية كاليماخوس أول مفهرس فى التاريخ الإنسانى.
وفى عصرها البطلمى ، كانت الإسكندرية مهد علماء فقه اللغة .. إذ لم يكن عباقرة الأدب اليونانى القديم يعرفون شيئاً من النحو، ولم يكن دارسو الأدب يعلمون شيئاً عن النقد الأدبى ! حتى قام علماء اللغة الإسكندرانيين باستنباط قواعد النحو اليونانى من مؤلفات عباقرة الأدب .. وقام أحد أمناء مكتبة الإسكندرية (إراتوستنيش) بأول عملية نقد أدبى ، اعتماداً على الترتيب الزمنى (الكرونوجرافيا) وهو عنوان دراسته الرائدة فى النقد.
وابتدأت الإسكندرية مرحلة جديدة من تاريخها الثقافى، مع دخول الإسلام مصر وفتح عمر بن العاص للمدينة سنة 22هجرية (= 642ميلادية) وإن كان المزيجُ الثقافىُّ المتماسك الذى تميزت به الإسكندرية آنذاك، قد جعل من فتح الإسكندرية عملاً شاقاً، فقد كانت أكثر مدينة (مصرية) استعصت أمام الفاتحين المسلمين ، وقد وضعنا (مصرية) بين القوسين، لأن الإسكندرية آنذاك لم تكن تعيش الحالة المصرية العامة، وكانت أقرب إلى الروح اليونانى، وكان أهل اليونان يسمونها: الإسكندرية المتاخمة لمصر! (1)

ومع ذلك ، فبعدما دخلت العناصر الإسلامية إلى مزيج الإسكندرية الثقافى الخاص، تشكل من ذلك طابعٌ جديد، وحلقةٌ أخرى من حلقات التاريخ الثقافى للإسكندرية . ففى العقود الأولى من تاريخ الإسلام ، نُـظر للإسكندرية نظرةً خاصة؛ فهى عند المسلمين تمثل الرباط وموضع الجهاد .. يروى
البلاذرى عن الواقدى، أن ابن هرمز الأعرج القارئ قال : خيرُ سواحلكم رباطاً الإسكندريةُ. وخرج إليها من المدينة المنورة، مرابطاً ، حتى مات بها سنة سبع عشرة ومائة(1).
ثم صارت الإسكندرية فى زمن الفاطميين، رباطاً سُنياً ! فاجتمع بها أعلام المسلمين من أهل السنة، أمثال الطرطوشِى صاحب كتاب سِرَاج الملوك والمحدث الكبير أبى طاهر السـلفى الذى كان صلاح الدين الأيوبى فى شبابه، يحضر للإسكندرية خصيصاً ليسمع عليه الحديث النبوى.. وفى الإسكندرية ، كان دعم علماء السنة لمشروع صلاح الدين لتحويل مصر إلى دولة سنية.
وتظل الإسكندرية الإسلامية رباط جهاد حتى بعدما وصل الأيوبيون إلى الحكم ، وصار للمدينة استقلالها الفكرى والسياسى .. ومن هنا نفهم لماذا هرب الشاعر الصوفى العظيم ابن الفارض من ملاحقة الملك الكامل ، فسافر إلى الإسكندرية وأقام بالمنارة . وقد كانت هذه المنارة معقلاً للصوفية (كما كانت الإسكندرية من قبل معقلاً للفيثاغورية‍!) يقول المقريزى : وفى الإسكندرية، عاش جماعة الصوفية، يزهدون فى الدنيا، ويقاومون السلطان !

.. أما الأثر السكندرى فى الحضارة العربية/ الإسلامية ، على المستوى
المعرفى، فقد ظهر هذا الأثر واضحاً فى التشكيل العام لحضارة العرب المسلمين، على أنحاء عدة .. ففى مجال العلم ، حفظت مكتبة الإسكندرية مؤلَّفات العلماء اليونانيين، وحافظت على استمرار البحث العلمى خلال نخبة ممتازة من علماء الإسكندرية فى حقول الطب والفلك والهندسة واللغويات، حتى جاء أوان الإسهام العربى الإسلامى فى هذه الحقول المعرفية .. ففى مجال الطب، على سبيل المثال، كان الأثر السكندرى واضحاً فى أمرين:
الأمر الأول : انتقال مجالس التعليم الطبى من الإسكندرية إلى بغداد، عبر قرون طويلة استقر خلالها منهج البحث الطبى عند الأطباء العرب والمسلمين، على النحو الذى رسمته الإسكندرية من قبل . وقد تتبع المستشرق الألمانى ماكس مايرهوف انتقال هذا التعليم الطبى، فكشف خلال دراسته المستفيضة (من الإسكندرية إلى بغداد) عن التواصل العلمى بين الإسكندرية والحضارة الإسلامية فى هذا المجال .
والأمر الثانى : عمق الأثر السكندرى فى تاريخ الطب العربى الإسلامى، من خلال تلك المؤلفات التى عرف المسلمون من خلالها تراث أبقراط وجالينوس فكانت هناك المجموعة الأبقراطية وهى مؤلفات أبقراط التى لم يكن المسلمون يسمحون للطبيب بممارسة مهنته قبل دراستها، وإلى جانبها كانت مؤلفات جالينوس التى تعرف باسم منتخبات الاسكندرانيين وهى التى كانت تلى مجموعة أبقراط فى الأهمية.. ولولا مكتبة الإسكندرية، وكبار أطبائها، ماكان من الممكن أن يستمر علم الطب قديماً باستلام العرب المسلمين الراية اليونانية من الإسكندرية.
وقد شرع الأطباء العرب والمسلمون ، بعد ترجمة هذه المؤلفات إلى
العربية، فى استكمال جهود وأبحاث أبقراط وجالينوس الطبية، مع اعترافهم التام بفضل هذين الطبيبين، فكانوا يقرنون أسميهما دوماً بلقب الفاضل .. ومن الفاضل أبقراط .. والفاضل جالينوس ؛ مضى الطب الإنسانى قُدماً على يد أعلام أطباء الإسلام، من أمثال: ابن سينا ، والرازى، وابن النفيس .. وغيرهم .
ولا يفوتنا فى هذا المقام ، أن طبيباً عربياً تولَّى تدريس الطب فى الإسكندرية -قبل ظهور الإسلام بقليل- وهذا الطبيب العربى هو : ابن أَبْجَر الكنانى ..
ويدل كل هذا، على عميق الاتصال بين تراث الإسكندرية والحضارة العربية الإسلامية فى مجال الطب. وقد كان تراث الإسكندرية متصلاً بالحضارة العربية الإسلامية فى مجالات الفلك والرياضيات ، على المنوال ذاته .
وفى مجال الفكر والفلسفة لعبت الإسكندرية دورها الكبير فى تقديم الفلسفة اليونانية للعالم الإسلامى . وقد عرف المسلمون فلسفة اليونان من خلال الصياغة السكندرية لها ، تلك الصياغة التى امتزجت فيها أفكار أفلاطون وأرسطو بالعديد من التيارات الدينية والصوفية، فعُرف ذلك باسم الأفلاطونية
المحدثة وهى الفلسفة التى ظهرت فى الإسكندرية على يد فيلون وأمونيوس وتلميذه الشهير أفلوطين .. ولايمكن للباحث الجاد فى مجال الفلسفة وتاريخ الأفكار، أن يتخطى فى دراسته ، دور الإسكندرية فى تشكيل الفلسفة الإسلامية . فبدون الإحاطة بهذا الدور ، تبدو فلسفة الكندى والفارابى وابن سينا وغيرهم من كبار فلاسفة الإسلام ، فلسفة غامضة كل الغموض .
وفى العصر الإسلامى، حفلت الإسكندرية على امتداد قرون الإسلام بالمدارس الأدبية ، إلى جانب المدارس الفقهية، وعاش بها عديد من مشاهير الأدباء والشعراء من أمثال : البوصيرى، ابن قلاقس، ظافر الحداد .. وقد كان الأخير من جلة أصحاب الشاعر الأندلسى الكبير أمية بن أبى الصلت الذى مكث بالإسكندرية فترة طويلة .
وفى أواخر القرن التاسع عشر الميلادى، أسهمت الإسكندرية بنصيبٍ وافر فى تأسيس النهضة الحديثة بمصر والبلاد العربية ، فابتدأت منها الصحافةُ ونشطت الكتاباتُ الأدبية والعلمية ، فابتدأت منها الصحافةُ وصدرت الكتاباتُ الأدبية والعلمية ، وحفلت بعديد من دور النشر التى أخرجت متون الفكر والعلم المعاصر .. لكنه فى منتصف القرن العشرين ، سحبت القاهرة البساط من تحتها !
وفى السنوات الأخيرة ، عادت الإسكندرية لتسترد عافيتها، مع إحياء مكتبة الإسكندرية ومع حركة العمران الكبيرة التى تجرى اليوم على قدم وساق، توازيها حركةُ تجميل وإعمار .. مما يجعلها خليقةً -بحق- أن توصف بأنها: عروس البحر المتوسط

__________________________________

اضغط الرابط أدناه لتحميل البحث كامل ومنسق جاهز للطباعة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *