المكتبات الخاصة

المكتبات الخاصة

مما يتصل بالحديث عن المؤسسات الخيرية والعلمية في حضارتنا – الحديثُ عن المكتبات، فقد كانت مدارسَ للتعليم، ومؤسسات ينفق عليها الأمراء والأثرياء والعلماء؛ لينتشر العلم بين الناس، وخصوصًا في ذلك الزمن الذي لم تكن فيه الطباعة موجودة، وكانت الكتب تنسخ على أيدي نسَّاخين متخصصين لهذا العمل، فكان يبلغ بذلك ثمنُ الكتاب حدًّا قد يتعذر على طالب العلم أو العالم الفقيرِ شراؤه، فكيف إذا أراد أن تكون له مجموعة من الكتب في الفن أو العلم الذي يتخصص فيه؟ ومن هنا كان قيام المكتبات في مجتمعنا الماضي منبعثًا عن عاطفة إنسانية، وعن نزعة علمية في وقت واحد.

لعل الأدب العربي هو أغنى الآداب العالمية القديمة بالتغني بالكتاب، والولع به، والرغبة فيه، والتحدث عنه، حتى لكأنه حبيب نأى مزارُه، وشطَّت دارُه، فالقلوب إليه منصرفة، وبه مولعة، قال أحمد بن إسماعيل: “الكتاب هو المسامر الذي يبتدئك في حال شغلك، ولا يَدعُوك في وقت نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمُّل له، والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملُّك، والناصح الذي لا يستزلُّك”، ولقد كانوا يفضلون مطالعة الكتب على غشيان الناس في مجالسهم، ويرَون الأنس بها أقربَ إلى القلب من الأنس بالخليفة أو ذي سلطان.

بهذه الروح العلمية شغف علماؤنا وأغنياؤنا وأمراؤنا بالكتب وجمعها، حتى إنهم كانوا يرون نَكبَتَهم في أموالهم وبيوتهم أيسرَ عليهم من نكبتِهم في كتبهم.

هجم الجنود مرة على دار ابن العميد، بعد أن انتصروا على غلمانه وحراسه، ففر ابن العميد إلى دار الإمارة، فوجد أن خزائنه جميعها قد نُهبت، حتى إنه لم يجد ما يجلس عليه، ولا وجد كُوزًا يشرب فيه الماء، واشتغل قلبه بدفاتره وكتبه، ولم يكن شيء أعز عليه منها، وكانت كثيرة تشمل جميع العلوم، وكل نوع من أنواع الحكم والأدب، تُحمل على مائة بعير فأكثر، فلما رأى ابن العميد خازن مكتبته سأله عنها، فأجابه: هي بحالها لم تمسها يد، فسُرِّي عن ابن العميد، وقال لخازنه: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد عنها عوض، وهذه الخزانة – أي: مكتبته – هي التي لا عوض لها.

وبهذه الروح العلمية كانوا يتنافسون في شراء المؤلَّفات العلمية من مؤلِّفيها عقب الانتهاء من تأليفها، سمع الحكم أمير الأندلس بكتاب “الأغاني” المشهور الآن في عالم الأدب، فأرسل إلى مؤلفه أبي الفرج الأصفهاني ألفَ دينار من الذهب ثمن نسخة منه، فأرسل إليه أبو الفرج بنسخة من كتابه، فقُرئ كتابه في الأندلس قبل أن يُقرأ في العراق موطن المؤلف.

وقد نشأ عن هذه الروح العلمية انتشارُ المكتبات في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فقلَّما كانت مدرسة ليس بجانبها مكتبة، وقلَّ أن تجد قرية صغيرة ليس فيها مكتبة، أما العواصم والمدن، فقد كانت تغص بدور الكتب، بشكل لا مثيل له في تاريخ العصور الوسطى.

كانت المكتبات نوعين رئيسين: عامة وخاصة، أما العامة، فقد كان ينشئها الخلفاء والأمراء والعلماء والأغنياء، كانت تشيَّد لها أبنية خاصة، وأحيانًا كانت تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى.

أما الأبنية الخاصة، فقد كانت تشتمل على حجرات متعددة، تربط بينها أروقة فسيحة، وكانت الكتب توضع على رفوف مثبتة بالجدران، تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم، فلكتب الفقه غرفة، ولكتب الطب غرفة، ولكتب الأدب غرفة، وهكذا، كان فيها أروقة خاصة للمطالعين، وغرف خاصة للنساخ الذين ينسخون الكتب، وفيها غرف لحلقات الدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات، وكانت جميعها تؤثث تأثيثًا فخمًا ومريحًا، وكان في بعضها غرف لطعام روادها، ومنامة للغرباء منهم، كالذي قيل في مكتبة علي بن يحيى بن المنجم، فقد كان له قصر عظيم في قرية قريبة من بغداد (هي كركر من نواحي القفص)، وفيه مكتبة عظيمة، كان يسميها خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والأرزاق مغدقة عليهم، وكل ذلك من مال علي بن يحيى نفسه؛ بل هنالك ما هو أطرف من ذلك، مما لا نعلم له مثيلاً اليوم في أرقى عواصم الحضارة الغربية، فقد كان في الموصل دار أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وسماها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفًا على كل طالب علم، لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسرًا، أعطاه ورَقًا وورِقًا – أي: كتبًا ونقودًا – وكانت تفتح في كل يوم، فهل سمعتم حتى الآن بمكتبة في لندن أو واشنطن، أو عاصمة من عواصم العالم الكبرى اليوم تمنح الأدب والأموال لطلبة العلم؟!

وكان للمكتبات العامة موظفون يرأسهم خازن المكتبة، وهو دائمًا من أشهر علماء عصره، ومناولون يناولون الكتب للمطالعين، ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية، ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة، ومجلِّدون يجلدون الكتب؛ لتحفظ من التمزق والضياع، هذا عدا عن الخدم وغيرهم ممن تقتضيهم حاجة المكتبات.

وكان لكل مكتبة – صغيرة أو كبيرة – فهارسُ يُرجع إليها؛ لسهولة استعمال الكتب، وهي مبوبة بحسب أبواب العلم، وبجانب هذا كانت توضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجودة في الدولاب، وكان من المعروف في نظام المكتبات أن الاستعارة الخارجية مسموحة في أغلبها؛ لقاء ضمان عن الكتاب من عامة الناس، أما العلماء وذوو الفضل، فلم يؤخذ منهم ضمان.

أما الموارد المالية التي كانت تقوم بنفقات المكتبات، فمنها ما كان من الأوقاف، التي تنشأ من أجلها خاصة، وهذه حال أكثر المكتبات العامة، ومنها ما كان من عطايا الأمراء والأغنياء والعلماء الذين يؤسسون تلك المكتبات، فقد قالوا: إنه كان عطاء محمد بن عبدالملك الزيات للنقلة والنُّساخ في مكتبته ألفي دينار كل شهر، وكان المأمون يعطي حنين بن إسحاق من الذهب زنةَ ما ينقله من الكتب إلى العربية مِثلاً بمِثل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *