بحث عن سحر البلاغة وسر البراعة للثعالبي وورد doc

ذكر الله تعالى ورسوله وكتابه
صلى الله عليه وسلم وكتابه

مقدمات

الحمد لله تبارك وتعالى، إن أولى ما فغر به الناطق فمه، وافتتح به كلمه، حمداً لله، واجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بالحمد قبل افتتاحها كما بديء بالنعمة قبل استحقاقها. الحمد لله كما افتتح كتابه الكريم، وفرقانه العظيم. الحمد لله شعار أهل الجنة كما قال الله تعالى: ” وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين “. حمد الله خير ما افتتح به القول واختتم، وابتدئ به الخطاب وتمم. خير كلمات الشكر ما افتتح به القرآن من الحمد لله رب العالمين.
غرر التحاميد
الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولم يستنجح بأحسن من صنعه مرام. الحمد لله الذي جعل الحمد مستحق الحمد حتى لا انقطاع، وموجب الشكر بأقصى ما يستطاع. الحمد لله مانح الأعلاق، وفاتح الأغلاق. الحمد لله إبداء وإعادة. الحمد لله معز الحق ومديله، ومذل الباطل ومزيله. الحمد لله المبين أيده، المتين كيده. الحمد لله ذي الحجج البوالغ والنعم السوابغ والنقم الدوامغ. الحد لله معز الحق وناصره ومذل الباطل وقاصره. الحمد لله الذي أقل نعمه يستغرق أكثر الشكر والحمد لله الذي لا خير إلا منه ولا فضل إلا من لدنه.
وصف الحمد
حمد لا انقطاع لراتبه ولا إقلاع لسحائبه. حمداً يكون لإنعامه مجازياً ولإحسانه موازياً، وإن كانت آلاؤه لا تجازي، ولا توازي، ولا تباري، ولا تجاري. حمداً يتردد أنفاس الصدور ويتكرر تكرر لحظات العيون. حمداً يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة. حمداً يبلغ الحق ويقتصيه، ويمتري المزيد ويقضيه. حمداً يؤنس وحشي النعم من الزوال، ويحرسها من التغير والانتقال.
عادة الله جل ذكره
عادة الله لا تطلب لها غاية إلا قصرت الأوهام عنها، ولا تنسخ فيها آية إلا أتي بخير منها، لا يزال الله يجرينا على أحسن عادة، ويقسم لنا أفضل سعادة. عادة من الله كريمة لا تخلف، وعدة من تفضله لا تخلف، على أحسن ما اعتيد، من إحسانه العتيد، عادة الله جميلة تفوت الشكر وتسبقه، وتستوعب الحمد وتستغرقه، عادات الله قد فاتت مرام الهمم، وشأت تواريخ الأمم.
صنع الله ولطفه
للدهر نوائب تتخرم وتتطرف، ثم إن غمراتها تتجلى وتتكشف، فلله تعالى في أثنائها الصنع الجزيل والفرج القريب، سبحان من له في كل قضية ألطاف نعرفها ونثبتها في فضله ونعمته، أو نجهلها فنردها إلى عدله وحكمته. أحمد الله الذي لا يخلي عباده من صنع لهم تنطوي عليه أثناء النكبات إذا طرقت، ولطف بهم يلين صعاب الخطوب إذا جمحت. ألطاف الله تسير إلى عباده في طرق خفية المذاهب، رقيقة الجوانب. لله مع كل لمحة صنع حفي ولطف خفي، لله ألطاف سيبلغ الكتاب فيها أجله، ويعمل الإقبال في إتمامها عمله. صنع الله لطيف، وفضله بنا مطيف.
ذكر الله تعالى في أثناء الكلام
علام الغيوب، ومن بيده أزمة القلوب، الخبير بما تجن الظمائر، وتكن السرائر، العالم بما تفضي إليه الأمور، وبخائنة الأعين وما تخفي الصدور، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، سميع لراجيه، قريب ممن يناجيه، حكمه مقبول، وأمره مفعول، الله يعلم وهو أعلم شهيد، وأقرب للضمير من حبل الوريد، وكل خير بيديه، وتتوجه الرغبات إليه، الله الحفي بساؤله، المشفع لوسائله، الذي بيده مقاليد الأمور، ومفاتيح المقدور، الله منجز عداته، وحافظ عاداته، هو النافذ أمره، العزيز نصره، الجلي صنعه، الخفي مكره، أن الله يقضي ما يريد، وإن رغم أنف الشيطان المريد. هو السميع البصير، العالم بما يجن الضمير، من له الخلق والأمر، وسواء عنده السر والجبر، مولى الخلق، وباسط الرزق قد أحلته على ملي، وكتبت له إلى وفي، إن الله منجز وعده، ولا خلف عنده، الأمر له والخلق بيديه، والاستعانة به والتفويض إليه.

ذكر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم

سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور. محمد نبي الله وصفوته وخيرته من بريته، مؤكد دعوته بالتأييد. ومفرد شريعته بالتأبيد، خيرة الله من خلقه. وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه. والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده. والآخذ بفرضه، مبارك مولده، سعيد مورده، قاطعة حججه. سامية درجه، ساطع صباحه. متوقد مصباحه، مظفرة حروبه. ميسرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وحتم بأن لا نبي بعده، نفصح بشعاره على المنابر. وبالصلاة عليه في المحاضر، ونعمر بذكره صدور المساجد، وتستوي في الانقياد لأمره حالتا المقر والجاحد، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً. وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً. وأوضحهم حجة وبرهاناً، صدع بالرسالة، وبلغ في الدلالة. ونقل الناس من طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم. أرسله الله للإسلام قمراً منيراً، وقدراً على أهل الضلال مبيراً.
الصلاة عليه مع الافصاح
صلى الله على محمد خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجمت بالصلاة عليه الطلبات، صلى الله على محمد نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث، صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق، محمد رسوله الذي ملكه هوادي الهدى، ودل به على ما هو خير وأبقى، صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، محمد الذي أدى الأمانة مخلصاً، وصدع بالرسالة مبلغاً ملخصاً، صلى الله على أتم بريته خيراً وفضلاً، وأطيبهم فرعاً وأصلاً، وأكرمهم عوداً ونجراً، وأعلاهم منصباً وفخراً.
ذكر الآل
وعلى آله الذين عظمهم توقيرا، وطهرهم تطهيرا، وعلى آله مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومجاديح البركة ومصابيحها، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان، الطيبين الأخيار، والطاهرين الأبرار، الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجراً له على الناس، وعلى آله الذين هم حبل الهدى، وشجرة التقوى، وسفينة النجاة العظمى، وعروة الدين الوثقى، الذين هم زينة الحياة، وسفينة النجاة، وشجر الرضوان، وعشيرة الإيمان، وعلى الشجرة التي أصلها نبوة، وفرعها مروة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل.
ذكر القرآن
حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوضحى، هو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وهوى، فضائل القرآن، لا تستقصى في ألف قران. حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الله الجاهل، ويعمل العاقل. وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي. بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور. من فضائله أنه يقرأ دائباً، ويكتب ويمل فلا يمل. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن إمامه، وتصور الموت أمامه. طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه، ومفتاح لبه. من خلق القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله.

كتاب الأزمنة والأمكنة
وما يتصل بها ويشاكلها
في الربيع وإقباله

قد أقبل الربيع بأسعد فاله، والحسن والطيب في إقباله. أقبل الربيع يتبسم، ويكاد من الحسن يتكلم. تنفس الربيع عن أنفاس الأحباب، وأعار الأرض أثواب الشباب. تنفس فنفس عن المكروب، وأهدى الروح والراحة للقلوب. استخرج من زهر البساتين، ما دفنته يد الكوانين. جاء يجر أذيال العرائس، وينشر أجنحة الطواويس. تبلج عن وجه بهج، وجو غنج، وروض أرج، وطير مزدوج. أقبل برائحة الجنان، وراحة الجنان، أسفر عن ظل سجسج، وماء سلسل وروض مدبج. جاء معيداً للأنس العازب، ومطلعاً للهو الغارب. تبلج عن نوره، وتفتح عن نوره. لاحت منهجه، وراقت مباهجه. مرحباً بالفصل، الجامع لأحكام الفضل، زائر من القلوب قريب، وكله حسن وطيب. زائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير. انكشفت غمة الشتاء الكالح عن غرة الربيع الضاحك، أذال الربيع أذيال الحرير، وعبرت أنفاسه عن العبير. تبدل الشباب من المشيب، وبرز في مطرفه القشيب. عطر السهول والوعور، فعطل المسك والكافور. الزمان معتدل، ووجهه طلق مقتبل. وسحابه ماطر، وترابه عاطر، كأن الجنة قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها، قد تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة، لبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر. حاك الربيع حلل الأزهار، وصاغ حلى الأنوار.
في النسيم ووصف أثره
زائر وجهه وسيم، وفضله جسيم، وريحه نسيم، قد سفر الربيع عن خلق الكريم، ونطق بلسان النسيم. وأفاض ماء النعيم، هب النسيم من الكرى، وهب على الورى، وعطر الثرى. جر على الأرض أزره، وحل عن جيب الطيب زرره. نسيم الريح، نسيب الروح، قد ركضت خيول النسيم في ميادين الرياض. يا لك من منظر جناني، وماء فضي، ونسيم عطري، قد حلت يد المطر إزرار الأنوار، وأذاع لسان النسيم أسرار الأزهار.

في وصف الرياض

وضة رقت حواشيها، وتأنق واشيها، روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة. روضة قد نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الإسكندراني. روضة قد راضتها يد المطر. روضة دبجتها أيدي الندى. أخرجت الأرض أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، واطلعت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتفاوحت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها.
في وصف البساتين
بستان رق نوره النضيد، وراق ورقه النضير. بستان غصنه خضر، وربعه خصب، ونوره نضر، وماؤه خصر. بستان كأنه أنموذج الجنة. بستان لا يحل لأريب أن لا يحل به. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار، أشجار كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر. أشجار كأن الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها.
في ذكر النرجس والورد والشقائق
الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد موموق مرموق، وكأنه من الجنة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الود، إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحباً بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأن عين النرجس عين، وورقه ورق، النرجس نزهة الطرف، وظرف الظرف، وغذاء الروح، ومادة الروح، شقائق كتيجان العقيق على الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات الموردة. شقائق كالزنوج تجارجت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها.
في غناء الأطيار
الأرض زمردة والأشجار وشي، والماء سيوف والطيور قيان. قد غردت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار، إذا صدح الحمام، صدع قلب المستهام، أنظر إلى طرب الأشجار، لغناء الأطيار. ليس للبلابل، كخمر بابل، على غناء البلابل.
في وصف أيام الربيع
يوم سماؤه فاختيه، وأرضه طاوسية. يوم جلابيب غيومه صفاق، وأردية نسيمه رقاق، يوم معصفر السماء، ممسك الهواء، معنبر الرياض مصندل الماء. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر. يوم تبسم عنه الربيع، وتبرج فيه الروض المريع. كأن سماءه مأتم، وأرضه عرس.
مقدمة المطر
لبست السماء جلبابها. سحب السحاب أذياله. احتجبت الشمس في سرادق الغيم، ولبس الجو مطرفه الأدكن. باحت الريح بأسرار الندى. ضربت خيمة الغمام، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، سحابة رعدها يصم الأذن، وبرقها يخطف العين. سحابة ارتجزت رواعدها، وأذهبت بروقها مطاردها. نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق. الرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب. ابتسم البرق عن قهقهة الرعد. زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق. رعدت الغمائم وبرقت، وانحلت عزالى السماء فطبقت. سحابة هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها. كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق.
في السحاب والمطر
انحل عقد السماء، وهي عقد الأنواء. انحل سلك القطر، عن در البحر. أرخت السماء عزاليها، وأغرقت الأرض وسحت نواحيها. هطلت بمثل أفواه القرب، انتثرت كانتثار العقود. استعار السحاب جفون العشاق، وأكف الأجواد. انحل خيط السماء، انقطع شريان الغمام. سحابة تنخل علينا ماء البحر، وتفض لنا عقود الدر. سحاب حكى المحب في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جبالا، وتمد من الأمطار حبالا. سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا. تحللت عقد السماء بالديمة الهطلا. غيث أجش يروي الهضاب والآكام، ويحي النبات والسوام. غيث كغزارة فضلك، وسلاسة طبعك، وصفاء ودك. وبل كالنبل. سحابة يضحك من بكائها الروض، وتخضر من سوادها الأرض. سحابة لا تجف جفونها، ولا يخف أنينها، ديمة روت أديم الثرى، ونبهت عيون النور من الكرى. سحابة ركبت أعناق الرياح. مطر كأفواه القرب، ووحل إلى الركب. أندية قد من الله معها على البيوت، بالثبوت، وعلى السقوف، بالوقوف.
في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد. ماء كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، يسيح في الرضراض، سيح النضناض. ماء إذا مسته يد النسيم حكى سلاسل الفضة. ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدرع كالمسيح. ماء يتصندل ويتسلسل. كأن الغدير بنبات الماء مصندل مطير، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة رداء، كأنها مرآة مجلوة على ديباجة خضراء، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الجنائب. غدير ساكن إلا من نسيم الصبا يحركه بأنفاسه، وينقش وجهه بأرواحه. ماء يبوح بأسراره وصفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده. ماء أرق من دموعي فيك وأعذب من أخلاقك، وأبرد من فعل الزمان حين رماني بفراقك. نهر يتسلسل كالزرافين، ويرضع أولاد الرياحين.
في ذكر الصيف ووصف الحر
قوي سلطان الحر. فرش بساط الجمر. أقبلت أوائل الحر، وغير الهواء طبعه، وبدل مزاجه. حر الصيف، كحد السيف. أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حر يلفح حر الوجه. حر يشبه قلب الصب. ويذيب دماغ الضب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكي نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حر يهرب له الحرباء من الشمس. قد صهرت الهاجرة من الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الصيخود. أيام كأيام الفرقة امتداد، وحر كحر الوجد اشتداد حر لا يطيب معه عيش، ولا ينفع ثلج ولا خيش. حمارة القيظ، تغلي بصدر الغيظ، آب آب يجيش مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، والتنور المسجور. هاجرة كالسعير الجاحم، تجر أذيال السمائم، ظلها يحموم، وماؤها محموم.
ذكر الخريف
انحسر قناع الصيف. خف سلطان الحر. خبت جمرة الهواجر. جاشت جيوش الخريف. فررت رايات المصيف، قد أخذ البرد يجمشنا بلواحظه، ويقرصنا بأنامله. أخذت عواصفه تهب، وأقبلت عقاربه تدب. قد حلت الشمس الميزان، وعدل الزمان الميزان، لفح المصيف قد كف، ووقع الشمس قد خف، خفت الرياح، وجفت الأعواد.
في الشتاء ووصف البرد والثلج والجمر
ألقى الشتاء كلكله، وأحل بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أرواقه، وحل نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، أناخ بنوازله، وأرسى بكلاكله، وكلح بوجهه، وكشر عن أنيابه. في الشتاء كلب، وفي الهواء غلظ، قد عادت هامات الجبال شيبا، ولبست من الثلج ملاء قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج. ألم المشيب بهامات بيضت لممها، قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا، برد يعبس له الوجه الطلق. برد يزوي الوجوه، ويعمش العيون، ويسيل الأنوف. برد يغير الألوان، ويقشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد أجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق. حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره، نحن بين لثق ودمق وزلق.
في الاستظهار على البرد
ليس للبرد كالبرد والجمر، إذا كلب الشتا، فدرياق سمومه الصلا.
في نعت الأيام الشتوية
يوم كأن الأرض شابت لهوله. يوم فضي الجلباب، مسكي النقاب. يوم عبوس قمطرير، كشر عن ناب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشمال زمامه، وكساه الصر ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة. والأرض قارورة، والسماء بلورة. يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهوآؤه كالزنانير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وأعالي الزجاج. يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر.
أبواب ذكر الليل والنهار
ووصف أوقاتهما واختلاف أحوالهما، وما يتصل بهما
في ذكر اقبال الليل وانتشار الظلمة وطلوع الكواكب
أقبلت عساكر الليل، خفقت رايات الظلام، خلع الليل علينا فروته، وألبسنا الظلام بردته. تفقد الشفق، في ثوب الغسق، قيد الظلام الحاظ العيون. وستره الظلام بذيله. أقبلت وفود النجوم. جاءت مواكب الكواكب. تفتحت أزاهير النجوم. نورت حدائق الجو. أذكى الفلك مصابيحه، طفت النجوم في بحر الدجى.
ذكر الليالي المظلمة
لبس الليل جلباباً من القار، ليلة كجناح الغراب، وشعر الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها في لباس بني العباس، كأنها في لباس الثكالى، كأنها من الغبش، موكب الحبش. ليلة يضل بها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط. ليلة قد حلك إهابها، وكأن الفجر يهابها. ليلة استعارت لون الخيل الدهم، كأن الأرض مصبوغة فيها بالمداد.
في ذكر الليالي الطلقة الطيبة المشكورة
ليلة سحر كلها. ليلة كأنها نهار. ليلة من حسنات الدهر. ليلة هواؤها صحيح ونسيمها عليل. ليلة كبرد الشباب. ليلة فضية الأديم، مسكية النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرة الدهر. ليلة مسكية الأديم، كافورية النجوم. ليلة رقد الدهر عنها، وطلعت سعودها، وغاب عذالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. هي ليلة باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة يلتقي طرفاها. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار. ليلة كما شاء المحب. ليلة مسروقة من الدهر، ليلة مريضة النسيم، صحيحة الهواء، موشية بالنجوم، مطرزة بالقمر.
في ضد ذلك وذكر طول الليل
ليلة من غصص الصدر، ونقم الدهر. ليلة كلها غيوم وغموم. ليلة كما شاء الحسود، وسآء الودود. ليلة كأن أول يوم الحشر آخرها. ليلة قص جناحها، وضل صباحها. ليلة كليل الأعمى. ليل ثابت الأطناب طامي الغوارب، طامح الأمواج وافي الذوائب. ليل كأن نجومه نجوم الشيب. ليل كأن نجومه عقلت فلا تسير، ولا تدور ولا تغور. ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار.
فيما يذكر من السهر لاعتراض الهموم والفكر
بات فلان بليلة نابغية، بات بليل السقيم، بات بليل السليم، بات في الصيف بليلة شتوية، سامرته الهموم، وعانقته الغموم، قد توسد ذراع الهم، وافترش مهاد الغم، قد اكتحل السهاد، وافترش القتاد، اكتحل بمراود الأرق، وتقلب على مراقد القلق، جفا أجفانه الكرى، كأنما خلقت عيناه للسهر، النجوم شهود سهاده، كأن النوم قد غضب على مآقيه، اكتحل بملمول السهر، وتململ على فراش الفكر، أقض مهاده، وقلق وساده، هموم تفرق بين الجنب والمهاد، وتجمع بين العين والسهاد، سهر يفتق الجفن، ويقذي العين، ويؤذي القلب، ويوحش النفس. طرف برعي النجوم مطروف، وفراش بشعار الهم محفوف، كأنه على النجوم ريب، وللظلام نقيب.
ذكر النعاس والنوم
شرب كأس النعاس، انتشى من خمر الكرى، خاط النعاس جفونه، أخذ الكرى يجشمه، بل ثقل رأس، وتقاضي نعاس، عسكر النعاس بطرفه، وخيم بين عينيه وجفنه. خاض ضحضاح الكرى، ملأ النعاس جفنه، وشغل عينه. مال مع النعاس. مس النوم مقلته. غلبته عيناه. كأن النعاس يطالبه بدين. غشيه نعاس الوحدة، ضرب على أذنه وقد ملأ عينه، غرق في لجة الكرى. تمايل من سكرة النوم. غفوة كحسوة الطآئر، نومه كلا ولا قلة، وكتصفيفة الطآئر خفة، كحل الليل الورى بالرقاد، وشامت الأجفان أعينها في الأغماد، عبث الكرى بهم، وأرخى مفاصلهم، وأمال أعناقهم.
انتصاف الليل
قد تنصفنا عمر الليل، واستغرقنا شبابه. مضى من الليل صدره، وانقضى شطره. اكتهل الظلام. شاب رأس الليل. كاد ينم النسيم بالسحر، الصبح حمل بين أحشآء الدجى.
تناهي الليل وتصرمه
انكشف غطاء الليل. انهتك ستر الدجى. رفع سجف الظلام، رق ثوب الدجى، نعى الديل الظلام، هرم الليل، وشمطت ذوائبه، وتقوس ظهره، وتصرم عمره، قوضت خيام الظلام، خلع الأفق ثوب الدجى، استرد الليل خلعته، انتقب الليل بالصبح، أعرض الظلام وتولى، وتدلى عنقود الثريا، طرز الصبح قميص الليل، باح الصباح بسره، خلع الليل ثيابه، وحدر الصبح نقابه.
إقبال الصبح وانتشار النور
لاحت تباشير الصبح، افتر الفجر عن نواجذه. ضرب الصبح في الدجى بعموده. تبسم عن نوره. فتك الصبح بالليل، بشر الديل الصبح، سل سيف الصبح في قفا الظلام. بث الصبح طلائعه. نشر ثياب النور. تبرقع وجه الليل بغرة الصبح أطار بازي النهار غراب الليل. عزلت نوافج المسك بشمامات الكافور، وانهزم جند الظلام من عسكر النور. خلعنا خلعة الظلام ولبسنا ردآء الصبح، ملأ الأذان الآذان، برق الصباح، وسطع الضوء، وطلع النور، وأشرقت الدنيا، وأضاءت الآفاق.
أفول النجوم
مالت الجوزآء للغروب، ولت مواكب الكواكب، تناثرت عقود النجوم تعطل الأفق من حلي الكواكب، تفرقت أسراب النجوم، فرت من حدق الأنام، وهي نطاق الجوزآء، وانطفأت قناديل الثريا.
طلوع الشمس وانبساط الضوء
بدا حاجب الشمس. ذر قرن الشمس. ارتفع الحجاب عن حاجبها. لمعت الشمس في أجنحة الطير. كشفت قناعها، ونشرت شعاعها. ارتفع سرادقها، وأضاءت مشارقها. انتشر جناح الضو، في أفق الجو. طنب شعاع الشمس في الآفاق، وذهب أطراف الجدران. افتضضنا عذرة الصباح.
منوع النهار
أيفع النهار وارتفع. ترجلت الشمس. استوى شباب النهار. علا روق الضحى.
انتصاف النهار
بلغت الشمس كبد السمآء، انتعل كل شيء ظله، قام قائم الهاجرة، رمت الشمس بجمرات الهجير.
اصفرار الشمس وغروبها
اصفرت غلالة الشمس، صارت كأنها الدينار، يلمع في قرار المآء، نفضت تبراً على الأصيل، وشدت رحلها للرحيل، بقل وجه النهار، وطر شاربه، تصوبت الشمس للمغيب، وتضيفت للغروب، وآذن جنبها بالوجوب، شاب النهار، وأقبل شباب الليل. وقعت الشمس للغيار، وشافه الليل لسان النهار. شرقت الشمس بروحها، جنحت للغروب، وشارفت درح الوجوب، الغزالة مصوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب. والجو في أطمار مبهجة من أصائله، وشفوف مورسة من غلائله. استتر وجه الشمس بالنقاب، وتوارت بالحجاب.
ذكر ابتداء الليل إلى انتهائه
كان ذلك من مفتتح النهار إلى مختتمه، ومن قرنه إلى قدمه، من مطلع الفلق، إلى مجمع الغسق، فلان يركب في مقدمة الصبح، ويرجع في ساقة الشمس، من حين تفتح الشمس جفنها إلى أن تغض طرفها. من حين تسكن الطير في أوكارها، إلى أن تنزل السراة من أكوارها.
أبواب الأمكنة والأبنية في وصف البلاد
بلدة كأنها صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض. بلدة كأن محاسن الدنيا مجموعة فيها ومحصورة في نواحيها، بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق، وهواؤها نسيم وماؤها رحيق. بلدة معشوقة السكنى، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان، وجوها عريان وحصاها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة وليلها سحر، فطعامها هني، وشرابها مري. بلدة واسعة الرقعة، طيبة البقعة. كأن محاسن الدنيا فيها مفروشة، وصورة الجنة بها منقوشة، واسطة البلاد وسرتها، ووجهها وغرتها.
في ضد ذلك
بلد متضايق الحدود والأفنية، متراكب المنازل والأبنية. بلدة حرها موذي، وماؤها موبي. بلدة وسخة السماء، ومدة الهواء. جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزور، وتشرينها تموز، فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق. بلدة ضيقة الديار، سيئة الجوار، حيطانها أخصاص، وبيوتها أقفاص، وحشوشها مسابل، وطرقها مزابل.
في ذكر الوطن
بلدة هي عشه، وبها منزله وعيشه. بلد لا يؤثر عليه أبداً، ولا يصبر عنه أبداً، عشه الذي فيه درج، ومنه خرج. مقطع سرته، ومجمع أسرته، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه.
في الحصون والقلاع
حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم. حصن يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر. يكاد من علاه يغرف من حوض الغمام، كأنه فوق السحاب سحاب. حصن انتطق بالجوزاء، وناجت بروجه أبراج السماء. قلعة قد حلقت في الجو كأنها سحابة، كأن الغمامة لها عمامة، كأنها تناجي السماء بأسرارها. قلعة بعد في السماء مرتقاها، حتى تساوى ثراها مع ثرياها. قلعة تتوشح بالغيوم، وتتحلى بالنجوم. أصلها في التخوم، وفرعها في النجوم. قد حلق جناحها إلى عنان النجم. شماء عن المرتقي، صماء عن الراقي. قد جاوزت الجوزاء سمتاً، وعزلت السماك الأعزل سمكا. هي في الحصانة متناهية، وبالوثقة موصوفة، ممتنعة على الطلب والطالب. منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب. لم تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطراف، قد مل الولاة حصارها ففارقوها عن طماح منها وشماس، وسئمت الجيوش ظلها فغادرتها بعد قنوط ويأس، فهي حمى لا يراع، ومعقل لا يستطاع. تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي قد عاهدتها على التسليم من القوارع. قلعة تحوي من الرفعة قدراً لا يستهان مواقعه، وتلوي في المنعة جيداً لا تستلان أخادعه، ليس للوهم قبل القدم إليها مسرى، ولا للفكر قبل الخطو نحوها مجرى.
في القصور
قصر كأن شرفاته بين النسر والعيوق، كأنها تسامي الفرقد. قصر يرتقى من سطحه إلى الشعريين. اكتست له الشعرى العبور، ثوب الغيور. قصر طال مبناه، وطاب مغناه، كأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع مريع شرفات كالعذارى شددن مناطقهن، وتوجن بالأكاليل مفارقهن. قصر أقرت له القصور بالقصور عنه، كأنه سحاب، في نحر السحاب
في الدور السرية
دار قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة، كأن بانيها استسلف الجنة فعجلت له، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصر، إن مات صاحبها مغفوراً له فقد انتقل من جنة إلى جنة. دار قد اقترن اليمن بيمناها، واليسر بيسراها، الجسوم منها في حضر، والعيون منها على سفر. دار هي دائرة الميامن، ودارة المحاسن، دار دار بالسعد نجمها، وفاز بالحسن سهمها. دار قد أخذت أداة الجنان، وضحكت عن العبقري الحسان. دار يخدمها الدهر، ويأويها البدر، ويكنفها النصر. دار هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر. دار كأنها خان، يدخلها من وفى ومن خان. صحن تسافر فيه العيون، بهو بهي، ورواق رائق، بيت فضي الحيطان، رخامي الأركان.
في الدور المتداعية الخالية
دار لبست البلى، وتعطلت من الحلى، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا. دار قد صارت منهم خالي، بعد ما كانت بهم حالية. دار قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد حيطانها، شاهد اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وخرابها ينشر، أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركع وسجود، سقفها أرض، وأرضها تل.
كتاب أحوال الإنسان
من لدن صغره نمائه، إلى كبره وانتهائه
في ذكر الصبية الصغار
صبية كالفراخ العشوش، وأولاد الخفافيش. صبية يسعهم قفيز. أولاد جلهم صبيان، أكابرهم أصاغر، كأنهم أفرخ زغب. صبيان كأنهم صئبان، وولدان كأنهم كيزان، قد أرضعته بلبانها، وحملته على لبانها. طفل قريب العهد، بالمهد.
في حسن مخايل المولود
شهدت له الفراسة رضيعا، أن لا يكون وضيعا. والمخايل فطيما، أن يكون سمحاً كريما، والشواهد صبيا، أن ينزل مكاناً عليا. والشمائل غلاما أن يكون قرماً هماما.
في ذكر الغلام الأمرد ووصف محاسنه
زاد جماله، وأقمر هلاله. ترقرق في وجهه ماء الحسن. شادن فاتن، طرفه فاتر، ونظره ساحر. غلام تأخذه العين، ويقبله القلب فترتاح له الروح. تكاد العيون تأكله، والقلوب تشربه. جرى ماء الشباب في عوده فتمايل كالغصن، واستوفى أقسام الحسن. لبس ديباجة الملاحة. كأن البدر ركب على أزراره. لا يشبع منه الناظر، ولا يروى منه الخاطر. كاد النجم يحكيه والشمس تشبهه. صورة تجلو الأبصار، وتخجل الأقمار. شادن منتقب بالبدر، مكتحل بالسحر. ما هو إلا نزهة الأبصار، وبدعة الأمصار. غمزات طرفه، تخبر عن ظرفه، ومنطقته تنطق بوصفه. وجهه قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار. تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته. الحسن ما فوق أزراره، والطيب ما تحت إزاره، شادن يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الريحان، كأن قده سكران من خمر طرفه، وبغداد مسروقة من حسنه وظرفه، قد أعجمت يد الجمال، نون صدغه بخال. له عينان حشو أجفانهما السحر. كأنه أعار الظبي جيده والغصن قده. والراح ريحه والورد خده، الشكل في حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته. قد ملك أزمة القلوب، كأنما سمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصغه من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد حدوده قد صبغ الحياء غلالة وجهه، ونثر لؤلؤ العرق على ورد دهن تكاد الالحاظ تسفك عن خده دم الخجل. طرة كالغسق، على غرة كالفلق، جاءنا في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره. وجه بماء الحسن مغسول، وطرف بمرود السحر مكحول. ثغر حمي حماي الثغور، وجعل ضرة لقلائد النحور. السحر في ألحاظه، والشهد من ألفاظه. كأنه خاصم الولدان، ففارق الجنان. وهرب من رضوان. اختلس قامة الغصن، وتوشح بمطارف الحسن، وحكى الروض غب المزن، الأرض مشرقة بنور وجهه، وليل ألسرار في عيال شعره، والجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق في خده، ومحاسن الربيع بين سحره ونحره، والقمر فضلة من حسنه، والشمس من حملة عرشه، ما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على الحسن، ووردة في غصن الدهر ونقش على خاتم الملك، وشمس في فلك اللطف.
في الصدغ والشارب والعذار
زرافين أصداغه معاليق القلوب، كأن صدغه قرط من المسك على عارض البدر. وجهه عرس وصدغه مأتم، ووصل جنة وهجره جهنم. أصداغه قد أخذت شكل العقارب، وظلمت ظلم الأقارب. إن كانت عقرب صدغه تلسع، مترياق ريقه ينفع، كأن شاربه زئبر الخز الأخضر، وعذاره طراز المسك الأذفر، على الورد الأحمر، إذا تكلم تكشف حجاب الزمرد والعقيق، عن سمط الدر الأنيق، قد هم أرقم الشعر على شاربه، قد كادت يد الحسن تغلفه، كاد العذار ينقش فص وجهه، ويحرق فضة خده. طرز الجمال ديباجة وجهه، وأبان عذاره العذر في حبه. لعب الربيع بخده، وأنبت البنفسج في ورده. لما أحرقت بالشعر فضة خده، احترق سواد القلوب من حبه، كيف لا يخضر عارضه ومياه الحسن تسقيه.
وصف خروج اللحية وذمها
نسخ الشعر آية حسنه، ومحا محاسن وجهه. كسف الشعر هلاله، وأكسف باله، وأحال خياله، ومسح جماله، وانتقب بالديجور، بعد النور. دولة حسنه أعرضت، وأيامه قد انقضت استحال نور خده دجى، وزمرد خطه سبجا. أخمدت نار حسنه بعد الاتقاد. ولبس عارضاه ثوب الحداد. قد ذبل ورد خده، وتشوك زعفران خطه. فارقنا خشفا، ووافانا جلفا، فارقنا هلالاً وغزالا، وعاودنا نكالا.
نعت محاسن الجواري
هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض. هي من معاريض الفتن، وحبائل الشيطان. هي من وجهها في صباح شامس، ومن شعرها في مساء دامس، كأنها فلقة قمر، على برج فضة. كأنما لبست قشور الدر بدر التم، شمس الضحى تضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، ثغرها يجمع الضريب والضرب. قد أنبت صدرها ثمر كذا قد أثمر خدها التفاح، وصدرها الرمان، خرطت لها يد الشباب حقين من عاج، كأنها البدر قد قرط بالثريا ونيط بها عقد من الجوزاء، أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال. لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج، نطاقها مجدب، وإزارها مخصب. مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدر في فمها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادي الليل في شعرها، ومغرس الغصن من قدها، ومهيل الرمل في ردفها، سرية سرية، قينة كتصحيفها. الحسن في خلقها، والطيب في خلقها.
ذكر الشاب الغض الشباب
هو في اقتبال شبابه، وحداثة أترابه، وريعان عمره، وعنفوان أمره. هو في ريان شبابه واعتداله، وريعان إقباله واقتباله، شبابه طري، وذكاؤه قوي. غصن شبابه رطيب، وبرد حداثته قشيب، بعثه على ذلك أشر الصبى، ومرح الشبيبة، وسكر الحداثة. هو بعذرة الشباب، وفراغ البال، حدث بكر الآمال، بض الجمال، حسن الاقتبال، فتي السن، رطيب الغصن. عمره في إقباله، ونشاطه في استقباله، وشبابه في اقتباله، وماؤه بحاله. فلان في حكم الأطفال، الذين لم يعضوا على نواجذ الرجال.
خلاعة الشاب وتصابيه
أطاع الشباب وغرته، وأجاب الصبى وشرته. هو في عنفوان شبيبة تخاف سقطاتها وهفواتها، ولا تؤمن جمحاتها ونزواتها، جر أزر الصبى، وأذال ذيول الهوى. هو في سكري الشباب والشراب. هو بين نزقات الشبان، ونزغات الشيطان. شبابه أعمى عن الرشد، أصم عن العذل، قد لبى داعي هواه، وانغمس في لجة صباه. قد هجم بسكر الحداثة على سكرات الحوادث، جرى إلى الصبى، جري الصبا. ركض في ميدان التصابي، وجنى ثمرات الملاهي. أنفق صباه على الفحشاء، وشبابه على الأحشاء، وأصبح بين الزق والعود، وأمسى بين موجبات الحدود. فلان غفل من سمة التجربة، صعب الرأس على لجام العظة، جامح في عذار الغفلة. هو في سلطان الصبى، وفي نوبة الأولى، قد خلع عذاره ومقوده، وألقى إلى البطالة باعه ويده. هو بين خمار الغداة وسكر العشي. فلان لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللهو. هو بين غرر الشباب، وغرر الأحباب. فلان لا يفيق، ولا يدركه التوفيق.
في ذكر الشاب الرشيد وترشحه للمعالي
جمع نضارة الشبان إلى أبهة الشيب. هو على حدوث ميلاده، وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سن وشيبه. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتهل. قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه مواعد. أرى له في ضمان الأيام، ودائع الحظوظ والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح، قد استكمل قوة الفضل، ولم يتكامل له سن الكهل. ما زالت مخايله وليداً وناشئاً، وشمائله صغيراً ويافعا. نواطق بالحسنى عنه، وضوامن للنجح فيه. قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال، حمدت عزائمه، قبل أن حلت تمائمه. وشهدت مكرماته، قبل أن درج لداته.
وخط الشيب وانتشاره
شعر الشيب بشعره. عرض البياض بعارضه. نور غصن شبابه. ضحك المشيب برأسه. لاحت حلية الشيب في عذاره. لمعت نجوم الشيب في ليل شبابه. لاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرج وتبيض. بدت في رأسه طلائع المشيب وطوالع القتير. أخذ الشيب بعنان شبابه. ذرت يد الزمان كافوراً على مسكه. مد المشيب طرازاً على وجهه، وكتب أسطراً في عارضه. طرز الشيب برد شبابه. حط المشيب بربعه، وخط القتير على فوده. لاح أقحوان الشيب في بنفسج شبابه، ألم وفد الشيب بفوده. غزاه الشيب بجيوشه، كتبت يد الشيب في فوديه، مواعظ يقرأها الأنام عليه، أقمر ليل شبابه. صاح النهار بجانب ليله. افتر له الشيب عن ناب الأسود، وأشار إليه بمخلب الأسد. قد فضض الزمان آبنوسه. اشتمل الشيب على عارضه، ألجمه الشيب بلجامه، وقاده بزمامه. سال وادي الشيب في مفرقه. اعتم بالمشيب وتلثم به. لاح نور الهموم في عارضيه. قنعه الشيب خماره، وأحل به أثقاله. علاه غبار وقائع الدهر وحكايات الزمن. أخذت الأيام من شبابه. بينما هو راقد في ليل شبابه إذ أيقظه صبح المشيب.
في الاكتهال والاحتناك والارعواء عن مجاهل الشباب
قضى باكورة الشباب، وانفق نضارة الزمان. طوى مراحل الشباب، وأنفق من عمره بغير حساب. أخلق بردة الصبي، ونهته النهى عن الهوى. جاوز الشباب مراحل، وورد من المشيب مناهل. التفت إلى الأربعين، وشارف طلاع الخمسين. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغداف العقعق. فل الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. انتهى إلى أشد الكهل، واستعاض من حلك الغراب قادمة النسر، افتر عن ناب القارح، وارتفع عن مقال القادح. قرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدهر، أدرك عصر الحنكة، وأوان المسكة. جمع قوة الشباب، إلى وقار الشيب. أسفر له صبح المشيب، وعلته أبهة الكبير. خرج عن حد الحداثة، وارتفع عن عذر الغرارة. نفض غبرة الصبى، ولبى داهية الحجى. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب. سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب. لما قام الشيب له مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح.
استحكام الشيب وبلوغ الشيخوخة
الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة. الشيب مقدمة الهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد إلى الموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. الشيب ساحل الحياة. الشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر. صفا التبر على مثقب الجمر. من عرف الستين أنكر نفسه. فلان قد تناهت به الأيام تحليماً وتهذيباً، وتناهت به السن تحكيماً وتجريبا. قد وعظه المشيب بوخطه وخبطه، وألسن بابنه وسبطه، قد تضاعفت وفود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مس الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، ساء عليه أثر علو السن، واعتراض الوهن. فلان من ذوي الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية.
في الهرم ومشارفة الفناء
هم هرم قد أخذ الزمان من عقله، كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء، تركه كذي الغارب المنكوب. حنا قوسه الكبر، هريق ماء شبابه، استشن أديمه، كسر الزمان جناحه. نفض الدهر مرته. طوي ما نشر منه، قيده الكبر، رسف رسفان المقيد، مجتث الجثة، كأنه عثة، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنية. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدته قد تناهت. هل بعد الغاية منزلة? أم بعد الشيب سوى الموت مرحلة، ما الذي يرجى ممن كان مثله في تقاصر الخطى، وتخاذل القوى، وتداني المدى، والتوجه إلى الدار الأخرى? أبعد دقة العظم، ورقة الجلد وضعف الجسم، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال? إن الذي بقي منه ذماء ترقبه المنون بمرصد، وشلشة هي هامة اليوم أو غد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وأشرف على دار المقام.
كتاب الطعام والشراب
وما ينضاف إليهما، ويقترن بهما
في الفواكه والثمار
كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمهات الراح. عنقود كالثريا. عنب كأنه مخازن البلور، وظرف النور، وأوعية السرور، وأمهات الرحيق، في مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب كأنه شهدة بالعقيق مقنعة، وبالعقيان مقمعة. رمان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيباً ومنظراً حسناً، كأنه زئبر الخز الأغبر، على الديباج الأصفر. تفاح نفاح، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العنبر، وطعم السكر. ورسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على العسل. مشمش كأنه الشهد في بنادق الذهب.
ذكر الجوع
لا هجوع، مع الجوع، سلطان الجوع يسيء الملكة، هو أجوع من ذئب معشش بين أعاريب، قد أثر الجوع في الأخلاط. العيون قد انقلبت، والأكباد قد التهبت. تحلبت الأفواه، توقدت الأكباد. امتدت إلى الخوان الأعناق، وأحدت نحوه الأحداق، وتحلبت له الأشداق.
وصف القدور
قد قامت خطباء القدور. فاحت القدور بأطيت من المسك الأصهب، بالعنبر الأشهب، قدور أبكار، بخواتيم النار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها، دهماء تهدر كالفنيق، وتفوح بالمسك الفتيق.
مقدمة الطعام
أفرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. كل من الطعام ما حدث. لا يطيب حضور الخوان، إلا مع الإخوان. الأكل منا للحاجة، ومنك للمساعدة. البخل بالطعام، من أخلاق الطغام، الكريم لا يحظر تقديم ما يحضر،
وصف الموائد
مائدة كدارة البدر. مائدة تباعد بين أنفاس الجلاس، مائدة مثل عروس. مائدة نظيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيبات. مائدة كالعروس مجلوة، من الطيبات مملوءة. مائدة قد زخرفت رياضها، وملئت حياضها، فمن قانئ بإزائه فاقع، ومن حالك في تلقائه ناصع. مائدة كأنما عملها صناع صنعاء. مائدة تجمع بين أنوار الربيع، وأثمار الخريف.
وصف الألوان من الأطعمة
رغفان كالبدور المنطقة بالنجوم. أحسن ما يكون وجه الخوان، إذا اخضرت شوارب الرغفان. ترى البقل على وجه الخوان، كما بقلت أوجه الغلمان الحسان. جدي كأنما ندف على جنبه القز. حمل ذهبي الدثار، فضي الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلت الشمس الحمل، حمل خلف شهرين، على الخلفين، ثم رعى شهرين، فهو شبران في شبرين، زير باجة، هي للمائدة ديباجه، تشفي السقام، ولونها السقيم. سكباجة تفيق الشهوة، وأسفيذ باجة تغذين وطباهجة يتفكه بها، وخبيص يختم بخير. مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة. في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف. طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك. قلية كالعود المطرى، مغمومة تفرج غم الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط خز مشتبكة. كأنها قمر بالشمس ملتحف. كأن المري عليها عصارة المسك، على سبيكة الفضة. شواء يتقطر عرقا، ويتسايل جردابه مرقا. أرزة ملبونة، في السكر مدفونه. دجاجة مشوية لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشر. دجاجة دينارية، ثمناً ولوناً. شواء وشراس وفالوذج رجراج. طباهجة تغذي، وفالوذجة تغذي. أسفيذباجة تصفح قفا الجوع.
في وصف ألوان من الحلواء
فالوذج بلباب البر، ولعاب النحل. كأن اللوز فيه كواكب في سماء عقيق. قطائف، فيها لطائف. عصيدة تجمع بين جنى النحل والنحل. ما الخبيص إلا نعمة مجموعة، ولذة معجونة. تؤدي طعم العافية، وتختم بحسن العاقبة. لوزينج ليلي العمر، يومي النشر، رقيق القشر، كثيف الحشو. لولبي الدهن، كوكبي اللون.
ذكر النهم الأكول
شيطان معدته رجيم، وسلطانه ظلوم، هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. كأن في أمعائه معاوية، يأكل أكل الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، الليث الهاصر، والعقاب الكاسر. لو أكل الفيل لما كفاه، ولو شرب النيل لما رواه. يجوب جوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يقول بالقصاع، لا بالمصاع، يرى ركوب البريد، في حضور الثريد. أصابعه ألزم للشواء من سفود. أنامله كالشبكة، في صيد السمك. يستكثر من الجوارشات المنقدة للسدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبل الانهضام. إذ هو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه. تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وترعى أرض الجيران. لما عكفنا على الخوان، أسرع في الرغفان، وكرع في الجفان، وفقأ أعين الألوان.
في وصف مجالس الأنس وآلات اللهو
مجلس نوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك سرق. ونارنج ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهي ناطقة. مجلس قد فرش بساطه وبسط أنماطه، ومد سماطه، بين آس مخضود، وورد منضود، وناي وعود. نحن بين بدور، وكاسات تدور، قد نشأت غمامة الند، على بساط الورد. مجلس قد تفتحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، ونطقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. مجلس من رآه حسب الجنان قد اصطفيت عيونها فجمعت في قدر من الأرض، وتخيرت فصوصها فنقلت إلى مطلع الأنس واللهو. قد فض اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه. قد هبت للأنس ريح سحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار. قد فرغنا للهو والدهر عنا في شغل. قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو. عمدنا لقداح اللهو فأجلناها، ولمراكب السرور فامتطيناها. قد امتطينا غوارب الأفراح، وقد حنا نار السرور بالأقداح.
فيما يتصل به من الألفاظ في الاستزارة
نحن في مجلس قد أبت راحته أن تصفو إلا أن تصافحها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت خجلاً لإبطائك وعيون نرجسه فقد حدقت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك إلا تعجلت، وما تمهلت. نحن بغيبتك كعقد قد غيبت واستطه، وشباب قد أخذت جدته. إذا غابت شمس السماء عنا، فلا بد من أن تدنو شمس الأرض منا. وأنت من ينظم به شمل الطرب، وبلقياه يبلغ إلى كل أرب. طر إلينا طيران السهم، واطلع علينا طلوع النجم. ثب إلينا وثبة الغزال، واطلع علينا طلوع الهلال، في غرة شوال. كن إلينا من السهم إلى ممره، والماء إلى مقره. جشم إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك. إن رأيت أن تحضرنا لتتصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنة الخلد. إن رأيت أن تسهم لنا في قربك الذي هو قوت ألنفس، ومادة الأنس.
في الكناية عن الشراب
قد نشط لتناول ما يستمد البشر، ويشرح الصدر. قد استمطر سحاب الأنس، واستدر حلوبة السرور، وقد زند اللهو.
وصف الشراب
شراب أصفى من مودتي لك، وأحسن من نعمة الله فيك، وأطيب من إسعاف الزمان بلقائك. أصفى من البلور، ودمع الجمهور. أصفى من ماء السماء، ودمع العاشقة المر هاء. أحسن من الدنيا المقبلة، والنعم المكملة. أحسن من العافية في البدن، وأطيب من الحياة في السرور. أرق من نسيم الصبا، وعهد الصبى. أرق من دمع محب، وشكوى صب. أرق من دموع العشاق، مرتها لوعة الفراق.
في تأثيره في القوم
دبت الكأس فيهم دبيب النار في الفحم، والبرء في السقم. سارت فيهم سورة الكؤوس، ونالت منهم نشوة الخندريس. شربت الراح عقولهم، وملكت قلوبهم. تمشت الصهباء في عظامهم، وترقت إلى هامهم، وماست في أعطافهم، ومالت بأطرافهم. بلغ حداً، يوجب الحد.
فقر وغرر تليق بهذا الباب
الصاحي بين السكرى، كالحي بين الموتى، يضحك من عقلهم، ويأكل من نقلهم.
ذكر الغناء والمغني
غناؤه كالغنى بعد الفقر. غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس. غناء يحرك النفوس، ويرقص الرؤوس. قد سمعنا غناء، يعيد الأموات أحياء، إذا غنى ودت أعضاء السامعين أن تكون آذانا. فلان طبيب القلوب والأسماع، محيي موات الخواطر والطباع. يطعم الآذان سرورا، ويقدح في القلوب نورا. القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب. كأنه خلق من كل نفس فهو يغني كلا بما يشتهيه. كل ما يغنيه مفتوح. لغنائه في القلب، موقع القطر في الجدب. نعمه نغمته تطرب، وضروب ضربه لا تضطرب.
في ذم المغني
يترنم فيتعب ولا يطرب، وليتنا وجدنا الكفاف ولكن يكرب. فلان إذا غنى عني، وإذا أدى آذى، يميت الطري، ويحي الكرب. ضربة يوجب ضربه، وسماعه يوجب الإسماع به. من عجائب غنائه أن يورد الشتاء في الضيف. بيت وسى كذا بارد النغمة مختل اليدين. ما رآه أحد في دار قوم مرتين.
في استهداء الشراب
قد تألف لي شمل إخوان كاد أن يفترق لعوز المشروب، فاعتمدنا فضلك المعهود، ووردنا بحرك المورود. أنا ومن سامحني الدهر بزيارته من إخواني وأوليائك وقوف بحيث يقف بنا اختيارك من النشاط أو الفتور، ويرتضيه لنا إيثارك من الهم أو السرور، لأن الأمر في ذلك إليك، والاعتماد في جمع شمل المسرة عليك، فإن رأيت أن تكلني إلى أولى الظنين بك فعلت. ألطف المنن موقعا، وأجلها في النفوس موضعا. ما عمر أوطان المسرة، وطرد عوارض الهم والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة. قد انتظمت مع رفقة لي في سمط الثريا، فإن لم يحفظ علينا النظام، بإهداء المرام، عدنا كبنات نعش والسلام. فرأيك في إرواء غلتنا بما ينقعها، والتطول على جماعتنا بما يجمعها.
كتاب وصف النظم والنثر
وأصحابهما وآلاتهما وأدواتهما
وصف حسن الخط
خط يجري مجرى السحر، ويرتفع حسنه عن النعت. رأيت من خطه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور ظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ. خط كأنه صبح منقش بظلام، كأنه ليل على صفحات نور، كأنه حديقة الأحداق. خط كالروض الممطور، والوشي المنشور، والدر المنثور. خط كما يفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي، في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أخذ من الطواويس ظهورها، ومن البزاة صدورها. خط كالتبر المسبوك، والوشي المحوك. خط أملح من صولجان المسك، في ميدان الورد، أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر، فلان يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. كأن يده تنشر وشيا، أو تنظم درا. كأنه مطرز بالظلام رداء الصباح. خط كأن القلب يشعر منه نورا، والعين تجني نورا. خط يبهر الطرف، ويفوت الوصف. خط كالرياض، والمقل المراض، والإقبال بعد الإعراض. أمتعت طرفي ما شئت بمحاسن خطه ولفظه، وأخذت منهما بأوفر قسط المستفيد وحظه. تحيرت بين ظلام وصباح، وعقد ووشاح. خطه خطة الحسن.
في سرعة الكتابة
يده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري. يده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل. كأن يده على القرطاس جناح طائر في سراب مائر. فلان أنامله الرياح، وخواطره البحار. فلان سريع البنان، بديع البيان. لا يحبس عنان قلمه، أو ينثر الدر في كلمه. قلمه يهيم على وجهه، غادراً رأسه في درجه. أخف من حسوة طائر، ولمعة بارق، وخلسة سارق.
وصف النثر بما يشتمل عليه من الألفاظ والمعاني
ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فك عان. ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار. ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب، بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق، يوم الفراق. حسبت ألفاظه در السحاب، أو أصفى قطراً وديمة، ومعانيه در السحاب، بل أوفى قدراً وقيمة. كلام قريب شاسع، ومطمع مانع. كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء، وكالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام يصعب على التعاطي، ويسهل على الفطنة. كلام لا تمجه الآذان، ولا يبليه الزمان. ألفاظ كالبشرى مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالريحان والراح. كلام مستهل متسلسل كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام. ملح كنوافذ السحر، وفقر كالغنى بعد الفقر. كلام كبرد الشرراب، على أكباد الحرار، وبرد الشباب، في خلع العذار. كلام كثير العيون، سلس المتون رقيق الحواشي، سلس النواحي. كلام هو السحر الحلال، والماء الزلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب الناضر. نظرت منه إلى صورة الظرف بحتا، وسورة البلاغة سبكاً نحتا. ألفاظ هي خدع الدهر وعقد السحر. ألفاظ تسر المخزون، وتسهل الحزون، وتعطل الدر المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقي من الكلف. كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه. ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها. ألفاظ حسبتها في رقتها منسوخة من صحيفة الصبى، وظننتها لسلامتها مكتوبة عن إملاء الهوى. كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع بها سمع الشيخ العقيم. كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، ودنا حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم سما حتى صار بالمنظر الأعلى. كلام حسن الديباجة، صافي الزجاجة، رقيق المزاج، حلو المساغ، نقي السمك، مقبول اللفظ، قرأت جليا، حوى معنى خفيا، وكلاماً قريباً، رمى غرضاً بعيداً. لو أن كلاماً أذيب به صخر، أو أطفئ به جمر، أو عوفي به مريض، أو جبر به مهيض، لكان هذا. كلامه يقود سامعيه إلى السجود، ويجري في القلوب كجري الماء في العود. فلان ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلام تسعى إليه الفور، وينتفض إليه العصفور. كلام يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان. كلام منه يجتنى الدر، وبه يعقد السحر، وعنده يعتب الدهر، وله يشرح الصدر. كلام يقرب جناه، ويبعد مداه، ويؤنس مسمعه، ويؤنس مصنعه.
ذكر البلاغة والبلغاء
ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، ويبسط رهان القول أو ميدانه، بل هو أن يبلغ أمد المراد، بألفاظ أعيان ومعان أفراد، من حيث لا مزيد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان. فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأن الألفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره، والمعاني تتغاير في الانثيال على أنامله. فلان مشرفي المشرق، وصيرفي المنطق، البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنه أوحي بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره. فلان يحز مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذناباً لا رؤوساً، وأجساداً لا نفوساً. فلان لا يبلغ المعنى ويرضى بعفو الطبع، ويقنع بما يخف على السمع. يوجز فلا يخل، ويطنب فلا يمل. لله فلان أخذ بأزمة القول يقودها كيف أراد ويجذبها أنى شاء، فلا يعصيه بين الصعب والذلول، ولا يسلمه عند الحزون والسهول. كلام يشتد مرة حتى تقول الصخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس. يقول، فيصول، ويجيب، فيصيب، ويكتب فيطبق المفصل؛ وينسق الدر المفصل. يرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامة لم ترنق.
في سرعة الخاطر ونفاذ الطبع
خاطرة البرق أو أسرع لمعا، والسيف أو أحد قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا. هو من يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعاني على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعي، ويستنبط المشروع العميق بيسير جري. كلامه عفو اللسان، وفيض اليد، ومساوقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الجدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع.
زلاقة اللسان والفصاحة
لسانه يغيض البحور. ويفلق الصخور. ويسمع الصم، ويستنزل العصم. خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشى في خطابه رتة، ولا تتسلط على حواره فترة، ولا يتحيف بيانة عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة. فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة. لو وضع لسانه على الشعر حلقه، أو على الصخر فلقه، أو على الجمر أحرقه، أو على الصفا خرقه. أما ترى فلاناً ولسنه? وكيف يجر في الفصاحة رسنه. كأن لسانه ثعبان ينساب بين رمال، أو ماء يتغلغل بين جبال. كأن لسانه مخراق لاعب، أو غرار سيف قاضب. قد أحسن السفارة، واستوفى العبارة، وأدى الألفاظ واستغرق الاغراض، وأصاب شواكل المراد، وطبق مفاصل السداد. لسانه كلسان ابن الحمرة، أو سنان عنترة.
ذكر الاطناب
بسط عنان الخطاب، ومد أطناب الإطناب، وطلب الأمد في الإسهاب. قال حتى قال الكلام لو أعفيت، وكتب حتى قالت الأقلام قد أحفيت. قد أتسع به مشرع الإطناب، وانفرج مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى من عنانه. نفض ما في رأسه، وفرغ جعبة وسواسه. تصرفت في كذا فأطلت وأطبت، وقلت فأطنبت. قال فأطال، وجال في بسط المقال كل مجال. إذا اسحنفر في الكلام طفح آذيه، وسال أتيه، انثال عليه الكلام، انثيال الغمام، واستجاب له الخطاب، ولا صوب الرباب.
وصف النثر والنظم معاً
نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد. نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق. رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفاً، وقصيدة تمزج بها الراح لطفاً. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجنان. نثر كما تفتح الزهر، ونظم كما تنفس السحر. نثر ترق نواحيه وحواشيه، ونظم تسحر ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة توردت أشجار نهدها. رسالة تضحك عن زهر وغرر، وقصيدة تنطوي على حبر ودرر، لم ترض في برك بأخوات النثرة من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشعرى من شعرك. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر، ولذ طعم الكرى بعد برح السهر، وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر. كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، شعر من حلة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق.
وصف لشعر
قصيدة في فنها فريدة. قصيدة أخلصت على قصد، وفريدة أتت من فرد. هي صوب العقول، تغبر في نواصي الفحول. عروس كستها القوافي، وحلتها المعاني. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع. شعر ملكني العجب به، وبهرني التعجب منه. شعر لا مزية الإيجاز أخطأته، ولا فضيلة الإعجاز تخطته. شعر رويته، لما رأيته، وحفظته، لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعة على الزمان لتحلى بها مكاثراً، أو تجلى فيها مفاخراً. راقني الشعر حتى شاقني، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام. قوي الأسر، صافي النحر. قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشى من الحضارة سجاحتها، فإن شئت قلت عبيد ولبيد، وإن شئت قلت حبيب ووليد. شعر يختلط بأجزاء النفس لنفاسته، ويكاد يعين كاتبه من سلاسته. قصيدته تجتنى بالأفكار، ونقل يتناول بالأسماع والأبصار، ونقل العلم والأدب، ألذ من نقل المأكل والمشرب. وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض الجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرقاد. لم أر غيرها بكراً استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدربه، فعليها رونق الشباب، ولها قوة المذكيات الصلاب. روح الشعر، وتاج الدهر. مقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر، خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتبريز، ويشبه في صفاء سبكه بالذهب الإبريز. شعر تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان لها أصدافا.
وصف الشعراء
لله دره ما أحلى شعره، وأنقى دره، وأصفى قطره، وأعجب أمره. قد أخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني. فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. أجمع أهل جلدته، على أنه معجز بلدته. فلان يغرب، بما يجلب، ويدع بما يبضع. حسن السبك، محكم الرصف، بديع الوصف. مرغوب في شعره، متنافس في سحره. فلان ضارب في قول الشعر بأعلى السهام، آخذ من عيون الفضل بأوفى الأقسام. ماء أشعار وطيتها، وكنز القوافي ومدينتها. شعاره، أشعاره، ودابه، آدابه. فلان ممن يبتده فيبتدع. فلان يجمع بين الإسراع، والإبداع. طبعه يمل عليه، ما لا يمل الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع، وخيم غير وخيم. لبيد عنده بليد، وعبيد وأقرانه له عبيد. الفرزدق عنده أقل من فرزدقة خمير، وجرير، يقاد إليه بجرير. قد نسج حللاً لا يلي جدتها الجديدان، ولا تزداد حسناً إلا على مرور الزمان.
في نعت الشعر السائر
نظمه قد نظم حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. أشعاره قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال. سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعار سارت مسير الشمس وهبت هبوب الريح، فطبقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالي تحفظها والجن تدرسها، والطير تتغنى بها.
في ذكر شعر الأكابر والملوك
قرأت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد فعلمت كيف يتكسر الزهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدر في رياض المهارق. شعر قد احتبس جريه على فكره، ووقف كيف شاء عند أمره. شعر يعلق في كعبة المجد، ويتوج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها غرة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرة الدهر، ويشدخ في جبهتي الشمس والبدر.
وصف الكتب البليغة الغزيرة وحسن موقعها
كتاب كتب لي أماناً من الدهر، وهناني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد، أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد، سواد الفؤاد. كتاب الظفر به نعيم، والنظر فيه فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من كتب الميامين، التي تأتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتددته من فرص العيش وغرره. كتاب آنس مسموعاً وملحوظاً، وكاد مودعه يكون مدروساً ومحفوظاً. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع. كتاب لو قرئ على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طياً ونشرا، وقبلته ألفاً ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كتاب قد أملته مزية المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل على لسانك، أما النقط على كل حرف نذيرة أناملك بحقه، وآخذ من كل سطر تتجشم تخطيطه نزهة. كذا إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبي خفا، وإذا تأملت من كلامك لفظا، ازددت من أنسي حظا.
تشبيهات هذه الكتب
كتاب كتب لي أماناً من الزمان، وتوقيع وقع عندي موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود، وكلت طرفي من سطوره بوشي مهلل، وتاج مكلل، وأودعت سمعي من بدائعه ما أنساني سماع الأغاني، من مطربات الغواني. نشأت سحابة من روضك غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة. سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست مما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطاً إلي من السماء اهتزازاً لمطلعه، وابتهاجاً بحسن موقعه. تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفض الرحيق المختوم. كتاب كالمشرق شرق به المسير وقميص يوسف جاء به البشير. هو في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وقد أهديت إلي محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شم الولد. ورد منه المسك ذكيا، والزهر جنيا، والماء مريا، والعيش هنيا، والسحر بابليا. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد.
وصف قصر الكتب
كتاب وجدته قصير العمر، كليالي الوصل بعد الهجر. لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر الأول. كتاب منتقص الأطراف، متقطع الأكناف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح. كأنه تعريض متحرز، أو توقيع مبرز. كتاب يلتقي طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب اتفق طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا، ما أظنني ابتدأته، حتى ختمته، ولا افتتحته حتى استتمته، ولا لمحته، حتى استوفيته، ولا نشرته، حتى طويته، وأحسبني لو لم أجود ضبطه ولم ألزم يدي حفظه لطار حتى يختلط بالجو فلا أرى منه إلا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدي لخفته، ويلطف عن حسي لقلته. عجبت كيف لم تحتمله الرياح قبل وصوله إلي، وكيف لم يختلط بالهواء عند حصوله لدي. كتاب قص الاقتصار أجنحته فلم يدع قوادم ولا خوافي، وأخذ الاختصار جدته فلم يبق ألفاظاً ولا معاني، كتابك كإيماء بطرف، أو وحي بكف، لم أفتتحه حتى استوفيته ولا نشرته حتى طويته.
في ذم الخط والقلم
خطه مضطرب الحروف، متضاعف الضعف والتحريف. خط ممجمج، ولفظ ملجلج. خط سقيم، وخاطر عقيم. خط مجنون، لا يدري ألف أم نون، وسطور، فيها شطور. خط يقذي العين، ويشجي الصدر. خط منحط، كأرجل البط، على الشط، وأنامل السرطان، على الحيطان، قلمه لا يستجيب بريه، والمداد لا يساعد جريه. قلم كالولد العاق والأخ المشاق إذا أدرته استطال، وإذا قومه مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف. قلم أحدل الشق، مضطرب الشق. متفاوت البري، معدوم الجري. محرف القط، مثبج الخط. قلم لم يقلم ظفره فهو يخدش القرطاس، وينفش الأنفاس، ويأخذ بالأنفاس. فلم لا ينبعث إذا بعثته، ولا يقف إن وقفته. قد وقف اضطراب بريه، دون استمرار جريه، واقتطع تفاوت قطه، عن تجويد خطه.
في ذم الكلام
كلام تنبو عن قبوله الطباع، وتتجافى عن استماعه الأسماع. ألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجها، وتنكرها الطباع فتزجها. كلام لا يرفع السمع له حجاباً، ولا يفتح القلب لوفده باباً. كلام يصدي الريان، ويصدئ الأذهان. كلام قد تعمل فيه حتى تبدل، وتكلف، حتى تعسف. طبع جاسي، ولفظ قاسي. لا مساغ له في سمع، ولا وصول له مع خلو ذرع. كلام لا الروية فيه ضربت بسهم، ولا الفكرة أجالت فيه بقدح، كلام تتعثر الأسماع من حزونته، وتتحير الأفهام في وعورته. كلمات ضعيفة الاتفاق، قليلة الأعيان، مضمحلة على الأمتحان. ألفاظ تستعار من الرباجي، ومعان تقد من الأثافي. كلام كأنه ثمر قطف قبل أوانه، وشراب نزل دنه قبل إبانه. كلام بمثله يتسلى الأخرس عن بكمه، ويفرح الأصم بصممه. بمثل ذلك الكلام رزق الصمت المحبة، وأعطي الإنصات الفضيلة. كلام أملس المتون. قليل العيون. أثقل من الجندل، وأمر من الحنظل. لفظ أخلاط، فلا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط. لفظه هذيان المحموم، وسوداء المهموم. كلام رث ومعنى غث. لا طائل فيهما، ولا حلاوة عليهما.
في ذم الكاتب
الخرس أحسن من كلامه، والعي أبلغ من بيانه. خاطره ينبو، وقلمه يكبو، يسهو ويغلط، ويخطي ويسقط. هو في الأدب، دعي النسب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب. قصير باع الكتابة، قاصر سعي البلاغة. كتبه مضطربة الألفاظ، متفاوتة الأبعاض، منتشرة الأوضاع، متباينة الاغراض. الجلم، أولى بكفه من القلم، والطاس، أليق بها من القرطاس.
في الشاعر والشعر
أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه، ولا من أحرار الكلام وغرره. شعر لا حلاوة فيه ولا طلاوة. شعر ضعيف الصنعه، رديء الصيغة، بغيض الصبغة. قد جمع بين إقواء وإبطاء، وإخطاء وإبطاء. ما قطع شعرة، ولا سقى قطرة. لو شعر بالنقيض ما شعر. فلان لا يميز بين خبيث القول وطيبه، ولا يفرق بين بكره وثيبه. فلان منقاد لساذج الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله. شاعر بارد العبارة، ثقيل الاستعارة، بغيض الإشارة. هو من بين الشعراء، منبوذ بالعراء. لم يلبس شعره حلة الحلاوة. شعر لا يطيب درسه، ولا يخف سرده.
?أوصاف أدوات الكتاب وآلات الكتاب الدواة من أنفع الأدوات. هي للكتابة عتاد، وللخاطر زناد. غدير لا يرده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام. أنيقة الصبغة. رشيقة الصيغة. مسكية الجلدة، كافورية الحلية. غدير تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره. دواة تداوي مرض عفاتك، وتدوي قلوب عداتك، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك، وارتفاع النوائب عن ساحتك.
في نعت المداد
مداد كسواد العين، وسويداء القلب. مداد كجناح الغداف ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. مداد ناسب خافية الغراب، واستعار لونه شعر الشباب. مداد هو أبهى لدي من ألف فرس بهيم، وأشهى إلي من ملك الأقاليم.
في نعت القلم
أقلام جمة المحاسن، بعيدة عن المطاعن. تعاصي الكاسر المعاصر، فتمانع الغامز القاصر. صلبة المعاجم، لدنة المقاطع. أنابيب ناسبت رماح الخط في أجناسها، وساكنت أسود الغيل في أخياسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء. بطية الحفى، قوية القوى. لا يشظيها القط، ولا يتشعت بها الخط. أقلام ثجرية موشية الليط، رائقة التخطيط، كل معتدل الكعوب، قوي الأنبوب. باسق الفروع، روي الينبوع. هو أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان. هو للأنامل مطية، وعلى الكتابة معونة مرضية. نعم النجدة القلم. يقلم أظافير الدهر، فيملك الأقاليم بالنهي والأمر. إن أردت كان مسجوناً لا يمل الإسار، وإن شئت كان جواداً لا يعرف العثار. لا ينبو إذا نبت الصفاح، ولا يحجم إذا أحجمت اللقاح. القلم مطية تمشي براكبها رهوا، وتكسو الأنامل زهوا.
في نعت السكين
سكين كأن القدر سائقها، والأجل سابقها. مرهفة الصدر، مخطفة الخصر. يجول عليها فرند العتق، ويترقرق فيها ماء الجوهر. كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع في متنها. ركبت على نصاب أبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغها، وحب القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج. فكأنها ليل من تحت نهار، أو فحم أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر بازي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، إن أرضيت ولت متناً كالدهان، وإن أسخطت اتقت بناب الأفعوان. سكين أحسن من التلاق، وأقطع من الفراق. تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، فتملكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر، إلى إمهاء الحجر.
كتاب الممادح والأثنية
وما يجري مجراها، ويأخذ مأخذها
المدح بشرف الأصل وكرم النسب
فلان من سر العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، وحسب شادخ. طيب العنصر والمركب، كريم المنصب والمنتسب. فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين. قد ركب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محل الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم. المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفي شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة، ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابراً عن كابر، وأخذ الفخر بين أسرة ومنابر، واكتسب الشرف على الأصاغر والأكابر.
ما يختص من ذلك بأبناء النبوة
استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقأت بيضته عن سلالة الطهارة. قد جذب القرآن بضبعه، وشق الوحي عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب. منتخب من أشرف العناصر. مرتضى من أعلى المحاتد. مؤثر من أعظم العشائر. قد ورث جامعاً عن جامع، وشهد له نداء الصوامع. هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزها.
في المدح يجمع بين شرفي الأصل والنفس وفضلي الإنتساب والإكتساب
فلان ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق، يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نجره وطبعه. هو الطيب أصله وفرعه، الزكي بذره وزرعة يجمع إلى عز النصاب، مزية الآداب. لا غرو أن يجري الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النحيب فرعاً مشيداً لأصله، له مع نباهة شرفه نزاهة ظلفه، ومع كرم أرومته وجذمه، مزية أدبه وعلمه. لن تخلف ثمرة غرس ارتيد له من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها، عصبة خيرة فضلها زاهر وشرفها على شرف النماء. وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. قد جمع شرف الأخلاق، إلى شرف الأعراق، وكرم الآداب، إلى كرم الأنساب. له في المجد أول وآخر، وفي الفضل قديم وحديث، وفي الكرم تليد وطريف. ليس كل من شرف عرقه، شرف خلقه. ولا كل عود طاب منجمه، طاب معجمه. ولا غرو أن يغمر فضله وهو نجل الصيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم. دوحة ضرب عرقها وسمق فرعها، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيأت ظلالها، وتهدلت ثمارها، وتفرعت أغصانها، وبرد مقيلها.
المجد والشرف والعلى
مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجوم كل مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه أفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق، ولسان الثناء بفضله نطوق. مجد يشير إليه النجم الثاقب، وشرف تحفظ طرفيه المناقب. فلك المجد عليه يدور، ويد العلى إليه تشير، يأنس ربع المجد إذا استوحش من استيلاء النقص، ويسكن إليه جأش الفضل. سما من المجد إلى رواسي الأعلام، حين رضي بمواطئ الأقدام، محله سامق، ومجده باسق، وشرفه نجم طارق.
الجود والكرم
فلان رفيق الجود وخليله، وزميل الكرم ونزيله، غرة الدهر وتحجيله، مواهبه الأنواء، وصدره الدهناء. بحر لا يظمأ وارده، ولا يمنع بارده. غوثه موقوف على اللهيف، وعونه مبذول للضعيف. يطغى جوده على وجوده، وهمته على قدرته. يوجب الصلات، كوجوب الصلاة. بابه غير مرتج، لكل مرتج. ينابيع الجود تتفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله. هو أوحد في الكرم، وغرة في وجه العالم. هو الكرم أنشيء نفسا، والفضل تمثل شخصا. لو أن البحر مدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. إن طلبت كريماً في جوده، مت قبل وجوده، أو ماجداً في أخلاقه. مت ولم ألاقه، صدره بحر ووعده نذر، قد حكم الآمال في أمواله، واستعبد الأحرار بفعاله. يهتز عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالركن. يد حاتم كبنانه من شماله. لا يبلغ كعب في الجود كعبه. له في كل مكرمة غرة الأوضاح، وقادمة الجناح. كريم ملء لباسه، موفق مر أنفاسه. صدره تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء. لا مكارم إلا ما صدر عن خلائقه، ولا مناجح إلا ما شيم من بوارقه. غمائم كرمه تفيض، ومآثر جوده تستفيض. يرى تحمل المغارم، من أعظم المغانم. مخلوق من طينة كريمة، ومجبول على أحسن شيمة. خوار العنان في ميدان المكارم.
الجمال وحسن الصورة
قمري التصوير، شمسي التأثير. خلقة سوية صحيحة، وصورة مقبولة صبيحة. منظر يملأ العين، ويملك النفوس. منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله. طلعة يطلع منها النيران، ويسجد لها الثقلان. مبرقع الغرة بالجمال، مسفر الطلعة بتباشير الإقبال. للعيون في محاسن وجهه مرتع، وللأرواح بها مستمتع. خلق وضي وخلق رضي، وفضل مضي.
البشر والبشاشة
طلعة عليها للبشاشة ديباجة خسروانية، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. غرة يجول فيها ماء الكرم، وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم. وجه كأن بشرته قشر البشر، ومواجهته أمان من الدهر. فلان يصل ببشره، قبل أن يصل ببره، ويحيي القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه. شمت من وجهه بارقة المجد، ورأيت في بشره تباشير النجح. قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه الأنواء. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرته، في روضة وغدير، بل في جنة وحرير.
العلم والأدب
هو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه في الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، هو شخص الأدب ماثلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف. تسقيها سماء الحرية، وتغذيها أرض المروة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، ومعرض الأنام إذا احتشدت. هم جمال الأيام، وخواص الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعة نضير، وليس له بحمد الله نظير. قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوي القويم. ما يؤنسه عن الوحشة إلا الدفاتر، ولا تصحبه في الوحدة إلا المحابر. همه مهرة فكرة يستفيدها، وشرود من الكلم يصيدها، فلان يحل دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال.
حسن الخلق
خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وصفى كدورته. خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. خلق كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الهواء المتفرقة على محبته، وتؤلف الآراء المتشتتة في مودته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النحل، وأطيب من زمن الورد. أخلاق أحسن من الدر والعقيان في نحور الحسان، أزكى من حركات الريح بين الورد والريحان.
الظرف واللباقة وحسن العشرة
فلان يستحط العصم بظرفه، ويستنزل النجم بلطفه. ما هو إلا غذاء الحبرة، ونسيم العيش، وقوت النفس، ومادة الأنس، وشمامة الظرفاء، وريحانة الندماء. فلان حلو المذاق، عذب المساغ، أعلى الناس في جد وأحلاهم في هزل. يتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب من الجنوب. ذو جد كعلو الجد، وهزل كحديقة الورد. قد طابت عشرته إذا عاشرته، ولانت قشرته، وواصلته فاستحسنت وصاله، وأحمدت خصاله. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من الغضارة يمطر. هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من ريح نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إن أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفاحة فائك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو تحية شارب.
طيب الخبر
فلان أخباره ذكية، وآثاره زكية. أخباره تأتينا كما وشت بالمسك رياه، ونم على الصبح محياه. قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزهر الأنيق. مناقب تشدخ في جبينها غرة الصباح، ويتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره. قد حصل له من حميد الذكر، وجميل النشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأني خرجت المسك فتيقا، وصبحت الروض أنيقا. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف، قبل الكشف. أخباره متضوعة كتضوع المسك الأذفر، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أخباره أرجة، وصفحاته بهجة.
حسن العهد وكرم الود
هو من يثقل ميزان وده، ويحصف ميثاق عهده. فلان كريم العهد، صحيح العقد. سليم الصدر في الود، حميد الصدر فيه والورد. هو لإخوانه عدة يشدهم ويقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ثابت ركن الإخاء، صافي شرب الوفاء. حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو من لا تدور المداهنة في عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. فلان يسري إلى كرم العهد، في ضياء من الرشد. عهده نقش على صخر، ووده نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصفو. في وده غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصحب، وزاد للركب. هو في حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب.
إصابة الرأي
النجح معقود بنواصي آرائه، واليمن معتاد في مذاهب أنحائه. له الرأي الثاقب الذي تخفى مكائده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذي تنجح مباديه، وتبهج تواليه. رأي كالسهم أصاب غرة الهدف، ودهاء كالبحر في بعد الغور وقرب المغترف. لا يضع رأيه إلا مواضع الإصابة، ولا يصرف تدبيره إلا إلى مواقع السداد والأصالة. له فكر عميق، ورأي وثيق. يعرف من مبادئ الأفعال، خواتم الأعمال، ومن صدور الأمور، أعجاز ما في الصدور. رويته رأي طبيب، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح. له رأي لا يخطيء شاكلة الصواب، ولا يخشى عليه بادرة العثار. فلا يخمر الرأي ويجيله، ويجيد الفكر ويطيله، حتى يحصل على لب الصواب ومحض الرأي. إذا أذكى سراج الفكر أضاء الظلام. هو قطب الصواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يرد إليه التدبير، يرى العواقب في مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. رأي يرد السيف مثلما، والرمح مقلما. آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب. له رأي لا تغيب كواكبه. رأي طبيب داء المملكة. رأي منير، وللأعداء مبير. كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين الإلهام والتوفيق. فلان يرى بأول رأيه آخر الأمر، وأصاب شاكلة الصواب في رأي محضه، وتدبير مخضه. عجباً لرأيه الذي يستنبط دفائن القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قد سرينا من مشورته في ضياء ساطع، ومن رأيه الصواب في حكم قاطع.
التجربة والحنكة
قد وضعت كثرة التجارب في يده مرآة العواقب. قد نجدته مصارف الدهور، وحنكته مصائر الأمور. قد أرضعته الحنكة بابانها، وأدبته الدربة في إبانها. فلان بازل، التجارب حنكته، والأيام عركته. لا تكاد الأيام تريه من أفعاله عجيبا، أو تسمعه من أحواله غريبا. فلان عارف بتدبير الزمان، عالم بتصاريف الأيام. آخذ ببرهان التبريز، نافذ في مجا التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولى النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعوداً على الغمز صليبا. قد أدبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. قد ارتضع أفاويق الزمان وحلب أخلاف الليالي والأيام. قد ركب ظهري البر والبحر. ولقي وفدي الخير والشر، وصافح صفحتي النفع والضر، وبلا طعمي الحلو والمر، ورضع ضرعي العرف والنكر، وضرب إبطي العسر واليسر.
في الهمة العالية
له همة على هامة النجم. فلان رفيع مناط الهمة. فسيح مجال الفضل. له همة تعزل السماك الأعزل سموا، وتجر ذيلها على المجرة علوا. همة حلق جناحها إلى عنان النجم، وامتد صباحها من شرق إلى غرب. لا يتعاظمه انتزاف البحر إذا أخطره بفكره، ولا انتساف الصخر إذا ألقاه في وهمه. همته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء، وأوسع من الأرضن، ذات العرض.
الشهامة والنفاذ والجد والجلادة
فلان حي القلب، منشرح الصدر. ذكي الذهن، سجاح الطبع. ليس بالنؤوم، ولا السؤوم. فذ فرد، وأسد ورد. كأن له في كل جارحة قلبا، كأن قلبه عين، وكأن حسه سمع. شهاب مقدم، وقدح مقوم مشدود النطاق، قائم على ساق. لا يجف لبده، ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته. قد جد واجتهد، وحشر وحشد. شمر عن ساق الجد ما أطاق، وشد له النطاق. قد ركب الصعب والذلول، وتجشم الحزون والسهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدهم والشهب.
التقى والزهد
فلان عذب المشرب، عف المطلب. نقي الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم. إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق. يتبع أفضل الطرق، وأرشد الخلق. يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة من الشر، مدلولة على سبل البر. أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الأخرى ومتعها. كف عن زخرف الدنيا ونضرتها، وغض طرفه عن متاعها وزهرتها، وأعرض عنها وقد عرضت له بزينتها، وصد عنها وقد تصدت له في حليتها. فلان ليس ممن يقف في ظل الطمع، فيسف إلى حضيض التضع. نقي جيبه، وسلم غيبه، ولم يدنس ذيله، واستوى في النزاهة نهاره وليله. فلان جلي الصفحة، نقي الصحيفة، عف الإزار، طاهر من الأوزار. قد عاد لإصلاح المعاد، بإعداد الزاد. اعتزل الدنيا وأفرج عن كل ما زاد على الزاد المبلغ، والقوت المقنع.
الكمال والانفراد عن النظراء
فلان مولود في طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين الكمال، وصبح المحافل، وزين المحاضر والمجالس. فريد دهره، وشمس عصره، وزينة مصره. فلان علم الفضل، وواسطة قلادة الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت فيه الشورى إلى النص. كيف يذم زمان هو عينه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة.
التفضيل والترجيع
فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القصر. هو رائش نبلهم، وبقية فضلهم. وجمة وردهم، وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم. ينيف عليهم إنافة صفحة الشمس على كرة الأرض، كأنهم فلك هو قطبه، وجسد هو قلبه، ومملوك هو ربه. هو مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم. هو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وعين الكتيبة، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، ونقش الفص. موضعه من أهل الفضل، موضع الواسطة من العقد، وليل التم من الشهر، كلا بل ليلة القدر إلى مطلع الفجر.
ما يليق ببعض هذه المدائح من حكاية أفعال المحسنين، وحسن آثار المنعمين والألفاظ التي تقع في الشكر، ونشر البر
ذكر الأفضال والأنعام والإحسان والاصطناع
أفضل وأنعم، وأسدى في الإحسان وألحم، وأسرج في الإكرام وألجم. قسم له من إحسانه ما يسع أمما، ويلقي السعادة أمما. أهدى إليه من كرائم البر ما لا يساق مهوره إلا من كرائم النفوس ومخايل الصدور. أعطاه عنان الاهتمام، حتى استولى على قصب المرام. رد عنه الدهر أحص الجناح، وملكه مقادة النجاح. أولاه من معهود البر ومألوفه، ما يربى على مئيه وألوفه. أولاه إسعافاً سمحاً، وعطاءً سحاً، ومنناً صفوا، وعفواً عفوا. أفاض عليه شعاب البر ومساليه، وجمع له شعوب الجميل وقبائله. هطلت عليه سحائب عنايته، ورفرفت حوله أجنحة رعايته، قد فكه بكرمه من قيد السؤال، ومعرة الاختلال. راشه بعد ما حصه الفقر، وأرضاه وقد أسخطه الدهر، وربما نمنا أملاء الجفون، وسهر دوننا لتحقيق الظنون. قد شمت من كرمه أصدق سحاب، وحصلت من إنعامه في أخصب جناب. قد سد ثلمة حالي، وأدر حلوبة مالي.
حسن آثار المنعم
ما أخلو من طل إحسانه ووابله، وعام إنعامه وقابله. قد استمطرت بنوء غزير، وسريت منه في ضو قمر منير. لم يرض بأول السقيا حتى أتى الانسكاب بعد القطر، وطلعت الشمس في أعقاب الفجر. قد كرعت من بره في مشاريع تغزر، ولا تنزر، ورفلت من طوله في ملابس تطول ولا تقصر. أنا منه في ظل ظليل، وفضل جزيل، وريح بليل، ونسيم عليل، وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين. أنا آوي إلى ظله كما يأوي الصيد إلى الحرم، وأواجه منه وجه المجد وصورة الكرم. أنا من إنعامه بين خير مستفيض، وجاه عريض، ونعم بيض. قد استظهرت على جور الأيام بعدله، واستترت من دهري بظله. جميع ما أردد فيه طرفي وأعدده من خاص ملكي منتسب إلى عطائه، أو مكتسب بجميل رأيه. مسافة بصري تبعد إن سافرت بها في مواهبه، وركائب فكري تطلح إن أنضيتها في استقراء صنائعه. جمالي مقرون بجماله، وحالي قطعة من حاله.
وصف النعم
نعمة عممت الأمم، وسبقت النعم، وكشفت الهموم ورفعت الهمم. نعمة قد سطع صباحها مستنيرا، وطنب شعاعها مستطيرا. قد غرقتني نعمه حتى استنفدت شكر لساني ويدي وأثقلت ظهري، وتملأت صدري. نعمة عندي مشرقة الجو، مغدقة النو، نيرة الضوء. تتابعت نعمه تتابع القطر، على البلد القفر، وترادفت مننه ترادف الغنى إلى ذي الفقر. نعمة أشرقت لها أراضي، ومطر بها روضي، ووري بها زندي، وعلا معها جدي، وأتاني الزمان يعتذر من إساءته بي، وجاءني الدهر ينتظر أمري. نعمة أنعمت البال، وقوت النفس والحال. نعمة تعم عموم المطر، وتزيد عليه إفراد النفع والضرر. نعم تضعف الخواطر عن التماحها، وتصغر القرائح عن اقترحها.
وصف الأيادي والمنن
له مع كل صباح يد كالصباح أو أشد وضوحاً، وكالنهار أو أصدق ظهورا. قد عمت الآفاق، ووسمت الأعناق. أياد قد حبست الشكر واستعبدت لك الحر. منن توالت توالي القطر، واتسعت سعة البحر، وأثقلت كاهل العبد والحر. عندي قلادة منتظمة قد جعلتها وقفاً على نحور الأيام وجلوتها على أبصار الأنام. أياد يقصر عن عفوها جهد القول، وتزهر بينها سواطه الإنعام والطول. أياديه أطواق في أجياد الأحرار، وأفلاك تدور على ذوي الأخطار. منن تضعف لحملها عواتق الأطواد، ويتضاعف حملها على السبع الشداد. لو تحمل الثقلان، ثقل هذا الامتنان، لأثقل كواهلهم وأضعف عواتقهم. أياد يفرض الشكر لها ويحتم، ويفتح الذكر بها ويختم. أياد تثقل الكاهل، ومنن تتعب الأنامل. منن تضعف متن الشكر، وتنشر معها قوى البشر. منن هي أحسن أثراً من الغيث في أزاهير الربيع، وأحلى موقعاً من الأمن عند الخائف المروع.
ذكر وفورها وكثرتها
منن لا تحصى، أو تحصى الحصى، إذا اطمعت نفسي في تعداد مننه وحصرها، فأطمعتها في إحصاء السحائب وقطرها. أياد لا تحصى حتى تحصى محاسن النجوم، ومنن لا تحصر أو تحصر قطارات الغيوم، وذلك معوز عمر النسور، باق إلى يوم النشور. أياد كعدد الرمل والنمل أعيت على العد، ولم تقف على حد. زادت أياديه حتى كادت تجهد الإعتداد. وتسبق الاعداد أياديه عندي أغزر من قطر المطر، وعوارفه أسرع من لمح البصر.
التشريف والتنويه
رفعه من قعر التراب، إلى سمك السحاب. استنبطه من حضيض الذلة، وأنهضه من محط الدناءة والضعة. جذب بضبعه من أخس مطارح الأتباع، وأخفض منازل الرعاع، إلى أعلى المنازل، وأرفع المراتب. استنبطه من الحضيض الأوهد، إلى البناء الأمجد. قد نبهه عن خمول، وأخرى الماء في عوده بعد ذبول. رقاه إلى ذروة المجد تزل أقدام النجوم لو وطئتها، وتقصر همم الأفلاك إن طلبتها. ثبت قدمه في المحل المنيف، ومكنه من جوامع التشريف. جذب بضبعه من المسقط المنحط، إلى المرفع المشتط. رفع خسيسته، وجبر نقيضته.
ذكر الشكر
الشكر ترجمان النية، ولسان الطوية، وشاهد الإخلاص، وعنوان الاختصاص. الشكر نسيم النعم، وهو السبب إلى الزيادة، والطريق إلى السعادة. الشكر قيد النعمة، ومفتاح المزيد، وثمن الجنة. من شكر قليلا استحق جزيلا. شكر المولى، هو الأولى. أشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على شكرك. الشكر قيد النعم وشكالها وعقالها، وهي مشبهة بالوحش التي لا تقيم مع الإيحاش، ولا تريم مع الإيناس. موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف، إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم. الشكر غرس إذا أودع سمع الكريم أثمر الزيادة، وحفظ العادة، الشاكر يعرض المزيد البالغ والنعيم السابغ.
?العجز عن الشكر لتكاثر الأنعام والبر
عندي من يده ما ملك الاعتداد أزمته، وقبض أمراء الكلام وأئمته. عندي له مبار أعجزني شكرها، كما أعوزني حصرها. شكره شأو بعيد لا تبلغه أشواطي، ولا أتلافي التفريط في حقه بإفراطي. إحسانه يعيد العرب عجما، والفصحاء بكما. إذا سلم المرء مقراً بالعجز فقد خرج عن تبعة التقصير، وبريء من عهدة المعاذير. قد زحمني من مكارمه ما يحصر المبين، ويصحبه العجز وبئس القرين، عندي من إنعامه، وخاص بره وعامه. ما يستغرق منة الشكر،ويستنفد قوة النشر. لو استعرت الدهر لسانا، واتخذت الريح ترجماناً، ليشيعا شكر إنعامه حق الإشاعة، لقصرت بهما يد الاستطاعة.
حسن الافصاح عن الشكر والثناء
شكره شكر الأسير لمن أطلقه، والمملوك لمن أعتقه. شكره شكر البلد القفر، لألمامة القطر. أثنى عليه ثناء الروض الممحل، على الغيث المسبل. أثنى عليه ثناء لسان الزهر، على راحة المطر. أثنى عليه ثناء العطشان الوارد، على الزلال البارد. شكره شكر الروض للديم، وزهير لهرم. بسط لسان الثناء والدعاء، وبلغ عنان الشكر عنان السماء. شكراً ترتاح له المكارم، وتهتز له المواسم. لأشكرنه شكراً تتسع أنواعه، وتنبسط أبواعه، ويلذ ذكره وسماعه. شكر ملء القلب واللسان، وكشكر حسان لآل غسان. أطال عنان الشكر وفسح مجاله، ورفع أعمدته، ومد أروقته. شكر كأنفاس الأحباب أو أنفاس الأسحار، بل أنفاس الرياض غب الأمطار. فلان يتلو فضائلك تلاوة القرآن، ويسرد محامدك سرد الفرقان.
دلالة الحال على ما وراءها
لو سكت الشاكر، لنطقت المآثر، ولو صمت المخاطب، لأثنت الحقائب. لقد شهدت شواهد حاله، على صدق مقاله، أما تفضله فقد نطقت به جوارحي، ولوسكت لأثنيت حقائبي، لئن جحدت ما أولانيه، وكندت ما أعطانيه، نطقت آثاره أياديه علي، ولمعت أعلام عوارفه لدي. جوارحي انطق بالشكر من ألسنة خطباء إياد، وشعراء مراد.
أدعية تليق بهذه الأحوال بهذا الباب
أطال الله له البقاء، كطول يده بالعطاء، ومد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. أدام الله له المواهب، كما أفاض به الرغائب، وحرس لديه الفواضل، كما عوذ به البر الشامل. تولى الله عني مكافاته، وأعان على الخير نياته، وأصحب بقاءه عزاً يبسط يديه لأوليائه، وعلى أعدائه، وكلأه تذب عن ودائع مننه عنده، وزاد في نعمه وإن عظمت، وبلغه آماله وإن انفسحت. لا زال الفضل يأوي منه إلى ركن منيع، وجناب مريع. لا زالت الألسن عليه بالثناء ناطقة، والقلوب على مودته متطابقة، والشهادات له بالفضل متناسقة. لا زال يعطف على الصادر والوارد، عطف الهم والوالد. أبقاه الله للجميل يعلي معالمه، ويحيي مكارمه، ويعمر مدارجه، ويثمر نتائجه. أدام الله أيامه التي هي أيام الفضائل ومواقيتها، وأزمان المآثر وتواريخها. أدام الله له المواهب، سامية الذوائب. موفية على منية الراجي وبغية الطالب. أبقاه الله للعطاء يفضه بين خدمه، والجمال يفيضه على إنشاء نعمه. والله يتابع له أيام العلاء والغبطة، والنماء والبسطة، لترتع أنواع الخدم في رياض مواهبه، وتكرع أصناف الحشم في حياض فواضله، والله يبقيه طويل الذراع، مديد الباع، ملياً بالإفضال والاصطناع. جزاه الله عن نعمه هناها، بعد أن أسبغها، وعارفة ملاها، بعد أن سوغها. أفضل ما جزي به مبتدي إحسان، ومحيي إنسان. لا زال مكانه معاناً للنعم لا تريمه المواهب، ولا ترومه النوائب. بسط الله بالعلاء يده، وقرن بالسعادة جده، وجعل خير يوميه غده، ولا زالت الأيام والليالي مطاياه إلى أمانيه وآماله، وصرف الله صروف الغير عن إصابة إقباله وكماله.
أخر كتاب المدائح والأثنية، ولله الحمد والمنة
كتاب المساوئ والمقابح وما يدانيها
اللؤم والخسة
فلان عصارة لؤم، في قرارة خبث. ألأم مهجة، في أسقط جثة. حديث النعمة، خبيث الطعمة. هو كالكمأة لا أصل ثابت، ولا فرع نابت، فلان خبيث المركب، لئيم المكتسب. يكاد من لؤمه يعدي من جلس إلى جنبه، أو تسمى باسمه. فلان قد أرضع بلبان اللؤم، وربي في حجر الشر والشؤم، وفطم عن ثدي الخير، ونشأ في عرصة الخبث. قد طلق الكرم ثلاثاً ولم ينطق فيه استثناء، واعتق المجد بتاتاً لم يستوجب عليه ولاء. فلان أتى من اللؤم بنادر لم تهتد له فطنة مادر. فلان قصير الشبر، صغير القدر، قاصر القدر، ضيق الصدر. لو قذف الليل بلومه، لطمس أنوار نجومه رد إلى قيمة مثله في خبث أصله وفرط جهله. فلان لا أمس ليومه، ولا قديم لقومه.
في البخل
سائله محروم، وماله مكتوم. لا يجيز إنفاقه، ولا يحل خناقه. خبزه كالأروى يسمع بها ولا ترى. خبزه في حالق، وأدمه في ساهق. غناه فقر، ومطبخه قفر. يملأ بكنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضائع. قد أطاع سلطان البخل بجهده، وانخرط كيف شاء في سلكه. فلان لا يبض حجره، ولا يثمر شجره. ما هو إلا حجر لا يروي، وزند لا يوري. فلان لا يحلب إلا من ضرع بكي، ولا يسقى إلا من أنضب ركي. قد جعل ميزانه وكيله، وأسنانه أكيله، وكيسه، أنيسه، ورغيفة، أليفه، ويمينه، أمينه، ودرهمه شقيقه، ومفتاحه رفيقه، وخاتمه، خادمه، وصناديقه، صديقه.
القبح والدمامة والحقارة
وجه كهول المطلع، وزوال النعمة، وقضاء السوء، وموت الفجأة، ما هو إلا قذى العين، وشجى الصدر، وأذى القلب، وحمى الروح. وجه كأنه تبرقع بالحنادس، واكتسى قشور الخنافس. كأن النحس تطلع من جبهته، والخل يقطر من وجنته. وجه مسترق بالحسن، منتقب بالقبح. وجهه طلعة الهجر، ولفظه قطع الصخر. وجهه يشق على العين، وكلامه لا يسوغ في الأذنين. وجه كحضور الغريم وحصول الرقيب، وكتاب العزل وفراق الحبيب. خلقة الشيطان، وعقل الصبيان، قد لا يزيد فيه القيام. بيدق الشطرنج في القيمة والقامة. له من الدينار قصره، ومن الورد صفرته، ومن السحاب ظلمته، ومن الأسد نكهته.
الثقل والبغض والبرد
فلان ثقيل الطلعة، بغيض التفصيل والجملة. بارد السكون والحركة، قد خرج عن حد الاعتدال، وذهب ذات اليمين وذات الشمال، يحكي ثقل الحديث العاد، ويمشي على العيون والأكباد. لا أدري كيف لم تحمل الأمانة أرض حملته، وكيف اجتاحت إلى الجبال بعد ما أقلته. كأن وجهه أيام المصائب، وليالي النوائب، وكأنما قربه فقد الحبائب، وسوء العواقب، وكأنما وصله عدم الحياة، وموت الفجأة، وكأنما هجره قوت المنة، وريح الجنة. يا عجبي من جسم كالخيال، وروح كالجبال، كأنه ثقل الدين، على وجع العين. ما الحمام على الإصرار، ومواصلة الصوم في الأسفار، وحلول الدين على الإقتار، بأثقل من لقاء فلان. هو ثقيل السكون بغيض الحركة، كثير الشؤم قليل البركة. هو بين الجفن والعين قذاة، وبين النعل والأخمص حصاة. ما هو إلا غداة الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلوع الرقيب. ما هو إلا الأربعاء الأخير في الصفر، والكابوس في وقت السحر. هو أثقل من خراج بلا غلة، ودواء بلا علة، وأبغض من مثل غير سائر، وأبرد من خشيف على خشيوم ميزاب، وأجمع للعيوب من بغل أبي دلامة، وحمار طياب، وطيلسان ابن حرب.
البخر وترك التنظف
لا يدري أفسا أن تنفس، وأحدث أم حدث. مدخل أكله أخبث من مخرج ثقله. لا فرق بين مجشاه، ومفساه، أنتن من هدهد ميت مكفن، في جورب عفن. مالي أرى الآباط حاشنة، والآناف معشبة، والعيون منورة، والأزرار مرعى، والأظفار حمى، واللحى لبودا، والأسنان خضراً وسودا.
الجهل والخرق والسخف
جهل كثيف، وعقل سخيف، قالب جهل مستور بثوب. فلان جاهل لا يميز، وأهوج لا يتحرز، أخرق متخلف، أهوج متعجرف. لا يستتر من العقل بسجف، ولا يشتمل إلا على سخف. يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحزم، ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل. لا تزال الأخبار تورد سفاتج جهله وخرقه، والأنباء تنقل نتائج سخفه وحمقه، قد ظل يتعثر في فضول جهله، ويتساقط في ذيول خرقه. قد أتى ما دل على خرقه، وركاكة خلقه.
الخسة مع الثروة
والاقتصار من الانعام والأفضال على التنعم والتجمل
وجمع المال وترك التطول فلان سمين المال، مهزول النوال. عظيم الرواق، صغير الأخلاق. يصون فلسه، ويبذل نفسه. الدهر يرفعه، ونفسه تضعه. ثروة في الثريا، وهمة في الثري. لا يكدح إلا لتطييب الطعم، وتنعيم الجسم، ثم يرى المكارم، من المحارم. قد وفر همه على مطعم يجوده، وملبس يجدده، ومرقد يمهده، وبنيان يشيده، ثم ينجده، فما يشد للمكارم رحلاً، ولا يحمل للفضل كلا، همه أن يتشبع ويتضلع، ويكتسي ويتمشقع، ويتجلل ويتبرقع، ويتربع ويترفع، وقصاراه أن ينصب تخته، ويوطئ استه دسته، وحسبه من الشرف أن يصهرج أرضها، ويزبرج بعضها، ويكفيه من الكرم أن تعدو الحاشية أمامه، وتحمل الغاشية قدامه، ويجزيه من الفضل ألفاظ فقاعية، وثياب مشقاعية. يلبسها ملوماً، ويحشوها لوماً. ما اتسعت دورهم، إلا ضاقت صدورهم، ولا أوقدت نارهم، إلا انطفأ نورهم، ولا هملجت عتاقهم، إلا قطفت أخلاقهم، ولا صلحت أحوالهم، إلا فسدت أفعالهم، ولا كثر مالهم، إلا قل جمالهم.
القلة والذلة
ريح صيف، وطارق طيف. فوته غنيمة، والظفر به هزيمة. هو العود المركوب، والزند المضروب، يطأه الخف والحافر، ويستضيمه الوارد والصادر. هو كالعصفور إن تركته فات، وإن قبضت عليه مات. يغمض عن الذكر، ويصغر عن الفكر. ذلة لا توسم أغفالها، وضعة لا تنفرج أقفالها. نهزة الطالب، وفرصة المغالب، وعرضة القاذف والحاذف. أقل من تنبه، في لبنة، ومن قلامة، في قمامة.
خبث الطوية ومخالفة الباطن للظاهر
قلب نغل، وصدر دغل. طوية معلولة، وعقيدة مدخولة. ظاهر يسر الناظر، وباطن يسو الخابر. صديق العيان، عدو المغيب. ما أكذب سراب أخلاقه، وأكثر أسراب نفاقه. صفوه رنق، وبره ملق، ووده مذق. هو لابس من الغش ثوباً لا ينضوه، ولازم من الفعل سمتاً لا يعدوه، ينتهز الفرصة كيف ينشر أجنحة الاحتيال، وكيف يعمل أسلحة الاغتيال. يدب الخمر، ويمشي الضراء، ويسر حسواً في ارتغاء. قد ملئ قلبه رينا، وشحن صدره مينا. خبيث النية، فاسد الطوية، مقلب لسان الملق، ساتر بالتخلق وجه الخلق. عند الرجاء موجود، عند البلاء مفقود. يمشي الضراء في الغيلة، ويتنفق بالنفاق والحيلة. يبث حبائل الزور، وينصب أشراك الغرور، ويدعي ضروب الباطل، ويتحلى بما هو منه عاطل. يدعي الفضل وهو فيه دعي. يبدي وجه المطابق الموافق، ويخفي نظر المسارق المنافق. دأبه بث الخدائع، والنفث في عقد المكاره والمكائد. ضميره خبث، ويمينه حنث وعهده نكث.
ما يختص من هذا الباب بالمرائين من الفقهاء والعدول والقضاة
بيض لحيته ليسود صحيفته، وأظهر روعه، ليخفي طمعه، وقصر سباله ليطيل يده، وتغشى محرابه، ليملأ جرابه، ما ظنك بذئاب طلس، في ثياب ملس. قوم يحملون الأمانة على متونهم، ليأكلوا النار في بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من غزل الأيامى. عدل يبرز في ظاهر أهل السمت، وباطن أصحاب السبت. فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السمت، سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، وكردي لا يغير إلا على الضعاف، ولص لا ينقب إلا على خزانة الأوقاف، وذئب لا يفترس عباد الله إلا بين الركوع والسجود، وحارب لا ينهب مال الله إلا بين العهود والشهود. قاض لا شاهد عنده أعدل من السلة والجام، يدلي بهما إلى الحكام، ولا مزكي أصدق لديه من الصفر، الذي يرقص على الظفر، ولا وثيقة أحب إليه من غمزات الخصوم، على الكيس المختوم، ولا كفيل أوقع بوفاقه من خبنة الذيل، وحمال الليل، ولا خليل أعز إليه من المنديل والطبق، في وقت العشاء والفلق، ولا حكومة أبغض إليه من حكومة المجلس، وخصومة المفلس، ثم الويل للفقير إذا ظلم فما ينجيه مجلس القضاء، إلا بالنار من الرمضاء، وأقسم أن اليتيم إذا وقع إليه فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب الحبات السود.
الكذب والبهتان
فلان منغمس في عيبه، يكذب لذيله على جيبه. يقول بهتاً، وزوراً بحتا. قد ملىء قلبه رينا، وقوله مينا، يدين بالكذب مذهبا، ويستلين الزور مركبا، الفاختة عنده أبو ذر. لا أضغي إلى ما يلفق وينمق، ويخلق ويزوق. أقاويل يتمشى الزور في مناكبها، ويتردد البهتان في مذاهبها. حسب الكاذب بفعله شتما، وبقلبه خصما، أما يخاف الكذوب، أن يذوب?
خبث اللسان والفعل
لسانه مقراض، للأعراض. فلان يأكل خبزه بلحوم الناس. عرض دني، وفم بذي.لا يزال تخرج من فمه كلمة يقطر منها دمه، ويتبرأ منها لسانه ويده، وتطلقه نفسه. من أغمد فيه سيف الريبة، انسل منه لسان الغيبة، ومن طعن عجانه، طعن لسانه، ومن وارى سوءة أخيه صغيرا، تنقل بأعراض الكرام كبيرا. فلان مقصور الهمة على ما يستهجن ذكره، فكيف ارتكابه وفعله. فلان فيه بغي مشتق من البغاء، وبه وجع في الوجعاء. فلان لسهام الغائبين مستهدف، ولعصي الفاسقين متلقف. فلان يخبأ العصا، في الدهليز الأقصى. هو أبغى من إبر الخياطين، ومحابر الوراقين.
الاستهداف لسهام الغائبين
فلان عرض يرشق بسهام الريبة، وعلم يقصد بالوقيعة. قد تناولته الألسن العاذلة، وتناقلت حديثه الأندية الحافلة، قد لزمه عار لا يمحى رسمه، ولزبه شنار لا يزول وسمه. قد قلد نفسه عاراً لا يرحضه الاعتذار، ولا يعفيه الليل والنهار. قد أصبح نقل كل لسان، وضحكة كل إنسان، وحملت أمهاته سفاتج إلى البلدان. قد صار دولة الألسن، ومثلة الأعين. قد عرض عرضه لسهام الغائبين، وألسنة القاذفين والحاذفين. قد قلد نفسه عظيم العار والشنار، وألبسها اللبسة الخالدة على الليل والنهار.
التيه والكبر
قد أسكرته خمرة الكبر، واستهوته غرة التيه. كأن كسرى حامل غاشيته، وقارون وكيل نفقته، وبلقيس إحدى داياته، وكأن يوسف لم ينظر إلا بمقلته، ولقمان لم ينطق إلا بحكمته. كأن الشمس تطلع من جبهته، والغمام يندي من يمينه. كأنه امتطى السماكين، وانتعل الفرقدين، وتناول النيرين بيدين، وملك الخافقين، واستعبد الثقلين. كأن الخضراء له عرشت والغبراء باسمه فرشت.
الحسد
قد دبت عقارب الحسدة، وكمنت أفاعيهم بكل مرصدة. فلان معجون من طينة الحسد والمنافسة. مضروب في قالب الضيق والمناقشة. قد وكل بي لحظاً ينتضل بأسهم الحسد. فلان جسد، كله حسد، وعقل كله حقد. الحاسد يعمى عن محاسن الصبح، بعين تدرك فائق الفتح. الحسود، لا يسود. الحسد، آفة الجسد.
دناءة النفس مع شرف الأبوة
فلان من الطاووس رجله، ومن الورد شوكه، ومن الماء زبده، ومن النار دخانها، ومن الخمر خمارها، ومن الدار كنيفها. يا عجباً أيلد البهيم، وولد آزر إبراهيم.
النميمة
لعن الله من يفسد ذات البين، ويسعى بالنميمة بين المحبين. النمام يحارب بسيف كليل إلا أنه يقطع، ويضرب بعضد واهن إلا أنه يوجع. فلان لا يزال ينمنم حلة النمائم، وينفث في عقد المكاره. قد هبت سمائم نمائمه ودبت عقارب مكائده. النميمة من سلاح النساء، وحصون الضعفاء.
الجبن
ليست اليراعة الجوفاء إلا أثبت منه قوة، وأشد منة. فهو يحسب كل صيحة عليه، وكل هيعة عدواً يقبض على يديه. فلان تمثال الجبن، وصورة الخوف، ومقر الرعب، ومن لو سميت له الشجاعة لخاف لفظها قبل معناها، وذكرها قبل فحواها، واسمها قبل مسماها. هو من تخوفه أضغاث الأحلام، فكيف مسموع الكلام. إذا ذكرت السيوف لمس رأسه هل ذهب، وإذا ذكرت الرماح مس جنبه هل ثقب. كأنه أسلم في كتاب الجبن صبيا ولقن كتاب الفشل أعجميا.
خلف الوعد وكثرة المطل
ما له من وعد أخذ من البرق الخلب خلقا، وتناول من العارض الجهام طبعا، وتركني أرعى رياض رجاء لا تنبت، وأجني ثمر أمل لا يورق. هو في ضمار الانتظار، وإسار عدة ضمار. جعل يلوذ بذمة المطل، ويرجي يوماً إلى غد. وعده برق خلب، وروغان ثعلب. غيم وعده جهام، وسيف بذله كهام. وعده مقرمط، ومطله مفرط. حصلت معه على مواعيد عرقوبية، وأحزان يعقوبية. قد حرمه ثمرة الوعد، وجره على شوك المطل. أنبت بوعده روض الآمال، ثم حصده بالخلف والمطال. وعد كالوعيد، بمطل شديد، يشيب الوليد. ولاية فلان وعد وصرفه اعتذار. وعده ضمار لا ينجز، وسحابه جهام لا يسكب. لا وعد نجيح، ويأس مريح. سحائب الصيف أثبت من قوله، والخط في صفحة الماء أقوى من عهده، ومواعيد عرقوب أقرب إلى الإنجاز من وعده. خلف الوعد، خلق الوغد. فلان يرسل برقه، ولا يسيل ودقه، ويقدم رعده، ولا يمطر بعده. وعده الخط في بسط الهواء، والرقم على بساط الماء.
صعوبة الجانب
صخرة خلقاء لا تستجيب للمرتقي، وحية صماء لا تسمع للراقي. كأني أستفز منه بالحداء عودا، وأهز بالدعاء طودا. كأني أنادي صخرة وأرقي حية. فلان ثاني العطف، نائي العطف. فلان صعب المعطف، بعيد المرجع، زحلي خطو العطف، جمادي حركة الصفح. لا تنحل عقده، ولا تتحافى عن فريسة يده.
العجز
فلان عاجز المنة، قاصر القوة. يتعلق بأذناب المعاذير، ويحيل على ذنوب المقادير. ما قطع في ذلك شعرة، ولا سقى قطرة، ولا فاه فيه بفصيح ولا أعجم. هو كالنعامة يكون جملاً إذا قيل طيري، وطائراً إذا قيل سيري. الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً، وهو عاجز عما يقتاته، قاصر عما تتماسك به حياته. يقام له نزل، ولا يفوض إليه شغل، ويملأ له وطب، ولا يرفع إليه خطب، وهذا والله عيش العجائز، والزمن العاجز.
آخر كتاب المساوئ والمقابح، ولله الحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب العيادة وما يجانسها
ذكر التشكي والمرض
عرض لي مرض أساء بالنجاة ظني، وكاد يصرف وجه الإفاقة عني. لو رآني لرآني خلالاً، ولو شئته لطرقته خيالاً. هو شورى بين أمراض أربعة: حمى لا تغب، وصداع لا يخف، وزكام يكد، وسعال لا يكف. علة هو في أسرها معتقل، وبقيدها مكبل. أمراض توالت علي، وأساءت بي وإلي، فأنا أشكوها وأشكر الله تعالى إذ جعلها عظة وتذكيراً، ولم يبق منها حتى الآن إلا يسيراً. أحسب الأمراض قد أقسمت على أن تجعل أعضائي مرابعها، وآلت على أن تصير جوارحي مراتعها. علل لا يصدر منها آت إلا لتكرير ورد، ولا يعزل فيها وال إلا بولي عهد. قد كرت تلك العلة فعادت عللا، وسقاني بعد نهل عللا، حليف علة أقعدتني عن الحركة، وألزمتني من المنزل عرصة العجزة. علة برته بري الأخلة، ونقصته نقص الأهلة. تركته حرضاً، وأوسعته مرضاً، وغادرته والخيال أكثف منه جثة، والطيف أوفر قوة.
اشتداد العلة وسوء الظن بها
عرض له من المرض ما صار له القنوط يغاديه ويراوحه، واليأس يخاطبه ويصافحه، ورد من سوء الظن أوخم المناهل، وبات من حسن الرجاء على مراحل. طالعت الكرم يترجح نجمه بين الإضاءة والأفول، وتتمثل شمسه بين الإشراق والغروب. أصبح فلان لا ينقل رأسه، ولا يجر ظله. ويد المنية تقرع بابه. ما هو إلا حرض، ولسهم المنية غرض. شاهدت نفسي وهي تخرج، ولقيت روحي وهي تعرج، وعرفت كيف تكون السكرة، وكيف تقع الغمرة، وكيف طعم البعد والفراق، وكيف يلتف الساق بالساق.
الانزعاج لعارض العلة
مرض فلحقتني روعة، وملكتني لوعة. وجدت في نفسي ألماً مما مسه، وتخون أنسه، بلغني من شكاته ما أوحش جناب الأنس، وأراني الظلمة في مطلع الشمس. بلغني ما عرض له من المرض، وألم به من الألم، وتحامل على سواء صدري، وأقذى سواد طرفي. قد استنفذ القلق لعلتك ما أعده الصبر من ذخيرة، وأضعف ما قواه العزاء من بصيرة. أتقلب على حد السيف إلى أن أعرف انكشاف العارض وزواله، وأتحقق انحساره وانتقاله. انهي إلي من خبر العارض حسم الله مادته، وقصر مدته. ما أراني الأفق مظلما، وطريق العيش مبهما.
تهوين أمر العارض بحسن الرجاء
هذه ه العوارض قد تكون، ثم تزول بإذن الله وتهون. إن الذي يبلغني من ضعفه قد أضعف المنة، وإن لم يضعف الظن بالله والثقة. قد استشف العافية من وراء ثوب رقيق، وبات منها على وعد قريب، ربما يشفى من أشفى، وحسبنا الله وكفى، ما أكثر ما رأينا هذه العلل جلت ثم جلت، وتوالت ثم تولت.
ذكر المشاركة في العلة
خبرني فلان بعلتك فأشركني فيها هماً وقلقاً، ولا أعل الله لك جسماً ولا حالاً، ورد إليك العافية وأدامها لك. ليست نكاية الشغل في قلبي بأقل من نكاية الشكاية في جسدك، ولا استيلاء القلق على نفسي بأيسر من اعتراض السقام لبدنك، ومن ذا الذي يصح جسمه إذا تألمت إحدى يديه، ومن يحل محلها في القرب إليه. ما كنت أعلم خبر العارض لك حتى تحققت ذلك من مشاركتي إياك في علتك وصحتك. ما انفرد جسمك بألم العلة دون قلبي ولا اختصت نفسك بمعاناة المرض دون نفسي. ليعلم سيدي أني سقيم بسقمه، وواجد بقلبي ما يجده بجسمه.
الاهتمام للعلة ثم الاستبشار بزوالها
أنا منزعج لشكاتك، مبتهج لمعافاتك. إن كانت علتك قد قرحت وجرحت، فإن صحتك قد أست وآنست. بلغني شكاتك فارتعت، ثم عرفت خفتها فارتحت. الحمد لله على قرب المدة بين المحنة والمنحة، والبلوى والنعمة، على أنا لم نتهالك بأيدي المخافة، حتى تداركنا الله بحسن الرافة، ولم نستسلم لخطة الحذر، حتى سلم من ورطة القدر.
شكاة أهل الفضل والسؤدد
شكاته التي تتألم لها المروءة والفضل، ويسقط لها الكرم المحض. شكاته التي غصت بها حلوق المجد، وحرجت لها صدور الأدب، وبدا الشحوب معها على وجه الحرية، وحرم عندها البشر على غرة المروة، علته التي أعلت أكثر القلوب، وطيرت الأرواح عن جل النفوس، قد اعتل بعلته الكرم، وشكا بشكايته السيف والقلم. شكاة عرضت منه لشخص الكرم الغض، والشرف المحض، لو قبلت مهجتي فدية دون وعكة تجدها، وساعة أنس تفقدها، لبذلتها علماً بأني أفدي الكرم لا غير، والفضل ولا ضير.
أدعية العيادة
أغناك الله عن الطب والأطباء، بالسلامة والشفاء. كفاك الله بالسلامة، وشفاك بالطافه الخاصة والعامة. جعله الله عليك تمحيصا، ولا تنغيصا، وتذكيرا، لا تنكيرا، وأدبا، لا غضبا، والله يدر لك صوب العافية، ويضفي عليك ثوب الكفاية الوافية. أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسحك بيد العافية، ووجه إليك وافد السلامة، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك. أوصل الله إليك من برد الشفاء، ما يكفيك حر الأدواء.
تنسم الإقبال بعد اليأس
قد شمت بارقة العافية، وشممت رائحة الصحة. أقبل صنع الله من حيث لم أرتقب، وجاءني لطفه من حيث لم أحتسب، وتدرجت إلى الإبلال وقد حسبته حلما، ورضيت به دون الاستقلال غنما. قد تخلصت إلى شط العافية، وصافحت كف حسن العاقبة. كما تداركني الله بلطيفة من لطائفه، نوجعل هبة الروح عارفة من عوارفه. تنسمت روائح الحياة بعد أن أشفيت على الوفاة، وثنيت وجهي إلى الدنيا، بعد مواجهتي الدار الأخرى. تداركني صنع الله ولطفه فأقالا عثرة ما خلتني أقالها، وأزالا علة لم يحتسب زوالها.
ذكر الإبلال وحمد الله عليه والدعاء عنده
قد صافح الإقلال والإبلال، وقارب النهوض والإستقلال. سيرويك الله من العافية التي ذوقك ويسبغ ثوبها عليك، ولا عيد مكروهاً إليك. المرض قد انحسر، والألم قد انحسم. قد استقل استقلال السيف حودث حده، وأعيد فرنده، والقمر انكشف سراره، وذاعت أسراره. حين استقلت يدي بالقلم، بشرتك بانحسار الألم. قد أقال الله بالسلامة الفائضة، وأدال من الشكاية العارضة، فانشرحت الصدور، وشمل السرور. أبل فعادت به الصدور مثلوجة، والكرب مفروجة. الحمد لله الذي حرس جسمك وعافاه، ومحا عنه أثر السقم وعفاه. الحمد لله الذي جعل العافية عقبى ما تشكيت والسلامة عوضاً مما عانيت الحمد لله على أن أعفاك من معاناة الألم، وعافاك للفضل والكرم، ونظمني معك في سلك النعمة، وضمني إليك في مسلك الصحة، والله يجعل السلامة أطول برديك، وأشدهما سبوغاً عليك، ويدفع في صدور المكاره دون ربعك، وفي نحور المحاذر قبل الانتهاء إلى ظلك. لا زالت العافية شعارك، ما وصل ليلك ونهارك. سوغك الله العافية وهنأك العيشة الراضية.
الاستشفاء بكتب العيادة
كلامك قد أدى روح السلامة في أعضائي، وأوصل برد العافية إلى أحشائي، تركني كتابك والظليم ينتسب إلى صحتي بعد أمراض اكتنفت، وأسقام اختلفت. قد استبق كتابك والعافية إلى جسمي، حتى كأنهما فرسا رهان تباريا، ورسيلا مضمار تجاريا. أبدلني كتابك من حزون الشكاة، سهول المعافاة، ومن شدة التألم، رخاء التنعم، ومن ضيق الصدر باضطراب البدن، سعة الصدر باستقرار الجسد، حتى كأنه مسحة ملك منزل، أو سبحة نبي مرسل.
آخر كتاب العيادة، ولله الحمد والمنة
كتاب التهاني والتهادي
وما ينخرط في سلكها، ويأخذ مأخذها
ألفاظ التهنئة بمولود
مرحباً بالفارس المحقق للظنون، المقر للعيون. المقبل بالطالع السعيد، والخير العتيد. أنجب الأبناء، لأكرم الآباء. أنا مستبشر بطلوع النجم الذي كنا منه على أمل، ومن تطاول استسراره على وجل. إن يشأ الله يجعله مقدمة إخوة في نسق، كالفرند المتسق. قد طلع في أفق الحرية أسعد نجم، ونجم في حدائق المروءة أزكى نبت. يا بشرايبطلوع الفارس الميمون جده، المضمون سعده. عليه خاتم الفضل وطابعه، وله سهم الخير وطالعه، الحمد لله على طلوع هذا الهلال الذي نراه إن شاء الله بدراً لا يضمر السرار ضياه، ولا يبلغ المحاق سناءة وسناه. قد بشرت قوابله بالإقبال وعلو الجد، واقترن قدومه بالطائر السعد. هنأك الله قوة الظهر، واشتداد الأزر، بالفارس المكثر لسواد الفضل، الموفر لجمال الأهل، المستوفي بشرف الأرومة، كرم الأبوة والأمومة، وأبقاه حتى نراه، كما رأينا جده وأباه. عرفت آنفاٍ ما كثر الله به عدده، وشد عضده، بطلوع الفارس الذي أضاء له أفق النجابة، وطال به باع السعادة. بشرت بالنور الساطع في أفق النجابة، والبدر الطالع في فلك السعادة. فعظمت النعمى لدي، وأوردت البشرى غاية المنى علي.
?ما يختص منها بالملوك مرحباً بالفارس القادم، بأعظم المغانم. سوي الخلق، سامي العرق. تلوح عليه سيما المجد، وتتجاذبه أطراف الملك. وردت البشرى بالفارس الذي أوسع رباع المجد تأهلاً، وأطراف الملك تحصناً، ومناكب الشرف ارتفاعا، وأعضاد العز اشتداداً. أتتني بشرى البشائر، والنعمى المحروسة عن النظائر. في سلالة العز وسليله، وابن منبر الملك وسريره. الأمير القادم، بغرة المكارم. الناهض إلى ذروة العلياء، بأباء أمره وملوك عظماء. مرحباً بالفارس المأمول لشد الظهور، المرجو لسد الثغور. الحمد لله الذي شد أزر الدولة، ونظم قلادة الأمر، وعمر سرير العز، ووطد منابر المملكة، بالقمر السعد، وشبل الأسد الورد. قد تبسمت المكارم والمعالي، وتباشرت الخطب والقوافي، بالفارس المأمول لشد أزر الملك، وسد ثغر المجد، وتطاول السرير شوقاً إليه، واهتزت المنابر حرصاً عليه. قد افتر جفن العالم عن العين البصيرة، واستغرب مضحكه عن اللمعة المنيرة. أما الأمير المولود فالتاج بجبينه يبهى، والركاب بقدمه يزهى.
?الأدعية للمولود والوالد
اللهم أرني هذا الهلال بدرا، قد علا الأقران قدرا. بلغه الله فيه مناه، حتى يراه وأخاه، منيفين على ذروة المجد، آخذين بأوفر الخطوط من علو الجد، والله يمتعه به، ويرزق الخير منه، ويحقق الأمل فيه. عرف الله مولاي بركة المولود المسعود، وعضد الفضل بالزيادة في عدده، وأقر عين المجد بالسيادة من ولده، عرفه الله من سعادة مقدمه، ما يجمع أعداءه تحت قدمه. عمرك الله حتى ترى هذا الهلال قمراً باهرا، وبدراً زاهرا. يكثر به عدد حفدتك، وتعظم منه غصة حسدتك، من حيث لا تهتدي النوائب إلى عراصكم، ولا تطمع الحوادث في انتقاصكم. متعك الله بالولد، وجعله من أقوى العدد، ووصله بإخوة متوافري العدد، شادين للإزر والعضد. هنأك الله مولده، وقرن باليمن مورده وآراك من بنية أولاد بررة وأسباطاً وحفدة عرفك الله بركة قذمه، ونجح مقدمه، وسعادة طالعه، ويمن طائره، وعمرك حتى ترى زيادة الله منه، كما رأيتها به.
ما يختص منها بالملوك والسادة
الله يبلغه أفضل ما تقسمه السعود، وتعلو به الجدود، حتى يستغرق مع إخوته مساعي الفضل، ويشيدوا قواعد الفخر، ويزحموا صدور الدهر، ويضبطوا أطراف الأرض، والله يحرسه من نواظر الأيام أن ترنو إليه، وأطماع الليالي أن تتوجه عليه، حتى يستقل بأعباء الخدمة، وينهض بأثقال الدولة، ويخف في الدفع عن البيضة، ويتسرع إلى حماية الحوزة، والله يديم لمولانا من العمر أكلأه، ومن العز أهنأه، ليطبق العالم بفضله وعدله، ويدبر الأرض بالنجباء من نسله.
ذكر المولود العلوي
غصن رسول الله صلى الله عليه وسلم شجره، حقيق أن يحلو ثمره، وفرع بين الرسالة والإمامة منتهاه. خليق أن يحمد بدؤه وعقباه. مرحباً بالطالع بأيمن الطالع، ومن أشرف المناصب والمنابع. حيث الرسالة والإمامة، والخلافة والزعامة. أبقاه الله حتى تتهنأ فيه سوابغ المنن، ويعد حسنة في بني الحسن.
ذكر التوأمين
تيسرت منحتان في موطن، وانتظمت موهبتان في قرن. طلع في أفق الملك نجماً سعد، وشهابا عز، وكوكبا مجد، فتأهلت بهما رباع المحاسن، ووطئت لهما أكناف المكارم، واستشرفت إليهما صدور الأسرة والمنابر. عرفه الله السعادة في طلوع بدرين انبعثا من نوره، واستنارا في دوره. بلغني خبر الموهبة المشفوعة بمثلها، والنعم المقرونة بعدلها، في الفارسين المقبلين رضيعي العز والرفعة، وقريعي المجد والمنعة، فشملني من الاغتباط ما يوجبه ازدواج البشرى، واقتران عارفة بأخرى.
في التهنئة بالبنت
هنأ الله سيدي ورود الكريمة عليه، وثمر بها أعداد النسل الطيب لديه، وجعلها مؤذنة بإخوة يررة، يعمرون أندية الفضل، ويعمرون بقية الدهر. اتصل بي خبر المولودة كرم الله غرتها، وانبتها نباتاً حسناً، وما كان من تغيرك عند اتضاح الخبر، وإنكارك ما اختاره لك سابق القدر، وقد علمت أنهن أقرب من القلوب، وأن الله بدأ بهن في الترتيب، فقال جل من قائل: ” يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور “، وما سماه الله هبة فهو بالشكر أولى، وبحسن التقبل أحرى. أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النساء كمثل هـذي لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للـهـلال
والله يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنف نشاطاً، والدنيا مؤنثة والناس يخدمونها، والنار مؤنثة والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً هنيئاً ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت، وأطال بقاءك ما عرف النسل والولد، وما بقي الأبد، وكما عمر لبد، إنه فعال لما يشاء وهو على كل شيء قدير.
ألفاظ التهنئة بالاملاك وما يقترن بها من الأدعية
من اتصل بمولاي سببه، وشرف به منصبه. كان حقيقاً بالرغبة إلى الله في توفيره وتكثيره، وزيادته وتثميره، لتزكو منابت الفضل، وتنمي مغارس الفخر وتطيب معادن المجد. بارك الله مولاي في الأمر الذي عقده وأحمده إياه وأسعده، وجعله موصولاً بنماء العدد، وزكاء الولد، واتصال الحبل، وتكثير النسل، والله يخير له في الوصلة الكريمة، ويقرنها بالمنحة الجسيمة. قد عظم الله بهجتي، وضاعف غبطتي، بما أتاحه من سرور ممهد، بجمع شمل مجدد. فلا زالت النعم به محفوفة، والمسار إليه مزفوفة. جعل الله هذه الوصلة وكيدة العقدة، طويلة المدة. سابغة البركة والفضل، طيبة الذرية والنسل. وصل الله هذا الاتصال السعيد والعقد الحميد. بأكمل المواهب، وأحمد العواقب، وجعل شمل مسرتك به ملتئماً، وسبب أنسك منتظما. عرفك الله تعجيل البركات، وتوالي الخيرات، ولا أخلاك في هذه الوصلة من التهاني بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك جميع الحساد. هنأ الله مولاي الوصلة لتتصل بكثرة العدد، ووفور الولد، وانبساط الباع واليد، وعلو القدر والجد.
ألفاظ التهنئة بالولايات
عرفت خير البلد الذي أحسن الله إلي أهله، وعطف عليهم بفضله، إذ أضيف إلى ما يلاحظه مولاي بعين إبالته، وينفي خلله بفضل أصالته. من سر في الولاية يلبس مولاي ظلالها، ويسحب أذيالها، بنعم مستفادة، ورتب مزدادة، فسروري بما يكتسبه من كل عمل يدبره، وأمر يقدره، من أحدوثة جميلة، ومثوبة جزيلة، ويؤثره من إحياء عدل، وإماتة ظلم، وعمارة لسبل الخيرات، وإيضاح لطرق المبرات. التهنئة بالأعمال وأن كبر عنها موقعه، وكان بحمد الله يرفعها ولا ترفعه، فالرسوم تحفظ تحدثاً يولي الله مسوغا، ويؤتي مسبغا. سيدي يوفي على الرتب التي يهنأ ببلوغها، ويزيد على المنازل التي يدعى له بحلولها. فهنيئاً تجملها بولايته، وتحليها بكفايته. الأعمال، وإن بلغت أقصى الآمال، فكفاية مولاي تتجاوزها، والرتب وإن جلت قدرا، وكبرت ذكرا، فصناعته تسبقها وتشآها، غير أن للتهاني رسماً لا بد من إقامته، وشرطاً لا سبيل إلى نقض عادته. الأعمال، وإن بلغت الآمال، فكفاية سيدي توفي عليها إيفاء الشمس على النجوم، وترتفع عنها ارتفاع السماء عن التخوم. سيدي أرفع قدرا، وأنبه ذكرا، من أن نهنئه بولاية وإن جل أمرها، وعظم قدرها، لأن الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله والرعية بمحمود فعله، والأقاليم بآثار سياسته، والولايات بسمات رئاسته.
ما يختص منها بالوزراء
أنا أهني الوزير بالنعمة التي عمت أهل الأرض، وخصت بني الفضل، وإن كان فوق كل ولاية توكل إليه، وراية تخفق عليه. أهني سيدنا بالحال التي جددها الله له كما يهنأ ناشد الضالة إذا وجدها، لا كما يهنأ طالب الغنيمة إذا ظفر بها. قد أعطيت قوس الوزارة منه باريها، وأضيفت إلى كفوها وكافيها، وفسخ بها شرط الدنيا الفاسد في إهداء حظوظها إلى أوغادها، ونقض بها حكمها الجائر في العدول بها هم نجباء أولادها. قديماً ألقت إليه الوزارة بالمقاليد، ونصت عليه بالتقليد، وتجملت منه تجمل من سواه بها، وسمت إليه سمو غيره إليها. الدنيا أيد الله الوزير مهناة بانحيازها إلى رأيه وتنفيذه، والممالك مغبوطة باتصالها إلى أمره وتدبيره. قد كانت الدنيا متطلعة لرئاسته، مستشرقة لوزارته، إلي أن سعدت بما كانت الآمال عنه مخبرة، وحظيت بما كانت الظنون به مبشرة. وانحيازها إلى جنته واضحة الفجر، وتوشحها من كفايته بغرة سائرة إلى وجه الدهر. الحمد لله الذي أقر عين الفضل، ووطأ مهاد المجد، وترك الحساد يتعثرون في ذيول الخيبة، ويتساقطون في فضول الحسرة، وأراني الوزارة، وقد استكمل الشيخ خلالها، ووفاها جمالها
فلم تك تصلح إلا لـه ولم يك يصلح إلا لها
ما يختص منها بالقضاة
القاضي علم العلم شرقاً وغربا، ونجم الفضل غوراً ونجدا، وشمس الأدب براً وبحرا، فسبيل الأعمال أن تهنأ إذا ردت إلى نظرة الميمون، وعصبت برأيه المأمون. أسعد الله القاضي بما جدد له من رأي مولانا وارتضائه، واعتماده لأجل أمور الشريعة وانتضائه، وأسعد المسلمين والدين بما أصاره إليه، وجعل زمامه بيديه.
الأدعية التي في التهاني بالأعمال والولايات
عرف الله سيدي من سعادة عمله، أفضل ما ترقاه بأمله، ولقاه من مناجح أمره أبلغ ما انتحاه بفكره. خار الله له فيما تولاه وتطوقه، وبلغه في كل حال أمله وحققه. عرفه الله من يمن ما باشره تدبيره الخير والخيرة، والبركات الحاضرة والمنتظرة، وجعل المنائج إليه أرسالا، لا تمل توالياً واتصالاً. أسعده الله أفضل سعادة قسمت لوالي عمل، وأحضر بركة أسهمت لمسامي أمل. أحضر الله السداد عزمه، وألزم الرشاد همه، وكنفه بالعصمة وأيده، وقرن به التوفيق ولا أفرده. هنأة الله الموهبة التي ساقها إليه، ومد رواقها عليه إذ كانت من عقائل المواهب، مسفرة عن خصائص المراتب، وحلت منه محل الإستيجاب، لا الإيجاب، والإستحقاق، دون الإتفاق. هنأة الله نعمة الفضل التي الولاية أصغر آلاتها والرئاسة بعض صفاتها.
ذكر الخلع والأحبية ووصفها
أهنئ سيدي بمزيد الرفعة، وجديد الخلعة، التي تخلع قلوب المنازعين، واللواء الذي يلوي أيدي المنابذين والحملان الذي لو امتطاه إلى الأفلاك لحازها، أو سامى به الجوزاء لجازها. بلغني خبر ما تطوعت به سماء المجد، وجادت به أنواء الملك، فتضمن من الخلع اسناها، ومن السيوف أمضاها، ومن الأفراس أجراها، ومن المراكب أبهاها، ومن الإقطاعات أنماها. لبس خلعته متجللا منها ملابس العز، وامتطى فرسه فارعاً ذروة المجد، وتقلد سيفه حاصداً بحده طلى أعدائه، وغامطي نعمائه، واعتنق طوقه متطوقاً عز الأبد، واعتصم بالسوارين المؤذنين بقوة الساعد والعضد، وساس أولياءه ولواؤه عليه خافق، ولسان النصر والظفر ناطق. قد لبس عبده خلعته، التي تعمد بها رفعته، وامتطى حملانه، الذي واصل به إحسانه، وتنطق بحسامه، الذي ظاهر أثواب انعامه، وتختم بخاتميه، اللذين بسطا من يديه، ووقع من دواته، التي أعلا بها من درجاته، وتمهد له الدست المحمول إليه. فدرت سماء الشرف عليه. الخلعة التي تتراءى صفحات العز على أعطافها، وتمتري مرايا المجد من أطرافها، والحملان الذي تتناول قاصية المنى من ناصيته، والمركب الذي تستجدي حلي الثريا بحليته، والسيف والمنطقة الناطقان عن نهاية الإكرام، الناظمان قلائد الإنعام. خلع تخلع قلوب الأعداء عن مقارها وتغمر نفوس الأولياء بمسارها، وسيف كالقضاء مضاء وحداً، وكلأقدار غراراً وحداً، ولواء تخفق قلوب المنازعين إذا خفق، وحملان يصرم منكب الدهر إذا انطلق.
في التهنئة بالقدوم
أهنئ نفسي وسيدي لما يسره الله من قدومه سالماً، وأشكر الله على ذلك شكراً دائماً. قد أعفيت ظهور ركابه، وأبت البركة بإيابه. جعل الله قدومك مقروناً بالخيرة التامة العامة، والكفاية الشاملة الكاملة. غيبة المكارم مقرونة بغيبتك، وأوبة النعم موصولة بأوبتك، فوصل الله قدومك من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيرك من السلامة. هنأك الله إيابك وبلغك محابك، ما زلت أيام غيبتك لا أوحش الله ربعك منك بذكرك مستأنسا، وللشوق إليك مجالسا، إلى أن من الله من أوبتك بما عظمت علي به النعمة، وجلت لدي معه المنحة. ما زلت معك بالنية مسافراً، وباتصال الفكر وبالذكر ملاقيا، إلى أن جمع الله شمل سروري بؤبتك، وسكن نافر قلبي بعودتك، فأسعدك الله بمقدمك سعادة تكون بها للإقبال مقابلا، وبالأماني ظافراً، ولا أوحش منك أوطان الفضل، ورباع المجد، بمنة.
ألفاظ في التهنئة بالحج
وتفخيم أمر الحج وتعظيم المناسك والمشاعر
وما يتصل بهما من الأدعية
قصد البيت العتيق، والمقام الكريم، والمطاف الشريف والملتزم النبيه، والمستلم النزيه، ووقف بالمعرف العظيم، وورد زمزم والحطيم. حرم الله الذي أوسعه كرامة، وجعله للناس مثابه، وللخليل خطة، وللذبيح حلة، ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبلة، ولأمته الهادية كعبة، ودعا إليها حتى لبي من كل طرف سحيق، وتسرع نحوه من كل فج عميق. يعود عنه من وفق وقد قبلت توبته، وغفرت حوبته، وسعدت سفرته، وأنجحت أوبته، وحمد سعيه، وزكا حجه، وتقبل عجه وثجه. انصرف مولاي عن الحج الذي انتضى له عزائمه، وأنضى فيه رواحله، وأتعب نفسه بطلب راحتها، وأنفق ذخائره، يشتري سعة الجنة وساحتها، قد زكيت إن شاء الله أفعالها، وتقبلت أعماله، وشكر سعيه، وبلغ هديه. قد أسقطت عن ظهرك الثقل العظيم، وشهدت الموقف الكريم، ومحضت من نفسك بالسعي من الفج العميق، إلى البيت العتيق. حمداً لمن سهل لك قضاء فريضة الحج والمشعر والمقام وبركة أدعية الموسم، وسعادة أفنية الحطيم وزمزم. قصد أكرم المقاصد، وشهد أشرف المشاهد. فورد مشارع الجنة، وخيم بمنازل الرحمة. قد خصتني مواهب الله لديك في الحج أديت فرضه، وحرم الله وطئت أرضه، والمقام الكريم قمته، والحجر الأسود استلمته، وزرت قبر الرسول عليه السلام مشافهاً لمشهده، ومباشراً لمسجده، ومشاهداً لمبدإه ومحضره، وماشياً بين قبره ومنبره، ومصلياً عليه حيث صلى، ومتقرباً إليه بالقرابة العظمى، وعدت وثوابك مسطور، وذنبك مغفور، وتجارتك رابحة، والبركات إليك غادية رائحة. تلقى الله دعاءك بالإجابة، واستغفارك بالرضا، وأملك بالنجح، وجعل سعيك مشكورا، وحجك مبرورا. عرف الله مولاي من مناجح ما نواه وأتاه، وقصده وتوخاه، ما يسعده في دنياه، ويحمد عقباه.
في ألفاظ التهنئة بالاطلاق من الحبس
الحمد لله حمد الإخلاص، على حسن الخلاص. قد فك من حلق الإسار وأنفذ من حد الشفار، وأقضى من ذلة رق، إلى عزة عتق. من تصلية جحيم، إلى جنة نعيم. خرج من العقال، خروج السيف من الصقال، خرج من إساره، خروج البدر من سراره. الحمد لله الذي فك أسرا، وجعل من بعد عسر يسرا. خرج قمر الفضل من سراره. وأنار في فلك مداره، خرج من البلاء، خروج السيف من الجلاء. أرخي عنه ضيق الخناق، وأطلق من أسر الوثاق. قد جعل له من مضايق الأمر مخرجاً نجيحا، وفي مغالق الأحوال مسرحاً فسيحا.
التهنئة بإقبال شهر رمضان وما يتصل بها من الأدعية
ساق الله إليك سعادة هلاله، وعرفك بركة كماله. أسهم الله لك في فضله، ووفقك لفرضه ونفله: لقاك الله فيه ما ترجوه، ورقاك إلى ما تحب فيما يتلوه. جعل الله ما أظلك من هذا الصوم مقروناً بأفضل القبول. مؤذناً بدرك البغية ونجح المأمول، ولا أخلاك من بر مرفوع، ودعاء مسموع. قابل الله بالقبول صيامك، وبعظيم المثوبة تهجدك وقيامك. عرفك الله من بركاته ما يربي على عدد الصائمين والقائمين، ووفقك لتحصيل أجر المتهجدين المجتهدين. أسأل الله أن يضاعف يمنه لك، ويجعله وسيلة مقبولة إلى مرضاته عنك. أعاد الله إلى مولاي أمثاله، وتقبل فيه أعماله، وأصلح في الدين والدنيا أحواله، وبلغه منها آماله. أسعده الله بهذا الشهر، ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر، ووفر حظه من كل ما يرتفع من دعاء الداعين، وينزل من ثواب العاملين، وتقبل مساعيه وزكاها، ورفع درجاته وأعلاها، وبلغه من الآمال منتهاها، وأظفره بأبعدها وأقصاها.
الأدعية في التهنئة بالعيد
عاودتك السعود، ما عاد عيد واخضر عود. عاد السرور إليك في هذا العيد، وجعله الله مبشراً بالجد السعيد، والخير العتيد، والعمر المديد، جعلك الله من كل ما دعي ويدعى له في الأعياد، آخذاً بأكمل الحظوظ والأعداد، أفطر وأكباد أعدائك تنفطر، والدنيا بعينيك تنظر وبالسعود تبشر. أسعد الله سيدي بهذا العيد سعادة توفر من الخير أقسامه، وتقصر على النعمى أيامه، وتحقق آماله، وتزكي أعماله. جعل الله أيامه تواريخ وأعيادا، وجعل له السعادات آماداً وأمدادا.
ما يختص منها بالأضحى
يا أكرم من أمسى وأضحى، سعدت بطلعة الأضحى. عرفك الله فيه من السعادات ما يربى على عدد من حج واعتمر، وسعى ونحر، وما يربي على عدد من حج، وعج وثج. أسعد الله مولاي بهذا العيد سعادة تجمع به حظوظ الدنيا والآخرة، ومصالح العاجلة والآجلة، وجعل أعاديه كأضاحيه، وأولياءه المسرورين المحبورين فيه، وقضى له بكفاية المهم، والحياطة من السوء الملم.
التهنئة بالنيروز وفصل الربيع
هذا اليوم من الأيام، كسيدنا في الأنام. هذا اليوم غرة في وجه الدهر، وتاج على مفرق العصر. أسعد الله مولاي بنيروزه الوارد عليه، وأعاده كيف شاء ما شاء إليه. أسعد الله سيدنا بالنيروز الطالع عليه ببركاته، وأيمن طائره في جميع أيامه ومتصرفاته، ولا زال يلبس الأيام فيبليها وهو جديد، ويقطع مسافة سعدها ونحسها وهو سعيد. أقبل النيروز إلى سيدنا ناشراً حلله التي استعارها من شيمته، ومبدياً حليه التي أخذها من سجيته، ومستصحباً من أنواره ما اكتساه عن محاسن أيامه، ومن أمطاره ما اقتبسه عن جوده وإنعامه، ومؤكد الوعد بطول بقائه حتى يملى العمر ويستغرق الدهر. سيدنا الربيع الذي لا يذبل شجره، ولا ينقطع ثمره، ولا يقلع غمامه، ولا تبتذل أيامه، فأسعده الله بداً من الإقرار لها. سيدنا الربيع الذي يتصل مطره، من حيث يؤمن ضرره، ويدوم زهره، من حيث يتعجل ثمره. فلا زال آمراً ناهياً، سامياً عالياً، تتهنأ الأعياد بمصادفة سلطانه، وتستفيد المحاسن من رياض إحسانه. أسعد الله سيدنا بهذا النيروز الحاضر، واليوم الجديد الناضر. سعادة تستمر له في جميع أيامه على العموم دون الخصوص، لتكون مشتبهات في اكتناف المواهب لها، واتصال المسار فيها، لا تفرق إلا بمقدار يزيد التالي، على الخالي، وتدرج الآتي، إلى الماضي.
التهنئة بالمهرجان
عرف الله سيدنا بركة هذا المهرجان، وأسعده فيه وفي كل أوان وزمان وأبقاه ما شاء في ظل الأماني والأمان. هذا اليوم من محاسن الدهور المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، فلقي الله سيدنا بوروده، وأجزل حظه من أقسام سعوده. هذا اليوم من غرره الدهور، ومواسم السرور، معظم في الأصل الفارسي، مستطرف بالملك العربي. فوفر الله فيه على مولاي السعادات، وعرفه في سائر أيامه البركات، على الساعات واللحظات.
إقامة رسم الهداية في النيروز والمهرجان وغيرهما من الأيام الغر
بمثل هذا اليوم الجديد، والأوان السعيد، سنة على مثلي فيها أن يهدي ويلاطف، وعلى مثل سيدنا ولا مثل له أن يقبل ويشرف. لليوم رسم إن أخل به الأولياء عد هفوة، وإن منع منه الرؤساء حسب جفوة، ومولاي يسوغني الدالة فيما اقترن بالرقعة، ويكسبني بذلك أتم التشرف والرفعة، الهدايا تكون من الرؤساء مكاثرة بالفضل، ومن النظراء مقارضة بالمثل، ومن الأولياء ملاطفة بالقل، وقد سلكت مع مولاي في إقامة رسم هذا اليوم سبيل أهل طبقتي من الأتباع، مع أهل طبقته من الأرباب. قد حملت إلى مولاي هدية الملاطف، لا هدية المحتفل، والنفس له والمال منه. العبيد تلاطف ولا تكاثر الموالي في هداياها، والموالي تقبل الميسور منها قبولاً محسوباً في عطاياها. أنا في المودة لمولاي كنفسه، وفي الطاعة كيده، وفي الاختصاص به كأحد أهله، وإنما ألطفه من فضله، وقد بعثت بما يستخدمه في سفره.
اهداء أهل الدفاتر وآلات الكتاب والآداب والعلوم
حضرة مولاي تجل أن يهدي إليها غير الكتب التي لا يترفع عنها كبير، ولا يمتنع منها خطير. قد أفكرت فيما أتقرب به مقيماً الرسم في جملة الخدم، حافظاً الاسم في غمار الحشم. فلم أجد إلا الرق سبق ملكه له، والمال الذي منحه وخوله، فعدلت إلى الأدب الذي تنفق سوقه بباب سيدنا ولا تكسد، وتهب ريحه في جنابه ولا تركد، وأنفذت كتاب كذا راجياً أن أشرق بقبوله، ويوقع إلي بحصوله. لما حظر على ذوي الاختصاص سيدنا إهداء ما جرت العادة بتسامي الأولياء إلى الاحتشاد في إهدائه، وجب العدول في إقامة رسم الخدمة إلى اتباع ما صدر عنه من الرخصة في ما تسهل كلفته، وتجل عند ذوي الأخطار قيمته، وتحلو ثمرته، وهو علم يقتنى، وأدب يجتنى آخر كتاب التهاني والتهادي وما ينخرط في سلكهما، ولله الحمد وبه الحول والقوة
كتاب التعازي وما يليق بها
وصف الخبر الهائل المزعج
خبر عز علي مسمعه، وأثر في القلب موقعه. خبر تستك له المسامع، وترتج له الأضالع. خبر تسقط منه الحبالى، وتصحو له السكارى. خبر ما تلتقي شفتاي بذكره، ولا يثبت بالي بخطره. خبر يهد الرواسي، ويفلق الحجر القاسي. خبر كادت له القلوب تطير، والعقول تطيش، والنفوس تطيح. خبر يخفض الناظر ويقذيه، ويقبض الأمل ويقدح فيه. خبر أحرج الصدر، وأحل البكاء وحرم الصبر، وأطار واقع السكون، وأثار كامن الوجوم، وثقلت وطأته على أجزاء النفس، وتأدت معرته إلى سواء القلب. خبر يشيب الوليد، ويذيب الحديد.
الكناية عن موت الرؤساء والأعزة
انقضت أيامه، استأثر الله به. انتقل إلى جوار ربه. انقلب إلى كرامة الله وعفوه. خانه عمره. لم تسمح النوائب بالتجافي عن مهجته. أجاب داعي ربه. نفذ قضاء الله فيه. لحق بالسبيل التي لا احتزار منها، ولا مجاز عنها. قبضه الله إليه. أسعده الله بجواره. دعاه الله فأجاب دعاءه، ولبى نداه. نقله الله إلى دار رضوانه، ومحل غفرانه. ناداه الله فلباه وفارق دنياه. قضت عليه المشيئة، فارتجعت تفي العطية، وخانته الأمنية، واستأثرت به المنية. كتبت له سعادة المحتضر، وانتهى به الأمر إلى الأجل المنتظر. علة ترامت به إلى انقضاء نحبه، ولقاء ربه. طرقه طارق المقدار، واختار الله له النقلة من دار البوار إلى دار القرار. تداولته العلل المتطاولة، وآلت به إلى ما كل نفس إليه آيله. أفضى من غضارة هذه الدنيا، إلى قرارة داره بالأخرى.
??ذكر النعي بالفقد
قد كان من الحق أن تنقبض الألسن عن هذا النعي لفادح وتخرس، وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس، يا سوء صباح أتى فيه الخبر فرأينا الرجاء قد انقطع، وأصم به الناعي وقد أسمع. نعي ورد فأكمد وفجع. ناعي الفضائل قائم، وأنف المحاسن راغم. نعي من لا أسميه إكباراً، ولا أكنيه إعظاما. فحقيق هو بأن تخرس نعاة فقده، وتحرم رسوم التعازي من بعده.
نعي الملوك والأجلة وذكر سوء آثار المصائب فيهم
أتى الناعي بانهداد الطود المنيع، وزوال الجبل الرفيع. قد نعته السماء صائحة، والأرض نائحة. كتبت والأرض راجفة، والشمس كاسفة، للرزء العظيم، والمصاب الجسيم، في فلك الملك، وركن المجد، وقريع الشرق والغرب. ما عسى أن يقال في الفلك الأعلى إذا انهار من جوانبه، وتهافت من مناكبه. أتى الناعي، وندبت المساعي، وقامت بواكي المجد، وكسفت شمس الفضل، وعاد النهار أسود، والعيش أنكد. غرب بموته نجم الفضل، وكسدت سوق الأدب، وقامت نوادب السماحة، ووقف فلك الكرم، ولطمت عليه المحاسن خدودها، وشقت عليه المناقب جيوبها. قد كانت الرزية بحيث مارت السماء مورا، وسارت الجبال سيرا، حتى شوهدت الكواكب ظهرا، ثم تهافتت شفعاً ووترا. قبضه الله فارتاعت الأمة، وانبسطت الظلمة، ووقفت الرحمة واضطربت الملة، وقامت نوادب المجد، وأصبح الناس من القيامة على وعد. إن المصاب به فت الأعضاد، وفتت الأكباد. إن المجد بعده لجاري الدمع، وإن الفضل لمزعج النفس، وإن الكرم لحرج الصدر، وإن الملك لواهي الظهر. كتابي وأنا من الحياة متذمم، وبالعيش متبرم. بعد ما هوى الطود الشامخ، وزال الجبل الباذخ، ونطقت نوادب المجد، وأقيمت مآتم الفضل. نعي فلان فتنكر وجه الدهر، وقبضت مهجة العز والفخر. فلا قلب إلا قد تبين صدعه، ولا عين إلا وهي ترشح بالدم.
ما يختص من ذلك بأبناء النبوة
قد نعي سليل من سلالة النبوة، وفرع من شجرة الرسالة، وعضو من أعضاء الرسول، وجزء من أجزاء الوصي والبتول، كتبت وليتني ما كتبت فإني ناعي الفضل من أقطاره، وداعي المجد إلى شق ثوبه وصداره، ومخبر بأن شمس الشرف كاسفة، وأرض الكرم راجفة، والمآثر مودعة، وبقايا النبوة مرتفعة، وآمال الإمامة منقطعة، والدين منخزل واجم، وللتقوى دمعان هام وساجم. كتابي وقد شلت يمين الدهر، وفقئت عين المجد، وقصر باع الفضل، وكسفت شمس المساعي، وخسفت قمر المعالي، وتجدد في بيت الرسالة رزء جدد المصائب، واستعاد النوائب، كل هذا لفقد من حط الكرم بربعه ثم أدرج في برده، وامتزج المجد فدفن بدفنه. إنها المصيبة عمت بيت الرسالة، وغضت طرف الإمامة، وتحيفت جانب الوحي المنزل، وأذكرت بموت النبي المرسل. كتبت تنعي مهجته والمجد يندب بهجته، ومهابط الوحي والرسالة تحني ظهورها أسفاً، ومعادن الوصية والإمامة تذري دموعها لهفاً، وذاك لأن حادث قضاء الله استأثر بفرع النبوة، وعنصر الدين والمروة.
ذكر البكاء
كتبت والأحشاء محترقة، والأجفان بمائها غرقة. الدمع واكف، والحزن عاكف. مصاب أطلق أسراب الدموع وفرقها، وأقلق أعشار القلوب وأحرقها. مصاب فض عقود الدموع، وشب النار بين الضلوع. مصاب أذاب الدموع الجامدة، وألهب الهموم الخامدة. تحلبت سحائب الدموع الغزار، وانسدت مسالك السكون والاستقرار. كنبت عن عين تدمع، وقلب يجزع. ونفس تهلع. قد أذلت حصون البرة، وحجبت وافد الحبرة. قد مد الهم إلى جسمي يد السقم، وجر الدمع على خدي ذيول الدم. لولا أن العين بالدمع والدم انطق من كل لسان وقلم، لأخبرت عن بعض ما أوهن ظهري، وأوهى ازري.
ذكر الاستراحة بالبكاء والجزع
إن الفجيعة إذا لم تحارب بجيش من البكاء، ولم يخفف من أثقالها بالنشيج والاشتكاء تضاعف داؤها، وزادت أعياؤها، وعز وأعوز دواؤها. قد شفيت غليلي بما استدررته من أسراب الدموع المتحيرة، وخففت عني بعض البرجاء بما امتريته من أخلاقها المتحدرة. إن في إسبال العبرة، وإطلاق الزفرة، والاجهاش بالبكاء والنشيج، وإعلان الصياح والضجيج تنفيساً من برحاء القلوب، وتخفيفاً من أثقال الكروب.
وصف عظم المصيبة وثقل وطأتها
أتى الدهر بما هد الأصلاب، وأطار الألباب من النازلة الهائلة، والفجيعة الفظيعة. يا لها من حادثة كارثة حسنت لي الغلو في الاعتمام، وأذكرتني بفقد الأعزة والأعمام. رزء أضعف العزائم القوية، وأبكى العيون البكية، مصيبة زلزلت الأرض، وهدمت الكرم المحض. مصيبة سلبت الأجفان كراها، والأبدان قواها. فجيعة لا يداوي كلمها آس، ولا يسد ثلمها تناس. مصيبة ألمت فآلمت، وثملت فكلمت، وتركت النفوس مولهة، والعقول مدلهة. رزء هض وهاض، وأطال الانخزال والانخفاض، ولم يرض بأن فض الأعضاء حتى أفاض الدماء. رزء ملأ الصدور ارتياعاً، وقسم الألباب شعاعا، وترك العقول مجروحة، والدموع مسفوحة، والقوى مهدودة، وطرق العزاء مسدودة، ورزء نكأ القلوب وجرحها، وأحر الأكباد وأقرحها. مصيبة أقرحت الأكباد، وأوهنت الأعضاد، وسودت وجوه المكارم والمعالي، وأعادت الأيام في صور الليالي.
ذكر الانخزال وكسوف البال والجزع والتوجع والاكتئاب لحادث المصاب
كتبت عن أجفان شرقة بالدموع، ونيران متقدة بين الأحشاء والضلوع، وبنان تود لو بانت قبل أن تخط بذكر نازل الخطة، ونفس أشاطت بها بلابل الهموم المشتطة. كتبت والنفس في شدة الانخزال والكمد، وفقد الاصطبار والجلد، على ما لا يستطاع ذكره، فكيف يتحمل ثقله. ما لي يد تخط إلا بكلفة، ولا نفس تتردد إلا على غصة، ولا عين تنظر إلا من وراء قذى، ولا صدر ينطوي إلا على أذى. الدموع واكفة، والقلوب واجفة، والهم وارد، والأنس شارد، والناس مأتمهم عليه واحد، أين مني كندة تأسف على حجر، أم الخنساء تبكي على صخر. كم عبرة وزفرة، وأنة وحسرة، وكم تململ واضطراب، وكم اشتعال والتهاب. مصيبة أصبحت لها وقيذ غمة، وأخيذ كربة، ما أم سبعة ركبوا الجياد، وشهروا السيوف الحداد نعوا إليها قتيلا بعد قتيل، وعرضوا عليها صريعاً بعد صريع، بأشد مني انخزالا وأضعف بالا، وأدق تقلقلا، وأكثر تململا. ملك الجزع صبري وعزائي، وجعل ناظري في إسار بكائي، فالقلب دهش، والبنان مرتعش، وأنا من البقاء مستوحش. كتبت عن قلق يزيد ولا يفتر، وجزع يتضاعف ولا يضعف. انتهى بن الهلع إلى حيث لا التأسي مصحب، ولا التناسي مصاحب. انزعاج يحل عقود الحزم، واكتئاب ينقض شروط العزم. قد بلغ الحزن مني مبلغاً لم أبتذله للنوائب وإن جلت وقعاً، وبلغ مني منالاً لم يؤمله طروق المصائب وإن عظمت فجعاً. كتبت عن اضطراب نفس، واضطرام صدر، والتهاب قلب، وانتهاب صبر.
التأبين والندبة
ما أعظمه مفقودا، وأكرمه ملحودا. إني لأنوح عليه بنوح المناقب، وأرثيه مع النجوم الثواقب، وابكيه مع المحاسن والمعالي، وأثني عليه بثناء المآثر والمساعي. ليت يمين الدهر شلت قبل أن فتكت بمهجة الفضل، وعين الزمان كفت قبل أن رأت مصرع الفخر. لقد رزئنا من فلان عالماً في شخص، وأمة في نفس. مضى والمحاسن تبكيه، ومناقب تعزي فيه، لما قرت به العيون، أسخنت فيه المنون، ولما انشرحت به الصدور، قبضها لفقده المقدور. على المحاسن من بعده العفاء، ولا أنبتت الأرض ولا جادت السماء. قد ركب الأعناق، بعد العتاق، وعلا أجياد، بعد الجياد، وفاح فتيت المسك من مآثره، كما كان يفوح من مجامره. كان منزلهم ألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب. ومقصد الوفد. فاستبدل بالأنس وحشة، وبالنضارة عبرة، وبالضياء ظلمة، واعتاض من تزاحم المواكب تلادم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل. هذي المكارم تبكي شجوها لفقده، وتلبس حدادها من بعده، وهذه المحاسن قد قامت نوادبها مع نوادبه، واقترنت مصائبها بمصائبه. ما أقبح العيش من بعده، وما أنكر العمر مع بعده.
في أن الفدية لا تغني
لو قبلت في فلان الفدية لوقيته بنفسي، وأيام عمري. علما بأن العيش بمثله من إخوان الصفاء يصفو، وبظعنه عن الدنيا يكدر ويجفو. لو أمكن افتداؤه بأنفس الذخائر، وأعز الأملاك والممالك لكنا أحقاء بإرخاص كل علق نفيس، وبذل كل ملك كريم. لو وقي منه عزيز قوم لعزته، أو كبير أهل بيت بولده وأسرته، أو قوي سلطان باستطالته وقدرته، أو زعيم دولة بحشده وعدده لكان الماضي أولى من فدي، وأحق من وقي، وكنا أقدر الناس على دفع ما حدث وطرق، وذب ما كرث وأرهق، لكنه الأمر المسوى فيه بين من عز جانبه وذل، وكثر ماله وقل، حتى تأسى المفضول بالفاضل، والناقص بالكامل.
ما يقع من كتب التعازي من وصف الدهر
هو الدهر فلا تعجب من طوارقه، ولا تنكر هجوم بوائقه، عطاؤه في ضمان الارتجاع، وحباؤه في قران الانتزاع. الدهر ما عرفت، وعلى ما خبرت، فلا نكر إذا فجع بالذخائر، ولا غرو إذا استأثر بالأخاير. هو الدهر وعلاجه الصبر لا تهنأ فيه المواهب، حتى تتخللها المصائب، ولا تصفو فيه المشارب، حتى تكدرها الشوائب. من عرف الزمان، لم يستشعر منه الأمان، وتصور تصرف الحوادث بين الموروث والوارث. الدهر مشحون بطوارق الغير مشوب صفو أيامه بالكدر، مجروح صابه بالعسل، موصولة حبال الأمل فيه بأسباب الأجل، يفطم أمام تكامل الرضاع، ويفرق قبل الامتاع بحسن الاجتماع. هي الأيام ترتع العارية، وتتلقى بالمنية الأمنية.
ما يقع فيها من ذكر الدنيا وذمها
قد جعل الله الدنيا دار قلعة، ومحل نقلة. فمن راحل ليومه، ومن مدعو لغده، وكل مستوف لأجله، وجار لأمله. ما الدنيا إلا دار النقلة، وما المقام فيها إلا للرحلة. إن المرء حقيق إذا طرقه ما يتحيف صبره، ويتطرف صدره أن يعود إلى علمه بالدنيا، كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة، وابتدئت للنفاد، وشفع كونها بالفساد، وإن الثاوي بها راحل، والأيام فيها مراحل. موهوب الدنيا مسلوب، وإن أرجئ إلى مهل، وممدودها محروب، وإن أخر إلى أجل. لو خلد من سبق لما وسعت الأرض من لحق، ولذلك جعلت الدار الأولى منزل قلعة، ومحل نجعة، ومجازاً إلى أخرى تزيد، ولا تبيد. خيرها عتيد، وعمرها تأبيد. نحن في الدنيا على وفاز، ومجاز وحذار وانتظار. الحازم من لم يفرح بمواهبها، ولم يتضاءل لنوائبها، ولم ير شياكلها كذا إلا كالخيال الملم، والفيء المنتقل، والعارية المرتجعة، والسحائب المتقشعة، ما تصنع بهذه الغدارة الغرارة? وهي ترتجع أعز ما تعطي، وتنتزع أحب ما تولي. قد تنكرت الدنيا حتى صار الموت أخف خطوبها، واصغر ذنوبها فلينظر المرء يمنة هل يرى إلا محنة? ثم ليعطف يسرة هل يرى إلا حسرة?
الأمر بالصبر والنهي عن الجزع
لو كان في الجزع فضل لما تقدمت فيه ذوات الحجول والحجال، على الفحول من الرجال. ما تضع والقضاء نازل، والموت حكم شامل، وإن لم نلذ بعصمة الصبر، فقد اعترضنا على مالك الأمر. اعلم أن الجزع للرب مسخطة، وللأجر محبطة. عليك عزيمة الصبر، وصريمة الجلد، فإنهما في العين حتم، وفي الرأي حزم، وليس في خلافهما للحي انتفاع، ولا للميت ارتجاع. اعلم أن المتوفي لا ترده نار تلهبها من الهم على كبدك، ولا يرجعه انزعاج تسلطه بالحزن على جسدك، وخير لك من ذلك أن تفعل ما يفعله الذاكرون، وتقول إنا لله وإنا إليه راجعون. أنت تعلم أن شوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر. اجعل بين هذه اللوعة الغالبة، والدمعة الساكبة، حاجباً من فضلك، وحاجزاً من عقلك، ومانعاً من يقينك. أنت أعرف بالدهر ومصارفه، والزمان ومخاوفه، من أن تدع التماسك وهو مرجع اللبيب ومثواه، وتتهالك في الجزع وهو منزع الجهول ومغزاه. أن المحن إذا لم تعالج بالصبر، كانت كالمنح إذا لم تعالج بالشكر. إذا رأيت أن تأتي في توخي الصبر، واحراز الأجر ما يوجبه الحجا، فإنه أحرى بك وأحجى، صبراً صبرا ففحول الرجال لا تستفزها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها. المرء لا بد سال، ولو بعد أحوال وأحوال. فما عليك أن تعجل ما يغتنمه البررة، وتقدم ما يؤخره الفجرة?
ذكر الموت
إن الله قد سوى بين البرية، في ورود حوض المنية، وحملهم فيها على عدل الحكومة والقضية، لينظر كل أحد إلى نفسه، ويعلم أنه مستثمر ما أنبت من غرسه. ما حيلة الإنسان وقد خانه أمله، وجاءه أجله، فبينا هو في رجاء، فسيح الأرجاء، إذا به قد دعي فأجاب من دون تعريج على استعداد، ولا تنفيس لأخذ زاد. الموت مشرع لا بد مورود، وكل وإن طال المدى مفقود. ما دوام أمر آخره انقطاع، واتصال عطاء عاقبته انتزاع? معلوم أن الموت كل شارب بكأسه، ومكتس من لباسه، وإنما هو تقدم أيام، وتأخر أعوام. كل ذي نهاية يصير كأن قد قطعت مراحله، ولحق بعاجله آجله. الموت خطب عظم حتى هان، ومس خشن حتى لان، فطن أنه مؤخر لتمام، ومنسأ لأيام وأعوام، والمنون تطلبه حثاً وحضاً، حتى تدركه خبباً وركضاً. هذه سبيل، فيها تعجيل وتأجيل، وإلا فالدهر كله أمس، والنفوس في مصافحة المنية كنفس، لله ما أغوص الموت على حبات القلوب، وأعرفه بمودات الصدور، وأخلصه إلى مكامن الروح، وايقظه لناسي العيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. معلوم أن المورد فيه واحد، وسيان فيه ولد ووالد. هذه فرقة محتومة على كل شمل منتظم، ومكتوبة على كل حبل متصل وقديماً نعيت على الناس غربانها، وطارت في دورهم عقبانها.
في الرضاء بقضاء الله تعالى والتسليم لحكمه
ما الحيلة وقد حل القضاء، وفرض العزاء لقدر الله، ونزل البلاء الجسيم وكتب الرضاء والتسليم. لا تسخط لقدر الله وهو عدل، ولا تكره لقضاء الله وهو فضل. ليعلم أن حكم الله عدل كيف تصرفت الأقدار، ووقعت من كراهة واختيار. القضاء غالب، والزمان معط وسالب، ولا خيار على القدر، ولا إيثار على الغير. والله العدل، وحكمه الفصل، ومن عنده الفضل، قضاء الله ماض، وهو عدل قاض. يولي، ويبتلي، ويسلب، ويعطي، ويعير، ويرتجع، ويمتع، وينتزع. له الخلق، وفعله الحق. أمر الله لا يقابل إلا بالرضا، والصبر على ما قضى وأمضى.
في حمل قضاء الله على الاصلح لعباده
مولاي أولى من سلم، وقد علم من عدل الله ما علم، وأيقن أنه يحيى ما دامت الحياة أنفع وأروح، ويميت إذا كان الممات أصلح. لولا أن الموت طريق يسلكه البريء والسقيم، ومشرع يرده البر والأثيم، لما انشرح بالعزاء صدر، ولا صحب مع البلاء صبر غير أن سنة الله في عباده وأنبيائه وأوليائه. يبقيهم ما كان البقاء أعمر لمكانهم، ويتوفاهم ما كانت الوفاة أصلح لأديانهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، علماً بأن مقاديره لا تجري إلا على موجبات الحكمة، وتدبيره لا يخلو من باطن المصلحة، أو ظاهر النعمة. في بقاء مولانا ما يوجب التسليم لما قضى الله وأمضاه، إذا كان يدبرنا بأصلح ما يختار ويؤثر، وأحكم ما يقدم وما يؤخر علماً منه تعالى بالعواقب، وإحاطة بالشاهد والغائب. أحق الناس عند حدوث النوائب، واعتراض الشوائب، بقصد التجلد، وترك التبلد، من علم أن أقضية الله جارية مع الصلاح، ماضية على الرشاد، يبقى ما كان البقاء للعبد أنظر، ويتوفى إذا كان الفناء في الحكم أوجب. معلوم أن الله يبقي ما كان البقاء أنجح، ويتوفى إذا كان الفناء أصلح، ولذلك قبض الأنبياء والمرسلون، وأنزل على المصطفى إنك ميت وإنهم ميتون.
ذكر الأعمار والآجال
إن أيام العمر وساعات الدهر كمراحل معدودة، إلى وجهة مقصودة. فلا بد مع سلوكها من انقضائها، وبلوغ الغاية عن انتهائها. للنفوس مواعيد تطلب آجالها، وللموت تغدو الوالدات سخالها. وما نحن إلا كالركب. فمن ذي منهل قصد يبلغه دانيا، ومن ذي منزل شحط يلحقه متراخيا. مولاي يعلم أن الأعمار مقدرة لآمادها، والآجال مؤخرة لميعادها. فلا استزادة ولا استنقاص، ولا فوات ولا مناص. الآجال آماد مضروبة، وأنفاس محسوبة ولذلك استأثر الله بوجوب البقاء، وآثر لخلقه صلة الوجود بالفناء. الآجال بيد الله، فإذا شاء مدها بحكمة وافية، وإذا شاء قصرها بلطيفة خافية.
في التسلية ببقاء الباقي عن الماضي
نعمة الله في فلان عظيمة. قد جبرت الكسر، وأوجبت الصبر، وأقامت الظهر، وألزمت الشكر، والحمد لله الذي أولى كما ابتلى، واعطى بإزاء ما اقتضى. لئن كانت المصيبة بمصرع فلان عظيمة، لقد سدها الله من سيدي بأفضل خلف، لأمجد سلف، وأنجب فرع، لأكرم أصل. في بقاء مولاي مسلاة للجازع، واسوة للفجائع. يا لها من حادثة كارثة، وفجيعة فظيعة. لولا أن الله سد ببقائك ثلمها، وداوى بالدفاع عن حوبائك كلمها. في بقاء مولاي ما يلزم تخطي الأحزان، إلى شكر الله للإحسان. اللهم لا كفران فقد أبقيت من فلان من ضممت به شمل الأمم، وجلوت به وجه الكرم. قد أعان الله على الرزية، بحسن البقية، وسهل سبيل التسلية، بعظم المزية، وجعل الموهوب، أفضل من المسلوب. في بقاء مولاي ما سد ثلم المرزية، وأغنى عن إطالة التعزية. إذا تحامت النوائب جانب مولاي وتوقته وبقته، وهبنا ما انتهكت، لما تركت، وتسلينا عما احتنكت، بما كفت عنه وأمسكت، والشمس تسليك عما حل بالقمر. ما مات من خلفك، ولا غاب عن أهله من استخلفك. إن تك أيدينا بالأمس أمسكت على القلوب خوف انصداعها وانزعاجها، لقد مسحت اليوم على الصدور عند انشراحها وانفراجها، ولئن سخنت عيون عند حدوث الحادثات، لقد قرت عيون عند انتصاب الوارث. تأملت في أثنا الرزية، جزيل العطية. ببقاء مولاي، فرأيت الموهوب، أكبر من المسلوب، والمبقي، أجل من المفني، فعطفت على البلوى بالصبر، وتلقيت النعمى بالشكر. من كان مثلك القائم من بعده، الساد ثلمة فقده، فهو في حكم الخالد، وإن أصبح فانيا والمقيم في أهله وإن أمسى بالعراء ثاويا. إن الزمان لا بد خائن، والمقدور لا محالة كائن، وإذا وقي الله أكرم النفوس، وحرس أجل محروس. فالرز وإن جل جلل، وما أتى الدهر، وإن كبر هدر. سيدي يعرف أحكام الليالي والأيام، وتصرفها بين الإعطاء والإخترام. فإذا تعدت أكرم الأنفس، وتجافت عن الأنفس، وجب تجاوز الصبر، إلى الحمد لله والشكر.
فيما يجمع بين التعزية والتهنئة
قد لزمنا رفع اليدين إلى الله: واحدة تستنزل الصبر، وأخرى تتحمل الشكر. الحمد لله الذي لما ارتجع أكرم العواري، بلغ أفضل الأماني، ولما امتحن بأعظم الأهوال، تطول بأشرف الابدال. ما اكتأبنا للمنعي إلينا، حتى اغتبطنا بالمستخلف علينا، ولا أجهش باكيا عند الرزية حتى استهل ضاحكاً للعطية. الفجيعة فظيعة وجيعة. كادت تذهل العقول، وتحبس الألسنة عن أن تقول، والأقلام عن أن تجول. إلا أن الله لطف فجعل سيدنا وارث الماضي كابراً عن كابر، وحافظاً بعده لغر الآثار والمآثر. فلم يحسر الظل حتى مده، ولا مكن الثلم حتى سده، ولا نقل الإحسان حتى رده، ولا أوهن العقل حتى شده. قد كان الرزء أعظم من أن يوصف هدا للاركان، وإفاضة للأحزان، في كل قطر ومكان. إلا أن الله بلطفه كشف الظلمة، واحيا الأمة، وأنزل الرحمة، وحسم النقمة بعود مولانا إلى سرير سلطانه، واستقراره في عالي مكانه. لئن كانت المصيبة أصابت سويداء القلب، فقد تدارك الله العالم بما أقر سواد العين. يا لها من رزيئة ناحت لها السماء على الأرض، وأفل معها قمر الملك والمجد، حتى تلافى الله الملك بمولانا فأعاد به الشمل جميعا، والعاصي مطيعا، فقر الأمر قراره، ولزم فلك التدبير مداره.
استظهار المشاركة والمساهمة
أنا قاسم مولاي الهموم والمسار، وأساهمه المكاره والمحاب. فلا يعرض له ما يشغل فكره إلا أزعج قلبي، كما لا يتفق عنده ما يشرح صدره إلا وفر أنسي. قد شاركت سيدي في المصيبة مشاركة من لا يتميز عنه في منحه ومحنه، وسروره وحزنه. كتابي وأنا لا أعلم أعزيك أم نفسي فليس المصاب عندك بأعظم منه عندي. أنا وإن كنت أقاسمك المسار، وأساهمك المضار، فإني لا أحاسب الأيام إذا تخطتك، ولا أناقش سهامها إذا أخطأتك. لئن فقدت من فلان أباً وعما. لقد أوفيت عليك أسفا، وعليه هما. أنا أقاسمك مصارف الأحوال ومجاريها، وعوائد الأيام وعواديها، فآخذ مما شرح صدرك بحظ المبتهج، ومما شغل قلبك بقسط المنزعج. قد تحملت لمشاركتك أثقالاً من الوحشة تنقص الصبر، وتنقض الظهر، وما أعزيك إلا والعزاء لي معجز، ولا أسليك إلا والسلو عندي معوز، لاشتراكنا في الأفراح والأحزان، وتعادل أقساطنا من الزيادة والنقصان.
عظات التعزية
لا مصيبة مع الإيمان، ولا معزي مع القرآن، وكفى بكتاب الله معزيا، وبعموم الموت مسليا. إن الذي يخفف ثقل النوائب، ويحدث السلو عند المصائب، تذكر حكم الله في سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين. ليذكر مولاي فقد الرسول والوصي والبتول والحسنين من مسموم ومقتول، ثم ليحصن الأجر المسوق إليه وليحصله، ولينصب أدب الله إزاء قلبه وليمتثله. الخلود في الدنيا لا يؤمل والفناء لا يؤمن، ولا سخط على حكم الله ولا وحشة مع خلافته، والأنس بطاعته، فأدما استرد صابرا، واسمح بما استرجع مسلما. أنت تعرف من شروط الزمان وعاداته، وتخبر من شؤونه وتاراته وتملك معه حلمك، وتراجع له حزمك، متى أتت الليالي بما تعاقبت القرون على مثله، وأعيت الحيل دون دفعه. حمداً لإله بتفضل فيهب، ويسترد فيأجرن ويبقى الثواب، ويفنى الحزن. كل مصيبة وإن عظمت فصغيرة في جنب ثواب الله، ضئيلة بين نعم الله قبلها وبعدها.
الادعية للمتوفي
غفر الله ذنبهن وخفف حسابه، وجعل رحمته حسبه تغمده الله بغفرانه، ومهد له في أعلى جنانه. تغمده الله من عفوه بما يفوت آمال المؤملين، ويوجب له مرافقة الأنبياء والمرسلين. جعل الله فرطاته مغفورة وحسناته مشكورة. قدس الله ثراه، واكرم مأواه. أكرم الله مرجعه، ورحم مصرعه، وبرد مضجعه. رحمه الله رحمته للأبرار، وحط عنه ثقل الأوزار. نور الله برهانه، والبسه رضوانه، وفسح له جنانه. غفر الله له مغفرة تحف بالروح والسلام، وتفسح له في دار المقام. جعل الله ما نقله إليه، خيراً مما نقله عنه. قدس الله ضريحه، وبرد صفيحه، وأفاض الرحمة السابغة عليه، ولقنه الحجة البالغة بين يديه. سقى الله ضريحه ولقي كذا.
ما يختص منها بالملوك
والله يبوئه من جنات عدنه، ومقار أمنه أعلى منزلة رفع إليه عبداً مخلصاً هداه، ومؤمناً اجتباه وولياً مكن له في أرضه، فقام فيها بفرضه، وأصلحها بعدله، وغمر أهلها بفضله. نسأل الله أن يرحمه أتم رحمة وأوسعها، ويلقيه أفضل مغفرة وأفسحها، ويبوئه جنات النعيم التي أعدها لأمثاله دارا، ولأشكاله قرارا، ممن أحسن السيرة في عباده وبلاده، وانتهى إلى رضاه بوسعه واجتهاده.
ما يختص منها بالاشراف
اللهم صل على شجرة هذا الغصن من كرائم أغصانها، وخصائص أفنانها، صلاة ترفع الذخر، وتعلي القدر، وتمهد في جنة المأوى، والدرجات العلى. قدس الله تلك التربة الزكية، والأرض المرضية. إذ أودعت نفس الشرف والأشراف، وسر هاشم بن عبد مناف، وكيف استسقي لها الغمام، وبحر المكارم في بطنها، وغيث الأمحال في ضمنها، وثم القبر الذي لو كتم لنم عليه عرف الكرم، وريا حسن الشيم. نقله الله إلى خطة الغفران، وعرصة الرضوان، حيث الرسول، والوصي والبتول، والحسنان، وسائر شجر الجنان. صلوات الله عليهم ما طلع الفرقدان، وتعاقب الملوان. اقر الله عينه في عرصة الموقف المحذور، والصباح المشهود المشهود بلقاء جده، وخيرة الله من خلقه، وامينه على وحيه، وأداء حقه، ووفاه من حظوظ شفاعته، ما يزيده في علو الدرجات وسبوغ الكرامات، وشرف الوقوف على الحوض المورود، وعز النشور في اليوم الموعود. رضي الله عن شقيق الكرم والمجد وعقيد الشرف المحض، وسلالة الرسالة، وسليل الإمامة. وقدس روحه وقد قدس، والبسه الغفران وقد ألبس.
في الدعاء للعذى بالصبر والأجر
ربط الله على قلبك بالتماسك الذي يؤمن من التهالك في القلق، والتمالك الذي يدفع عوادي الحرق. أفرغ الله على سيدي تجلداً يضاهي اجتماع رأيه ولبه، وتصبراً يحفظ عليه ذخائر حلمه، حتى يمنحه في الثواب ما لم يحتسبه كما امتحنه من المصاب ما لم يرتقبه. ورث الله مولاي عمره، واحضر سلوانه وصبره، وشرح بالتسليم صدره. اعظم الله لسيدي من الذخر، وجزيل المثوبة والأجر، ولا يحبطه، ويوفر الثواب، ولا يسقطه. ثقل الله به ميزانك، كما ضاعف بفوته أحزانك. أحسن الله لك العزاء وأجمله، ولقاك من الصبر أكمله. جبر الله مصابك، وعظم ثوابك. أتاك الله صبراً يأسو كلوم المصاب، ويحل عقود الإكتئاب. كتب الله لك من جسيم الثواب، ما يصغر عنده عظيم المصاب. كتب الله لك من الأجر أفضل ما كتبه لمن سلم له أمره وحكمه، ولم يتسخط قدره وحتمه.
سائر الأدعية للمعزى
أطال الله مدتك، وجعل الشكر في النعمى مادتك، والصبر على البلوى عدتك. حرس الله مهجتك، وحرم على الحوادث أعزتك. وجعل ما عرض خاتمة الرزايا قبلك، وبلغك في دينك ودنياك أملك. ورث الله مولاي عمر من قدمه، وغفر لمن اختار له جواره فاستقدمه، جعل الله الأعمار صلة لعمره، وفقأ عنه عيون الصروف من دهره. وقاك الله في أعزتك ونفسك، وجعل مسرة غدك ماحية مساءة أمسك. لا أصبت إلا بمن الخيرة لك في البقاء بعده، وله في التقدم قبلك. مد الله في مدتك، وغض لواحظ الأيام عن عقوتك. لا نقص الله لك عدداً، ولا أثكلك ولدا، ولا أشمت بك أحدا.
ما يختص منها بالملوك
أبقى الله مولانا وارثاً للأعمار، مصرفاً للأقدار. وجعل ما عرض خاتمة ما يوزع له فكرا، أو يجرح له صدرا، وقدم العالم عنه، فدية له. رغبت إلى الله في إطالة بقائه، كاشفاً بدوام مدته الغمم، وساداً بنضارة دولته الثلم، والله يطيل بقاءه وارثاً للأعمار، مفسوحاً له في الامهال والإنظار. محصن الدولة عن النوائب اللاحقة، محمي العرصة عن المصائب الطارقة. أطال الله بقاءه، وارثاً للآجال، حائزا للأماني والآمال، ينسخ مدة الملوين، ويخلق جدة الجديدين، وعمره عمر النسرين، وأبقاه بقاء العصرين. عمره الله محوط النفس والساحة، مبشراً للخيرات المتاحة. مصرفاً عنان الملوين، مقلباً زمام الزمان بكلتا اليدين.
ما يختص منها بالاشراف
أحسن الله عزاء مولاي عن الشريف، وورثه عمره، كما ورثه فخره، وذخر الله له الأجر عليه، كما أعلى ذكره بالانتساب إليه، والله يجبر مصابه كما أكرم نصابه، ويقيه المحاذر، كما ورثه المفاخر، ويبارك له في إحسانه الجسيم، وفضله العميم، كما بارك على إبراهيم، وآل إبراهيم صلى الله عليه وعلى محمد وآله أجمعين.
مخاطبة العلماء والزهاد في التعزية
أحق الناس بالتسلي عند طروق المصائب، وأولاهم بالتسليم مع هجوم النوائب، من آتاه الله من العلم ذخيرة، وجعل على نفسه بصيرة، وهذه حال الشيخ في فقد فلان. ورثه الله عمره، وأبقاه ما شاء بعده. إذا كان الشيخ هو القدوة في العلم وما يقتضيه، والأسوة في الدين وما يجب فيه، لزم أن يتأدب في حالات الصبر والشكر بأدبه، ويؤخذ في تارات الأسى والأسى بمذهبه، فكيف لا بتعزيته عند حادث رزيئته، إلا إذا روينا له، بعض ما أخذناه عنه، وأعدنا إليه طائفة مما استفدنا منه. قد علم الشيخ أن من خلق للعرض العظيم، وعرض للثواب الجسيم. وطن نفسه على تحمل الحوادث، ومرن قلبه على تجرع النوائب، وكان تأسفه على ما يفقد من رياحين دنياه قليلا، وتصبره لما ينقل من موازين أجره جميلا.
ذكر موتهم وتأبينهم
قد فقدت عين الفضل منه قرة، وجبهة العلم منه غرة. للفجائع، اختلاف مواقع، وللمصائب، تباين مراتب، ومن أشدها لذعا، وأعظمها وقعا. فجيعة أحرجت صدور قوم مؤمنين، ومصيبة خصت العلم والدين كفقد فلان، فقد كان للإسلام جمالاً ممتدا، وللدين ركنا مشتدا، وللعلم شهاباً لا يخبو، وللأدب سهم لا ينبو. تمثلت كيف يضام العلى وتقام مآتم الحجى، وتبكي أعين الدين والتقوى. قد فجعنا بشيخ الفضل، وشهاب العلم، والناضح عن الدين ناظراً لعقباه، والصادع بالحق رافضاً لرقباه. قد أخل ليث العلم بغيله، ومضى شيخ الدين لسبيله. فاضت عليه عيون المحاريب في جنح الظلام، وبكته عيون المحاسن في وضح النهار. رحم الله فلاناً وهل خلقت الرحمة إلا لأمثاله الذين خافوا الله، فخافهم الناس من دون ملك قاهر، ولا سلطان غالب، ولكنها هيبة العلماء. في نفوس الدهماء. اللهم محص عن سيئاته. فطال ما انتصب في الذب عن دينك، والناس في اشتغال بمعاشهم، عن معادهم، وبعقدهم، عن اعتقادهم.
ذكر موت الأدباء والكتاب
نجم من نجوم العلم هوى، وغصن من أغصان الأدب ذوى. قد عادت لفراقه الآداب شعثا، ووجوه الفضل غبرا. شابت بعده لمم الأقلام، وجفت غرر الكلام. قامت نوادب الأدب، وتعطلت حوالي الكتب. قد نضب ماء الفضل، وركدت ريح العقل، وصدئ رونق التبيين والبيان، وانثلم حد القلم واللسان.
ذكر موت الأولاد الصغار والكبار
بلغني خبر مصابك بالريحانة التي اختار الله لك المثوبة عنها، على المتعة بها. لما قوي فيه الأمل، عاجله الأجل، فكسفته أيدي الأيام، هلالاً استسر قبل التمام. أطلت التلهف على ظل عاجلته الأيام أن يكون فناء زائلا، وأكثرت التأسف على هلال فاجأته الليالي أن يصير بدراً كاملا. يا لهفي على غصن هصر قبل أن يورق، وكوكب أفل قبل أن يشرق. هلال استسر قبل التمام، وثمرة اجتنتها يد الحمام. فجعله الله أجراً مذخورا، وثواباً موفورا. كيف يستقر على الأرض وفلذته في بطنها، ويراجع الأيام ومهجته في كفها. يا أسفي على غصن مهصور بالموت، معصور في الترب. قد كنت فيه قوي الأمل، لو لم تطاولني يد الأجل، ومستحكم الرجاء، لو لم تغالبني يمين القضاء. تصورت حالك وقد أخذت من قبلك ثمرته، ومن نفسك زهرتها، ومن ناظرك قوته، ومن كبدك فلذتها. عارية سرك الله بمدتها، وأثابك عند ارتجاعها. فأبشر بعاجل من صنعه وإخلافه، وآجل من مثوبته وجزائه. لئن حرم الأجر ببدك، لقد كفي الإثم بعقوقك، ولئن فجعت بفقده، لقد أمنت الفتنة به. الرزء ما كان أوجع، كان الأجر عليه أوسع، وأنت وإن احتجت إلى الأولاد، فحاجتك العظمى إلى حسن المعاد. أسأل الله أن يجعل لوعة مفارقته، أنفع لك من فتنة مقاربته، وحسرة الرزية فيه، أجدى عليك من حبرة الإمتاع به.
ما يختص من ذلك بأولاد الملوك
كتبت والأحزان مستولية على الخلق والزمان، والأرواح متبرمة بالأجسام والأبدان. منذ أفل النجم الزاهر في أفق الملك وذوي الغصن الناضر من دوحة المجد، خوى نجم طلع في أفق الملك. وهوى بيد القضاء، عند انتهاء العمر، فاستوحش ربع مولانا بفقده، وذوى عود النجابة من بعده. على حين قويت فيه الظنون، وقرت به العيون. عرفت نادرة الزمان، في قرة عين الدهر، وثمرة فؤاد الملك، وقد خانت فيه يد الدهر واختطفته من حمى الملك وإنما نقله الله إلى جوار كرامته مثوبة بمولانا مقدمة، واعد له معوضة مسومة. وجعله فرطاً صالحا، ومتجراً رابحا. قد خبا ذلك الشهاب المضيء، وخوى ذلك الكوكب الدريء، فأغبرت وجوه النجابة، واستوحشت معاهد الإمارة.
ذكر احتضار الشبان
يا أسفي على فلان، وقد احتضر شبابه، ولم تغن عنه طراوته في العيون، وحلاوته في القلوب. قد احتضر فلان أنضر ما كان غصنا، واكمل ما كان حسنا، ما أتذكر إقبال شبابه مع اكتهال فضله، وجدة أيامه مع وفور عقله، إلا رأيت التعزي مستقبحا، والتسلي مستهجنا. يا لهفي على شباب مقتبل احتضر، وفضل مكتهل فقد، وجانب من المجد اختل وانتشر، ونجم من فلك الفخر هوى وغرب. قد اخترم عنفوان شبابه اختراما، نبهنا من سنة الاغترار وهدانا لوجه الاعتبار. انتقل إلى جوار ربه نقي الصحيفة من سواد الذنوب، بري الساحة من درن العيوب. لم تطل في الدنيا مدته، ولا اسودت في جرائدها صحيفته، ولا علقت به أجرامها، ولا جذبته أشطانها، لكنه وردها نجيباً رشيدا، وانصرف عنها مهدياً سعيداً. قد صانه الاحتضار، عن ملابسة الأوزار، وحاطه الاخترام، عن مقارفة الآثام. لو كان هذا الحمام يبدأ بإدارة كأسه في الأسلاف، ويتجافى عن الأخلاف، لخفت أعباؤه، بل طاب لقاؤه، ولكنه يدنو فينا ويبعد، ويهتصر منا ويحتطب.
في التعزية عن الأب
قد أصبت من أبيك بمن لا لوم إذا بكيت عليه ملء الشؤون، ووجعت له مدى الظنون كذا. فالأب سماء مظلة، وارض مقلة، وأصل أنت فرعه، وشجر أنت غصنه، ولكن أدب الله أحرى بالاستعمال، من بواعث الرقة والانخزال. لو خير أبوك لاختار ما اختار له تقدماً بين يديك، وتعويضاً للبقاء إليك. إذ كنت مع عقلك وبصيرتك أبا، ولأهلك وعشيرتك نسبا. سد الله بك مكانه. وورثك عمره وفضله، وعوضك الأجر عنه، وأيدك بالعصمة بعده. بقي أن نجعل هذه النوائب عبراً تبصرنا العواقب، ونقول ما حال شجر أوهنت أصوله، ثم أخذت غصونه، وننظر في أصل البقاء، بعد فناء الآباء والأبناء، فنأتي ما فيه حصول النجاة، تخليصاً لهذه الأنفس من التبعات.
في التعازي عن الحرم
نبهت بموعظة، ورزقت ثواباً، وسترت عورة، وكفيت مؤونة. فعظم الله أجرك فيمن أمضى، وأخلف عليك الإمتاع بما أبقى. لا ستر أستر من أرض، ولا ختن أكرم من جنن. بهذا أتى الشرع، وعليه أجمع العقل والسمع. ستر العورات، من الحسنات، ودفن البنات، من المكرمات، وتقديم الحرم، من النعم، وقد قاسمتك الفجائع، فأعطتك أوفر الحظين، وساهمتك النوائب فوقتك أجزل القسطين، ورضي الحمام بأن يتخطى نجباء ولدك، وإن انتقص الإناث من عددك، فالشكر أوجب عليك، من الصبر أن تدعى إليه. إن كان الله قد سلب لمولاي ريحانة وروضة، فقد وعده في كتابه بشارة وصلاة ورحمة وهداية. قد كفيت مؤونة، وصنعت حرمة، وسترت عورة، وقدمت إلى الجنة بضعة، وبعثت على مقدمتك إلى الآخرة شفيعاً ووسيلة، ورجعت إلى شبابك مرحلة. فليس بشيخ من لا بنت له، ولو كان ابن مائة سنة، وليس بشاب من وراءه بنت ولو كان ابن يوم وليلة. طوبى لمن صاهره القبر وخطب إليه الدهر.
كتاب الإخوانيات
وما يأخذ مأخذها
ذكر المودة
مودة سكنت سواء الصدر، وحلت سواد القلب. مودة تلوح عليها غرر الخلوص، وتبدو فيها آثار الخصوص. مودة طالت بها المدة، واستحكم غرسها، وتمهد في القلب أسها. صحيفة ود يمليها علي الملوان، وأنطق فيها بلسان الزمان. مودة لا يضطرب حبلها، ولا ينحسر ظلها. ود سليم الصفحة، أملس الجلدة، مشرق السحنة، واضح الجبهة. مودة أدين بها عن خالصة النفس، وأودعها واسطة القلب، وأجمع عليها نواحي الصدر، وأحرسها عن لواحظ الدهر. قد اتخذنا المودة بيننا ديناً وخليقة، ورأيناها بين الناس مجازاً، فأعدناها حقيقة. صدر الود سليم، وطريق العهد مستقيم. ود انتهى الصفاء إليه وقد بلغ أقصاه، وعهد خيم الوفاء عليه فألقى عصاه. قد ملك مودتي عذارء، حين القلب فارغ، وحاز طاعتي بكرا، وظل الصبي سابغ. بيننا مودة تتصل مدتها، ولا تنقطع مادتها.
حسن المخالصة
لا أحول عن عهدك وإن حالت النجوم عن ممارها، ولا أزول عن ودك وإن زالت الجبال عن مقارها. عهدك سجير فكري، وودك سمير ذكري. عهد كعهده لا يميل، وود كحاله لا يستحيل. نفسي وقاء نفسك، كما صدري وعاء ودك، ولساني ناشر فضلك، وضميري وقف على عهدك. بيننا عصم لا تنقض، وذمم لا ترفض. الله يعلم أن مودتك شعار ضميري، والاعتصام بعهدك بنية معتقدي. نلي قلب قريح، حشوة ود صحيح، وكبد دامية، كلها محبة نامية.
لطف الحال وتشبهها بالقرابة
حال هي القربى أو أخص، وامتزاج النفوس أو أمس. الحال بيننا أربت على المودة والحرمة، وأرمت على المشاركة والخلة، وعدت في شواجر الرحم واللحمة، ومزجت الدم بالدم، والمهجة بالمهجة. المودة إذا استمرت قواها، واستحصفت عراها، لم تبعد أن تزيد على الرحم وقرباها. قربي لا كقربى خالصة الوداد، ولا رحم أصدق وأدنى من صدق النية والاعتقاد، وبيننا من ذلك ما يضمنه الدوام والتأبيد. وتفتقر إليه القربات والمواليد. رب طارف مودة يفوق في الخلوص والصفاء، منازل التشابك في القربى والإخاء. المعرفة عند الكرام ذمة، والمودة لحمة. زاد في أمري على ما يبلغه الأخ وابن العم، والمتناسبون باللحم والدم. صورته لدي صورة الأخ، ووده أرسخ، ومحله محل العم، أو اشتراكة أعم.
الاختصاص والاتحاد
محبة لا تتميز معها الأرواح، إذا ميزت الأشباح، ومخالصة لا تتباين بها النفوس والمهج، وإن تباينت الأشخاص والصور. نحن كالنفس الواحدة لا تجزؤ ولا انقسام، ولا تميز ولا انفصام. النفوس ممتزجة، ولأملاك مشتركة، والنعم متفاوضة، وذات البين صافية، ودخائل الصدور خالصة. نحن نرتضع لبان الممازجة، ونأوي إلى ولاء المودة، ووراثة الإخاء والمشاركة، أرى به القمرين، وأعده ظهيراً على الملوين، ولا أعظم كحق مودته حقا، ولا أرى بين النفسين فكيف بين المالين فرقا. أنت جار مني مجرى أبعاض جسمي وأعشار قلبي. أنت جزء من نفسي، وناظم شمل أنسي. أنت تحل مني محل العضو من الجسد، واللب من الكبد. فلان يعز علي، يكبر لدي، ويحل مني محل عيني ويدي. أنت مني كالعين الناظرة التي تصان عما يقذيها، واليد الباطشة التي تحفظ مما يدويها. هو شقيق روحه، وعديل حياته، وشريك دولته، وقسيم نعمته. ما زال مستودع سري وجهري، ومشتكى بثي وحزني. هو مني بمنزلة الولد، والعضو من الجسد. قد أحله الله مني محلاً بعيداً في رفعته، قريباً في أثرته.
المنادمة والمؤانسة
له مدخل في المداخلة، يثبت في مواقف الأنس قدمه. هم إخوان كما انفرج المشط وندماء كما انتظم السمط. إذا اعتقت المنادمة، صارت نسباً دانيا، وكانت رضاعاً ثانيا. العشرة رضاع تثبت حرمته، والمودة لبان تلزم ذمته. قد تقلبنا في أعطاف العيش بين الوقار والطيش، وارتضعنا ثدي العشرة، إذ الزمان رقيق القشرة. كلفة الود هنية، وفروضه متعينة وأرض العشرة لينة، وطريقها بينة. أفضنا في العشرة، من القشرة. انسي به أنس من نشد الضالة فوجد، وناهض الأمل فبلغ ما قصد. المرء مقيس بقرينه وسميره، ومحمول على حكم جليسه وعشيره. إخوان متوافقون، قد تطابقوا في الآراء، وتآلفوا في الاهواء، وتمالحوا في الطعام، وتراضعوا بالمدام.
التودد والافصاح عن صدق المحبة والموالاة
أنا اتهم عليك عيني وإن كنت لا أتهم قلبي. وأرضي لمودتك نيتي، وإن كنت لا أرضى لها طاقتي. أنا ما غبت كالمضل الناشد، وإذا رجعت فكالغانم الواجد. أنا أودك بأجزاء قلبي، وأحبك من سواء نفسي. لا مرحباً بعيش أتفرد به عنك، ويوم لا أكتحل فيه بك، ووددت أن أضرب بحضرتك أطناب عمري، وأنفق على خدمتك أيام دهري. لا أزال أحن إليك، وأحنو عليك. يا ليت قلبي يتراءى لك، فتقرأ فيه سطور ودي لك، وتقف منها على رأيي فيك. إني لآسف على كل يوم فارغ منك، وكل لحظة لا تؤنسها برؤيتك. يعز علي أن ينوب في خدمتك قلمي، قبل قدمي، وخطي دون خطوي، ويسعد برؤيتك رسولي، قبل وصولي، ويرد مشرع الأنس بك كتابي قبل ركابي. أنت من لا يسافر ودي إلا إليه، ولا يرفرف طير محبتي إلا عليه. لو التبست بك التباسا، يجعل رأسينا رأساً، ما زدتك ودا. ولو حال بيني وبينك سور الاعراف ما نقصتك حبا. قد ملت إليك فما أعتدل، ونزلت بك فما أرتحل، ووقفت عليك فما أنتقل، مسكنك الشغاف وحبة القلب، وخلب الكبد وسواد العين. أنت سابق الإخوان البررة، وصاحب بيعة الرضوان والشجرة. أنا أتصبح باسمك، وأتفأل بذكرك، وأحلم بوجهك، واحتلب ضرع الشعر بذكرك. أنا أعد نفسي بعض إخوانك في العدد، وأفوقهم بالتودد. ما في نفسي بقعة أعمر من محلك، وأنضر من مسكنك، ولا في قلبي مكان إلا موشي بذكرك، مطرز باسمك. المحبة ثمن لكل شيء وإن غلا، وسلم إلى كل شيء وإن علا. أنا والله أجتني قربك، وأجتوي بعدك. دوري، هي دورك وحللك، ووكلائي هم وكلاؤك وخولك. والله ما تظل الخضراء، ولا تقل الغبراء. عبداً هو أشد مني لك محالفة، وأقل مخالفة. عهدي لك أكرم العهود، ووفائي لك وفاء العرق للعود. أسباب المودة بيننا موصولة، وطرق الإخلاص عامرة مأهولة.
العبودية والخدمة
عبده حقا، ومملوكه رقا. عبده الصريح، وخادمه المشيح، ووليه النصيح. عبده الذي سبق له رقه، ولا يجوز بيعه ولا عتقه. ستجدني متصرفاً مع أمرك حتى تقول خادم، وطوعاً ليدك حتى تقول خاتم. هو له المملوك والوكيل المكترى، والعبد المخلص، والخادم المتخصص. ما أنزع عن عنقي رباق الرق، ولا أخرج إلا اتساع العتق كذا.
المناسبة بالعلم والأدب والمذهب
كلمة الأدب جمعتنا، ولحمة العلم نظمتنا. قد اشتركنا في العقيدة، واستهمنا في السريرة. فأكثر من تراه من إخواني، بنو علات أنا وهو من بني الأعيان الأدب نسب واشج، والعلم سبب ممازج. الأدب أقرب الأنساب، والعلم أوكد الأسباب، الشكول أقارب، وإن تباعدت بهم المناسب. فرحة الأديب بالأديب، كفرحة المحب بالمحبوب، والعليل بالطبيب.
وصف الشوق
الشوق إليك سمير ذكري، ونديم فكري. شوقي إليك زادي في سفري، وعتادي في حضري. شوق لا يعد عليه صبر، ولا يستقل به صدر. شوق يكاد يكون لزاما، ويعد غراما. الشوق إليك أمامي وورائي، وحشو ثوبي وردائي. شوق جرح جوانحي وجنح على جوانحي. شوق استخف نفسي واستفزها، وحرك جوانحي وهزها. شوق قد استنفد جلدي، وملك خلدي شوق لو أعلجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلي لا نثني على كبد ذات حرق ولواعج. شوق تركني أرى الصبر حسرة، والوجد يمنة ويسرة. شوق يتلهب في الأحشاء قدحه، ولا يبرح الجوانح برحه. قلبي على جمرة الغضا يتقلب، وكجناح الطير يضطرب. شوق لو خوف المجرمون بحره، وتوعد المشركون بجمره. لما عبد صنم، ولا نقلت في الضلال قدم. شوق يجيل قداحه، ويديم اقتداحه. شوقي إليك شوق الروض إلى الغيث والملهوف إلى الغوث.
سوء آثار الفراق والاشتياق وما يتصل بذلك
حالي بعدك حال عود ذوى بعد ارتوائه، ونجم هوى بعد اعتلائه. ما حال ذاوي نبت أمسك مطره، وساري ليل غاب قمره. قد تركني فراقك وأنا أشتاقك، وغادرني بعدك، أقاسي بعدك. قد تحملت مع يسير الفرقة عظيم الحرقة، ومع قليل البعد، كثير الوجد. قد أثنيت بجسم ناحل، وبت من صبري على مراحل. فارقتني فأرقتني، وفرقت جمع صبري، واستصبحت فريقا من قلبي. فارقتك وقد تفرق عني شمل أنس منتظم، وتمكن مني برح شوق مضطرم. فارقتني ففرقت بين الروح والبدن، وتركتني والنزاع في قرن. ما فارقتك بعيداً، حتى أصحبتك من نفسي فريقا، ولا سرت ميلاً حتى مال صبري جميعا. فارقتني ففرقت بين جنبي والمهاد، وجمعت بين عيني والسهاد. من شاهدني شهدت له حيرتي، دون محاورتي بما ألاقيه، وأخبرته عبرتي، دون عبارتي عما أعانيه. ما أعول إلا على العويل لو كان يغني، ولا استنصر غير الوجد لو كان يجدي. لولا حصانة الأجل، لخرجت روحي على عجل. قد صرت حليف وحشة وإن كنت ثاوياً في وطن. وقرين كربة وإن كنت بين جيرة وسكن. لا آنس بسكنى دار عنك بعيدة، تولا أستوطنها وهي منك غير قريبة.
ذكر الوداع
أودعتني إذ ودعتني شوقاً يجور حكمه، وقلقاً ينفذ سهمه. قد ودعت بوداعك العافية، وفارقت مع فراقك العيشة الراضية، لا أقول إنه بان مني بينك سيد وعضد وعميد وسند، ولكني أقول ودعت أيام وداعك دنياي التي كنت أستمتع بها، وحياتي التي كنت أنتفع بعوائد النعم معها. ودعت بوداعك الدعة، والروح والسعة. ملكتني حرقة تتغلغل بين اللهاة والتراقي، وخنقتني بوداعك عبرة تتحير بين الجفون والمآقي.
تذكر أيام اللقاء وصفوها
يا أسفي على غفلات العيش، ولحظات الأنس. إذ ظهائرنا أسحار، وليالينا نهار، وشهورنا أيام، وسنونا قصار. يا أسفي على رداء من الأيام دقيق ما لبسناه، حتى خلعناه، وروض من الزمان مريع، ما حللناه حتى فارقناه. أيامنا والدهر غافل، والباع قاصر، وروض التلاقي ناضر، حين الدهر غلام، والحلم حرام. كانت أيامنا من غرر العمر، وغرر الدهر. كيف أنسى تلك اللمعة من عمري، والصفوة من شربي، وهما غرة في أدهم، وشهاب في ليل مظلم. سقى الله أياماً لو كان دهري عقداً كانت واسطته، أو كان عمري جيداً لكانت قلادته. أيامنا وطرف البعد أرمد لا يطرف، ويد الزمان مغلولة لا تعسف. أيامنا، والدهر كال المنسر، لين المكسر لا يسود اعتنانه، ولا يجمع عنانه. أيام طابت مشارعها، ولانت أخادعها. أيام في عود النوى خور، وليال في باع الدجى قصر. أيام حسنت فكأنها أعراس، وقصرت فكأنها أنفاس. أيام مغم رياها، وطاب جناها، وصفا نسيمها، وخلص نعيمها، وقد خفض الدهر جناحه لنا، ولين الزمان مهاوة بيننا، نأخذ ما نشاء وندع، ونلعب كيف شئنا ونرتع، أيامنا التي حازت أيام الشباب حسنا ورقة، وفاتت أعلام المطارف لينا ودقة، التي تخجل خدود الرياض وتفضح حواشي الحلل، وساعاتنا التي هي ألطف من مسارقة النظر، ومخالسة القبل.
الأدعية الاخوانية
أعادنا الله للإلتقاء فما أرق نسيمه، وألذ نعيمه. أسأل الله أن ينتقم من أيام النزاع، برد أيام الاستمتاع بالاجتماع. جمع الله شمل سروري بك، وعمر عمري بالنظر إليك، وجعل باقي عيشي معك، والله يطيل مدتك، ويحرس مودتك، ويصل جناحي بما ينشره عليك من جناح العز، ويمد على ساتك من ظل الكفاية والوقاية. أغناك الله عن إخوانك، ولا أغناهم عنك. إن من أباح لي ودك وهو أكرم موهوب، قادر على أن ييسر لي قربك وهو أنفس مطلوب. لا وكل الله إلى الزمان ما جمعنا عليه من إخاء ومصادقة وصفاء ومخالصة فتبعث بنا أحكامه، وتعيث فينا أيامه. أعاذ الله سيدي من الأسواء، وسقى ربعه غرر الأنواء.
ألفاظ الجواب عن شكوى الشوق
شكوت الشوق فكأنما عبرت عن قلبي، وقرأت وصفه من صحيفة ودي. ذكرت يا مولاي الشوق فهيجت ما يهيجه تغريد الأطيار بالأسحار، والوقوف بعد الأحباب على الديار. أما ما شكاه مولاي من الشوق واستطالة سلطانه، والبين واستطالة زمانه. فهو عبارة أحشاي لو نطقت، وتعبير رؤياي إذا صدقت. أما ما شكوت من الشوق فأحلف بالله إنك صادق فيه، مستغن عندي عن إقامة شاهده، بما أجده من مثله. أما شكوى الشوق فقد شكوت إلى شاك، وتوجعت إلى متوجع.
اهداء السلام
أهدي له السلام غصنا طريا، وورداً جنيا، وأحمله أنفاس الشمال. فطالما ترددت بين محب ومحبوب، واستودعه نسيم الصبا، فنعم السفير بين شائق ومشوق. سلام كأنفاس الأحباب، وأيام الشباب. فلان مخصوص بالسلام الراهن، كما هو مخصوص بالمحاسن. سلام عليه ملء عراصه، وتحية بحسب إخلاصي وإخلاصه. أخص من السلام بأوفر الأقسام، وأجزل السهام، وأستديم الله مدته بقاء الليالي والأيام. أخصه من السلام بما يضاهي محاسنه كثرة، وأشكو قلقاً لفراقه وحسرة. سلام كأيامي عنده نضرة، وأياديه عندي كثرة. أهدي له من السلام عدد محاسنه ومعاليه، وآثاره الحميدة ومساعيه. أهدي له من السلام ما يفوت العد، ولا يقف عند حد. سلام عليه كأخلاقه العذاب، ومحاسنه الرحاب.
ذكر العتاب
العتاب جلاء للمودة، وصيقل للأخوة، يستثار رونقها، ويستخرج فرندهما. بيننا عتاب جحطة، كعتاب لحظة. من منافع العتاب إنه يطري خلق الود، ويجلو غبرة العهد، ويداوي أدواء القلوب، ويترجم عن خفيات الغيوب. العتاب حديقة المتحابين. وروضة المتصافيين. العتاب نعم الدواء إذا عرض في الود داء ولكنه إذا لم يصادف العلة، أفسد الصحة، ومعاتبة البريء والسليم، كمعالجة الصحيح غير السقيم.
شكوى الاعراض والجفاء وسوء العهد
قد رميت بسوء إعراضه، ونصبني جفاءه أقرب أغراضه. صرت عندك من محا النسيان صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك. ادرجتني في أثناء الغفلة، وطويتني في أدراج الجفوة. نسيتني وما كان من حقي أن أنسى، وطويتني في صحف إبراهيم وموسى. بعتني بيع الخلق، وليس فيمن زاد، ولكن فيمن نقص. أظن الدهر قد فطن لصفائك فكدره، واهتدى لإخائك فأفسده. قد هجرني هجرة مرة، وقطعني قطيعة فظيعة. أنت تتذكر إخوانك مع أهلة الأعوام، وتظهر لأصدقائك مع ظهور الإمام. أأنزلت عليك في الصدود آية? أم رفعت لك في النبو راية?. فلان على قدر علو سنه، انخفاض وده. وبحسب عبالة جسمه، نحافة عهده. قد تركني بدار ضياع، ومدرجة اتضاع. أدرجني في أثناء الغفلة، كما طوي ثوب على غرة، وأهملني إهمال النسي الذي نهي عن ذكره، صد صدود المخمور عن الخمر، وأعرض إعراض الغواني عن بياض الشعر أراني كلما بعدت صحبة، رجعت ركبة، وكلما طالت خدمة، قصرت حشمة حر شوقي لا يصبر على برد جفائك، ورقة قلبي لا تقاوم غلظة إعراضك. كأن الزمان يستملي أنواع الجفوة من طبعك، ويستقي أصناف القسوة من بحرك لا أدري هل أشكوك إلى الدهر أم أشكوه إليك? فإنكما في قطيعة الصديق رضيعا لبان، وفي استيطاء مركب العقوق شريكا عنان.
سائر ألفاظ العتاب والاستزازة
لا يكاد خيالك يغبني نوما، فما لكتابك لا يسرني يوما. أنت سخي بمالك على من يطالبك. بخيل بكتابك، على من يكاتبك. تتوسع في ألوف فتضايق في حروف. قد طواني منذ نشرته، وجفاني حين بررته، وترك أن يطالع بحرف، أو يطيل المودة إلا على حرف. إن لم يكن لنا مطمع، في درك درك، فاعفنا من شرك. في الأرض مجال إن ضاقت ظلالك، وفي الناس واصل إن رثت حبالك. كنت أحسبك تهتز إذ لوحت فصرت ترتز وإن صرحت. قد قام بيني وبين أصلك حاجز من فعلك، سيستحي لك فضلك من فعلك، وكفى بك نائب عني في عدلك. هنيئاً لك من حمانا ما تحله، ومن عرانا ما تحله، ومن أعراضنا ما تستحله. أين يا سيدي ذمار العشرة، وذمام الصحبة. أتميل عمن يميل إليك، وتصرف وجهك عمن وجهه لك، وتولي عمن قبلته أنت. هذا الفناء خصب المراد، فما بالي فيه عسر المراد، وتوفر مولاي على غير مستزاذ، فما بالي حصلت على غير زاد. ما بالك تبخل علي بالألف من خط قلمك، وتجود على سائليك بالألف من كرمك، وتناقشني بالسطر من حوارك، وأنت تسامح الإخوان بشطر يسارك.
وصف العتاب عند الجواب عنه
عتاب سماؤه تمور، ومراجله تفور. تعتاب يهز الفوارع، وتقريع يحكي القواريع. قد قرع سمعي من عذله، ما جاوز خفق الرعود، وصك قلبي من توبيخه. ما أنسى زئير الأسود. وصل كتابك بعتب كالعضب، وملام كالحسام. عتاب يفلق الحجر، ويقطع الماء العد. عتب مقانبه تكر كرة الأقدار، وعذل كتائبه تصول كالفلك المدار، حتام هذا التوبيخ والتهجين والعتاب الهجين. وصل كتابك الذي كله عتب وليس ذنب، وعذل وليس عدل، وتقريع وليس تضجيج، وتأنيب وليس تثريب، وتظلم وليس تألم وشكاية وليست نكاية.
لبس الصديق على علاته والاغضاء عن هناته
قاربته إذا جاذب، وواصلته إذا جانب، وشربته على كدورته، ولبسته على خشونته، وكاتبته أستمد وداده، وأستلين قياده، وأستميل فؤاده. قد تركته بعرة، وطويته على غرة. جررت أذيال التغافل دون فرطته، وسترت بأجنحة التجاوز على سقطته. أعرته أذناً صماء وهي سميعة، وعيناً عمياء وهي بصيرة. سحبت عليه ذيل التغافل، وغضضت دونه طرف التساهل.
وصف الغيظ والحرد
اضطرب واضطرم، واحتد واحتدم. جاء بأوداج لا يسعها الزران، وعيناه في رأسه تذرانه. فلان يتصلى بنار الصبر ويتصلب، ويتلقى على جمر الغيظ ويتقلب. يفور غيظا، ويتميز حقدا، ويتلظى غضبا، ويتزيد حنقا. غالب غيظه وهو يغلبه، وكظمه وهو يشغله. قد التهبت جمرة الغيظ في صدره، ونطقت ترجمة الحقد عن عينه. يغالب نفسه على الغضاء، ويتلوى تلوي الحية في الرمضاء. فلان غضبان حتى ما تنفع فيه حيلة، ولا تصلحه رقية، ولا تهزه نادرة، ولا تبسطه مضحكة. إن أقبلت عليه أعرض عني، وإن حدثته ازور عني، وإن قبلت في عينه دفع في صدري.
الاعتذار والاستصفاح والاستعطاف
الكريم إذا قدر غفر، وإذا أوثق أطلق، وإذا أسر أعتق. قد هربت منك إليك، واستعنت بعفوك عليك، فأذقني حلاوة رضاك عني، كما أذقتني مرارة انتقامك مني. الحر كريم الظفر. إذا نال أقال، واللئيم إذا نال استطال. قد هابك من استتر، ولم يذنب إليك من اعتذر. تكلف الاعتذار بلا زلة، كتكلف الدواء بلا علة. لا تضيقن عني سعة خلقك، ولا تكدرن علي صفوة ودك، مثل بين يديه، وأذرى مطامع الاستعطاف لديه. إذا شاهدت تلك الشمائل لم تهب بيننا شمال موجدة، ولم يسكب علينا سحاب معتبه. مولاي يوجب الصفح عند الزلة، كما يلتزم البذل عند الخلة. مولاي يوليني صفحة صفحه، ويوليني العفو من عفوه. مالي ذنب يضيق عنه عفوك، ولا جرم يتجافى عنه تجافيك وصفحك، قد زللت وقد يزل العلم الذي لا أساويه، وعثرت وقد يعثر الجواد الذي لا أجاريه. ينبغي أن يكتفي في من التأديب بما لا يتجاوز حد الإصلاح والتهذيب. العفو عن المجرم من مواجب الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم. أعيذ مولاي من أن يغلط وقد لاطفته، ويقسو وقد استعطفته.
ذكر العذر الضعيف النافذ
هذا عذر إن كنت عولت عليه، واسترحت إليه. فقد قطع بك وقت الحاجة قطعك في موقف المحاجة. عذرك ما زال ينقبض فأبسطه، ويقلق فأمهده ويتأخر فأقدمه، ويعثر فأنعشه. تلقاني بعذر كنار الحباحب، ونسج العناكب. عذر يتعذر قبوله، ويتلاشى محصوله. عذر متضائل الشخص، تلوح عليه سمة النقص. هذا عذر منمق، واحتجاج ملفق. كم هذا التعثر في أذيال المعاذير، والتعلق بأسباب المقادير. معاذير تتعثر في أذيالها، وتنكص على أعقابها، وتطمس وجوهها على أدبارها، وترد رؤوسها إلى أذنابها. عذر لكنه لسان الزور، وحاكته يد الغرور. أتاني عذر يتعثر في ذيل الخجل، ويتلقع بقناع العي والوجل. عذر لم يتول الحق نسجه، ولم يوضح الصدق نهجة.
ذكر القبول المعذرة وزوال الوحشة والموجدة
قد نزع الله ما كان في صدري من غل، وجعلت فلاناً مما سلف في حل. قد انطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، وزال سكر الغيظ، وسكت لسان الغضب. كم ناب بعطفه أناب، ومزور بجانبه تاب. وصل فلان حبل الأخوة، ورم أسباب المودة، وطوى بساط الوحشة، وطرى ما كان ينهج من ثوب الثقة. قد رأيت بأن أطوي بساط الوحشة، وأخفض عماد النبوة، وأخرجه وأخرج معه عن ضيق المناقشة، إلى فسحة المسامحة، وعن حزونة المعاسرة، إلى سهولة المعاشرة. قد زال عتبنا، وانقطع ملامنا، وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا. قد انطفأت نار عتبه، وسكنت شقشقة سبه. أما سورة الغضب فقد بردت، وفورة الغيظ فقد خمدت. أما العذر فقد تصرفت منه فيما لو أتى الدهر بمثله، لصفح عن صروفه، وأمن المحذور من مخوفه. لا جرم أنه عفى معالم الجرم، ولم يبق من العتب على رسم ولا اسم.
أخر كتاب الإخوانيات وما يأخذ مأخذها، ولله الحمد والمنة
كتاب السلطانيات
وما يأخذ مأخذها
ذكر الخلفاء
قد خصه الله بشرف الولادة، وحاز له إرث النبوة، وبوأه محل الخلافة، واسترعاه أمر الأمة. لا دنيا إلا به ومعه، ولا دين إلا لمن تولاه واتبعه. قد اجتباه الله لوراثة الرسالة، وجعل طاعته فرقاً بين الهدى والضلالة، وجعل آيته الكبرى، ورايته العليا، إذ كان راعي دين الله وإمامه، ووارث علم رسول الله ومقامه. كافل الأمة وراعيها، وسائس اللة وحاميها. سليل النبوة، وعقيد الخلافة، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه در الغمام، إن شاء الله شفع النبوة بالخلافة إكمالاً للرحمة والرأفة، وقرن الرسالة بالإمامة نظراً للخاصة والعامة. قد حاز الله لمولانا أمير المؤمنين مواث آبائه الراشدين الذائدين عن حوزته، اللاحنين بحجته، العامرين لبلاده، الراعين لعباده، الآمرين بما أمر، الناهين عما خطر. مولانا كفو الملك، وكافي الخلق، ورب السرير، ورب التدبير.
ذكر السلطان وطيب ثمرة من والاه وسوء مغبة من ناواه
السلطان ظل الله في أرضه، والمؤتمن علي حقه، واليد المبسوطة على خلقه، يرحم ما وسعت الناس النعمة، ويعاقب إذا أصلحتهم النقمة، عالماً أن الله قرن وعده بوعيده وثوابه بعقابه منحة سابغة، وحكمة بالغة. السلطان زمام على الملة، ونظام للجملة، وجلاء للغمة، ورباط للبيضة، وعماد للحوزة. من عصى السلطان فقد أطاع الشيطان. السلطان يدافع عن سواد الأمة. وبياض الدعوة. من شايعه حمد يومه وغده، ورعى من العيش أرغده، ومن نابذه كان في الأشقين مكتوبا، وللغم واليدين مكبوبا. ما يلجأ إليه لاجيء إلا سعد جده، وورى زنده، ونفذ حده، وزاد على يومه غده، ولا يفارق الاعتصام بحبله مفارق إلا حالفه الحسران، وعانقه الخذلان، ورصدت له المنون، ولمحته الحرب الطحون.
العدل وحسن السيرة
سطعت مصابيح العدل وأنواره، وطلعت شموس الأمن وأقماره. قد أحيا سنن العدل، وأمات سير الجور فحمى الدين المنيع، وجناب الملك مريع. قد بسط لرعيته فراش العدل، ورد إليهم رياش الفضل. قد أنام الأنام في ظل عدله، ووسعهم بإحسانه وفضله. رعيته نيام نوم الأمنة، وسكارى سكر الثروة، ومتكئون على فراش العدل والنصفة، في يده خاتم عدل، وفي حكمه صارم فصل. نفوس الرعية في ظلال السكون وادعة، وفي رياض الأمن راتعة. أقلعت غمائم الشر في أيامه، وانقطعت سمائم الظلم بأحكامه. برزبه الحق في أحسن ملابسه، ونجم العدل في أزكى مغارسه. أطلع كوكب العدل وكان خافياً، فأوضح مذهب الأمن وكان عافياً.
حسن السياسة وتصريف أعنة المملكة
قد صرفهم بين ميعاده، وخشونة إبعاده، وأراهم بريق حسامه، مشفوعاً ببروق إنعامه. صرفهم على ما هو لشمل الدين أجمع، ولكلمة الضلال أقمع. مستقر في ذروة عزه، مستقل بأعباء ملكه. يتصرف للسياسة بين رفق من غير ضعف، وخشونة من غير عنف، على بلاد مملكته، من حسن سياسته. حرس تتبع المرقة بشهب الإرداء والإتواء، ورصد يعقب الفسقة برجوم الإبادة والإفناء. لا يدع الفساد يسري، وداء الضلال يستشري. قد عود في ممالكه الحياطة حتى لا يحل حرامها، ولا ينفذ سوامها، ولا تذعر جوانبها، ولا تدب عقاربها. قد بسط ظله على النهار حتى لا تشب نوائبه، وعلى الليل حتى ما تدب عقاربه. رعاها وهي ثغر يراع، وحماها وهي سرح يضاع، هو علم في العلم بالسياسة، وجامع مصلحة العامة إلى مصلحة الخاصة.
يمن النقيبة
قد عظم الله على الناس المن، وبسط بمكانه عليهم الإمن، وعرفهم بطلعته اليمن. أولياؤه منه بين ظل ممدود، ونجم مسعود. قد أهدى إلى البلاد أمنا، وقد خيم فيها الذعر، وأستحفظ على البلاد خيراً، وقد حوم عليها الشر. أيامه تشرق إشراق الصبح اللامع، وآثاره تضيء القمر الطالع. جرى مجرى الغيث إذا عم وطبق، وقرن الشمس إذا ذر وأشرق، حل محل الغيث عند اللذبة، والغوث عند الكربة. أفاض الخير ودواعيه، وحسم الشر وعواديه.
اتساع المملكة والإستظهار بالرجال وكثرة الأموال
قد أوجد الله ثروة من الذخائر والأموال، وكثرة من الرجال والأبطال، استظهاراً بكل ما أقام من دين الله أودا، أو هاض من عدوه جناحاً ويدا، قد ألقت إليه الدنيا أزمتها، وملكته الأرض أعنتها. قد وطأ الله له مهاد الملك، وأعطاه مفاتيح الأرض لانت له أخادع البلاد، صفت له الدنيا بحذافيرها، ودانت له الجيوش بجماهيرها. قد أعلى الله كلمته، ورفع حكمته، وأعلى يده وجنده، وجمع أسباب السعادة عنده، قد ملكه الله أقطار بلاده، ونواصي عباده، قد عود دولته ثبات الأركان، وتظاهر العز والسلطان، واستظهار الأنصار والأعوان. بنود مرفوعة بالنصر، وجنود كعدد القطر وأموال ككثبان الرمال، وذخائر أملاء الهمم والآمال.
ذكر الملك المعظم النصر السعيد الجد الميمون الطالع
لان أمره كل متصعر، ودان لحكمة كل متوغر، واستجاب لإرادته ما ارتاد، وانضاف إلى مملكته ما استضاف وازداد. سعادته تستخدم الأقضية، وتعيد الدروب أفضية. أفضى به فتح إلى فتح، وقضى الله بنجح إلى نجح، ووزع منابذيه بين أظفار الدهور، وقسم مخالفيه كأعشار الجزور. البلاد تتزاحم على قصده، والفتوح تتسابق إلى يده. صولته سيان عندها المفاتح والمغالق، والمندح والمضايق. سعادته تدع الدروب صحاصح، وتذر البحور ضحاضح. هو من يخدمه النصر والنصل، ويقدمه القضاء والفصل. لو رقى إلى الفلك حتى يتناول السعدين بيديه، ويطأ النحسين بنعليه، لكانت همته تعدو عدة بأزيد من ذلك وأكثر، وأعلى وأفخر. ما يهم بأمر إلا انفتح رتاجه، وهان علاجه ولان شديده، وقرب بعيده. لم ترد له قط راية، ولا فاتته من مطالبة غاية. مخاطب من تفضل الله بألسنة الظفر، موعود في مناوئيه بتصاريف الغير. ما يتعذر على أمره معتاص، ولا يكون عن رأيه مناص. العز شامل، والتمكين متكامل، والعدو مذال، والولي مدال. قد ساق الله إليه عظائم المناجح والمنائح، وكتب له في صحائف النصر بأقلام الصفائح. السعادات إلى حضرته تتوالى توالي القطار، وتعم كافة العراص والأقطار. الملائكة جنوده، والخادثات عبيدة. آراؤه مفاتح كل فتح، وراياته ضوامن كل نجج.
اصلاح المملكة وإحسان الآثار وتطبيب الأخبار فيها
أخمد جمر الفتنة، ومحا رسم الفرقة وجمع شمل الألفة أقام قناة الدين، ومد رواق الملك، وبسط باع العدل، وأطال عنان الإحسان. توفر على الأطراف فحرسها، وانتدب لآثار السوء فطمسها. لم يدع للباطل علماً إلا وضعه، ولا ركناً إلا ضعضعه. أذكى من نور الحق ما خبا، وأنهض من نوء العدل ما خوي، وحاط من حمى الخلافة ما وهن ووهى، ثقف قناة الصلاح فلا تناد، وقطع مواد الفساد فلا تعتاد. حقن الدماء، وساس الدهماء، وأقبل على مصلحة الكافة، وبسط المعدلة والرأفة. كم مهم كفاه، وداء فساد شفاه، وجناح ضلال حصه، ورائش خبال عمه بالنكال وخصه. قوي كاهل الدين وساعده، ومهد أساس الملك وقواعده. قد حصل له من جزيل الأجر، وجميل الذكر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. رفع الله بمعاليه أعلام الإسلام، ودفع بمساعيه صواعق الأيام. اجتث أصول الضلالة وفروعها، وحصد نجومها وزروعها، وأبطل الباطل، وأحق الحق، وأحل النقمة بمن فارق العصا وشق.
ما يختص من ذلك بالوزراء وأرباب الدولة وأوليائها
سافر رأيه وهو دان لم ينزح، وسار تدبيره وهو ثاو لم يبرح. النجاح مقصور على تدبيره، والصواب مقرون بإمضائه وتقديره، فما قدم فعن عجز أمر حدثه به صدره، وما أخر فلعزم حزم تحقق لديه قدره. ورث ذاك المقام بحكم الإستحقاق الزائد، لا الاتفاق المساعد، والإستئثار بالمحامد والمناقب، دون الإيثار بالهوى الغالب. سهل المتعذر، وذلل المتوعر، وأنال البعيد، وألان الشديد. هدى إلى إجهاد النفس في المصالح، ووقفها على سبيل المراشد والمناجح، واستيفاء الحق بأقصى الإستطاعة، وإعطاء له من غير إضاعة. هو بين صدع يشعب، وثأي يرأب، وشعث يلم، وشتات يجمع، وخرق يرقع، وذمام يؤكد، وعهد يؤيد، وثغر يسد، وعضد يشد، وعقير يؤسى، ومهجة تسحيى، وحشاشة تستبقى. هو بين نصح يؤثره، وجميل يؤثره. هو مدبر الأمر ومقدره، ومورد الرأي ومصدره ليس قلمه إلا أوضح من السيف غررا، وأحسن من الذب عن البيضة أثراً، قلمه ناسج وشي مملكته، وناظم عقد دولته.
ذكر حضرة الملك وساحة السلطان
حضرته موقع الوفود، ومطلع الجود، حضرته ملقى الرجال، وقبلة الآمال مثابة المجد، وكعبة الملك. محط رحل الكرم، وغاية مبلغ الهمم. منزع المجد، ومطلع الفضل، ومرجع الأمل، وموضع الإحسان، ومربع الملك، وموقع الرجاء قد حط بأخصب ربع، وأقر به من زرع وضرع. حضرة ينصب إليها مواد الرغبات، وتنشد فيها ضوال الطلبات. مثابة الجود، ومطلع الوفود، وموسم الآداب، وموكب الكتاب. كعبة الأمل، وقبلة الطلب، والحاكمة ببلوغ الأرب، وحسن المنقلب. عرصه هي حضرة العدل، وساحة الفضل، ومقرع الشكر، ومصرع الفقر. مجمع الفضائل ومعدنها، ومرتع المحامد وموطنها. هي كعبة المحتاج، إن لم تكن كعبة الحجاج، ومشعر الكرم، إن لم تكن مشعر الحرم، ومنى الضيف إن لم تكن منى الخيف وقبلة الصلات، إن لم تكن قبلة الصلاة.
ذكر الوصول إليها والخدمة بتقبيل الأرض واليد
وصل إلى رواق العز، ومستقر الملك. حل بربع مانوس، وملك محروس، واستقر بساحة خضرة، وحصل على عيشة نضرة، مثل إزاء السرير، وأقبل على الأرض بالتقبيل. فرش الأرض بيديه فرشاً، ونقش التراب نقشاً. أقبل على أداء الفرض، بتقبيل الأرض. لما رأى قبلة الأمل، أقبل على الأرض بالقبل مسح الأرض بتعفيره، ووصل سجوده بتكفيره، قبل اليد العالية بالمكارم، الطاهرة من المآئم. قبل من أنامله مفاتيح الآفاق، وينابيع الأرزاق. قبل اليد التي هي قبلة القبل وكنز الأمل.
ما يقع في هذا الباب من ذكر العصاة والأعداء ووصف أحوالهم ونعت أفعالهم
البطر وكفران النعمة والضيم والإستيلاء
فلان قد أثرى فبغى، واستغنى فطغى. أرضته الموهبة فتسخطها، وشملته النعمة فغمطها. نعم ترتع في أكلائها، وتغفل عن شكر آلائها. ما زالت الأيام تكشف لنا مساويه، وغلط رأينا فيه، وتدل على أن الإحسان إليه يفسده بقدر ما يصلح من النجيب، والإنعام يضر فيه بقدر ما ينفع في اللبيب. انكشف عنه حسن الإصطناع، عن قبح الإمتناع، وكثرة البر، عن قلة الشكر أشر حين أنست وحشته، وغدر يوم صفت عيشته، جحد النعمة التي رفعته عن خمول، وغمط الصنيعة وقد أطلعته عن أفول. غمط النعمة التي أوجدته عن عدم، وحلته عن عطل. أساء مجاورة النعم فكفرها، وجلل صفحة الصنيعة بالغموط فأنكرها. لبس ثوب الخذلان، وجاهر بالبغي والعدوان، وقابل النعمة بالكفران. حسب أن الغنم في الكفران والكنود، وأن الثعالب تسطو في مرابض الأسود.
ركوب الهوى وطاعة الأماني الكاذبة والآراء الفاسدة
قد ركب أضاليل الهوى، وأباطيل المنى، وأحاديث النفوس الكواذب، ووساوس الآمال الخوائب، هيهات ما أضل ذلك من رأي وأسوأه من اختيار وأبعده من سداد وصواب، وأخلقه بعائدة وبال ونكال. يفتل في حبل المنى غارباً وذرى، ويخبط خبط العشواء سبراً وسرى. قدر أن مغمز رأينا يلين له، وأيدي انتصارنا تقصر عنه، فركب رأسه، وأطاع وسواسه. يتمنون الأماني الكاذبة، ويظنون الظنون الخائبة. وقد غرته نفسه، وكذبه أمله وحسه. حسب أنه يزاحم ليوث الشرى، بنعام القرى، وآساد الغابة، بأعيار العانة. تآمروا بنجوى الضلالة، وترددوا في كواذب الآمال. رعوا مراتع الظنون، ولم يروا مطالع المنون.
المداجاة والمراوغة في تربص الدوائر
قد طالت للدولة مداجاته، ودامت لأوليائها مماراته. يوهم طاعة يضمر خلافها، ويتربص فتنة يستدر أخلافها. ما زال يوهم وفاقاً، ويضمر نفاقاً، ويبذل صدق طاعة وولاء، ويسر حسواً في ارتغاء. قد تحلى بموالاة وموافقة لبسهما على مداجاة ومنافقة وتجلبب طاعة شاكر طائع، قد أفاضها على جثمان خالع. هو يوكيء على الغش عيابه، ويحنو على النكث ضلوعه وحجابه، ولا يبدي لنا بادية وفاق، إلا عن خافية نفاق، ولا يطلع طالعة وداد إلا عن خيبة عناد، ولا يبرز في شيمة من شيم التقرب إلى قلوبنا، إلا كانت غطاء على حيلة يعملها، وغيلة يرصد لها، وغشاء على فرضة ينتهزها، وغرة يهتبلها. طاعة تبدى صفحتها، وإن لم تخلص صفقتها، يظهر المعاضدة، ويبطن المعاندة. هو مضب على النفاق، معد للشقاق. يلقي الأولياء بوجه، والأعداء بقلب، ويكشر لهؤلاء عن بغض، ولهؤلاء عن حب. أظهر تسليماً يتخلله لجاج، وأبدى استقامة يكدرها اعوجاج.
تسويل الشيطان لمن يقرع باب العصيان
قد نعي الشيطان في آذانهم فاستجابوا لدعائه، وحسن لهم إسخاط سلطانهم فأسرعوا إلى ندائه. أوسعهم الشيطان تسويلا، واستهواهم تغريراً وتضليلا. نفخ الشيطان في سحره ومناخره، وضرب بالأسداد بين أوائل أمره وأواخره، وحبب له العناد حتى شيط بلحمه ودمه، وكره إليه الرشاد حتى ألقاه وراء ظهره وتحت قدمه. صافح الخذلان فغادره رهينا، وقارن الشيطان وساء قرينا. استزل الشيطان قدمه، وعرض دمه، وأطال ندمه، نزغ له الشيطان، وامتدت في الغي أشطانه، وجد الشيطان بينهم منزعاً، ولصائب سهمه فيهم منزعا. عاد الشيطان يسدي ويلحم في إلقاح الشحناء، ويسرج ويلجم في إلقاء العداوة والبغضاء. طاوع شيطانه إذ أظله، وزل معه حين استزله. قد انخرط في سلك، وأظهر كلمة العصيان. أبى إلا الامتداد عنانه، في الانقياد لشيطانه، واشتداد قواه، في الإستسلام لهواه.
ذكر الغي والبغي والتمرد وسائر ما يتعلق بخلال العصيان
أقام على الغي الذي هو له موضع، والبغي الذي هو فيه موضع. حلف على الموالاة فحنث، وعهد في المصافاة فنكث، وعلمت حال فلان في حينه وشقائه، وسفاهة عقله ورأيه ودخوله في ظلمة المعصية، وخروجه من نور الطاعة وركوبه المركب الذي لا بد أن يترجل راكبه، بل يتخذل فارسه. فلان قد عصى، وشق العصا، وخلع ربقة الطاعة، وفارق ظل الجماعة، جن وقلب المجن. عكف على استضلال الغواة، وصار مجناً دون الجناة. قد مد يداً قصيرة، ليتناول غاية بعيدة. فض ختام العافية بالعذر، وبدد شمل الخبر بقلة الشكر. قد شرب كأس الجهالة، واستوطأ مركب الضلاله، عاد زند شره قادحا، وفتي ضره قارحا. قد شملت معرته، وعظمت مضرته. راغ عن المذهب القويم، وزاغ عن الصراط المستقيم. أضله عماه، وزلت به قدماه. تسنم وعد الخطة العظيمة، وركب ظهر الفتنة الجسيمة. طار في ضلاله ووقع، وتاه في غيه وتسكع. انتطى ظهر الإغتراب، وأطاع داعي البوار ذهب في العصيان شر مذهب، وامتطى من الطغيان أصعب مركب. رشح أطفال الضغائن، وأحيا أموات السخائم، وأدب عقارب الشر، وأدر لقاح الجور، وأيقظ نائم الفتنة، وأوقد نار الحرب. قد نزت به نوازي البطنة، وهدرت على يده شقائق الفتنة.
في التعرض للهلاك واستجلاب سوء العاقبة
ذكرت حديث الباحث عن مديته، الأكل لديته، المتبرم بعمره، المنتهي إلى آخر أمره. تعرض لاحتلاب البلية، وتحكك باجتذاب المنية. ما هو إلا الفراشة دنت من التبار، فحامت حول النار، والنملة قرب اجتياحها، فنبت جناحها. قد ثنى إلينا عنقا أعنقت إليه الحتوف، وأبرقت نحوه السيوف. امتطى ظهراً لا ينجو راكبه، ولا يفضي إلى نجح صاحبه. فهو بين هلاك ويرهقه، وأشراك توثقه وتوبقه، يستعين بالأعناق المنتصبة، على السيوف الملتهبة. مثله في مخالفته طرائق الحزماء، وخلائق الحصفاء، مثل الفراش المتهافت في الشهاب، والنقد المتهجم على ليوث الغاب. قد خاطر بالنفس، وتصرف مع النحس. تهافت البق في الشهاب، وولوغ الذباب في الشراب. يترددون في مرابض الضراغم، ومكامن الأراقم. تردد القانص في مراتع الغزلان، ومسارح الظلمان. لا ينهاهم عن جيشنا زئير أسوده، ولا يصدهم عن حمانا دبيب سوده، ما هو إلا دريئة الرماح، وعرضة الحين المتاح فعل فعل الباحث عن مديته، المتعجل إلى انقطاع مدته، وطار في رأسه. ما أظنه يطيره عن جسده، ويقتطعه ليومه بالجهل عن غده. أعماه غليان دمه، عن موقع قدمه، وأغشاه اشتياق الحتف إلى قبضه، عن شمس أرضه، لم يدر أن عريسة الأسد، ليست من مراسم النقد. هم أغمار تناهت بهم الأعمار. هو أول جان على نفسه بيده، ومتعرض لهلاكه بجهده. فلان قد قرع باب البلاء، ووطيء ذنب الحية الصماء، ونطح برأسه الجبل، واستبطأ الأجل، وطرد العافية عن داره، وأنزل النحس في جواره، واستهدف لسهام الحيف، ومشى على حد السيف.
في ذكر الظلم وسوء آثارهم على العباد والبلاد
ظلم صريح، وجور فسيح، واعتداء قبيح. ظلم تراكمت مظالمه وظلمه واتصلت غمائمه وغممه. قد ملكته الهزة للظلم، وأخذته العزة بالإثم. بسط يده في المظالم يحتقبها، والمحارم يرتكبها، وإذا رأيت ثم أملاكاً مغصوبة ومنهوبة، ورعايا مأكولة ومشروبة، وضرائب ضربت الأموال بالتمحيق، والبضائع بالتمزيق. تلك البلاد تلتهب بجمرات ظلمه، وتنتهب ببدرات غشمه. فالحرم منتهكة، والرعية محتنكة. رعية مدفوعون إلى فقد الرياش، وضيق المعاش. قد أداهم الغلاء إلى والبلاء، والبلاء إلى الجلاء والإضافة، إلى الفاقة، وصارت الخصاصة فوضى بين العامة والخاصة، أمراؤهم عجزة قعدة، وكتابهم خونة مرقة، فالأعراض بينهم منهوكة، والأستار مهتوكة. والدماء مسفوكة، والأموال مجتاحة، والديار مستباحة، والحر بالعراء منبوذ، والوغد مكرم مصفود. أولئك قوم رضيعهم قد غذي بالعدوان حتى دب، وصبيهم ربي بالطغيان حتى شب، وشابهم قد تدرب بالظلم والفسوق حتى شاب، وشيخهم قد أضب على الإثم والفسوق حتى افترش التراب. بلاد معالم الحق فيها درست، وألسنة العدل بينها خرست، ورياح القتل والنهب هبت فلا تركد، وأشخاص الظلم والإثم مثلت فلا تقعد. جعلوا يغيرون ويبيرون، ويثيرون من الفتنة ما يثيرون. لا عن الدماء كفوا، ولا عن الفروج عفوا. ما الذئب في الغنم بالقياس إليه إلا من الصالحين، ولا السوس في الصوف في الصيف عنده إلا بعض المحسنين، ولا الحجاج في أهل العراق معه إلا أول العادلين، ولا فرعون في بني إسرائيل إذا قابلته به إلا من الملائكة المقربين. ما ترك لرعيته فضة إلا فضها، ولا ذهباً إلا ذهب به، ولا علقاً إلا اعتلقه، ولا عقاراً إلا عقره، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا غلة إلا غلها، ولا مالاً إلا مال عليه، ولا عرضاً إلا تعرض له، ولا حالاً إلا حال عليها، ولا ماشية إلا امتشها، ولا فرساً إلا افترسه، ولا سبداً إلا استبد به، ولا بزة إلا بزها، ولا خلعة إلا خلعها، ولا جليلاً إلا اجتله، ولا دقيقاً إلا دقه.
ذكر الهرج وكثرة الفتنة
رفعت الفتن أجيادها، وجمعت للشر أجنادها، وأطالت سواعدها، وأعلت قواعدها، وآل ناجمها قادحاً، وعاد جذعها قارحاً. نيران الفتنة تشتعل اشتعالاً، ورايات الهرج تخفق يميناً وشمالاً. في كل دار صرخة، وفي كل درب نعرة، وفي كل زاوية ظالم لا ينصف، ومظلوم لا يتنصف. فالنهار ليل بالدخان، والليل نهار بالنيران، ولم يبق من رسوم الإسلام غير شهادة الإيمان وإقامة الأذان. كم فشا فيهم من قتل ذريع، وضر وجيع، وهرب وجلاء، وضنك وبلاء، ونار مضطرمة، وفتنة محتدمة. كانوا كالغنم السارحة التي لا راعي لها، والإبل السائمة التي لا سائق معها. المملكة شاغرة، وأفواه الفتن فاغرة. قد شهروا سيوف الفتنة، وشبوا ضرام الخلاف والفرقة. قد كشفت الفتنة قناعها، وخلعت عذارها، فتحولت الرؤوس أذناباً، والعبيد اربابا، والغنم ذئابا. أصبحت تلك البلاد وهي قنا تشظى، ونار تلظى، وناس يأكل بعضهم بعضا. نعرت الفتنة، ووقعت العثرة، وماج الأمر، وجمح الدهر، وانخرط سلك الأمنة، وشالت نعامة السلامة، وانقطع شريان السياسة، وتمزق ثوب المعيشة، وقامت سوق الدعارة، وانجر ذيل السرقة. نواح معالم الدين فيها مضاعة، ودواعي الشيطان بها مطاعة، أدى ذلك إلى هيج الرعاع، وتحزب الأشياع، وتأمر الأذناب والأتباع. البلدة نيران تضطرم، وجمرات تحتدم بين فتنة ثائرة، واضطراب نائرة، وأهلها سوام بلا رعاة، وجند بلا حماة. فلان ناتج تلك الإجن ومؤثرها، وموقد تلك الفتن ومورثها. كم من فتنة شبها، وغارة شنها. قد ألهب الفتنة وأثقب جمرها، وأرث نارها، وتولى كبرها. هو الذي هاج تلك الفتن وأباحها، وأثار تلك الإحن وصار لقاحها. كاد الإسلام يضعف ركنه، والشرك يصدق ظنه.
التحذير والأنذار والأهابة إلى الرشاد
رأى مولانا أن يأخذ بسنة الإعذار، ويحذر عاقبة الإصرار، ويقدم كلمة الاستظهار، ويلقي إليهم الإنذار، قبل الإنكار. من انقاذ لحكمه، ووقف عند رسمه، فقد حمى روحه وماله وأهله وحاله، ومن أضرم في الفتنة ناراً، ورفع لها مناراً، فقد أباح من نفسه المحذور، ومن ملكه الحجر المحجور، ولحقه ما يتركه سمعة رادعة، ومثلة وازعة. من تعدى طوره، وتخطى قدره، فلا انقباض بعد توقيفه، عن تثقيفه، وبعد الإعذار إليه، من الإنكار عليه، لا يألوهم نصحا، قد اعترضتهم سنة الغفلة دون تمثله، ولا يجزرهم وعظاً، قد خامرتهم سكرة الغرة قبل تقبله. قد قدم النذر، ونبذ العذر، زمجرة الليل قبل الإفتراس، ونضنضة الصل قبل الانتهاس، وإنباض النابل للنذير، وإيماض السائق للتحذير ابصروا رشدكم، واعرفوا قصدكم، قبل أن ينتقل معكم عن إنقاذ الكتب إلى تسريب الكتائب، وعن توجيه الرسل إلى إرسال المقانب. إن جعلت المراوغة حجاباً، وأصدرت بالمدافعة جواباً، أبدلناك الحسام، من الأقلام، والأفواج، من الأدراج، ولم نرض بغير الرماح رسلاً تختلف، ولا بغير السهام وسائط تتردد.
في العمى عن الرشاد والصمم عن المواعظ والإصرار على الضلالة
قد نكب عن وجه الرشاد على عين بصيرته بالأسداد. صم عن النذير، وقد أسمعه ووعظه، وأتى على النصيح وقد حذره وذكره، أبي له ضعف العقل والنحيزة، ولؤم الطبع والغريزة إلا إصراراً على طيشه وسفهه، واستمراراً في غيه وعمهه حتى كأن الوعظ أغراه، والرشاد أغواه. فلان جامح لا يرجع، ومضب لا ينزع، ومضر لا يقلع، أخذت العزة بسمعه وبصره، واقتطعته الحيرة عن تدبره وتبصره. يلقى الوصية بالاطراح، ويدفع الطاعة بالراح. توقظه العبر فلا يستيقظ وتعظه الآيات والذر فلا يتعظ. هو من لا تكف الموعظة غرب جهالته، ولا تفل النصيحة حد ضلالته. يصغي إلى الرشاد بمسمع أصم، ويعطس في العناد بأنف أشم. قد غطى الخذلان على سمعه وعينه، وحال بين قلبه وصدره، وملك عليه الشيطان مسارب عزمه، ومساري فكره. قد تحولته بالموعظة هادياً من حيرته، ومستشلياً من غمرته، فنادغاه الخذلان بأن صمم فأصر، قال له الشيطان تمم فاستمر. كأني أغريته، فناداه حين نهيته، وأغويته حين هديته، وأعميته حين بصرته، وخذلته حين نصرته. أولئك قوم قد أخذ الله بأسماعهم وأنصارهم وقرن الخذلان بأعوانهم وأبصارهم. جهالة عموا بها عمياء، وغشاوة مدت على دهمائهم دهماء.
إبراز صفحة المنابذة
أبرز صفحة المكاشفة، وكشف قناع المخالفة، وسار على مدارج الغرور، وأثار كوامن الثبور. ما ظننت الجهل يستمر كل هذا الاستمرار، حتى يستوفي كتاب الخذلان، ويستغرق صحيفة الإدبار. قد هتك حجاب نفاقه، وأظهر مكنون شقاقه، فانحرف وخالف، وجاهر وكاشف، واظهر مكنون سره، وأبدى كامن شره، واقدم على العظمى، وصرح بجحد النعمى. كشف قناع الحشمة، وخرق حجاب الهيبة. بارز سلطانه بالمحادة، وجاهره بالمضادة، مستبدلاً بعز تذلله، ذل تعززه عليه، ومعتاضاً من أمنة سعيه في رضاه، خيفة مخالفته إياه.
استيجاب التكبر والمعاقبة
أما الكبائر التي تحكي عنه فالواحدة منها ترفع رخصة الحكم، وتبدي الهجنة في الصفح. قد جرت منه هنات اقتضت أن تعرف قدره، وتلقي بما يشجي صدره. قد أوجب مروقه من الطاعة، وفسوقه بغاية الاستطاعة، إن ترتجع عواري النعم من يديه، وتفاض ملابس النقم عليه. لا يغني فيه التوقيف دون التثقيف والتعليم، دون التقويم، والإعذار والإنذار دون الإيقاع والإيجاع. هو بعرض إنكار يسيل دموعه، ويقيم ضلوعه. قد استحق أن يحمل أثقال المعاقبة، ويعرف آيات سوء العاقبة. أنزله منزلة مثله ممن أساء حفظ الوديعة، وجوار الصنيعة، فاستوجب نزعهما منه، وتحويلهما عنه. ضاق به كنف العفو، وحقت عليه كلمة الطو. قد اسودت صحيفته، وأغلق باب التوبة دونه، وحيل بين العفو وبينه. عثراته محظورة على الإقالة وهناته تجني له ثمر الضلالة.
الأبراق والأرعاد
سيعلم المخذول كيف يرمي بحجره، وتشبع الوحوش من جيفته ونفره، الأهب لا ستيصاله مأخوذة، والسيوف لقتاله مشحوذة. سيبلغ في بابه ما يتأدب به كل جامع في عنائه، وطامح إلى ما ليس من شأنه. ستراه وليست له عينى طارفة، ولا جثة واقفة لأكشفنه لكل ليل بارد، ونهار واقد. سينزل بأولئك الأغمار قاطعات الأعمار. إما ذل واستكان، وإما هلك قتل قد كان. قد تكون للباطل جولة، وللفساد مهلة. ثم تأتي من الإنتقام والاصطلام، ما يسقط الهام على الاقدام. أما فلان فسيراق على الضلال دمه، وتتطاير على الجذوع رممه. لم يدر أن العزيمة من مولانا تترك أمثاله مثلا، وتجعله لأهل الشقاق مثلا. أما علم أن مولانا إذا رماه بشعبة من أفكاره ومسه بجذوة من ناره. عاد حرصه ندما. وصار وجوده عدما، وغودر أشياعه بددا، بل طرائق قداد. أتدرون ويحكم في أي حتف تورطتم وأي شر تأبطتم. إما فطمكم عن رضاع الحيف، وإما حسمكم بغرار السيف، تمثل هذه المقانب وتصور هذه الكتائب، وأخطر ببالك قلبها، فإن قلبك يدل على حالك، وميمنتها فإن يمينك تتقاصر عن شمالك؛ وميسرتها فإن اليسرى تتراجع عن أمورك، وجناحها فإنك تجنح عن كافة شؤونك.
احتشاد العدو
حشر وحشد، واستمد واستنجد واستعد، كاشف وبادى، وحشر فنادى، حشد وحشر، وضم ونشر، وجمع أطرافه، وألف ألفافه. قد استنفذوا قواهم في تكثير العدد، وتوفير العدد. وتقديم المراصد، وتوكيد المكائد. جمعوا شوكهم وشجرهم، وجروا مدرهم ووبرهم، واستنفذوا قواهم وقدرهم. نفضت تلك البلاد أحرارها وعبيدها، وأخرجت عدتها وعديدها. رمت تلك البلدة بأفلاذ كبدها، وأخرجت أرضها أثقالها من عديدها وعددها. أسألت تلك البلاد سيلها، وجمعت من أسلحتها نهارها، ومن سوادها ليلها.
ذم جيش العدو
زحق إليه بما احتطب في ليله، وقمش من غثاء سيله. نهض بمن جمع من فراش النار، وأوباش الأمصار. اغتر بما اجتمع إليه من فل الخيول، وغثاء السيول، ورذايا الملاحم، وبقايا الصوارم. تنابحت إليه كلاب الغارة الشعواء، وتعاوت لديه ذئاب الصيلم الصماء. خرج بمن لف لفه، وصافح على الضلال كفه من أشياع الغوايا، وأتباع الغواية. جمع من جمع من فراش النار، وخشاش البوار. أولئك الكلاب الغاوية، والذئاب العاوية. عصبة الضلال وعصبة الخبال. تلك العصبة المعصوبة بالثياب، المغصوبة على الألباب. كل من معه من أصناف الأتباع، والعوم الرعاع. من لا يقيم له وزناً، ولا يتمثل له أمراً، وإنهم نصبوه سلماً لهم إلى الأموال المستهلكة، والمآكل الموبئة، والموارد المردية.
استهانة الأعداء واستحقارهم والتفاؤل عليهم
سحائب صيف عن قليل تقشع، وعروق باطل لا تمهل أو تقطع. لا تهولنك كثرة الارجاس فإنهم أزواد الضباع، وآكال السباع، ومشارع السيوف، ومراتع الحتوف. ما هي إلا صيحة واحدة، وزجرة راصدة، حتى تراهم كأن لم يغنوا في ديارهم، ولم يسمع بأخبارهم. وهو غرض الجوائح، وهدف الخواطف، واتباعه رجل جراد في ريح يوم عاصف. اقبل في شرذمة هي لجيوش السلطان بمنزلة البغاث للجوارح التي تعتدها لحمة، وتتخذها طعمة. هم فرائس الحمام، وأهداف السهام. ما منهم إلا جراد مجرود، وقنص مصيد أو مطرود، المتالف لهم راصده، وإليهم قاصده. ما منهم إلا نهزة الطالب، وفرصة الغالب، وطعمة الأكل، وجرعة الشارب. جاء في أقل لمة، وأضعف شرذمة. ونوازل الغير بهم محدقة، وسهام النقم لهم مفوقة.
قرب العدو من الهلاك
هو محاط به وكالمأخوذ بناصيته. قد أذن الله في قطع أكله، وأدناه من حاضر أجله. ما هو إلا فرصة اليوم أو غد، والهلك واقف له بكل مرصد. قد رصده ضوء الصباح وظلام الليل. لتجنه أرحام الأرض، أو ينشر من بطون السباع. والطير قد حص جناحه، ودنا اجتياحه. ما هو إلا صفاة آن قرعها بل قلعها، وقناة قد حان صدعها بل قطعها. دعائمه مخفوضة، ومرائره منقوضة واللعنة به مصعوبة، والهلكة عليه مكتوبة، قد احتفت به النوائب تصرف أنيابها، وصمدت له الحوادث تفتح أبوابها، وانحت عليه الخطوب تخطب بحتفه، ولذت به الصروف تأخذه من بين يديه ومن خلفه.
فيمن يسعى بقدمه إلى مراق دمه
قد طار بجناحه، إلى مواضع اجتياحه. يمشي إلى حتفه بأخمصيه، ويبحث عن مديته بيده. تحفزه إلى مصرعه الأضاليل، وتعجله إلى هلكه الأباطيل. استخفهم الحين المتاح، واستحثهم القدر المجتاح. جد بهم استعجال الآجال، وتصورت لهم المنايا في صور الأماني والآمال. ساروا وآجالهم تفسح لهم في مطامعهم، ومناياهم تحث مطاياهم إلى مصارعهم. أقدموا راكبين للغرر، مستسلمين للغير. تجذبهم كواذب الأطماع بمقاود نفوسهم، إلى مقاطع رؤوسهم، وتسوقهم بأزمة معاطسهم، إلى مظان متاعسهم. نقلهم الله بأقدامهم، إلى مصارع حمامهم. توجهت تلك العساكر المخذولة يسوقها راهن ضلالها، إلى انتهاء آجالها، ويقودها حاضر دمارها، إلى انقضاء أعمارها.
ذكر انخزال الأعداء ووهلهم واستيلاء الرعب عليهم قبل المحاربة
نصرنا بالرعب عليهم، حتى أصبحت المهابة سيوفاً خواطر في قلوبهم، وراحت المخافة رماحاً خواطف لنفوسهم، ملكه ذعر أراه دورة متسفة، وجيوشه مختطفة، وبلاده ممتلكة، ومعاقله منتهكة. أحواله قد تداعت، ونفوس أصحابه قد ارتاعت، تمثل له الأجل، فملكه الوجل، واستطاره الوهل، فلن يطول به المهل. ناوشوا بقلوب غمرها الوجل، وأيد قد أضعفها الوهل. فالسواعد غير مساعدة والأعضاد غير معاضدة. أخذت مبانيهم تتنقض، ودعائمهم تتقوص، وزنادهم تصلد، ورياحهم تركد. فلم يطو مولانا إليهم منزلاً إلا تضاعفوا ضعفاً وتخلخلاً، ولم يدن منهم منهلاً إلا ازدادوا وهناً وتزلزلاً. لا يمرون حبلاً إلا أوثقوا بقواه، وخنقوا بعراه، ولا يلهبون ناراً إلا عوجلوا بضررها، وأبيدوا بشررها. ساء صباحهم، وقرب اجتياحهم، وتطايرت فرقاً أرواحهم. أشعرت نفوسهم التلاقي، فبلغت التراقي، علموا أن القراع لا يثمر إلا قرع صفاتهم، والنزاع لا ينتج إلا نزع شباتهم. استبدلوا بالتطاول تضاؤلا، وبالتجلد تباعدا، ورأوا الأنوار ظلما، والأشخاص بهما، والآكام رجالا، والجبال خيلاً عجالا. لما رأوا الرايات المنصورة تخفق خفقت عليها قلوبها، وتمثل لها أن قد وجدت جنوبها. انزعج من مكانه بقلب هلوع، وروع مروع. أحس قرب الموت وضيق العيش، وضعف الجأش واضطراب الجيش. تقدمهم الأخبار وهم يتأخرون، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
مسير الملك في جيوشه والتفؤل له
سار مولانا والسماء تحسد الأرض لسيره، والنجوم تود لو سرت مع سنابك خيله. اقبل مسعود الكواكب، منصور المواكب. سارت تخرج معه الأرض أثقالها، وتسير الغبراء جبالها. نهض مولانا والأرض سائرة بمسيره، والأقدار صائرة إلى تدبيره. نهض والسعود تواكبه، والمناجح تصاحبه، ومعونة الله تقدمه، وصوائب العزمات تخدمه. جلل مولانا هذا الخطب عظم حركته، وغشاه كبر مسيره عن دار مملكته. فكادت السماء تميد إعظاماً لنهوضه، والأرض تسير مع خيوله. نهض مجرداً عزمه لقصدهم، ومحصداً رأيه في حصدهم. ركب في أنصار حقه، وأعوان ملكه، فكادت الأرض ترجف، والجبال تزحف، والأفلاك تقف، والكواكب تكف. سار بأسعد الطوالع والفواتح، وأحمد الميامن والمناجح، بجيوشه التي لا تحصرها الاعداد، ولا يقاس بها الأجناد، فحسبت الأرض ترحل برحيلها، وتسير مع حوافر خيولها. سار مولانا في جيوشه فخيلت الأرض مائجة، والبحار هائجة، والنجوم منكدرة، والسماء منفطرة، خرج والمناجح تطرق بين يديه، والميامن تسير حواليه، وآيات الظفر تقرأ من ذوائب أعلامه وبنوده، ورايات النصر تخفق على مراكبه وجنوده. أقبل والإقبال حاجبه، والنصر صاحبه، والصنع مصاحبه والظفر يقدم أعلامه، والقدر يخدم أيامه. نهض والسيول تقصر عن دهماء جيوشه وجنوده، والنجوم تغمض من ضياء ألويته وبنوده، والنجح يقرأ من نواصي خيله، والأرض تضحك عن آثار عدله وخيره. سار معبي الجيش، رابط الجأش، أصيل الرأي والحزم، ملتئم التدبير والعزم. زحف إليهم رحفاً، ملأ قلوبهم رجفا، استقل به الميسر شائماً بروق العز، مقدماً كتائب الرعب، مستصحباً مفاتح النصر. أقبل والدنيا تسير بسيره، وخدود النجوم في سنابك خيله. سار يقدمه جند من الرعب والذعر، ويتبعه مدد من الصنع والنصر. اقبل في مراكب أعلامها تخفق بالنجح، وطبولها تنطق بالفتح. برز وقد جهز أود الملك من حماته، واعيان الأرض من كماته، وراياته تكاد تنطق بالنجح، ويملي بأسنتها كتاب الفتح.
وصف الجيش بالكثرة والشوكة والنصرة
خيل، كقطع الليل، ورجال، خلقوا لقطع الآجال. جيوش ترجف لها الأرض، ويستوي بها النشر والخفض، خفت الجيوش فخلت الجبال سائرة، والبحار ثائرة. جيوش يرون من الكثرة قطع ليل أسفع، ومن الحديد وجه نهار قد متع. مواكب ضاقت عنها مناكب الأرض، ذات الطول والعرض. جيوش يغض بها الفضاء، ويستكين بها القضاء، وتضيق عنها الأوطار، وتخشع لها الأقدار. جيش كالليل، بكثرة الخيل، وكالنهار، بوضوح الآثار. عساكر تتتابع أفواجها، وتتدافع أمواجها. جر إليهم جبال الحديد، وأطلق أعنة الأسود السود. عساكرهم آساد وبحار، وأقضية وأقدار، وجبال أطوادها همم ونفوس، ونجوم أسلحتها أقمار وشموس. ملأ الملا خيلاً ورجالا، تحمل أوجالاً وآجالا حسبت الأرض ترتحل برحيلهم، وتسير مع حوافر خيولهم. طلعت على أعداء الله المطايا، عليها المنايا، والسيوف، في ظباها الحتوف. بادروا أفواجاً وأرسالاً، وانفروا خفافاً وثقالاً. عسكر وافر المدد، كثير العدد كثيف العدد.
وصف الأبطال والشجعان وأبناء الحروب
كل باسل قد تعود الأقدام، حيث تزل الأقدام، وشجاع الإحجام، عاراً لا تمحوه الأيام. سيفه أم الآجال، ورمحه يتم الأطفال. ما لسيفه غير الرقاب، قراب إذا أفاض قداح القتال قمر آجال الرجال. قد ملأ الأرض دماء، والسماء هباء. حجل الخيل بدماء أعاديه، وجعل هاماتهم قلانس رماحه. نهض كالليث الحادر، والشجاع الثائر، والحسام الباتر. عقبان خيول فوقها اسد جنود. ابناء الحروب الذين نشأوا فيها، وارتضعوا لبانها، وعرفوا مراسها، وألفو مساسها، كالأسود إقداما، والنيران اضطراما. بأمثالهم تشحن أطراف الصفوف، وعن قسيهم تصدر رسل الحتوف. رماحهم ظماء، وشرابها دماء، وسيوفهم هيام، ومشارعها نحور وهام، خيولهم سوابق الفوت، وسهامهم برد الموت، وحملاتهم آتي السيل، ومجيئهم مجيء الليل. لا يملون الشر إذا خرست الأبطال، ونطقت الرماح الطوال. أبناء الغايات، وليوث الغابات. اقبلوا كالليوث الخوادر على العقبان الكواسر. ما منهم إلا سيف الضريبة، وليث الكتيبة. آحادهم نفر، وأفرادهم زمر. الحرب دأبهم، والجد آدابهم، والنصر طعمهم، والعدو غنمهم. قلوب أسود في صدور رجال، ورياح زعازع في ثبات جبال. هم على الأعداء بلاء واقع، وسم ناقع. يصيبون الثغر من بعيد، ويدخلون بين زبر الحديد. يقرون والأقدام زيال، ويخفون وهم على الأقران ثقال. انياب الدولة وأعضادها، وكماتها وأنجادها.
ذكر الاولياء والأعداء معاً
التقوا فقلبت ريح الإقبال لأولياء الله، ودبرت ريح الإدبار على أعداء الله أولياء الله معتمدون بالمنائح الزهر، واعداؤه مترصدون بالمنايا الحمر. كانت للأولياء الأثرة، وعلى الأعداء الدبرة. جد الأولياء بقلوب قد غمرها اليقين، وأيد قد بسطها التمكين، وبيت الاعداء وقد بسط لهم الغرور آمالهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم. فاز أولياء الله بأجر المجاهدين، وباء أعداء الله بوزر المعاندين. ازداد الأولياء شدة مراس، وقوة باس، وثبات مقام، وصدق انتقام. وابتدأت أعداء الله تنثلم مواكبها، وتضعف مناكبها، وتنخفض أعلامها، ونتنتقض أبرامها، وترى بأسلحتها أغلالاً توثقها وتوبقها، وأنكالاً ترهقها وتزهقها.
تعبية الجيوش وترتيبها
رتب مولانا المقادم عموماً وخصوصاً، وعبى المقانب بنياناً موصوصاً. أمر بتسوية الصفوف التي لا خلل بها، وانتضاء السيوف التي لا خلل لها. عبى جيوشه ميامن تضمنت اليمن، ومياسر اتبعت اليسر، ووقف في القلب بقلب يسع الرمال، ويرجح الجبال. رتب فلاناً ومن برسمه في ميمنته التي يقارنها اليمن والنجاح، وفلاناً في ميسرته التي يصاحبها اليسر والفلاح، وصار هو وقواده قلباً قالباً لما قالبه، ناكساً لما واجهه.
تلاقي الجيشين وكشف الحرب عن ساقها
تلاقى الجيشان فاصطف الجيل والرجل، وامتلأ الحزن والسهل، وبرقت الأبصار بشعاع السيوف، وسفرت رسل الحتوف بين الصفوف. تراءى الجمعان، وأفضى قرب العيان، إلى قرب العنان، والتهبت جمرة الضراب والطعان. اشتبكت الحرب تصرف نابها، وتكشف ساقها، وتضرم نارها، ويشد نطاقها. التقى الجمع بالجمع، وقرع النبع بالنبع. دنا العنان من العنان، وأفضى الخبر إلى العيان. سارت الجموع إلى الجموع، وبرق البصر بلمعان الدروع، وحمي وطيس المراس، ودنت التراس من التراس.
اشتداد الحرب وحمى وطيسها
دارت كأس الموت دهاقا، وعاد القرن للقرن عناقا. بلغت القلوب الحناجر، وشافهت السيوف المناحر. هاجت الهيجاء، وعز النجاء، وصار الترامي عناقا. التلاقي اعتلاقا. صمتت الألسنة، ونطقت الأسنة، وخطبت السيوف على منابر الرقاب، وأقدمت الرماح على الخطط الصعاب. اعتنقت الصوارم والمناصل، وتلاحقت القنا والقنابل، واشتد أزر المصاع، وتكايل الشجعان صاعاً بصاع. قدحت نار القراع، وجالت قداح المصاع، تلاقت الفرق، واشتد الفرق، وصار الفارس إلى الفارس أقرب من ظله، والسيف أدنى إلى الوريد من حبله. استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة. فدارت رحى الحرب، واستحرت جمرة الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح. احمرت الحلق، من العلق. ضاق المجال، وتحكمت الآجال. لم ير إلا رؤوس تندر، ودماء تهدر، وأعضاء تتطاير، وأجسام تتزايل. التقى الصفان، وبرزت الأقران للأقران، وخطبت الصوارم على منابر الأعناق، وسفرت السهام بين القسي والأحداق.
أعمال الأسلحة
رشق شبه فيه ترادف النبل، باتصال الوبل، وزرق أعاد الدعج زرقا، وأوسع الأهب خرقا. رشقوهم بنبال، تتحمل قطع الآجال. واتخذوا النبل رسلاً مؤدية ما حملت، ورسائل مبلغة ما أودعت. ما منهم إلا رام لا يخطيء الأهداف، ولا يتجاوز الشغاف، تجوز نبالهم الدرق إلى الحدق، وتنفذ إلى الحلوق من خلل الحلق. أتتهم السهام كرجل الجراد، والزانات الجداد كذا صادرة عن السواعد الشداد. أوسعوهم ضرباً ومشقا، وطعناً ورشقا، وجرحاً وزرقا. ضربه بعض الغلمان ضرباً رعلا، وثناهم بعض العرب بطعنة نجلا. تواصت الضربات، بين زرق بالزانات لا يعرف إنصافا، وضرب بالمرهفات يفلق الهام أنصافا. أخذت الرماح تطير شررها، والرؤوس تفارق قصرها. ثملت الرماح من الدماء فتعثرت في النحور، وتكسرت في الصدور. اشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح. سيوف أغمادها الرؤوس والطلى، وجفونها القلوب والكلى. قد أخذت السيوف نفوسهم، وأثمرت القنا رؤوسهم.
حسن الغناء في الحرب والإيقاع بالأعداء وشدة النكاية فيهم
قابلوا الجلاد بالجلد، ونابوا عن أنياب الأسد، وأعطوا الجهاد، أوفى حظوظ الاجتهاد. أجملوا البلاء، واحسنوا الغناء. بلغوا في اقتناص الأعداء أقصى المبالغ، ووطئوهم وطء القامع الدامغ. أبلوا بلاء الأبطال، وابطلوا كيد الأعداء. إن الأبطال زحموا الأعداء من جوانبهم، وتمكنوا من فض مواكبهم، وطئوهم بسنابك الخيول، وتركوهم كجفاء السيول. صبوا عليهم سوط عذاب، وأسلموهم لعوادي تبار وتباب. وقائع هدت قواعد بنيانهم، واشابت نواصي ولدانهم. طحنوهم طحن الحب، وجعلوهم داريا الطعن والضرب. وثبوا عليهم وثوب الأسود، وتركوهم كالزرع المحصود. نكوا فيهم نكاية القضاء والقدر، وأثروا فيهم تأثير النار في يبيس الشجر. شربوهم شرب الهيم، وحطموهم حطم الهشيم، وتركوهم كالرميم. تجردوا لهم فحطوهم وحطموهم، وهزوهم وهزموهم، تركوهم موطيء الحوافر، ومورد الكواسر، ومغدى الضباع، ومراح السباع. قصدوهم فأقصدوهم بأيدي الغير، وحصدوهم حصد الشوك والشجر. طفقوا ينقضون عليهم كالأجادل، ويقذفونهم بالجنادل. أقدموا عليهم إقدام السيل، ونسخوهم نسخ النهار لليل.
هبوب ريح النصر
حتى إذا ضاق المجال، وتحكمت الآجال. أهب الله لمولانا ريح النصر، وحكم لحزبه باللعلو والقهر، ولما بلغ كتاب المهل آخره، أجرى الله للواء المنصور طائره. برقت لامعة النصر، وحانت ساعة القهر. ما انتصف النهار إلا وقد انتصف الله للحق من الباطل، وكنفنا بالأيد القاهر، والنصر الشامل. هبت ريح النصر فأنجز الله لمولانا وعده، وأظفر جنده، وحفظ عاداته عنده. لاحت غرة الفتح، ووضحت وضوح الصبح، واشرقت صفحة الظفر، إشراق الشمس والقمر، ولما هبت لأشياع الدولة ريح النصرة، علت بهم يد القدرة فأتبعوا أدبار المارقين، وآووهم دار الفاسقين. جاء نصر الله والفتح، ونزل الظفر والنجح.
انجلاء المعركة عن القتلى والجرحى والأسرى والهزمى
انجلت غبرة المعركة، وقد أحاطت بالشقي يد المهلكة. اقتسم شيع الطغيان بين اجتياح سريع، وقتل ذريع، واسر موثق، وحصر موبق، ولم ينج إلا شرذمة لاذت بذمة الهرب، ولن تفوت يد الطلب. بين قتيل قد عجل الله بروحه إلى دار جزائه. واسير قد أوثقه ما ارتكبه بسوء رأيه، ومنهزم أطار الرعب قلبه، وسلب الخوف لبه. بين قتيل استأثر به الحمام، وأتى عليه الاصطلام، وجريح قد عاين طروق المنية، دون بلوغ الأمنية، ومنهزم لا يستبقيه الهرب، إلا بمقدار ما يناله الطلب. قسمهم أولياء الله بين قتيل تبوأ من النار محبسه، ومول جعل ثوب العار ملبسه، واسير حبس على حكم الشريعة، ومستأمن ألحق بأهل الصنيعة بن قتيل موسد، واسير مصفد، وهارب مطرد، ومستأمن مقيد، بين قتيل متشحط بدمائه، وجريح متقلب بذمائه، بين قتيل مرمل، وجريح مجدل، واسير مكبل. لم ير من أشياع المخذول إلا أسير موثق،وجريح مرهق، وقتيل مطرح، وشريد مطوح. إلا أسير وحسير، وقتيل وعقير وجريح وقريح، ومرمل ومزمل، ومقبور ومثبور. تقرقوا بين أسر أحاطت بالرقاب جوامعه،وجرح تحكمت في الأجساد لواذعه، وقتل دنت من الأشقياء مشارعه. قيل لأولئك الأغماز، القصار الأعمار: شاهت الوجوه وهبت لهم الدبور بين هشيم ورميم، وقتيل وأميم، وجريح ورهين، وأسير مع قرين.
ذكر القتل والقتلى
انكشف الهبوة عن فلان وقد سبقت الصفاح، فيه موضع الاستفتاح. قضت منهم الرماح أوطارها، وبردت السيوف أوارها. سكنت النفوس بقتله كما سكنت نفس الإسلام، بقتل أبي جهل بن هشام. مقتلة نقعت ظمأ الأرض، وأزالت سغب السباع والطير، صلي قبل حر النار بحر المناصل، وسقى الأرض من دمه بطل ووابل. استبدل من أمله، حضور أجله، واستعاض من شهامته، تسليم هامته. قد غضت يقتلاهم حلوق الأرض، واحمرت من دمائهم متون الترب، بطون الأرض اعمر بهم من ظهورها، وحواصل الطير والسباع أحصن قبورها. عدم برد الحياة، وذاق حر المرهفات. جرت من دمائهم أنهار، ولم يطلع عليهم نهار. اريق من دمائهم ما احمرت منه الأرض وجرت به الأودية، ودارت عليه الارحية.
سوء أحوال المنكوبين والمحاط بهم
أوحى الله إلى أرضه أن تنخسف، وإلى فرسه أن يقف. قص جناحه، وأنهر جراحه. ألقاه الله في الشبكة، ورماه بالهلكة. رماه الله بالقارعة المبيدة لجمعه، البليغة في قمعه. قلعت شأفته، وقطعت آفته. لم يبق له مفحص قطاة، ولا مغرز قناة. أنزلهم الله من آمال، إلى آجال، وأوردهم من مطالع، إلى مصارع عليهم الدبرة، وعلى وجوههم الغبرة. مكبوب على مناخره، مطعون في مناحره، قد طال حصاره، وغاب أنصاره، وسقطت دعامته، وقامت قيامته. قد بلغت روحه التراقي، ووعدته منيته التلاقي. ضرب عليه الإدبار سرادق الدمار، ومد عليه الخذلان رواق سوء الاختبار هو جزر السيوف القواضب ولقى بين أنياب النوائب.
الأسر والاسرى وتشهيدهم
لم ينج من ودائع الأغماد، إلا من حصل في جوامع الأصفاد. حصلوا في قبضة الإسار، وكفة الخسار. نشب في حبالة الانتقام، وشرك الاصطلام. يا حسنه في زوال النعمة، وركوب النقمة، بوجه قد علس، ورأي قد برنس كذا قد أركبوا الفوالج، وتركوا بالتشهير عبرة الناظر، ولعنة الماقت. أوردوا مقرنين في الاصفاد، وتركوا عبرة للساعين في الأرض بالفساد.
هلاك الأعداء وفناؤهم
صاروا كرميم وهشيم، طاح في ريح عقيم. اصبحوا كالزرع المحصود، وصاروا حديثاً مثل عاد وثمود. صاروا جزر السباع والطيور، ورهن الدمار والثبور. لمم يبق لهم جثة واقفة، ولا عين طارفة، ولا روح تسري في جسد، ولا شخص خلق على كبد. حصدوا حصدا، وخبطوا بالسيوف خبطا. فلم يبق منهم صافر، ولا نجا منهم أول ولا آخر. أخذتهم الصاعقة، وحلت بهم البائقة، فلم يبق منهم نافخ نار، ولا رافع منار.
فيمن نجا برأسه وقد كاد يوخذ
استنقذ الأجل ذماءه من ظبى السيوف وقد شارفته، وشبا الحتوف وقد شافهته. عرض على الموت عرض المحتضر، ثم أخر لأجل منتظر. نكص على عقبيه وقد كادت صروف الايام تفترسه، وانياب الحمام تنتهسه. نجا برأسه وقد فغرت المنايا أفواهها إليه، وكادت أظفارها تنشب فيه. فأخر لأجل مضروب، وانسئ لأمد مكتوب. استنقذه تاخر أجله من أنياب القواضب، ومخالب النوائب، ونجا بحشاشته وذماؤه على تلف، وشفافته على شرف.نجا بروحه التي هي رهينة غيها، وصريعة بغيها. لم يبق منه إلا شفافة أخطأت براثن الأسد، وبقية هي هامة اليوم أو غد.
ذكر المنهزمين ووصف أحوالهم
طاروا بأجنحة الرعب لا ينثني آباؤهم على أبنائهم، ولا يلوي سراعهم على بطائهم. طاروا بأجنحة الوجل، وتصوروا حاضر الأجل. نكصوا على الأعقاب، وطاروا بخوافي العقاب. اجفلوا إجفال النعام، واقشعوا إقشاع الغمام. سبقوا الطلب باقدام الفرار، وتوقوا مواقع السيوف بملابس من العار. تمزقوا في البلاد كما يمزق الريح رجل الجراد. عاينوا هول المطلع فولوا الادبار، وتجللوا الإدبار، وطاروا كل مطار. تتقلب بهم المزال والمداحض، وتساقطت بهم قواهم النواهض. لم يشعر به حتى صار جنيناً قد واراه بطن الليل، طار كهباء الريح وغثاء السيلز نفض يده بالخميس، وأعرب ببرد الهرب عن حر الوطيس. تشتتوا أيدي سبا، وتفرقوا جنوباً وصبا. فلت شباتهم، وجمع على الذل شتاتهم، وحاق البلاء بهم، وحقت كلمة العذاب عليهم، ونكصوا خائبين، وانهزموا خائفين. تفرقوا في جهات المهارب، واعتصموا بالأنهار والمسارب. نفتهم الأرض من مناكبها، وضاقت عليهم من جوانبها. جعلوا يتسللون من أثناء الأنهار، وكل ينهار في جرف هار. طار بين سمع الارض وبصرها. لا يدري ما يطا من حجرها ومدرها. هام على وجهه لا يدري أفي الأرض يطلب مدخلا، أو في السماء يلتمس معقلاً وكلاً كذا فإن تخومك الأرض تسلمه، ونجوم السماء ترجمه. تطاير حشدهم الفجرة، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة. طاحوا كل مطاح، وطاروا بأجنحة الرياح. لا يجدون في الخضراء مصعدا، ولا على الغبراء مقعدا. لم تلقهم أرض، ولم يسعهم طول ولا عرض. لفظتهم البلاد، ومجتهم البقاع، إلى حيث لا استواء قدم، ولا اهتداء بعلم، ولا سماء تظلهم أو تجنهم، ولا أرض تقلهم أو تكنهم. طاروا بقوادم وجل، وطاحوا بين سقوط أمل، ودنو أجل. استبدوا بمسكة العزائم، هتكة الهزائم. نكصوا على الأعقاب يرون الأشخاص كتائب تختطفهم، والأشباح مقانب تنتسفهم. لما ترامت بهم البلاد تآمروا بينهم يتعاذلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. هزيمة قوض الله بها عروشه، وفض جيوشه، وضلل وساوسه، وأبطل هواجسه. هزيمة فرق الله بها جمعه، وبدد شمله، وعجل قمعه. غاض في بعض الغياض مخفياً لشخصه، مشفقاً على نفسه. صفراء لم يصحبه صافر، ولم ينج معه طارف ولا باصر. كلما هبت عليه هابة ريح حسبها خيلاً تكر عليهم، أو رجلاً تبتدر إليهم، وكلما عنت عليه عانة أرض ظنها براً ينخسف به، أو بحراً يحيط به. لو وجد في الأرض نفقاً لأولجه فيه شدة روعه، أو في السماء مرتقى لأعرجه إليه نخب روعه. الحمد لله الذي ردهم في أكفان من المذلة، وقبرهم في لحود من الخوف والوحشة.
ذكر ركوب الأولياء أكتاف المنهزمين وقرب متناولهم على الهلاك
ركب الأولياء أكتافهم يشلونهم شل النعم، ويفرونهم فري الأدم، ويذكونهم كهدايا الحرم. لم يزل الطالب راكباً أكتافه، وقابضاً أطرافه، حتى زخ به الحذار في يوم وليلة، إلى موضع كذا بعد أن انتظمت الطرق إليه بجيف أصحابه ورذايا خيله وركابه، ركب الأولياء أكتافهم وعيون المنايا ترصدهم، وأيدي الحتوف تحصدهم. أمر فلان بأن يبعد في آثارهم فلا ينهههم، ويجد في طلبهم فلا يرفههم. لتعجلهم صدمته عن التوصل إلى الاستراشة، والتمكن من الاستجاشة. هاموا على وجوههم يرجون الخلاص ولا خلاص، وياملون النجاة ولات حين مناص. فإن الطلب من ورائهم على أحشاد، وما أعد الله لأمثالهم بمرصاد. طار فلان بجناح الفرار، متلفعاً بالذل متقنعاً بالعار، والخيل مغذة في طلبه، وموعودة الظفر به. فإن قضاء الله كالليل الذي هو مدركه، ومفاجئه فمهلكه. ركب الأولياء أكتافهم، وتحيفوا أوساطهم وأطرافهم، وغنموا أثاثهم وأسبابهم، وظهورهم ودوابهم. ما هو إلا دريئة الهرب، وفريسة الطلب. أنى له المقام ورماح الطلب نحوه مشرعة، وخيوله إليه مسرعة.
ذكر الغنائم
غنموا أموالهم التي لم يؤدوا فيها حقاً معلوما، ولم يغنوا بها سائلاً محروما. غنموا أموالهم التي احتجنوها فاختزنوها. استولى الأولياء وغنموا، وكلموا وما كلموا. غنموا ذلك الحطام، المجموع من الحرام، المثمر من الآثام، المقتطع من فيء الإسلام. غنموا أموالاً إن ذكر قدرها، استشرف أمرها، وكيف بذلك والذهب حتى الآن يكال بين الأولياء كيلا، ويهال بين الغانمين هيلا. غنم الأولياء ما بقت لهم الحوادث، وأسأرت عندهم النوائب من أمهات الذخائر والعقد النفائس. قد صارت أموال الأعداء غنائم لهم لا تحصى كثرة، وعادت على الفاسقين مظالم وحسرة.
ذكر موت العدو
أفضى به سوء العاقبة إلى العذاب الأليم، والمال الذميم، وسكنى الجحيم، وسقيا الحميم. قضى نحبه، ولقي بأسود صحيفة ربه. جراحة أتت على نفسه، ووسدته في رمسه. آل أمره إلى وبال، وانحلال واضمحلال، قبض إلى أخراه على النفاق، كما عاش في دنياه على الشقاق. مضى لسبيله يقدمه الخزي، ويتبعه اللعن، ولا تبكي عليه السماء ولا الأرض. قبضت. نفسه الخبيثة على ضلال وخبال، وسوء حال ومال. تقطعت وسائل بقائه، واتصلت حبائل فنائه.
سلامة الأولياء على الحرب
عادوا منصورين موفورين لم تمسسهم جراح، ولا عضهم سلاح. لم يمسسهم قرح، ولم ينلهم جرح. لم يصبهم ثلم، ولا مسهم كلم. لم يمسسهم سوء، ولم يشمت بهم عدو.
جلالة شأن الفتح وعظم موقعه وحسن آثاره
كتابي والزمان ضاحك السن، متظاهر البشر، والدنيا مشرقة الجو، مضيئة الأفق، للفتح الذي تفتحت له أبواب الشرف والمجد، وتفتقت أنوار الملك والعدل. كتبت والأرض ريا ضاحكة، والدنيا خضراء ناضرة، وفجر الإسلام عال ساطع، وسيف الإيمان ماض قاطع، والبلدان ملأى تهانيء وبشارات، والأولياء شورى بين أفراح ومسرات، لما بشر به كتاب مولانا من الفتح الذي نطقت به ألسنة الشكر، وارتاحت له أندية الفضل. قد جل هذا الفتح عن تطلب نعوته بتصريف الأقوال، وتفخيم شؤونه بضرب الأمثال، وصار التمويل على ما قد تمكن في القلوب من حاله، واستقر في النفوس من جلاله. لأن آثاره تنظم حاشيتي الشرق والغرب. الفتح الذي أصبح الإسلام به متسع النطاق، والعدل ممدود الرواق، والسلطان ساطع الإشراق. محروساً من عدوه المراق، ونزغة الشقاق. الفتح الذي تفتحت له عيون الزمان، وأشرق بأنواره الخافقان. الفتح الواضح قدمه على ناصية الشمس، الماحق بضيائه أنوار البدر، الضارب برواقه من فوق النجم، الجاثم بجلاله على رقاب الدهر، الماد يديه إلى الشرق، ينظمه إلى أقاصي الغرب. الفتح المبسوط بين المشرقين شعاعه، الممدود على الخافقين شراعه. أجل بشرى أسفرت عنها الأيام والليالي، وسفرت فيها البيض والعوالي.
?إشاعة خبر الفتح
أشيع خبر إشاعة اهتزت لها أعواد المنابر، وعرفها البادي معرفة الحاضر كتبت في إشاعته بما يملأ المسامع، ويشحن المجامع، ويعمر المحاضر، فيملك المنابر. قد أشعناه حتى لو عرفه الخاص من أخص المحاضر، وسمعه العام من صدور المنابر. شهر خبره في الخاص والعام، بين ألسنة المنابر وأسنة الأقلام. اهتزت له المجامع، وأصغت إليه المسامع، ووعاه الحاضر، وتزوده المسافر. طالعته بنبإ هذا الفتح الذي ينشر في المواسم، ويؤرخ في الملاحم، ويؤثر بين الغائب والحاضر، ويذاع على ألسنة المنابر.
?حسن حال البلدة المفتوحة والتخفيف عن رعيتها طهرها من شوائب الفساد، وأطلع فيها كواكب السداد، وأرخى من خناق الرعية، واستنقذها من أنياب الأذية. ابتسمت بلاد كذا عن ثغور الأمنة، وطالت فيها أنواع النصفة، وامحت دونها سمات الخونة، وجمع الله أهلها على مسالمة كشفت المحن، وعفت الإحن. استبدلت الرعية بشدة الوجل، قوة الأمل، وبانبساط الأبواع والأيدي عليها، انقباض الأطماع والعوادي عنها. سكنت الرعية، وانحسمت الأذية، ورتب العمال، وهذبت الأعمال. أطلع فيها كوكب العدل وكان خافيا،وأوضح لهم منهاج الأمن وكان عافيا. كأنما بدلوا من ظلمات نورا، وأعقبوا من موت نشورا. وصل إليهم برد الأمن وقد صلوا بحر الذعر. فرش النصفة وأفاضها، وبسط الرعية وأزال انقباضها، ووهب سقيمها لبريها، وظنينها لنقيها. أراح تلك البلاد من جامعة الضر والبوس، وظلمات الظلم العبوس. علمت الرعية أن العدل قد امتدت أبواعه، والجور قد نفدت أنواعه. فأيقنت بالخير الموفور، والانتقال من الظلمات إلى النور.
الأدعية السلطانية عند الفتوح والبشائر وغيرها
سألت الله أن يطيل بقاء مولانا موصول السلطان بالدوام، مكنوف الراية بالنصر والانتقام، مظفر الألوية والأعلام. ممدود الظلال على الخاص والعام. أدام الله أيامه مصرفاً أزمة الأرض، مالكاً أعنة البسط والقبض. أدام الله سلطانه مستولياً على الإيراد والإصدار، مخدوماً بأيدي الأقضية والأقدار. لا ينهد عزمه لأمر، إلا أسفر عن عز ونصر، ولا ينهض همه لأرب، إلا تجلى عن استظهار وغلب. لا زال يتناول أقاصي المراد، بقريب السعي والارتياد، ويبلغ مرامي المرام، بداني العزيمة والاهتمام، والله يديم له الفتوح يميناً ويسارا، ويزيد أعداءه ذلا وخسارا. لا زالت البشائر وفود سمعه يطرق بابه، وبرفع لها حجابه. أطال الله بقاءه مستولياً على ما تخطبه عزمته، وتقتضيه نعمته. أبقاه الله نافذ المكائد والعزائم، ماضي الآراء والصوارم. عالي اليد والراية، شامل الملك والولاية. حتى تجتمع له الأرض براً وبحراً في عقدة ملكه وتنتظم الخلق شرقاً وغرباً في صفقة ملكه، والله يبقيه لتذليل الخطوب إذا صعرت خدودها وأمالت أجيادها، وكثرت أعوانها ووفرت أعدادها، حتى يملك ما طلعت الشمس عليه، وانتهى هبوب الريح إليه. هنأه الله علو صيته في تدبير المقانب، وتحصيل المناقب. لا زال النصر يقدمه، والدهر يخدمه، والفتوح تصافحه، والمناجح تغاديه وتراوحه. أدام الله أيامه لحسم المعار عن الدنيا بأسرها، وقطع المضار عن الأرض وأهلها. منبسط الظل على النهار حتى لا تشب نوائبه، وعلى الليل فلا تدب عقاربه. أبقاه الله للدنيا والدين، وأخذ راية المجد باليمين، ولا زالت الأرض تحت تصريفه وتدبيره، والناس بين تقديمه وتأخيره. أدام الله له النجم صاعدا، والزمان مسعداً ومساعدا، مالكاً رقاب الخافقين، ومذللا صعاب المشرقين، ومصرفاً أزمة الملوين، ومستغرقاً جديد النصر على كر الجديدين، ليعم الأقاليم السبعة بسلطانه وإحسانه فيغمرها، ويملكها بأعوانه وأوليائه فيعمرها.
الدعاء على أعداء الدولة
سألت الله أن يصرف وجوه الرزايا، ويعكس رقاب المنايا، إلى أضداد دولته، وكفار نعمته، فلا يخلو أحد منهم من فجيعة وجيعة، وملمة أليمة، تشغلانه بنفسه، وتكلانه إلى خذلانه ونحسه، وتغنيان مولانا عن أن ينزع سهماً من كنانته، أو يشهر سيفاً من أسياف نقمته. لا زال مولانا واطئاً بسنابك خيله قمم منابذيه. مغمداً سيوفه في رقاب مخالفيه، زاد الله أعداءه سقوط مواقع، وهبوط مواضع، ونحوس طوالع، وحتم على كل مشاق لكلمته، محاد لدعوته، أن يكون الموت في رق الذل أهنأ مشارعه، وأقرب موارده، والله يجعل أعداء دولته، صرعى صولته، ومشاقي كلمته، جزر نقمته. لا زال أعداؤه تلفظهم ظهور الأرض، وتقبلهم بطون الترب. لا زال منابذوه حصائد سيوفه، ورهائن خطوب الدهر وصروفه.
استقرار الدار بالسلطان وما يتصل بذكر ذلك من الأدعية
أقبل مولانا فأقبلت به الدنيا المولية، وامجلت الظلمة المستولية. كأن حلوله بمركز عزه ومقر ملكه. حلول الديمة الوطفاء، غب السنة الشهباء، والنور المنتشر، بعد الظلام المعتكر. انحسرت الغمة بلألاء جبينه، ودرت النعم من أخلاف يمينه. عاد إلى سرير ملكه، ومقر عزه، على الطائر الأسعد، والجد الأصعد. فتوجهت الرغبات إلى الله في أن تقرن بذلك من الحبرة بأخضرها، ومن السعادة بأنضرها. هنأ الله مولانا أوبته إلى منشإ عزه، ومستقر ملكه. على أفضل ما وعدت به الطوالع السعيدة عند نهضته، ودلت عليه البشائر الحميدة في سفرته. أتت البشائر بعود مولانا إلى دار سلطانه المعمورة بنضارة أيامه. قد أعطته المطالب قيادها، ووطأت له المناجح مهادها عاد مولانا إلى السرير مستقراً على غاربه، حامياً لجوانبه، قد دانت له الطوائف، وأمن به الخائف، وضم النشر، ولم الشعث وأشرقت الأرض وتباشر البشر.
آخر كتاب السلطانيات وما يقع في أبوابها، ولله الحمد.
كتاب الشوارد والفوارد
وما يشبهها
هبوب ريح الأقبال
قد ركب من الإقبال مطية لم تقف به إلا على الغاية، وسلك من السعادة طريقاً لن يؤديه إلا إلى الزيادة. قد امتطى ظهر الإقبال، وشافه درك الآمال. هب عليه نسيم الثروة، وتمهد له فراش النعمة. زفت إليه الأيام أبكار النعم، وأتحفته ببواكير المنح. اقترن النجح بمطلبه، واقترب من مقصده. امتد عليه ظل النعمى، وجناح الغنى. ظهرت على أموره أمارات الإقبال، ورفرفت حوله طير حسن الحال. أفاق من سقم الفاقة، واتسع بعد الإضافة.
تباشير النجح والغنى
شارف نيل الإرادة، وشافه لسان السعادة، وابتسم له ثغر الأمل، وآذن بالنجاح في أقرب أمد. قد لاح النجاح وانتشر نوره، ولمعت تباشيره. إن ما يبدو من تباشير النجاح، يضاهي فلق الإصباح، الذي يتلوه طلوع الشمس وإشراقها، واستضاءة العيون والنفوس بها وارتفاقها، أو الغيث رش ثم قطر، ومبادي الشجر ورق ثم زهر. هل يرتجى الغيث إلا بمخائله، ويستدل على أواخر الأمر إلا بأوائله.
حسن الجال ووفور المال
سالمه الدهر وساعدة الجد، وحالفه السعد. قد نال ما لم يحتسبة إلا وهما، ولم يؤلمه إلا حدسا، فاز برغائب النعم، وغرائب القسم. خاض بحر الغنى، وركض في ميدان المنى. رأى من الإنعام، ما لم يره في المنان، فكيف من الأيام. قد أدر الله له أخلاف الرزق، ومهد له أكناف العيش، وآتاه أصناف الفضل، وأركبه أكتاف العز. اتسقت أحوال معيشته، وبسقت أغصان دولته. اتسعت مودا ماله، وتفرعت شعب حاله، تناول النعم فيضا، لا قبضاً، وورد منهلاً، عللاً لا نهلا. لا يمتد له طرف إلا إلى نعمى، ولا يصغي سمع إلا إلى نغمة بشرى. لا يلتوي عليه مطلوب، ولا ينزوي عنه محبوب. قد سخر له المقدار، وساعده الفلك المدار. نادى الآمال فإجابته مكثبة، ودعا الأماني فعاجلته مصحبة. رأت عيناه، ما لم تبلغه مناه، واتسعت نعمته، بحيث لم تنله همته. امتلأ ناديه من ثاغيه صباح، وراغيه رواح. تلاحقت حاشيته، وتلاحقت ماشيته.
ذكر المال الصامت
ورمت أكياسه فضة وتبرا. عنده من العين ما تقر به العين. العين للعين قره، وللقلب قوة. من ملك الصفر أبيض وجهه، واخضر عيشه. كم عنده من عدو في برده صديق. من نجاز الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر. كدارة العين، يحط ثقل الدين، وينافق بوجهين. فلان مستظهر بخبايا الحقائب، وسرائر الأخراج، وضمائر الصناديق. أموال اغتص بحسباناتها الديوان، وناء بثقلها الخزان.
تراجع الأمور وركود ريح النعمة
رفت حاشية حاله، ومالت دعامة ماله. قد أفل نجمه، وسقط سهمه، وكثرت فتوقه، واتسعت خروقه. أخمدت ناره، ووضع مناره، خبا قبسه، وكبا فرسه. قد قعدت به نواهضه، وتساقطت خوافيه وقوادمه.
انحاء الخطوب والنوائب
حصل بين أنياب الزمان ومخالبه، وصلي بنار حوادثه ونوائبه. تصرفت به خطوب تتلو خطوبا، وشوائب تدع الولدان شيبا. حوادث أجحفت، وكوارث الحفت. عصفت به عواصف الثبور، وقواصف الدهور. بين محنة قاصدة، ونكبة راصدة. قد عاين شدة متعبة، وعانى أموراً مستصعبة. مر به ما لو مر بالحديد لذاب، أو بالوليد لشاب. نشب في أعظم خطة، وأصعب ورطة. قد عضه ناب النائبة العظمى، ورمي بسهم الدامية الجلي، وحصل في أسر الطامة الكبرى. حرمسه الضر، وانحى عليه الزمن المر، ونشزت عليه البيض وشمست منه الصفر، وأكلته السود وحطمته الحمر. قد حلي بفم الدهر فما يشبع من أكله نهساً ونهشا، وخضماً وقضما.
سوء الحال واستحكام الحرقة
فلان يرتضع من الدهر ثدي عقيم، ويركب من الفقر ظهر بهيم. عاثر لا يستقل، سليم لا يبل، كسير لا ينجبر، مضيم لا ينتصر. قد زالت عنه الآلآء، وانثالت عليه اللأواء. لو بلغ الروق فاه، لولا قفاه. لا يأوي إلى ظل الدنيا إلا تقاربت أكنافها، ولا يمتري درها إلا أخلفت أخلافها.
سوء أثر الفقر والضر
جاء بوجه قد غبر فيه الفقر، وانتزف ماءه الدهر، وأمال قناته السقم، وقلم أظفاره العدم. وجه أكسف من باله، وزي أوحش من حاله. جاءنا ببدن ناحل، ووجه حائل، ورجل وحلة، ويد قحلة، وأنياب قد افتر عنها الضر، والعيش المر. طريح ضعف ومتربة، وطليح ذل ومسكنه. جاءنا بوجه قد نضب ماؤه، وطال سقاؤه. لا يملك غير الجلدة بردة، ولا يلتقي بحياه رعدة. جاءنا فلان يضيق بالبرد ويسعه، ويأخذه القر ويدعه.
وصف ثياب الفقر
جاء في قميص قد أكل عليه الدهر وشرب. أطمار لعبت بها أيدي البلى. جبة تقرأ ” إذا السماء انشقت ” سواء لابسها والعريان. جبة لا تساوي تصحيفها. أطمار كالهواء الرقيق، وكالشراب الرقراق. رداء دب فيه الردى. أطمار كنسج العناكب، ونار الحباحب. رأيت فلاناً في ثياب أخلاق، لم يبق فيها من عمل الحائك باق. أطمار أرق من أكباد المحبين، إذا هب عليها النسيم امتزجت بالهواء، وانتظمت في سلك الهباء.
وصف المتناهي في الفقر
قد أحلت له الضرورة ما حرم الله عليه، قد حصل على أشد إضافة، وتكشفت عن أقبح فاقة، قد تناهت حاله في الانتشار والرزاحة إلى التكشف عن دار بلقع، وفقر مدقع. انتقل من سلخ جلد إلى تعرق لحم، ومن رض عظم إلى انتقاء مخ. فلان حي كميت، وفي بيت بلا بيت. ليس معه عقد، على نقد. يخرج خروج الحية من جحره، والطائر من وكره. حاله حال السليم مله عواده، والغريق أسلمته أعواده. هو بين أنياب الدهر تحطمه بصريفها، وتعتوره بصروفها، ويده صفر، ومنزله قفر، وغداؤه الخوى، وعشاؤه الطوى، ورطاؤه الغبراء، وغطاؤه الخضراء، وإدامه التشهي، وطعامه التمني، وفراشه المدر، ووساده الحجر. ثوبه جلده، ومركوبه رجله. خصيب العين. جديب البطن، واسع المنى. ضيق الغنى، أفرغ بيتاً من فؤاد أم موسى.
ذكر اليسر والعسر والإنتعاش من صرعة الدهر
تجلت عنه غمة الخطوب، ودارت له العواقب بالمحبوب. انقشعت ضبابة محنته، وتجلت غمرة كربته، وطلعت نجوم سعادته، وهطلت سحائب إرادته. صلح له الدهر الطالح، وملكه عنانه البخت الجامع، طلع سعده بعد الأفول، وبعد صيته بعد الخمول، صار كمن أحيي وهو رميم، وأنبت وهو هشيم. أنعم الله بإعادته، إلى أحسن عادته. أقبلت عقد أموره تتحلل، ومطالبه تتسهل، ووجوه مناجحه تتهلل. أخرجه من الضيق إلى السعة، ومن الانزعاج إلى الدعة. تماسكت حاله التي تخللها الخلل، وثبتت قدمه التي ملكها الزلل. صلحت حاله واستقلت، وثبتت قدمه واستقرت.
وصف عيش الناعم المغبوط
فلان في عيشة ندي ظلها، وسح وابلها وطلها. هو عيش رقيق الحواشي، مثمر النواحي. هو في نعمة صافية، ومنحة ضافية، وعيشة راضية. قد لاحظ العيش مخضر العود، ولابس الدهر متصل السعود. هو صائب سهم الأمل، وافر جناح الجذل. يفترع أبكار اللذات، ويجتني ثمار المسرات، يغازل الغزلان، ويقامر الأقمار، ويعاقر العقار. يهصر أغصان القدود، ويقطف ورد الخدود، ويجني رمان النهود. قد صحبته الأيام أحسن صحبة، وعاشرت الزمان أهنأ عشرة. غراب البين عن ربعه مطار، وغيم اللهو فيه مطير. هو في جانب منيع، وجناب مريع. ثمل في غناه، مستقل في كراه قد هنأه الله كل يوم إحساناً أغر، وملأه عيشاً أغن. قد خفض الزمان له جناحاً، وآلان مهاده. فهو يأخذ ما يشاء ويدع، ويلعب ويرتع لذلة العيش وطاب، وولى رقيب الغم عنه وغاب. هو بين جاه عريض، وعيش غريض. هو بين نعمة سنية، وبلهنية هنية. تذل له الأيام أخادعها، وتدني إليه المطالب مشارعها. عيش أخضر العود ناضره، مائل الغضن مائره. هو بين أنواء خير وخصب، وأنوار رياض وعشب.
في ضد ذلك
نجمة منكدر، وعيشة كدر،ولباسه خشن، وطعامه خشب. يقاسي من فقد رياشه، وضيق معاشه، قذارة عينه، وغصة صدره. حال تريه النهار أسود، والعيش أنكد. إذا أصبح ركب ظهر الشيهم، وإذا أمسى توسد ذراع الهم. يكابد من مرارة عيشه ناب الأرقم، ويتجرع كأس العقم. منغض شرعة العيش، مقصوص جناح الأنس. حاله حال السليم في كربته، والغريق في لجته، والمحترق بحرته. هو بين غمائم لا تمطر إلا صواعق، وسمائم لا تهب إلا بوائق. قد تلقها بوجه الثامت، ويد المصالت. عيشة رنق، ومورده طرق، وجانبه حزن، وحاله حزن. طريح كربة لا يعرف مداها، وجريح غمة لا تكل مداها. ما يأكل إلا على نغص، ولا يشرب إلا على غصص. قد انقبضت مسافة طرفه، وأظلم أفق عيشه، وغربت نجوم سعده.
?السرور والإهتزاز
أخذتني هزة، وانتشرت في جوانحي مسرة. وجدت أعضائي كلها تتباشر، ووجوه رجائي تتهلل، وأعطاف مسرتي تهتز، وسحائب غبطتي تنهل. حالي حال من حكم في مناه، وأعطي كتابه بيمناه. كدت أهيم فرحاً، وأطير بجناح السرور مرحا. ملكتني المسرة حتى استفزتني، واشتملت علي حتى هزتني. علتني بشاشة النجاح، ودبت في نشوة الارتياح. أصبحت لا تقلني كواهل أرضي مرحا، ولا أعواد سرجي فرحا. اتسع لي مسرح السرور، وهطلت علي سحابة الحبور. اهتز عطفه، وارتفع طرفه، وانشرح صدره، وترجم عنه بشره. هزة تهدي المسرة إلى سواد القلب، وتؤدي الغبطة إلى سواء النفس. ابتهاج حل حبوة وقاره، ولاح أثره في أثناء وجهه وأسراره. اهتز اهتزاز الرامي قرطس سهمه، والضارب نفذ حده، والشجاع ظهرت فروسيته، والحازر صدقت فراسته. سرت المسرة في أعضائي، وطبقت الغبطة أحشائي، وتهللت وجوه من الأنس كانت قبل عابسة،وأرقت غصون من الفرح وعهدي بها يابسة. أقبلت بقلب مرتاح، وصدر ملآن من انشارح. جاء بأقوى يد وأبسطها، وأسر نفس وأنشطها. قد شق الضحك شدقه، وأمال الطرب عنقه. مسرة تركتني كالغصن غازلته الصبا فترنح، ومرت به الشمال فترجح. قرت عيناه، وانبسطت يمناه، وصافح مناه. المسرة آتية، والبهجة مواتية، والوحشة مولية. لم أضبط نفسي ارتياحاً وهزة. كادا يورثاني بغية وعزة. أنا في ثوب المسرة رافل ونجم الوحشة عني آفل. دواعي المسرة مكتنفة، وعوادي الوحشة منكشمة.
في ضد ذلك
في نفسه بلابل تدور، ومراجل تفور. يده دعامة لذقنه، وجسمه خشبة لحزنه. قد صافح أكف الحزن، واستسلم لأيدي الزمن، ما يستقر به مضجع، ولا يجف له مدمع. باله كاسف، وقلبه راجف. هم قد نكأ القلب وأبكى العين. لا أقول عمه، ولكن أعماه وأصمه. يرى ضياء الدنيا ظلاماً، ويتصور نور الشمس قتاما. منطوي الجوانح على أذى، مغضوض الجفون على قذى، قد طبق الحزن بسيطة صدره، وأنفق الغم ذخيرة صبره. غمه جذع فتي، وقلقه غض طري. نهاره للفكر، وليله للسهر. طرق الأمس دونه مبهمة، وآفاق السرور عليه مظلمة.
ذكر الأمن
فلام لا يلتفت وراءه مخافة، ولا يخشى أمامه آفة. قد أبدله الله بحر الخوف برد الأمن فأمن سربه، وعذب شربه. أمن لا يذعر معه السرح، ولا يتغشى لباسه الذعر. قد سكن روعه والتحف عليه جناح السكينة، وحصل في ظل الطمأنينة. قد سكن جاشه، وزال استيحاشه.
في ضد ذلك
إذا نام هاله طيف، وإذا انتبه راعه سيف. طار قلبه بجناح الوجل، وطاش لبه في قبضة الوهل. الأرض عليه كفة حابل أو أشد تقاربا، وحلقة خاتم أو أتم تداخلا. قد ملكه خوف لا يريم، وذعر لا ينام ولا ينيم. قد طاح روعه فرقا، وطار قلبه فرقاً، كادت نفسه تطيح، وروحه تسري بها الريح.
ذكر الطاعة بعد الإمتناع واللين بعد القسوة
دان بعد طماحه، ولان بعد جماحه. سمح، بعد أن جمح، وتطوع، بعد أن تمنع. استأسر، بعد أن استأسد، وتذلل، بعد ما تدلل، وتأتى، بعد ما تأبى، وعنا، وبعد ما عتا، دان مقاده، ولانت شداده. ذلت أخادعه، وتسهلت مراتعه.
الضياع وما يجري من الألفاظ في ذكرها ووصف أحوالها
لفلان ضويعة يرتفق بها، ويرتزق منها. ضيعة أنفق عليها أيام عمره، وأراق فيها ماء شبيبته. ضيعة اقتناها يوطء الجمر، واستعمرها بانتعال العدم. ضيعة يحشد في عمارتها، ويحتمل في تثمير ارتفاعها، ويبيع ما يلوح له الحظ في بيعه من غلاتها. تلك الضياع على اتساع بقاعها، وعظم ارتفاعها، قد استغرقت غلاتها. نوائب السلطان، وتحيفت ثمراتها جوائح الزمان، فلا فضل فيها للإفضال على الإخوان. وقفت على ما عرض في تلك الضيعة من الضيعة، وفي تلك الغلة من الخلة. أربابها أرباب خلة وقلة، وأحوال مضمحلة. إن الجراد العام قد جرد وأفسد. نوائب أناخت على صبابة معيشته لم تبق ولم تذر، وتركت نباتها كهشيم المحتظر، وذلك أن برداً أتيح لها كبيض النعام كبراً فأقعد قائمها، وغيب ناجمها، وتركها عافية تندب كما نذب الشعراء الأطلال، ثم تنشد أن الوقوف على المحيل محال. هو في تلك الضياع بين نصح يؤثره، وجميل يؤثره. قد حفر، وحرث وبذر، وقوم المائد، وأصلح الفاسد، وعمر الغامر، وتألف الناقر. كان من أثره الحميد توصله بيسير النفقة إلى عمارة القني حتى تفجرت عيونها، وغزرت مياهها. هاذ مع غيض الماء في عامة الأطراف، ويكثر الزروع على الجفاف. قد صار دخلها على الضعف، بعد عودة إلى النصف. قد أكد أساسها، وثمر غراسها، وأضحك رياضها، وملأ حياضها. جاهد أمورها حتى تيسر أكثرها، وتركها لا يتخللها خلل، ولا يميل بها ميل. قدم فيها ما هو أصلح وأنجح، وأوفق وأرفق. تلافي أمرها أعظم التلافي، وتفرد تفرد الكافي الوافي.
ذكر الفرس والبغلة والحمار
فرس يتعب سائسه، ويحمل فارسه. فرس رائع الخلق، تنطق عنه شواهد العتق. سفينة برية، وريح مجسمة. كأنه منتقب بالنجم، منتعل بالحجارة الصم. يباري طلق البزاة، ويفني أنفاس الفهود، كأنه طود موثق، أو سيل متدفق، كالكوكب المنقض، والبارق المنفض. كالجاحم المشبوب، والهاطل المصبوب. ولا يعين عليه سوط، كأنما أنعل بالرياح، وبرقع بالصباح. كأنه شيطان، في أشطان، وكأنما لطم الصباح جبينه. كالبحر إذا ماج، والسيل إذا هاج. بغلة تجمع بين حسن الشية، وطيب المشية. أما ذلك الحمار فالريح أسير يده، وشعل النار في أعضاء جسمه، وحسد الأفراس مقصور على حسنه، وكمد البغال لما فاتها من فضله.
وصف الأبام المشهودة والمشهورة
يوم هو عيد العمر، وموسم الدهر. وميسم الفجر. يوم من أعياد دهري، وأعيان عمري. يوم من أيام الدنيا ضاحك السن. طلق الوجه، شريف الصيت. رخيص الدرهم والدينار. كثير الفرح والاستبشار. يوم أبرزت فيه الدنيا زينتها، وجلت على النواظر في معرض الجمال صورتها. يوم هو يوم القيامة إلا أنه لا حشر، وعيد الدنيا إلا أنه لا فطر ولا نحر. يوم خرجت فيه العذراء من الخدر، والصبي من المهد، وسلب الرجل رداءه في غمار الزحمة، والمرأة سوارها فلم يسمع صراخها من الضجة. يوم تهافت فيه الناس حتى ضلت النعل، وسقط الرداء، ووطيء الشيخ، وديس الصبي، يوم تكاثرت فيه النظارة حتى حمل فيهم الصبي، ودلف الشيخ، ودبت العجوز، وخرجت العروس، وخلت الدور.
التأبيد
ما طلعت الثريا وغربت، وشرقت الشمس وغربت. ما لاح كوكب، وأقام يذبل وكبكب، ما حال حول، وعاد عيد، واخضر عود. ما طلعت شمس، وتكرر أمس، ما تردد نفس، وتكرر غلس. ما بل ريق فما، ومداد قلما. ما انتهى ظلام إلى فلق، وتأدى غروب إلى غسق. ما أخر المهل، وضرب المثل. ما بقي إنسان، ونطق لسان. ما طرد الليل النهار، واطرد النجم وسار. ما تعاقب الضياء والظلام، وتناسخت الشهور والأعوام.
آخر كتاب الشوارد والفوارد وما يشبهها، ولله الحمد
كتاب الأمثال والحكم
وما يحذو حذوها
قال مؤلف في هذا الكتاب
قد اعتمدت بهاذ الكتاب الأخير أن يكون غرره كلها مستقلة بأنفسها، منسوبة إلى أربابها الذين هم أفراد الدهر، وأعيان العصر، في أنواع النثر، وجعلت لكل منهم باباً مفرداً، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ما أخرج من كلام الأمير شمس المعالي أدام الله تأييده
الكريم إذا وعد لم يخلف، وإذا نهض بفضيلة لم يقف. الرجاء كنور في كمام، والوفاء كنور في ظلام، ولا بد للنور أن يتفتح، وللنور أن يتوضح. العفو عن المجرم من مواجب الكرم، وقبول المعذرة من محاسن الشيم. بزند الشفيع توري نار النجاح والإقداح، ومن كف المفيض ينتظر فور القداح. الوسائل أقدام ذوي الحاجات، والشفاعات مفاتيح الطلبات. من أقعدته نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام. ومن ألبسه الليل ثوب ظلمائه، نزعه عنه النهار بضيائه. قوة الجناح بالقوادم والخوافي، وعمل الرماح بالأسنة والعوالي. اقتناء المناقب، باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل، بالسعي في الخطب الجليل. الدار دار تغرير وخداع، وملتقى ساعة لوداع، وأهلها متصرفون لورد وصدر، وصائرون خبراً بعد أثر. غاية كل متحرك سكون، ونهاية كل متكون أن لا يكون، وآخر الأحياء فناء، والجزع على الأموات عناء، وإذا كان كذلك، فلم التهالك على هالك. حشو هذا الدهر الخؤون أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم. إذا سمح الدهر بالحباء، بأبشر بوشك الانقضاء، وإذا أعار، فاحسبه قد أغار، وإذا حالف،فاحسبه قد خالف. الدهر طعمان حلو ومر، والأيام صرفان عسر ويسر، والخلق معروض على طورية، مقسوم الأحوال على دوريه. لكل شيء غاية ومنتهى، وانقطاع وإن بعد المدى. ترك الجواب، داعية الارتياب، والحاجة إلى اقتضاء، كسوف في وجه الرجاء. النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره. من أين للضباب، صوب السحاب، وللغراب هوي العقاب، وهيهات أن تكسب الأرض لطافة الهواء، ويصير البدر كالشمس في الضياء. قد يستعذب الشريب من منبع الزعاق، ويستطاب النحيب من النهاق. كل غم إلى انحسار، وكل عال إلى انحدار. هم المنتظر للجواب ثقيل، والمدى فيه وإن كان قصيراً طويل.
كلام الإسكافي
ما أخرج من كلام أبي القاسم علي بن محمد الإسكافي الزمان صروف تجول، وأمور تحول. الأخلاق تنميها الأعراق، والثمار تنبي عنها الأشجار. الشكر به زكاء النعمى، والوفاء معه صلاح العقبى. السعيد من تحلى بزينة الطاعة، واقتدح بزند الجماعة. العامة لا تفقه حقائق المذاهب، ولا تعرف عواقب التألب والتجارب. المخذول يرفع رأساً ناكسا، ويبل فماً يابساً. لا يشوقنك غرارة الصبي، ولا يروقنك زخرف المنى. استعذ بالله من نزغات الشيطان، ونزقات الشبان. من خلا له الجو باض وصفر ومن استرخى به اللبب نزا وطفر.
كلام ابن العميد
ما أخرج من كلام أبي الفضل بن العميد
متى خلصت حال من اعتوار إذى، وصفا فيه شرب من اعتراض قذى. قد تتماسك الأمور حتى تبلغ إلى غاية، ثم تتباين وتتهافت وتستمر حتى تنتهي إلى نهاية، ثم تتخاذل وتتفاوت. لن يفيض الإناء وإن تدارك القطر عليه حتى يمتلي، ولا يتساقط الثوب وإن دب فيه البلى حتى ينتهي. قد تتسمح الأيام بما تمنع، وتتساهل ثم تقطع، وتصل الغبطة، بالرزية، والمحنة بالمحنة، ولها غرات تبتدر، وغفلات تنتهز. قبل أن تفطن فيخشن مسها، ويمتنع جانبها، ويتأبى طائعها، ويتصعب سهلها. قد يعزب العقل ثم يؤوب، ويغرب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل شدة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء. قد تنفجر الضخرة بالماء الزلال، ويلين القاصي فيعود إلى الوصال. العاقل من افتتح في كل أمر خاتمته، وعلم من بدء كل شيء عاقبته، وطالع بظنه من كل غرس ما يجنى منه، ومن كل زرع ما يحصد عنه. خير القول ما أغناك جده، وألهاك هزله. من أسر داءه وستر ظماءه، بعد عليه أن يبل من علله، ويبل من غلله، الرتب لا تبلغ إلا بتدرج وتدرب، ولا تدرك إلا بتجشم كلفة ونصب. الصحيح يصيح ويفصح، والحق يلوح ويلمح. الوداد غرس إن لم يوافق ثرى ثريا وماء رويا، لم يرج إيراقه، ولم يؤمل ثماره وأوراقه. القلوب أوعية يشرحها الرفق، ويبسطها اللطف، ويفسحها التمرين، وإذا تجوز بها هذه الخلال، إلى الأستكراه والإملال، خرجت عن احتواء علم، وضاقت عن ضبط فهم، وفاضت بما تستودع. رأس المال خير من الربح، والأصل أولى بالعناية من الفرع. المرء أشبه شيء بزمانه، وصفة كل زمان منتسخة من سجايا سلطانه. قد يبذل المرء ما له في صلاح أعدائه، فكيف يذهل العاقل عن حفظ أوليائه، للأمور أوائل دالة على أواخرها، ومقدمات شاهدة لعواقبها، هل السيد إلا من تهابه إذا حضر، وتغتابه إذا أدبر. الإبقاء على خدم السلطان عدل الإبقاء على ماله، والإشفاق على حاشيته وحشمه، مثل الإشفاق على ديناره ودرهمه. قدم من خيرك ما لا ينفعك تأخيره، واحصد الشر قبل استفحاله، وقوم الميل ما دام الغصن غضاً يقبل التقويم، ورطباً يطيع التثقيف، ولا تنتظر به العسور والامتناع، وداو فتقاً تنهره الأيام خرقاً إن ترتكته، ارأب شعباً يزيده الدهر وهياً إن أغفلته. المزح والهزل بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد العسر، وفحلان إذا ألقحا لم ينتجا غير الشر.
ما أخرج من كلام أبي محمد الحسن بن محمد المهلبي الوزير
من تعرض للمصاعب، تثبت للمصائب. من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره. من حنث في أيمانه، وأخل بأمانته، فإنما ينكث على نفسه. القلب لا يملك بالمخاتلة، ولا يدرك بالمجادلة. التصرف أسنى وأعلى، والتعطل أعفى وأصفى. أكفف عن لحم يكسبك بشما، وفعل يعقبك ندما. مكن موضع رجلك، قبل مشيك، وتأمل عاقبة فعلك، قبل سعيك. لا تبد وجه المطابق الموافق، وتخفي نظر المسارق المنافق. لا تعدل عن النص، إلى الخرص، وعن الحس، إلى الهجس. ربما وفي ظنين، وهفا أمين. قتل الإنسان ظلم، وقتل قاتله حكم، لو لم يكن في تهجين الرأي مفرد، وتبين عجز التدبير الأوحد. إلا أن الأستلقاح وهو أصل كل شيء لا يكون إلا بين اثنين، وأكثر الطيبات أقسام تجمع، وأصناف تؤلف، لكفى بذلك ناهياً عن الأستبداد، وأمراً بالاستمداد.
كلام إسماعيل بن عباد
ما أخرج من كلام الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد
من استجار به فقد وطيء النجم بقدمه، وسبق القدم بتقدمه. من اسمتاح البحر العذب، استخرج اللؤلؤ الرطب. من غرته أيام السلامة، حدثته السنة الندامة. من لم يهزه يسير الإشارة، لم ينفعه كثير العبارة. رب لطائف أقوال، تنزب عن وظائف أموال. الكلام إذا تكرر في السمع، تقرر في القلب. من طلب الري من الفرات لم يخش الظمأ في ورده. ومن قصد الكريم برجائه لم يحاذر الخيبة في قصده. من طالت يده بالمواهب، امتدت إليه ألسنة المطالب. من غمط النعمة، استنزل النقمة. من نبت لحمه على الحرام، لم يحصده غير حد الحسام. من يكن الحذاء أباه، تجد نعلاه. من لم يتحرر من المكايد قبل هجومها، لم يغنه الأسف عند وقوعها. من عرف المفاخر، عرف المعاير، ومن حفظ المساعي كذا. الناس بالذم أعلق، وروائحه بالحفظ أعبق. الاعتدال أعدل، والطريق الأوسط أمثل. الرأي أقومه، أحكمه، وأسده، أشده. رب اجتهاد، أبلغ من جهاد، ومكايد دقيقة المسارب، أنكى من حداد صقيلة المضارب، ولطائف أقوال، تنوب عن وظائف الأموال. وثبات عقول وعقود، أوقع منثبات جيوش وجنود. غش الكافي أحمد من نصح الناقص. الثناء الجميل لسان المساعي، والبشر الحسن عنوان المعالي. الصدر يطفح بما جمعه، وكل إناء مؤد ما أودعه. اللبيب تكفيه اللمحة، وتغنيه عن اللفظة اللحظة، الإحجام في مواطنه، كالإقدام في مواقعه، والترك في أماكنه، كالأخذ في مواضعه. الراحة حيث تعب الكرام أودع، لكنها أوضع، والعقود حيث قام الأحرار أسهل، لكنه أسفل. الشمس قد تغيب ثم تشرق، والروض قد يذبل ثم يورق، والبدر يأفل ثم يطلع، والسيف ينبو ثم يقطع. اللبيب من الإيماء يكفيه، والإيحاء يغنيه، واللفظة تجزيه، واللمحة تؤثر فيه. الكأس تكره أول ما تؤخذ، ثم تنفع بعد ما تنفذ. السيذ لا يروع القطيع بأرضه، والأسد لا يعدو على الفريسة في غيله. الوقوف في مدارج التهم ذنب عظيم، والدخول في شبهات الظنن داء عقيم. العلم بالتذاكر، والجهل بالتناكر. الطاعة سعيدة المطلع، حميدة المرجع. العصيان ذميم الفاتحة، وخيم العاقبة. الثعالب لا تجسر على أخياس الأسود، والأرانب لا تقدم على أغيال الليوث. الضمائر الصحاح، أبلغ الألسنة الفصاح. إن الجبال الثم، والأطواد الصم لا تمال بحصيات القاذف، ولا تحال بجمرات الحاذف. الرجل الحول من ثنى أزمة الأعداء عن الشحناء، إلى المودة والصفاء، لا من أحال الصديق ذا الأخاء، إلى حال الهجرة والبغضاء. الشيء في إبانه، كما أن الثمر يستطاب في أوانه. الإغفال لا تؤمن عواقبه، بل تحذر مضايره. الآمال ممدودة، والأنفاس معدودة. الذكرى ناجعة، وكما قال الله نافعة. تجارة الإفضال رابحة، وصفقة الإحسان راجحة. متن السيف لين، ولكن حده خشن. ومس الحية ألين، ونابها أخشن. والشمس تحيي نورا، ولكنا تقتل حرا. والماء يروي، وقد يخاض فيه فيردي. عقد المنن في الرقاب، لا يبلغ إلا بركوب الصعاب. بعض الحلم مذلة، وبعض الإستقامة مزلة. كتاب المرء عنوان عقله، بل عيان قدره، ولسان فضله، بل ميزان عمله. انجاز الوعد، من دلائل المجد. واعتراض المطل، من أمارات البخل. وتأخير الإسعاف، من قرائن الإخلاف. خير البر ما صفا، وضفا، وشره ما تأخر، وتكدر. خير الوعظ ما قضى بالإرتداع قبل الإيقاع والإنزجار قبل الإنكار اصطناع الأراذل، سمة في وجوه الأفاضل. مرضاة السلطان، لا تغلو بشيء من الأثمان، ولا يبذل الروح والجنان. فراسة الكرم لا تبطي، وقيافة الشرف لا تخطي. قد ينبح الكلب القمر، فيلقم النابح الحجر. كم متورط في هثار، رجاء أن يأخذ بثار. لا بد للسرى من قمر، وللربى من مطر. قد يبلغ الكلام، حيث تقصر السهام. ربما كان الإقرار بالقصور، أنطق من لسان الشكور. ربما كان الإمساك عن الإطالة، أرجح في الإبانة والدلالة. هل يثبت التصنع إلا بقدر الاستكشاف، ويستقر التعمل إلا ريث الاستشفاف. لكل أمر أجل، ولكل وقت عمل. إن نفع القول الجميل، وإلا نفع السيف الصقيل. لا يذهن عليك تفاوت ما بين الشيوخ والأحداث، والنسور والبغاث. عريسة الأسد، ليست من أماكن النقد. كفران النعم، عنوان النقم. وجحد الصنائع، داعية القوارع، وتلقي الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود. قد يصلي البريء بالسقيم، ويؤخذ البر بالأثيم، يقوى الضعيف، ويصحو النزيف، ويستقيم المائد، ويستيقظ الهاجد. ما انتفع بعلم من لم ينتفع بطبه، ولا بفهمامرىء لم يصب بوهمه. إن السنين تغير السنن. شجاع ولا كعمرو، ومندوب ولا كصخر. للصدر نفثة إذا أحرج، وللمرء بثة إذا أحوج. طلوع الشمس في ضمان غروبها. ومكاره الأيام في أعقاب محبوبها. وعواري الليالي على شرف ارتجاعها، وودائع الدهر بعرض انتزاعها. المكاتبة نظام الصلة وقوام المقة، وملاك المسرة، وعماد المبرة.امرىء لم يصب بوهمه. إن السنين تغير السنن. شجاع ولا كعمرو، ومندوب ولا كصخر. للصدر نفثة إذا أحرج، وللمرء بثة إذا أحوج. طلوع الشمس في ضمان غروبها. ومكاره الأيام في أعقاب محبوبها. وعواري الليالي على شرف ارتجاعها، وودائع الدهر بعرض انتزاعها. المكاتبة نظام الصلة وقوام المقة، وملاك المسرة، وعماد المبرة.
ما أخرج من كلام أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابيء
موقع الشكر من النعمة، موقع القري من الضيف. إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم. إن النفس لأمارة بالسو، صبة إلى العتو. لا تدفع عن مضارها إلا بالشكائم، ولا تقاد إلى منافعها إلا بالعزائم، فمن كبحها وثناها نجاها، ومن أطلقها وأهرجها أرداها. إن الشيطان يكسو الخدع والشبهات، سرابيل الحجج والبينات. ليستفز بها الأحلام، ويستزل الأقدام. احذر أن تأمر بما تجانب فعله، وتنهى عما يأتي مثله. الشورى لقاح العقول والمباحثة رائد الصواب، واستظهار المرء على رأيه من عزم الأمور، واستنارته بعقل أخيه من حزم التدبير. إذا استفحل الداء فالكي والانضاج، أنجع ما استعمل فيه من العلاج. أعرف الناس بقدر العافية من وجدها بعد فقدها، وبفضل الثروة من لبسها بعد التعري منها. لسان العمل أنطق من لسان القول. وجميل الفعل أزجر من حسن الوعظ. إذا أتت الجفوة من معدن البر تضاعف إيلامها، وتزايد إيجاعها، كما أن المبرة إذا جاءت شاذة من معدن العقوق حسن موقعها، وأعجب أمرها. رب بعيد يقربه نقاء جيبه، وقريب يبعده اتهام غيبه. رب حاضر لم تحضر نيته، وغائب لم تغب مشاركته. للكلام مذاهب وملاحن، وربما سلك القائل مسلكاً فسلك السامع ضده، وأراد شيئاً فظن به غيره. لا بد من مصابرة الغمرة حتى تنجلي، وملاطفة الشدة حتى تنتهي. السيئة إذا حصلت بين حسنتين لم تكن إلامغمورة مغفورة. إن الله تعالى دعا إلى النهوض والنهود، ونهى عن الفتور والقعود. الشكول أقارب، وإن تباعدت بهم المناسب. إن انتشار النظام إذا بدا بدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النعل في الأديم، وكثيراً ما يعدي الصحاح مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المركب الصعب.
ما أخرج من كلام أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف
نعم المعبر عن الضمير مضمار القريض. إن الله سائلك عن الخطرة والخطفة، واللحظة واللفظة. اردع من ثوب عفافك، ما يشمل كافة أطرافك. التقوى أقوى ظهير، وأوفى معين. وخير عتاد، وأكرم زاد للمعاد. اشحذ فكرك، وأرهف ذهنك. إذا ابتديت النظر، فاقض أمامه لكل وطر، لئلا تجاذبك شهوة، أو تختلجك من نوازع النفس حاجة.احذروا أن ينقلكم الله بأقدامكم، إلى مصارع جمامكم. استدم النعمة عليك بالتقوى لله، وبحسن الطاعة للسلطان فإنهما جنتاك، وعدتاك وذريعتاك، والمشفعتان عند الله في أولاك وأخراك. التقوى أوفى معين، وأوقى ظهير. التقوى هي العدة الوافيه، والجنة الواقية، والتجارة الرابحة، والسعادة السانحة، والجلاء للشبهة، والضياء في الغمة. سيعيض الله من حر الهواجر برد الظلال، ومن قلق الركاب، نجح الإياب. استقبلوا بالخضوع وجه الله واستنزلوا بالتسبيح والتهليل رحمته. واستديموا بالحمد والشكر نعمته. أيقظوا قلوبكم من سنة الخواطر، واحبوسا ألحاظكم عن محظور المناظر.
ما أخرج من كلام أبي الحسن علي بن القاسم القاساني
قل في حران أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء. مراتع أهل الفضل موبئة،ووجوه مطالبهم مظلمة. شاهد القلب يصدق القول، ورائد الضمير يحقق الدعوى. ابتداء المنة تبرع ونافلة، وإتمامها سنة لازمة وغنيمة حاصلة. البيان الحسن ينوب عن الرقى، ويستنزل العصم من الذرى كلال الذهن، مع ارتقاء السن. ونقصان الخواطر، بزيادة الشواغل واستمرار البلادة، بمفارقة العادة.
ما أخرج من كلام أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي
الشكر على الإحسان، والسلع بإزاء الأثمان. الطير واقعة مع مثلها، والنفس مائلة إلى شكلها، الإذكار حيث التناسي، والتقاضي، حيث التغاضي. العشرة مجاملة، لا معاملة، والمجاملة لا تسع الاستقصاء والكشف، والعشرة لا تحتمل الحساب والصرف. الاعتذار في غير موضعه ذنب، والتكلف مع وقوع الثقة عيب، والدواء لغير حاجة داء، كما أنه عند الحاجة إليه شفاء. الاستقالة تأتي على العثرات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات. الذنب للعين العشواء، في محبة الظلماء، وكراهة الضياء، وفم المريض يستثقل وقع الغذاء، ويستمريء طعم الماء. الحر كريم الظفر إذا نال أنال، واللئيم لئيم الظفر إذا نال استطال. الآباء أبوان: أب ولادة، وأب إفادة فالأول سبب الحياة الجسمانية، والثاني سبب الحياة الروحانية. الغيرة على الكتب من المكارم، لا بل هي أخت الغيرة على المحارم. والبخل بالعلم على غير أهله، قضاء لحقه ومعرفة بفضله. الرجل إذا قيدها عقال الوجل، لم تنطلق نحو مطبة الأمل. المحجوج بكل شيء ينطق، والغريق بكل شيء يتعلق. العاقل يختار خير الشرين، ويميل مع أعدل الشقين. الجواد محتكر بر، لا محتكر بر. الكريم تاجر جمال، لا تاجر مال. والحر وقاية الحر من فقره، وسلاحه على دهره، المدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم. الدهر غريم ربما يفي بما يعد، وحبلى ربما تتئم فيما تلد. الدهر أصم على الكلام، صبور على وقع سهام الملام. الناس بالإحسان، والإحسان بالسلطان، والسلطان بالزمان، والزمان بالأمكان، والإمكان على قدر المكان. العزل طلاق الرجال، والمحنة صيقل الأحوال. الكريم من أكرم الأحرار، والكبير من صغر الدينار. المصيبة في الولد العاق موهبة، والتعزية عنه تهنئة. المحية ثمن كل شيء وإن غلا، وسلم إلى كل شيء وإن علا. الرجل من إذا كوى أنضج، وإذا لقح أنتج. وإذا قال أبلغ. وإذا أنعم أسبغ. التقديم على الغاية تأخر عنها، والزيادة على الكفاية نقصان منها. الأذن بكر من الأبكار، لا تفتض إلا بالأخبار، والبكر منها أحب إليها، وألذ لديها. إنما السؤدد بكثرة الأتباع، وكثرة الأتباع بكثرة الاصطناع إنما تحوم الآمال حيث الرغبة، وتسقط الطير حيث تنتثر الحبة، إن النساء لحم على وضم، وعصيد في غير حرم، إلا أن تلاحظ بعين غيور، ونفس يقظ حذور. إن الولاية عزل، إذا لم يعمر جانبها عدل. سرعة الشهادة طريق من طرق الخفة، وابتذال المدح والتزكية باب من أبواب الملق. المجازفة بحساب المقال، أقبح من المجازفة بحساب المال، قبول شكر الشاكر التزام لزيادته، واستماع قول المادح ضمان لحاجته. صغير البر ألطف وأطيب، كما أن قليل الماء أشهى وأعذب. ثمرة الأدب العقل الراجح، وثمرة العلم العمل الصالح. طول الخدمة، أكد حرمة، وتأكد الحرمة، عقد قرابة ولحمة. ادعاء الفضل من غير معدنه نقيصة، كما أن الإقرار بالنقص من حيث الاعتذار فضيلة، والقتال عن العسكر المنهزم ضرب من المحال، وتعرض لسهام الآجال. شاهد العيان، أقوى من شاهد النسيان، ودليل البصر، أوضح من دليل الخبر شاهد الأحوال، أنطق من شاهد الأقوال. باب الإحسان مفتوح من شاء دخله، وحمى الجميل مباح من اشتهى فعله. وليس على المكارم حجاب، ولا يغلق دونها باب. شبكة المحال أوهى من أن تنشب فيها رجل محق، وكيد الباطل أضعف من أن ينفذ في حق. مؤدب العاقل إخوانه، ومرآته زمانه. وسوط الجواد عنانه. شرف النازل متصل بشرف الدار، وسمك الأنهار، ليس في قرار سمك البحار. قراءة كتاب الصديق نعم ترياق سم الغم. قليل السلطان كثير، ومداراته حزم وتدبير، كما أن مكاشفته غرور وتغرير. شر من الساعي من أنصت له، وشر من متاع السوء قبله. لا خير في حب لا تحتمل أقذاؤه. ولا يشرب على الكدر ماؤه. خير الكلام ما استريح من ضده إلى ضده. ورتع بين هزله وجده. أوجع الضرب ما لا يمكن منه البكاء، وأشد الشكوى ما لا يحققه الاشتكاء. كل غم كان سبباً للسرور، فهو سرور، وكل ظلمة كانت طريقاً إلى النور، فهي نور. أبى الله أن يقع في البئر إلا من حفر، وأن يحيق المكر السيء إلا بمن مكر. الدعاء غاية من ضاق إمكانه، ولم يساعده زمانه. ما تعب من أجدى، وما استراح من أكدى، وحبذا كدر أورث نجحا، وشوكة أجنت ثمرا. للرياسة شروط وتوابع، وللتجارة فيها أرباح ووضائع، فرأس مالها اعتقاد المنن في الأعناق، وتبليغ الرجال مقادير الكفايةوالاستحقاق. من طمس عين الشمس، فقد نطق عن مقداره في الحس. هل على الأرض عار أن تطلب سقيا السماء? وهل على الفقراء نقص أن يأخذوا صدقة الأغنياء?. وهل يعيب النهر أن يستمد من البحر? وهي يضع الساري أن يستضيء البدر. قد يتواضع الأسد لصيد الأرنب، وافتراس الثعلب. وإن كان يصطاد الفيل، ويفترس الزندفيل. حق لنهر انشعب من بحر، أن يكون غزيراً ولنجم استضاء ببدر، أن يكون منيرا. بالآباء يقتدي الأولاد، وعلى الأعراق تجري الجياد. كل إنسان يجري على عرق أوليه، وكل إناء يرشح بما فيه. قد يصبر الكريم على عشرة من لا يحبه، ولا يميل إليه قلبه. العاقل إذا إبغض إنصف، وإذا أحب الطف. من ذا يزحم الداء والموت داؤه، ويثق بالأصدقاء والأيام أعداؤه. لا ثبات على سم الأسود، ولا قرار على زأر الأسد. كيف يقدر على الدواء، من لا يهتدي إلى الداء. وكيف يداوي أعداءه، من لا يعرف أصدقاءه. قد هابك من استتر، ولم يذنب إليك من اعتذر. ومن رد إليه عذره فقد أخرجه إلى الشجاعة بعد الجبن، وأخرج ذنبه إلى صحن اليقين من سترة الظن. ليس بين الموالاة والمعاداة إلا لقية شنعة، أو لفظة قذعة. رب فعل يصاب به وقته فيكون سنة، وفي غير وقته يكون سبة. بالصبر ينال العلى، وعند الصباح يحمد القوم السرى في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. أشرف من الحق من قبله، وأحسن من الحسن من فعله. هل يبرأ المريض بين الطبيبين? وهي يسع الغمد سيفين? لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أسوأ تعلماً من الإنسان. قدماً أخلف الدواء شاربه، وخان الرجاء صاحبه. من الناس من إذا ولي عزلته نفسه، ومنهم من إذا عزل ولاه فضله. كيف يشكر القمر على أن يلوح، والمسك على أن يفوح. وكيف يقال للنجم ما أضواك، وللفلك ما أعلاك، وللعسل ما أحلاك. إن ولاية المرء ثوبه، إن قصر عنه عري منه، وإن طال عليه عثر فيه. ما المحنة إلا سيل، والسيل إذا وقف انصرف. وما الأيام إلا جيش، والجيش إذا لم يكر، فقد فر، وإذا لم يقبل إليك أدبر عنك. من أراد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل والإفضال. إذا كان لا بد من عبادة مخلوق، ومن استرزاق مرزوق، فليضع الحر رقة بيدي كريم، وليجعل غدوه ورواحه إلى باب عظيم. في كتمان الداء، وفي عدم الدواء، عدم الشفاء. م لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه. نعم جنة المرء من سهام دهره، نزوله عند قدره، ونعم السلم للأرزاق، طلبها من طريق الاستحقاق. ما أكثر من يخطيء بالصنيعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه موضع المزرع. أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا، وكانت رضاعاً ثانياً.لاستحقاق. من طمس عين الشمس، فقد نطق عن مقداره في الحس. هل على الأرض عار أن تطلب سقيا السماء? وهل على الفقراء نقص أن يأخذوا صدقة الأغنياء?. وهل يعيب النهر أن يستمد من البحر? وهي يضع الساري أن يستضيء البدر. قد يتواضع الأسد لصيد الأرنب، وافتراس الثعلب. وإن كان يصطاد الفيل، ويفترس الزندفيل. حق لنهر انشعب من بحر، أن يكون غزيراً ولنجم استضاء ببدر، أن يكون منيرا. بالآباء يقتدي الأولاد، وعلى الأعراق تجري الجياد. كل إنسان يجري على عرق أوليه، وكل إناء يرشح بما فيه. قد يصبر الكريم على عشرة من لا يحبه، ولا يميل إليه قلبه. العاقل إذا إبغض إنصف، وإذا أحب الطف. من ذا يزحم الداء والموت داؤه، ويثق بالأصدقاء والأيام أعداؤه. لا ثبات على سم الأسود، ولا قرار على زأر الأسد. كيف يقدر على الدواء، من لا يهتدي إلى الداء. وكيف يداوي أعداءه، من لا يعرف أصدقاءه. قد هابك من استتر، ولم يذنب إليك من اعتذر. ومن رد إليه عذره فقد أخرجه إلى الشجاعة بعد الجبن، وأخرج ذنبه إلى صحن اليقين من سترة الظن. ليس بين الموالاة والمعاداة إلا لقية شنعة، أو لفظة قذعة. رب فعل يصاب به وقته فيكون سنة، وفي غير وقته يكون سبة. بالصبر ينال العلى، وعند الصباح يحمد القوم السرى في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. أشرف من الحق من قبله، وأحسن من الحسن من فعله. هل يبرأ المريض بين الطبيبين? وهي يسع الغمد سيفين? لم أر معلماً أحسن تعليماً من الزمان، ولا متعلماً أسوأ تعلماً من الإنسان. قدماً أخلف الدواء شاربه، وخان الرجاء صاحبه. من الناس من إذا ولي عزلته نفسه، ومنهم من إذا عزل ولاه فضله. كيف يشكر القمر على أن يلوح، والمسك على أن يفوح. وكيف يقال للنجم ما أضواك، وللفلك ما أعلاك، وللعسل ما أحلاك. إن ولاية المرء ثوبه، إن قصر عنه عري منه، وإن طال عليه عثر فيه. ما المحنة إلا سيل، والسيل إذا وقف انصرف. وما الأيام إلا جيش، والجيش إذا لم يكر، فقد فر، وإذا لم يقبل إليك أدبر عنك. من أراد أن يصطاد قلوب الرجال، نثر لها حب الإحسان والإجمال، ونصب لها أشراك الفضل والإفضال. إذا كان لا بد من عبادة مخلوق، ومن استرزاق مرزوق، فليضع الحر رقة بيدي كريم، وليجعل غدوه ورواحه إلى باب عظيم. في كتمان الداء، وفي عدم الدواء، عدم الشفاء. م لم ينه أخاه فقد أغراه، ومن لم يداو عليله فقد أدواه. نعم جنة المرء من سهام دهره، نزوله عند قدره، ونعم السلم للأرزاق، طلبها من طريق الاستحقاق. ما أكثر من يخطيء بالصنيعة طريق المصنع، ويخالف بزرعه موضع المزرع. أكبر من الأسير من أسره ثم أعتقه وأشجع من الأسد من قيده ثم أطلقه إذا عتقت المنادمة صارت نسباً دانيا، وكانت رضاعاً ثانياً.
ما أخرج من كلام الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي
لله ألطاف تنتصر من الباغي، وتقضي بنيل المباغي. الفاضل لا يسلم من القدح، ولو غدا أقوم من القدح. النعمة عروس مهرها الشكر، وثوب صوانه البشر. لو كان الشباب فضة كان الشيب لها خبثاً. الخضاب، تذكرة الشباب. ما جمش الود بمثل العتاب. الشكل للكتاب، كالحلي للكعاب، رب كلام أحلى من ريق النحل، وأصفى من ريق الوبل. كم بين من حالف الشيطان فاعتصم بحبله، وبين من خالفه فاعتصم من ختله. رب لاغ، في بلاغ. ألا دب زين وجمال، إن تطعمت به نفع، وإن ترويت به نقع، وإن تعطرت به سطع، وإن تحليت به لمع. خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا. القلم أحسن مطية تمشي براكبها رهوا، وتكسو الأنامل زهوا. أين المهاوي من المراقي، والأقدام من التراقي. الدنيا قنطرة لمن عبر، عبرة لمن استبصر واعتبر.
ما أخرج من كلام بديع الزمان أبي الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني
الكلام معجون، والحديث شجون. نعم الرفيق، التوفيق. المرء لا يعرف برده، كالسيف لا يعرف بغمده. رأس اليتيم يحتمل الوهن، ولا يحتمل الدهن، وظهر الشقي يحمل عدلين من الفحم، ولا يحمل رطلين من الشحم. لولا الشعير، ما نهقت الحمير. الكلب بزمن، حين يسمن، ولا يتبع، حين يشبع وعند الجوع، يهم بالرجوع. نار الحلفاء، سريعة الانطفاء. الحذق، لا يزيد الرزق. والدعة، لا تحجب السعة. لا يكونن مثلك كمن صار حولا. وشرب بولا. احتكم إلى الحجارة، فالتغير نصف التجارة. المرء يساق إلى ما يراد به. غضب العاشق أقصر عمراً، من أن ينتظر عذرا. المرء يدبر، والقضاء يدمر، والآمال تنقسم، والآجال تبتسم. للمقمور أن يستخف ويستهين، وللقامر أن يحتمل ويلين. إن بعد الكدر صفوا، وبعد المطر صحوا، لا تكاثروا الله في بلاده، ولا ترادوا في مراده، ” إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده “. الحبل لا يبرم إلا للفتل، والثور لا يربى إلا للقتل. أرخص ما يكون النفط إذا غلا، وأسفل ما يكون الأرنب إذا علا لا يحسد الذئب على الإلية يعطاها طعمة، ولا بحسب الحب ينثر للعصفور نعمة. إن للمتعة حدا، وإن للعارية ردا. ما كل مائع ماء، ولا كل سقف سماء، ولا كل بيت بيت الله، ولا كل محمد رسول الله. الكريم عند أولي اللوم، كالماء في فم المحموم، وسم المبرسم في الشهد، والشمس تقبح في عيون الرمد. الخبر إذا تواتر به النقل، قبله العقل. سبيل الإنسان، في الإحسان، سبيل الأشجار، في الثمار، فسبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرقد إلى السنة. جهد المقل، خير من عذر المخل. النذل، لا يألم العزل. إن الوالي سيعزل، وإن الراكب سينزل. المدين يحسب النسيئة عطية، ويعتدها هدية. من الذي لا يهاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه. لن يبطل العرف في القياس، ولا يذهب بين الله والناس، الطباع إلى الذم أميل. والعقرب، إلى الشر أقرب. واللسان بالقدح، أجرى منه بالمدح. والحاسد يعمى عن محاسن الصبح، بعين تدرك دقائق القبح. للثقات خيانات، في بعض الأوقات. هذه العين تريك السراب شرابا وهذه الأذن تسمعك الخطأ صوابا. لست بمعذور، إن وثقت بمحذور.
ما أخرج من كلام أبي الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء
رسوم الكرم ديون. الأفعال، نتائج الآمال. رب ظلوم يتظلم. المكاتبة ترجمة النية. السيد المتواضع كالشمس الباهرة بضيائها، القريبة مع اعتلائها. الصديق الصدوق كالأمن الذي لا صبر عنه. والغيث الذي لا عوض بحال منه. دولة لا تختص بنفعها الأحرار غير مفروح بها، ولا مأسوف عليها. المعرفة بأسرار الآلات، أقوى معين على الصناعات. كيف يوصى الناظر بنوره، أم كيف يحث القلب على حفظ سروره. إن انتهاء الشيء إلى أقصى حده ناقل له عما كان عليه إلى ضده. لو تكافأ الناس في فصل الخطاب، لما عرف الخطأ من الصواب. الانقياد لأوامر الهمم المنيفة، من نتائج الأخلاق الشريفة.
ما أخرج من كلام أبي الفتح علي بن محمد البستي
من أصلح فاسده، أرغم حاسده. من أطاع غضبه، أضاع أدبه. عادات السادات، سادات العادات. وشيم الأحرار، أحرار الشيم. من سعادة جدك، وقوفك عند حدك. أفحش الإضاعة، الإذاعة. الخيبة، تهتك الهيبة. في الدعة، رائد الضعة. من لم يكن لك نسيبا، فلا ترج منه نصيبا. الرشوة رشاء الحاجة. اشتغل عن لذاتك، بعمارة ذاتك. أجهل الناس من كان للإخوان مذلا، وعلى السلطان مدلا. حبيبك، من لا يعيبك. إذا بقي ما قاتك، فلا تأس على ما فاتك. الدنيا فناء. الفناء. البشر عنوان الكرم. من تبرج بره، تأرج ذكره. من حصن أطرافه، حسن أوصافه. المراء يهدم المروءة. الفهم شعاع العقل. رضى المرء عن نفسه، دليل تخلفه ونقصه. الحدة والعزيمة فرسا رهان. الجود والشجاعة شريكا عنان. العجز والتواني رضيعا لبان. نعم الشفيع إلي عدوك عقله. لا تغترن بصحة مزاجك في الهواء الوبي. ولا تغترن بقوة بصرك في الظلمة الراكدة. أفراط التغافل، تثاقل. رب مقال لاتقال عثرته، حسن الأخلاق، أنفس الأعلاق. الحلم مطية، وطية. كيف القرار، على الشرار. مسلك الحزن، حزن. أحصن الجنة، لزوم السنة. الرد الهائل، خير من الوعد الحائل. الخلاف غلاف الشر. نعم العدة، طول المدة. البرايا، أهداف البلايا. حد العفاف، الرضا بالكفاف. من لزم السلم سلم. الخرق، آفة الخلق. إفراط السخاوة، رخاوة. ربما كانت العطية، خطية. الفلسفة فل السفه. لكل حادث حديث ما كل خاطر، بعاطر. البشر نور الإيجاب. البخل سوس السياسة. العفيف، يكفيه الطفيف. لسان النصح فصيح التكلف ترجمان التخلف من تعطل بتطل أدهى المصائب كثرة العايب المعيب. إفراط الدماثة، غثاثة. إفراط الفخامة، وخامة. إفراط التأني توان. الإنصاف أحسن الأوصاف. عليك بالحذر، من الهذر. ربما تكون المنية، هنية. معنى المعاشرة، ترك المعاسرة، ما لخرق الرقيع مرقع. ربما تكون العناية، جناية. قدر الأمين، ثمين. قوتك، قوتك. الغيث، لا يخلو من العيث.
ما أخرج من كلام أبي النصر عبد الجبار العتبي
الشباب باكورة الحياة. الشيب رداء الردى. تعز عن الدنيا تعز. لسان التقصير، قصير. من يكس، وكس ونكس. البخل فراش العار، والحرص فراش النار. إذا قرع المر باب الكهولة فقد استأذن على البلى. الوقاحة، كحجر القداحة. لولاه ما استعر لهب، ولا استعل حطب. للهم في وخز النفوس، حال السوس. في خز السوس. السفه نباح الإنسان. الرفق لقاح الصلاح، وجناح النجاح. عجبت لمن يسمح بالروح اضطرارا، كيف لا يسمح بالمال اختيارا. الصلة المستورة، كالحلة المنشورة. حفظ الأيمان، من وثاق الأيمان. من ثمل من كأس الثناء، طرب لأنس اللقاء. تناسي المعروف قلادة في جيد الجود. التجربة مرآة المرء. الشعر قرآن الشيطان. الخمر مطية الخطية. التغافل من رموز الكرم. إياك والجدل فإن أوله مجاراة، وأوسطه مباراة، وآخره مماراة. الأناة سمت العاقل، وسمة الفاضل. العاقل من أصبح من الأجل، على وجل. للبقول أحرار، وفي الطير عتاق. الشيب أحد كافوري الكفن، حسن الخلق في الخلد. البدعة شرك الشرك. ربي ربي على كل خفي كذا. تكليل المعروف تعجيله، وتتويجه، وتطويقه، تحقيقه، وتسويره، وتيسيره، وتوشيحه، تسريحه. الماء يطيب المسك. العشرة بعنبر الإنصاف. إذا سمعت نغمة الشكر طربت للمزيد. عدتي في العقبى، مودتي في القربى.
ما أخرج من كلام أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي في كتابه كتاب الفرائد والقلائد
أعيى الناس من أطال الخطبة، وأساء الخطبة. أشد الغصص، فوت الفرص العدل أقوى جيش، والأمن أهنأ عيش. من صاحب العلماء وقر، ومن صاحب السفهاء حقر. خير أموالك ما أنفقت منه، وخير أعمالك ما وفقت فيه. أبعد الهمم. أقربها من الكرم، رأس الفضائل، اصطناع الأفاضل، ورأس الرذائل، اصطناع الأراذل. من أعز نفسه، أذل فلسه. من حسن صفاؤه. وجب اصطفاؤه. من بسط راحته، أنس ساحته. من ركب الحق، غلب الخلق. من ساء عقده، سر فقده، من تعدى على جاره، دل على لؤم نجاره. من أحسن الاختيار، أحسن إلى الأخيار. من فعل ما شاء، لقي ما ساء. من زرع الإحن، حصد المحن. من زل نعله، زال عقله. م حسنت حاله، استحسن محاله. لا يخلوا المرء من ودود يمدح، ومن حسود يقدح. الشرف بالهمم العالية، لا بالرمم البالية. من طال أمله، ساء عمله. ازرع الأخيار بسيبك، وتحصد الأشرار بسيفك. إذا سنحت لك إلى السلطان حاجة فلا ترفعها إليه ما لم تر وجهه بسيطا، وقلبه نشيطا، وبشره باديا، وذرعه خاليا.
ما أخرج من كلام المبهج لمؤلف هذا الكتاب
من صلى لله لم يصل ناره. الصدقة صداق الجنة. بشر وفد، الله برفد الدارين. سبحان مقدر الأقوات، على اختلاف الأوقات. العلم أشرف ما وعيت، والخير أفضل ما أوعيت. الصدق بالحر أحرى، وفي طريق المروءة أجرى. الهوى سلاف مونق، مزاجه ذعاف موبق. الكريم ثقل هناته، وتكثر هباته. القلوب لا تستمال، بمثل المال. العرض، هو الغرض، والمال، هو المآل. ما بقاء المال بين حوائج الإنسان، وحوائج الزمان. العين للعين قره، وللظهر قوة. الدرهم أنفذ الرسائل، وأنفع الوسائل، وأنجح المسائل. نقصان الغلة، زيادة الغلة. لا تؤتي الضيعة أكلها. إلا من يحمل كلها. خلف الوعد، خلق الوغد. الورد نسيم الروح، نسيب الروح. الصديق ثاني النفس، وثالث العينين. لقاء الصديق روح الحياة، وفراقه سم الحيات. الحاجة إلى الأخ المعين، كالحاجة إلى الماء المعين. ربما كان التقالي، في التلاقي. ربما أدت المجادلة، إلى المجالدة. إذا ألم الألم، فالمعاجلة بالمعالجة. من كرمت خصاله، وجب وصاله، ومن كثر هجره، وجب هجره. عرف العرف يضوع عند الكريم، ويضيع عند اللئيم. طوبى لمن كانت نفسه مراحة، وعلله مزاحة. طوبى لمن أمن سربه، وصفا شربه. ويل لمن كان بين عز النفس، وذل الحاجة. ويل لمن كان بين سخط الخالق، وشماتة المخلوق. كم معسر في الثياب الأخلاق، موسر في مكارم الأخلاق. لو كانت المشاجرة شجرا، لم تثمر إلا ضجرا. من اعتقد الصلاح، اعتقد الفلاح. من جلب در الكلام، حلب در الكرام. من عاداه قومه، طار نومه، وطال يومه. الرجل من تثنى به الخناصر، وتثنى عليه السبابات، وتعض من الغيظ عليه الأباهيم. الملك من تبيض آثار أعاديه، وتسود أيام أعاديه، وتخصر مواضع سيبه، وتحمر مواقع سيفه. إذا عدل الملك فقد اعتدل الجانف، وأقصر الحائف، وأمن الخائف. مذاكرة أدباء الإخوان، أطيب من مغازلة الغزلان، وأمتع من حركات الريح بين الريحان. الأنس في المجلس الخاص، لا في المحفل الغاص. التقي من عزف أعراض همته عن أغراض الدنيا. إذا أقبل جد المرء فالإقبال يسعده، والأوطار تساعده، سريعة النفرة، شديدة الطفرة. بعيدة السفرة. ما أدل حسن السيرة، على طيب السريرة. الحازم من تزود لمآبه، قبل أن يصير لمابه. البخل بالطعام، من أخلاق الطغام. لا يطيب حضور الخوان، إلا مع الإخوان. الصديق لا يحظر، تقديم ما يحضر. لا يحصل برد العيش إلا بحر التعب. إذا أسفر صبح الشيب فقد هوى نجم الهوى. ووهى حبل الصبا. من كان في الموتى عريقا، كان في يم الهم غريقا. من كان عليك عاتبا، كان لك عائبا. من أذال وجهه، أذل نفسه. بعض الناس كالغذاء النافع، وبعضهم كالسم الناقع. ثمرة رأي الأديب المشير، أحلى من الأري المشور. قوة الوسيلة جناح النجاح، رب كلام له حسن الوجوه الصباح، وسحر الحدق الملاح. رب كلام أملح من أطواق القماري، وأذكى من العود القماري. الصعب مع القضاء ذلول، والعزيز به ذليل. الأمطار، تعوق عن الأوطار. والأوحال، تحول عن الوصال. الصبر أحجى، بذي الحجى. من تبصر، تصبر. ليالي السرور غر، وأيام الهموم غبر. أخلق بمن كان وجهه دميما أم يكون فعله ذميما. وبمن كان وجهه وضيا، أن يكون فعله رضيا. ما من لحظة إلا ومعها صنع من الله خفي، ولطف خفي. ما الخلاص، إلا في الإخلاص. من افتقر إلى الله استغنى. صدق المناجاة، سبب النجاة.
آخر كتاب الأمثال والحكم والمواعظ وما يحذو حذوها من كتب سحر البلاغة وسر البراعة ما كتب لخزانة الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي فرغ من تسويده وتسطيره المفتقر إلى فضل الله وغفرانه محمد بن أحمد بن الحسن السرجهاني في محروسة ماردين بالمدرسة الخاتونية الرضية تغمدها الله برحمته.
لست بقين من شهر الله الأصم رجب سنة سبع وخمس مائة.

__________________________________

اضغط الرابط أدناه لتحميل البحث كامل ومنسق جاهز للطباعة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *