بحث عن الانتفاضة والتتار الجدد وورد doc

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد المبعوث بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

الانتفاضة والتتار الجدد

إن من المتفق عليه اليوم، أن أمتنا تمر بمرحلة من أخطر مراحل تاريخها، إن لم تكن أخطرها فعلاً، وذلك في ظل تفريطها في إتباع كتاب ربها وسنة نبيها من جهة، وفي ظل العدوان الغاشم عليها من أهل الكتاب وغيرهم من جهة أخرى.
وتتساءل الأمة جماعات وأفراداً ليلاً ونهاراً تساؤلات كثيرة، وكلما اقتربت نذر انفجار الحرب كثرت التساؤلات وتضاعفت.
ويمكننا أن نجملها ونحددها في أمرين:- ما حقيقة ما يجري ؟ وما واجبنا نحوه ؟ وعلى هذين محور حديثنا في هذا اللقاء، ولنبدأ أولا بتحديد السبب الحقيقي المباشر في حملة أهل الكتاب (أو التتار الجدد) على العراق ومن ثم على المنطقة كلها؟
إن نقطة البدء في دراسة الحرب الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي مهمة جدا لأنك إن لم تنطلق من هذه النقطة فربما تضيع أو تحار:
هناك تحليلات كثيرة عن هذا: منها طبعا أن العراق خرج عن القانون الدولي ولابد من معاقبته وهذا ما تردده الإد ارة الأمريكية لكن لا يكاد أحد يصدقه.
ثانيها: أن القضية قضية ثروات = نفط – مياه –أي أن المشكلة مدرجة ضمن إطار العولمة الاقتصادية.
ثالثها: أن الدافع هو تحقيق مشروع تفتيت المنطقة إلى دويلات وإخضاعها للسيطرة الأمريكية.
رابعها: أن الهدف هو الانتقام من العرب والمسلمين بسبب أحداث 11أيلول فالحرب على العراق تأتي ضمن نطاق الحرب على الإرهاب المدعى !!
أخيرا: يقال إن الهدف هو أن الإمبراطورية الأمريكية تريد التفرد بالهيمنة بين القوى المنافسة.
بدون إطالة نقول إن هذه التعليلات تحوم حول الحقيقة لكنها لا تطابقها بشكل مباشر، أما الحقيقة التي بلغت لدينا مرتبة اليقين فهي أن الهدف الثابت المباشر الذي لا يتغير والذي يفسر كل المواقف والمشروعات هو: المحافظة على: 1-أمن الدولة اليهودية، 2- ورفاهيتها، 3- وتفوقها في القوة على كل دول المنطقة.
ولا يمكن أن تجد طريقا لتفسير التقلب -وربما التناقض- في السياسة الأمريكية (والأوربية أيضا) تجاه العالم الإسلامي، إلا بأن تربط ذلك بوضع إسرائيل وبأهدافها المرحلية، ثم تأتي الأهداف الأخرى تبعاً أو ضمناً، وهي تتغير في حقيقتها وفي مسائلها بحسب هدا الهدف الثابت.
وبذلك أيضاً يمكن أن تفسر التباين في منهج السياسة الأمريكية بين تعاملها مع العالم الإسلامي وتعاملها مع غيره.
إذن القاعدة في هذا:هي أنه حيثما تكون إسرائيل تكون أمريكا بغض النظر عن المصالح المادية وغيرها، وكلما كان الوضع في إسرائيل مريحا -بالتفوق العسكري والتقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي- كان منهج السياسة الأمريكية مع العرب أقرب إلى المنطق والنفعية، والاهتمام بالمصالح القومية للأمريكان، وفتور الحملات الإعلامية على العرب والعكس بالعكس..!!
إن عرضا تاريخيا موجزا لمراحل الصراع يكشف لنا معالم واضحة لهذه القاعدة :-

1. ما بين حرب حزيران وحرب رمضان كانت أمريكا أقرب إلى العقل والمنطق ـ نقول أقرب لان ذلك لم يكن منهجها الثابت أبدا ًـ ثم أثناء حرب رمضان حين اضطرب الوجدان الإسرائيلي وتبعا لذلك اضطرب التفكير الأمريكي كان الجسر الجوي والضغط الشديد على الدول العربية والحملة الإعلامية الكثيفة ضدهم.
2. بعد اتفاقيات “كامب ديفيد” عاد لها شيء من العقل، وشرعت في تقوية علاقاتها بالعرب، حتى وظفتهم في حربها على السوفيت في أفغانستان باعتراف مهندس العملية ” بريجنسكي”، وكذلك في حربها على الثورة الإيرانية!!
3. بعد مقتل السادات – الذي يعني رفض الشعوب للاتفاقية – ظهر مشروع تفتيت المنطقة إلى دويلات، وهو مشروع غير منطقي بالنظر للأهداف الأمريكية، لكنها أيدته ضمانا لتفوق إسرائيل، كما أيدتها في أعمال منافية للشرعية مثل احتلال لبنان وضرب المفاعل العراقي.
4. عندما تفجرت الانتفاضة الأولى – انتفاضة الحجر – وازدادت المقاومة في جنوب لبنان، وبدأت دول النفط العربية تحقق تقدما اقتصادياً، قررت أمريكا الدخول المباشر في المنطقة لغرض الهيمنة اليهودية، وجاء احتلال الكويت ليهيِّأ لها تدمير العراق كله، ثم أعلنت النظام العالمي الجديد، وعقدت مؤتمر مدريد، وأيدت اتفاقية أوسلو، كل ذلك لتهيئة النجاح لمشروع الشرق أوسطية الصهيوني! وعندما بدأ المشروع يؤتي بعض ثماره، في المؤتمرات الاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية، واقتنع العرب بالتفوق المطلق لعدوهم، ورضخوا للمشروع بدأت أمريكا تتعامل معهم بمنهج عقلاني نفعي، وشرعت في إدراج المنطقة ضمن المجال الحيوي للأمركة، المسمى “العولمة”، واختفى مشروع تفتيت دول المنطقة ليحل محلَّه مشروع الولايات المتحدة الشرق أوسطية.
وقد عكر ذلك العمليات الإستشهادية سنة 1417هـ1996م لكن أمريكا هرعت لنجدة العدو، وبادرت بعقد مؤتمر شرم الشيخ، وحشدت فيه ثلاثين، دولة وأوقفتها صفا واحدا لتأييد إسرائيل في الحرب على الإرهاب كما يدعونه!!
و حدث بعد ذلك فترة من الهدوء النسبي في المنطقة. بلغت فيها الدولة الصهيونية أوج قوتها وأمنها ورفاهيتها، كما عاشت العلاقات الأمريكية العربية عرسها التاريخي، وشرعت الشركات الأمريكية العملاقة في مسيرة العولمة، واستجابت الدول العربية لذلك بإعلان الخصخصة وفتح الأبواب للاستثمار الأجنبي !!
5. وعندما حدثت الانتفاضة الأخيرة فجأة، وظهرت آثارها الواضحة على أمن إسرائيل ورفاهيتها وتفوقها، تخلت أمريكا عن عقلانيتها، وتجاهلت كل مصالحها، وأجّلت مشروع العولمة، وبدأت تخطط للدخول المباشر في المعركة إلى جانب ربيبتها المدللة. واستغلت الهجمات عليها في أيلول لإعلان الحرب الصليبية على الإسلام باسم الإرهاب، ثم حولت الحملة الصليبية عن هدفها الأول المعلن وهو القضاء على الإرهاب في مناطق كثيرة من العالم إلى القضاء على محور الشر الثلاثي والعراق تحديداً.
وهكذا أعادت إلى الأذهان مشروعا أوشك على الخروج من بنود الإستراتيجية الأمريكية في فترة الهدوء، حينما انفتحت أكثر الدول على العراق حتى أقربها إلى أمريكا، وحظيت الشركات الأمريكية بعقود ووعود هائلة للإعمار و التنقيب فيه، وانقطع وجود المفتشين الدوليين فيه، وخفت الحديث -حتى كاد ينقطع- عن أسلحة العراق وعن خطر العراق على جيرانه! .
6. عندما أخفق شارون في القضاء على الانتفاضة، وأخفق عرفات والعرب في إيقافها، وارتفعت وتيرة القلق في إسرائيل، أصبح الحديث عن تدخل أمريكا المباشر علنيا، ولم يعد شارون وغيره يخفون إلحاحهم على أمريكا بضرب العراق، وبدون تردد يجب أن نعلم أن وراء ذلك مشروعا صهيونيا يراد تنفيذه في غمرة انشغال المنطقة بالشأن العراقي أو بعده مباشرة.
هذا المشروع قد يكون التهجير الجبري إلى الوطن البديل، وقد يكون عملية إبادة فظيعة (قيل إنها قد تقع في نابلس أو غزة) و قد يكون المشروع متجها إلى عرب الداخل، وهو على أي حال مرتبط بالخريطة الجديدة التي يراد رسمها بعد احتلال العراق، وتشمل الجوانب السياسية والسكانية والاقتصادية وغيرها لكل المنطقة!!
والمقصود أن هذا هو جوهر الصراع ولب المشكلة الذي يجب أن يكون واضحا لدينا. [وهذا لا يمنع البحث في قضايا تابعة أو ثانوية كالنفط وغيره] وتحديد ذلك و دوام العلم به يقودنا تلقائيا إلى تحديد الواجب علينا وهذا هو الأهم.
وهكذا لا ينبغي الآن إضاعة الوقت في الخوض في الاحتمالات، مثل: هل سيكون مشروع التقسيم أو لا ؟ وهل يريدون النفط وسيلة أو غاية في إعادة تركيب بنية المنطقة ؟ فكل هذا سيتضح من خلال طبيعة العدوان على العراق وطبيعة المقاومة له، والمهم هو أن كل الاحتمالات ممكنة والذي يحدد في النهاية هو وضع إسرائيل ورغبة إسرائيل. وماذا سوف تستقر عليه الأمور في إسرائيل.
أما أمريكا في ذاتها فلا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة‍، نعم لا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة:
لا شيء من مصالحها يتعرض للأذى من قبل الحكومات العربية، ولا شيء من مطالبها يقابل بالرد، ولا مشكلة بينها وبين أي دولة من دول المنطقة لو كان الأمر يتعلق بها وحدها.
بل إن المشكلات الكبرى والعواقب الوخيمة على مصالحها وعلاقاتها إنما تأتي أو تكبر بعد تدخلها وعدوانها المرتقب على المنطقة!!
فمثلا مشروع التقسيم والاحتلال المباشر لمنابع النفط لا يضمن لها تدفق النفط بل قد يمنع تدفقه المضمون حاليا، و كل الدراسات الإستراتيجية الأمريكية في هذا الخصوص [التي نشرت منذ ثلاثة عقود ولا تزال] تنبه إلى أن هذا العمل قد يقود إلى نتائج بالغة الخطورة مثل:
1. تعرض حقول النفط وأنابيبه وموانئه لهجمات إرهابية لا يمكن مقاومتها، فالمنطقة النفطية تمتد من جنوب الربع الخالي إلى شمال العراق، وأكثر المنشآت النفطية مكشوفة مما يجعلها أهدافا سهلة للإرهابيين، والإرهابيون حينئذ لن يكونوا تنظيما معنيا بل إن الشعب كله سيقاوم العدو المحتل بأي وسيلة، بما في ذلك العمال والحراس أنفسهم، وأقل ما يمكن تصوره حدوث عصيان مدني مستمر أو فوضى لا يمكن معها استمرار إنتاج النفط وشحنه. وما حدث أخيرا في فنـزويلا ليس إلا نموذجا مبسطا لما قد يقع في هذه المنطقة الملتهبة بطبيعتها.
هذا ما قالوا، ولدينا الآن تجربة قائمة في هذا وهي ما حدث في أفغانستان التي قيل إن سبب احتلالها هو النفط أيضا.
وهكذا فالاحتلالم -من شركات النفط وغيرها- أن استغلال نفط بحر قزوين، وإنشاء إمداداته على الأرض الأفغانية، كان ممكنا بالاتفاق مع حكومة طالبان نظراً لسيطرتها الأمنية، لكنه الآن شبه المحال مع الاحتلال الأمريكي، حيث لا يستطيع الأمريكيون التنفس خارج قواعدهم المحاطة بالأسوار المتوالية.
وهكذا فالاحتلال لا يضمن النفط ،و النفط لا يعلل لهذه الحرب الهائلة الآثار سياسياً وعسكرياً واقتصاديا…!!
2. إيجاد بؤر كثيرة للإرهاب والفوضى ضمن التركيبة المعقدة للمنطقة – جغرافيا وبشريا ودينياً ومذهبياً- مما يجعل تغيير الأوضاع القائمة والانتقال إلى هذا الوضع مغامرة بلا فائدة، بل هو حماقة كبرى إذا علمنا أن الحكومات القائمة تتسابق في إرضاء أمريكا، وتتنافس في تنفيذ مطالبها [ولا نعني حكومات الخليج فقط بل إن صدام حسين مستعد أن يعطيها ثروات العراق على طبق من ذهب لكي ترضى عنه!!

إذن لماذا يقتل الأمريكان الدجاجة وبيضها من الذهب يأتيهم يومياً؟
ولماذا الاحتلا

ل والتقسيم لدول قابلة للتطويع؟
ومن الطرف المستفيد منه إن حدث؟

الجواب قطعا هو أن ذلك يأتي من أجل ضمان أمن إسرائيل ورفاهيتها وقوتها، وهي المستفيد الوحيد من أي احتمال. ولإيضاح ذلك أكثر نفترض أن هذه المنطقة خالية من كل ثروة – النفط وغيره – ولا أهمية لها استراتيجيا، لكن شعوبها تكره إسرائيل، وتتعاطف مع الانتفاضة، وتضغط على الحكومات لتأييدها، وتطالب أمريكا بالعدل، أكانت أمريكا تتركها أم تعاقبها؟
ثم نعكس القضية ونفرض أن المنطقة قبلت المشروع الصهيوني وأن الانتفاضة لم تحدث فهل كانت أمريكا ستفكر في احتلالها ؟
إذا أردنا مزيد إيضاح فلنقارن بين تعامل أمريكا مع كوريا الشمالية وبين تعاملها مع العراق.
فكوريا تعترف بأسلحة الدمار الشامل، وقلعت عيون الأمم المتحدة وآذانها كما قال الأمين العام -من المواقع المراقبة. بل هددت أمريكا تهديداً صريحاً مباشراً، ومع ذلك فأمريكا لم تتجاوز الطرق الدبلوماسية لحل المشكلة، في الوقت الذي تحشد فيه مئات الطائرات، و تبني القواعد الكبرى، وتستنفر الرأي العالمي لمعاقبة العراق المتجاوب مع أغلظ القرارات، والذي لم يثبت حتى الآن أنه يملك ما يدّعون لا باعترافه ولا بتفتيشهم!!
إن حلّ هذه المعادلة يوصل إلى مفتاح أسرار الصراع:
• كوريا تعلن تهديدا مباشرا صريحا لأمريكا لكنها لا تهدد إسرائيل !
• العراق لا يهدد أمريكا لكن نبوءات التوراة تشير إلى أنه يهدد إسرائيل!
• أمريكا تعلن الحرب على العراق وتلاطف كوريا بالدبلوماسية!
• لم تعد السياسة الأمريكية قائمة على جدلية الصقور والحمائم. بل على جدلية الثعالب: الصهاينة الأربعة في الإدارة، والوحوش: لوبي صناعة السلاح.
ومن الواضح أن زمام المبادرة والقرار في يد الفريق الأول، مع أن الشعور القومي يقف مع الفريق الآخر. فليس هناك فرصة لتنفيق السلاح من جهة وإثارة النعرة القومية وغريزة الهيمنة والاستعلاء من جهة أخرى – أفضل من إعلان دولة شيوعية تهديدا مباشرا للإمبراطورية العمياء.
فلماذا تأخر هؤلاء وتقدم أولئك؟
ولماذا تعاقب الإمبراطورية إحدى الدولتين مرتين وتداري الأخرى وهما شقيقتان في محور الشر ؟!.
ولماذا يرضى الوحوش بفتات فريسة قديمة يقف الرأي العام العالمي معها والفريسة الأخرى المنبوذة تستعرض أمامهم؟!
إن هذا كله يوضح أن منطق الحرب هو – بالأساس – ديني توراتي وليس نفعيا استراتيجيا . أي أنه يبرهن على أن قاعدة “فتّش أولا عن إسرائيل ” صحيحة.
وهذا مثال حي واحد من أمثلة كثيرة للمنهج الأمريكي الذي عبر عنه أحد مندوبي الإتحاد الأوربي في الأمم المتحدة حيث يقول:-
” الواقع أن إسرائيل هي العضو الدائم السادس في مجلس الأمن فالفيتو الأمريكي يستخدم لصالحها أكثر من أي شيء آخر ” وكلامه مطابق للحقيقة. والمفكر اليهودي الشهير “نعوم تشومسكي” يؤكد ذلك، و يكثر من الاستشهاد به في مقابلاته.
بل الملاحظ أن أي مشكلة لأمريكا مع الإتحاد الأوربي، أو روسيا، أو الصين، يمكن التفاهم فيها بالدبلوماسية الهادئة، إلا إذا كان الأمر له علاقة بإسرائيل، مثل قضية هجرة اليهود إليها، أو بيع السلاح لها، فهنا تختفي لغة الحوار، ويظهر التشدد الأمريكي لتحقيق ما تريده إسرائيل من هذه الدول.
وكم مرة وقفت إسرائيل في مواجهة العالم فوقفت أمريكا معها ولم تبال بالعالم كله ؟!
فإذا كان هذا منهج أمريكا مع الأصدقاء أو غير الأعداء، به فما بالك به معنا نحن الأعداء؟ أغنياءً كنا أم فقراء! عندنا نفط أو ليس عندنا شيء؟.
لقد قرأنا للمرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأمريكية “لاروش” قوله بعد أحداث الحادي عشر من أيلول:
“إن هناك بعض أشخاص يملكون سلطة هائلة، يقفون وراء الكواليس في حكومات مختلفة في بريطانيا وأمريكا وإسرائيل، وهؤلاء مصممون على أن تنقل الولايات المتحدة الصراع الحالي بين إسرائيل وجيرانها، إلى مستوى أعلى تدخل الولايات المتحدة فيه في حرب جيوبوليتيكية في الشرق الأوسط ”
ونحن الآن لا نستدل بهذا الكلام بل نستدل عليه بالأحداث التالية والحقائق الماثلة، تلك الحقائق التي جعلت الرأي العام العالمي يقف في جهة، والإدارة الصهيونية في واشنطن تقف في الجهة الأخرى، وليس معها سوى الدولة المجذومة إسرائيل والتابع المطيع “بلير”. (هذا الوصف لإسرائيل ليس من عندي بل هو لكاتب إسرائيلي بارز سيرد بنصه).
وقبله قرأنا كتاب “يد الله، لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل” للكاتبة الأمريكية “غريس هالسل” مؤلفة كتاب “النبوءة والسياسة” وفيه تنقل الكاتبة عن أحد موظفي الخارجية الأمريكية سابقا ورئيس تحرير “تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط” سنة 1995 قوله:
“إن ما قدمته أمريكا لإسرائيل حتى تلك السنة أكثر من 83مليار دولار أي ما يعادل أكثر من 14000 دولار سنويا لكل إسرائيلي”.
والسؤال هو لماذا تضحي أمريكا بهذه المليارات؟ وفي أي شيء تنفقها إسرائيل ؟
والجواب بلا ريب أن هناك ماهو أعظم من العلاقة المصلحية والتعامل النفعي ؟
وذلك هو النوع الخاص من العلاقة الذي عبّر عن الإيمان به سبعة رؤساء أمريكيين في جملة واحدة دينية:
“من يبارك إسرائيل يباركه الله ومن يلعن إسرائيل يلعنه الله” ثم جاء ثامنهم (…) ليعلنها حربا صليبية.
وقد جاهر المؤتمر العام للإتحاد الأوربي قبل أيام بانتقاده الشديد لاستخدام الرئيس الأمريكي للشعارات الدينية، وقال بعضهم إنه يعيد الناس إلى ذكريات حرب المائة عام في أوربا.
والشواهد هنا لا تُحصر والمقصود أنه إذا اتضحت حقيقة العلاقة الدينية الحميمة بين أمريكا وإسرائيل، واتضحت كذلك العلاقة العميقة بين المشروعين الصهيوني والصليبي وبلوغها درجة التطابق، فلننطلق بناءا على ذلك إلى تقييم الانتفاضة ووضعها في مكانها اللائق بها، في المعركة الطويلة المستمرة بين دين التوحيد وكفر أهل الكتاب.
إن هذه الانتفاضة تخرج عن كونها حلقة في الصراع العربي الإسرائيلي لتكون معلما فاصلا في الصراع الإسلامي الكتابي الذي يمتد إلى يوم القيامة!!‍‍‍‍‍
وحين يعلن بعض منظري الحملة الصليبية التتارية على العراق أن بغداد ما هي إلا بداية الطريق إلى القدس، فإنهم لا يعلموننا شيئا جديدا. أو قل هكذا يجب أن يكون.
إن أحدى مشكلات منهج التفكير الإسلامي المعاصر أن الأمة تفتقد إلى النظرة الشاملة والربط بين الأحداث. وإلاّ يكنْ ذلك يظل أعداؤها يقذفون بأنظارها ومشاعرها كما يقذف اللاعبون بالكرة.فإذا توجهت إلى قضية نسيت الأخرى، وإذا وضعت يدها على شيء ألقت ما عداه، وإذا عرض أمامها مشهد غفلت عن غيره.
ومن هنا تظهر أهمية وضع الانتفاضة في سياقها التاريخي فنجمع شتات القضايا ومشاهدها في قصة واحدة.
كما أن من عيوب الأمة في أجيالها المتأخرة، أنها تضيع كنوزها التي يمن الله بها عليها. وقد عبر عن ذلك أحد الباحثين الأمريكان في تعليق على اغتيال الإمام حسن البنا رحمه الله، فقال “هكذا الشرق دائما يضيع كنوزه” فليس النفط الكنـز الوحيد المضيع، فأهم منه و أغلى إرادة الحياة الإيمانية، وحب الشهادة، والثبات على الحق، وهي كنوز جمعها الله لنا في هذه الانتفاضة المباركة فأرجو أرجو ألا نضيعها !!

وكما أن الانتفاضة معلم تاريخي مهم، هي أيضا معمل ومحضن لتجديد الدين وإحياء روح الإيمان، وتوحيد مواقف الأمة، فهل رأيتم شيئا أحياها ووحدها مثلَ هذه الانتفاضة وما تلاها من أحداث تابعة ؟
وهل وقف المجاهد الفلبيني مع المجاهد الفلسطيني في خندق واحد قبل هذه المرة
الانتفاضة هي التي قلبت حال الشعوب -في مسيرة الصحوة والتجديد- فبعد أن كانت الحركات الدعوية و الجهادية تلوم الشعوب على غفلتها، و تخطط و تجتهد لإيقاظها. نجدها اليوم-أي الشعوب- هي التي تلوم الحركات الإسلامية [وليس الحكام فقط] وتعدها مقصرة في الواجب.ألم يصرخ أحد قادة مخيم جنين ” أين الذين يقولون الموت في سبيل الله أسمى أمانينا “.
ألم يصل الشعور بالقهر والمطالبة بالتحرك إلى أسفل طبقات الأمة فيصرخ بذلك الممثلون والمغنون وأشباههم.
وأعظم من ذلك أن الانتفاضة-وتوابعها- كشفت القناع عن وجوه الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين والعلمانيين، وكل أنواع الخبَث في الأمة، فلو أنفقت الأمة ملايين الملايين، وألقت آلاف الخطب من أجل إبانة سبيل المجرمين، وكشف عداوة أهل الكتاب والمشركين، وفضح خبايا المنافقين، لما حققت مثلما حققته الانتفاضة، بفضل الله وتوفيقه.
كم من البسمات تعلو شفاهنا ونحن نقرأ- في كشف عداوة أمريكا- ما يكتبه أقوام كانوا إلى الأمس القريب معدودين من عملائها وأبواقها.
بل إن الأمر تعدى الكتاب إلى الحكام -وهم عند الشعوب أكثر تهمة-!! فمن مِن حكام العرب اليوم يجرؤ على أن يقول ما قاله سلفهم عن الثقة في أمريكا وصداقة أمريكا ؟وأن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا!!
الواقع أن كثيرا منهم لم يتردد في التصريح بالحقيقة فمن قائل: بأن أمريكا هي العدو الحقيقي، ومن قائل إن هدف أمريكا الإسلام وليس النفط، و من قائل بأنها تريد تركيع الأمة وتتعامى الحل العادل وأقل ما قيل عنها أنها تتعامل بمعايير مزدوجة!!
وإن مما يوجب بيان حقيقة الانتفاضة وأهميتها: أن كثيرا من المسلمين يتعاطفون مع أهداف الانتفاضة عموماً، لكنهم لا يدركون حقيقة الانتفاضة وأثرها العظيم وموقعها التاريخي. وكثير منهم ينخدعون بالإعلام اليومي عربيا وغربيا، الذي يشدد دائما على العنف الصهيوني، والخسائر في الجانب الفلسطيني، فيبدو إيقاف الانتفاضة وكأنه رحمة بإخواننا الفلسطينيين وفرصة لالتقاط النفس.وربما يتساءل كثيرون: ما جدوى الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟
حتى حين تقع عملية ناجحة بكل المعايير يأتي التعليق عند هؤلاء “ولكن هذا سيؤدي إلى انتقام شديد”!!
إن عرض التألم والتكاليف من جانب واحد تفصيلا، وإجمال القول عند الحديث عن خسائر العدو، هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة، يرتِّب لها العدو، و يسايره مخدوعا من لا يدرك الحقائق، أولا يملك الوقت وعدة النظر للبحث عنها، وهذا يتفق مع اتجاه القيادات العربية الحكومية التي رضخت منذ أمد بعيد للهزيمة والاستسلام، لكنها تغلف ذلك بإيقاف العنف، والعودة للمفاوضات، ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني!!
إن الانتفاضة فجر جديد يراه أهل البصيرة زاحفا على ليل المعاناة الطويل، أما الذين استمرأوا الذل فإن على أبصارهم غشاوة كتلك الغشاوة التي كانت على أبصار سلفهم الذين كانوا يظنون أن الإمبراطورية البريطانية خالدة إلى الأبد. ومن قبلهم لم يصدق زعماء الكفر الجاهلي ما تنبأ به “هرقل” نفسه، بل قال قائلهم:
“لقد أَمِـرَ أمْرُ محمد حتى أنه ليخافه ملك بني الأصفر”
ولذلك يتعين على أهل الشأن، ومن يُهمّه تثبيتُ الأمة وطردُ الإحباط واليأس عنها: أن يكشفَ وجه الحقيقة من خلال ربط الأحداث اليومية بأصولها الكلية، المطابقة لسنن الله في التمكين والعلو والإدالة والاستدارج، وهذا ما سوف أحاول الإشارة إليه في هذه العجالة لعل الله تعالى يجعلها تذكيرا للباحثين والمراقبين لإظهار هذه الحقائق بشكل دائم.
وقد جعلتها في شكل قواعد كلية، وأصول عامة مأخوذة من كتاب الله تعالى وسننه الثابتة في الكون، وفصلتها بحيث يمكن للمتابع فيما بعد أن يضع تحت كل أصل ما يرى من جزئيات وشواهد قد تقع لاحقا، بل قد يفتح الله عليه بقواعد وأصول أخرى، فالبحث مفتوح والأحداث مستمرة والواجب علينا قائم دائم، والاجتهاد لفهم القضية وتوجيه المسار حتم ٌلازم.

أول هذه القواعد والأصول
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: الآية11]
وكلا طرفي المعركة غيّر :-
إخواننا الفلسطينيون غيروا من الخضوع إلى المقاومة ومن الخوف إلى الشجاعة ومن الفرار إلى الثبات ومن الاتكال على الحكومات إلى التوكل على الله والثقة في الذات.
وأهم تغيير في الحقيقة هو أنهم غيروا من ضعف الإيمان وقلة التدين والانخراط في المنظومات العقدية الوضعية (من اشتراكية وقومية وناصرية ووطنية) إلى قوة الإيمان وانتشار التدين والانضواء تحت راية الإسلام والجهاد.
ومن مظاهر ذلك التغيّر:-
1. الإقبال على الشهادة في سبيل الله بشكل لا نظير له من قبل فكلمة الشهادة هي الكلمة التي تردد على الشفاه كل لقاء مع الصغير والكبير والذكر والأنثى.
وبقدر ما يتخلصون من الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت )يقذفه الله في قلوب أعدائهم.
2. الإقبال على كتاب الله ففي كل حي أو قرية تقريبا أقيمت حلقة لتحفيظ القرآن أو أكثر وعددها الآن في الضفة والقطاع يقارب الألف حلقة، نعم ألف حلقة قابلة للنمو بعد أن لم يكن شيء !!
3. الاهتمام بالعلم الشرعي وانتشار حلقاته وكتبه ووسائله الحديثة، وهذا يعبر عنه ظهور المصطلحات الإيمانية والعلمية في لغة الخطاب السياسي، فضلا عن غيره.
4. الاهتمام بالأرامل والفقراء وإنشاء لجان الزكاة ودور الرعاية في كل حي أو قرية تقريبا، مما جعل التكافل الاجتماعي في الأرض المحتلة مضرب المثل وفي ذلك إحياء لمنهج النبي في دعوته إلى الله، واستجلاب لنصر الله الذي جرت سنته ألاّ يخزي من كان هذا حاله
5. الاهتمام بالتربية الإسلامية مثل المحاضن التربوية والمراكز الصيفية والمهرجانات والمسابقات…. إلى آخر ما يسهم في التوعية العامة للأمة.
6. محاربة الفساد والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد صاحب قيام الانتفاضة حملة انتفاضة على دور السينما والفساد، وكثير منها أغلق وضعفت مظاهر الضياع بين الشباب بعد أن كان اليهود والسلطة يعملون لتدمير أخلاقه.
7. الإقبال على الحج والعمرة وزيارة الحرمين الشريفين، ومتابعة إذاعات القرآن الكريم والبرامج الإعلامية الإسلامية في الإعلام الخارجي.
والملاحظ جيدا أن كل هذه المجالات يعمل بها منظمات ومؤسسات متخصصة ومتنوعة الأغراض الأمر الذي يبشر ببناء اجتماعي جديد يقوم على الدين ويوازي البناء الجهادي المحكم والمنظم.
كما أن النشاط الدعوي لم يعد محصورا في فئة أو طبقة، بل انتشر ليدخل كل الفئات والقطاعات بما في ذلك بعض المنتمين إلى المنظمات العلمانية.
كما تحول أدب المقاومة شعراً ونثراً من النظرة الوطنية إلى الأفق الإيماني. واقرؤوا إن شئتم وصايا الشهداء- بإذن الله- ومنها وصية الشيخ القائد المجاهد صلاح شحاده رحمه الله. ومما يؤكد هذا التغير العميق أن تشهد المناطق المحتلة منذ سنة 1368هـ 1948م نهضة إيمانية تسر المؤمنين وتَغيظ اليهود وأولياءهم.
هذا و أهلها هم الفئة التي ظلت محرومة مقطوعة، وأريد لها أن تتهود لغة وفكرا، وتنسلخ من دينها ولغتها، وإن الأنشطة التي يقوم عليها المسلمون داخل تلك المنطقة من التنظيم والتنوع بحيث تمثل خير شاهد على قوة الإيمان وعمق التدين والثقة في المستقبل بإذن الله.
ومن مظاهر ذلك:-
1. إنشاء حلقات لتحفيظ القرآن بعد أن كاد ينسى، وقد بلغ عدد المنظمين لها حوالي أربعة آلاف وخمسمائة طالب وطالبة من الكبار والصغار.
2. إحياء المساجد المندثرة في تلك المنطقة، وتجديدها وحفظ الأوقاف الإسلامية.
3. إيجاد إعلام إسلامي متميز مثل صحيفة “صوت الحق والحرية ” التي لو وقعت في يدك لما تركتها حتى تقرأها حرفا حرفا !!
4. تنظيم المهرجانات واللقاءات التي يحضرها عشرات الألوف لأحياء الروح الإيمانية والتذكير بالقضية الإسلامية لاسيما قضية المسجد الأقصى المبارك.
ومن المبشرات بهذا الشأن أن عدد المسلمين داخل هذه المنطقة مليون ومائتا ألف، أي أكثر من 20% ممن يسمون سكان إسرائيل وأن أنشطتهم تتخذ شكلا منهجيا وتنظيميا يدل على العقول الكبيرة المستنيرة التي ترتبه ومن ذلك:-
1. مسيرة البيارق- وما أعظمها من فكرة وما أروعها من مسيرة، حين خنق اليهود المسجد الأقصى وقطعوا السبل للوصول إليه من المناطق الفلسطينية ابتكرت الحركة الإسلامية داخل الدولة اليهودية خطة تسيير عشرات الحافلات الملأى بالمصلين من الداخل إلى المسجد المبارك يومياً، وأحيت فيه الحلقات العلمية فمثلا في درس الثلاثاء بين المغرب والعشاء للشيخ رائد فتحي يحضر ما بين 6_7 آلاف نسمة، فانظروا بالله كم من المصالح تحققت في هذا.
2. مؤسسة إعمار الأقصى ( إعمار بناء وإعمار علم )، في مقابل الأيدي اليهودية الهدامة قامت الأيدي المؤمنة البناءة بهذا المشروع الرائد المتعدد الفوائد، وفتحت باب الأمل في ليل اليأس وزمن النواح بلا عمل.
3. مؤسسة حراء لتحفيظ القرآن.
4. مؤسسة إقرأ.
5. مؤسسة الإغاثة الإنسانية.
6. صندوق طفل الأقصى لربط النشء الجديد بالمسجد وإقامة احتفالات لهم في ساحة المسجد الأقصى كان عدد الحضور في آخرها 60ألفاً.
وبإيجاز نبشر الإخوة الدعاة في كل مكان بأن الصحوة داخل هذه المنطقة متميزة، في منهجها وقياداتها ومجالاتها المتنوعة، وهي تبشر بالمستقبل المشرق لهذا الدين، وتعطي الدليل على أن الله مظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
إن من أهم ملامح التغيير تطوير الانتفاضة ذاتها، ففي المرحلة الأولى كانت انتفاضة الحجر التي نجحت في إظهار حقيقة الاحتلال، وتكذيب خرافة (أرض بلا شعب )، ووضعت بذرة الحرب غير المتوازية التي سيأتي الحديث عنها.
أما الانتفاضة الحالية فهي باعتراف عدد من قادة الفكر والحرب اليهود، حرب تحرير وثورة شاملة متنوعة الميادين:
عمليات إستشهادية، إطلاق صواريخ، هجوم على المستوطنات، إطلاق قذائف الهاون، تفجير دبابات، تطوير متفجرات، قتل بالسلاح الأبيض، هجمات على القواعد، استخبارات قوية تلاحق الشخصيات اليهودية الكبيرة، استمالة بعض اليهود مقابل رشوة، وقد بلغ مجموع العمليات العسكرية للانتفاضة خلال سنتين 14000 عملية. مابين عملية استشهادية إلى هجوم بالرصاص أو بالسلاح الأبيض !!
هذا غير الآثار الكبرى على الأمن والاقتصاد والحالة المعنوية لليهود مما يتشعب الحديث عنه ونأتي على بعضه في الفقرات التالية بإذن الله.
وفي الطرف الآخر حدث التغير عند اليهود:-
كانت الجماعات اليهودية المؤسسة للكيان اليهودي كتائب حرب منظمة ومدربة، والمستوطنون كانوا رجال عقيدة وإرادة، والدافع لهم ديني قبل كل شيء، وكانت الهجرة عبادة وتضحية، وكان التوحد في الأهداف والمواقف ظاهرا، والفروق الاجتماعية والعرقية تكاد تكون ملغاة .
أما الآن فقد ظهر جيل الترف والأمراض الاجتماعية، الجيل الذي يبحث عن المتعة الرخيصة بأي ثمن، ولا يؤمن بأي مبدأ أو قيمة، وكثرت مظاهر التراخي والتفرق، فالجنود يهربون من الخدمة، والمستوطنون يبحثون عن الرفاهية، والسياسيون انتهازيون، والوعود التوارتية لم يعد لها بريق، والشباب يدمنون المخدرات، والتمييز العنصري على أشده الأمر الذي جعل قادة الفكر اليهودي يشعرون بهذا التغير ويتحدثون عنه قبل قيام الانتفاضة.
ومنهم مثلا المفكر المشهور “يشيعا لاييوفيتش ” الذي يعد من أبرز رافضي الاحتلال بل قال إن احتلال الضفة وغزة هو بداية الأفول، وصرح بأن على الشعب اليهودي بكل فئاته أن يشكل حركة ترفع شعار رفض الأوامر .
هذا المفكر يتحدث عن التغيير قائلا :
” إن الذين تلقوا نوعا من التربية انقلبوا إلى ضدها فالاشتراكيون أصبحوا فاشيين والمتدينون أصبحوا ملحدين” !! .
وهكذا غيروا من الإرادة إلى الخور.
ومن حب التضحية إلى إيثار الرفاهية، ومن الاستيطان إلى الهجرة.
ومن الانخراط في الجيش إلى الهروب منه .
وكل هذا له شواهد وإحصاءات ذات أرقام دالة نأتي عليها في مواضعها بإذن الله.
فلننظر ماذا قال الخبير الإستراتيجي اليهودي “فان كرفيلد ” وهو أستاذ الدراسات العسكرية في الجامعة العبرية وعدد من الأكاديميات العسكرية حين يتحدث عن هذا التغيير ونتائجه وكيف ربطه بكل جرأة وصراحة بنهاية دولة إسرائيل ‍‍‍‍‍ !!
يقول ” في عام 1994 دعيت لإلقاء محاضرة في هيئة الأركان الصهيونية العامة، وكان قائدها آنذاك إيهود باراك (رئيس الوزراء فيما بعد ) ،لقد خرجت من المحاضرة مصعوقا من مستوى وسلوك الجنرالات آنذاك، فبعضهم انشغل في أكل الساندويتشات، والآخر تكلم، والبعض ثرثر، ورابع لعب في الأوراق التي أمامه، وبعضهم انشغل بالحواسيب يلعب بها كالأولاد الصغار، لقد فعلوا في أثناء المحاضرة كل ما يفعله طالب فوضوي، ما عدا قذفهم المحاضر بالأوراق! ولقد سألت باراك إن كانت هذه الفوضى دائما تحدث أثناء المحاضرة فأجاب ” بشكل عام.. الوضع أكثر صعوبة ” إن مستوى الفوضى لدى الضباط فاجأني ،إنهم مجموعة من المتخلفين، ولم ألتق بمجموعة جاهلة كهذه المجموعة في أي إطار، وهم أشد جهلا في موضوعهم “الجيش الإسرائيلي ” بما في ذلك تاريخ ونظريات الجيش”.
فيقول له الصحفي إذن ماذا يتعلمون في الدورات ؟
فيجيب : الله وحده يعلم
فيعود ليقول له: إذن نحن في طريقنا إلى البحر؟
فيجيب:إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإننا سنصل إلى تفكيك “دولة إسرائيل” ليس عندي شك في ذلك، والدلائل موجودة، ولكن قبل أن نتفكك نهائيا ستنشب هنا حرب أهلية، وهذا هو الخط الأحمر بالنسبة لي، ولو وقعت جريمة قتل أخرى كتلك التي حدثت لرابين فسأرحل أنا وعائلتي، تاركا أبناء شعبي الذين أحبهم هنا ليقتل الواحد منهم الآخر ” أ.هـ
وقد عبرت الصحافة الإسرائيلية عن مظاهر هذا التغير ونتائجه في الواقع ومن ابرز الأمثلة على ذلك مقالة الكاتب “يغال سآرنا ” في يديعوت احرنوت (23/10/2002) التي جعل عنوانها ” دولة شارون ” مع ملاحظة أن الكاتب يتحاشى نسبة التأثير إلى الانتفاضة ويعزوه كله إلى شارون:
“دولة شارون !
صورة دولة صغيرة قامت قبل عامين في الشرق الأوسط، على خرائب دولة مختلفة تماماً!
أهلاً بالقادمين إلى دولة شارون. دولة شرق أوسطية صغيرة، أقيمت عام 2001 على أنقاض إسرائيل القديمة.
لقد هبطتم الآن في مطار بن غوريون، الذي يحمل اسم أول رئيس حكومة لإسرائيل، الرجل الذي أرسل ضابط المظليات، أريئيل شارون، للقيام بمهام انتقامية وراء الحدود.
هنا سيتم فحصكم جيداً. فإذا تبين أنكم من نشطاء السلام الفرنسيين سيتم طردكم فوراً إلى أوروبا. وإذا تبين أنكم عمال أجانب، فسيتم اعتقالكم، إلا إذا كنتم من عمال المزرعة الخاصة برئيس الحكومة.
شيقل شارون يساوي أقل من شيقل دولة إسرائيل لعام 2000.
الاقتصاد الذي اعتبر أحد أكثر الاقتصادات تطوراً في العالم، في أيام الهدوء التي شهدتها البلاد، يمر الآن في حالة أفول عاجلة.
عبر الإذاعة، داخل سيارة الأجرة ستستمعون إلى المقرب من رئيس الحكومة، الذي يقدم برنامجاً إخبارياً. لقد اختفى كثير من المذيعين المستقلين.
ستستمعون إلى لقاءات مع وزراء وممثلي جماعات متعصبة وغيبية يتحدثون فيها عن “الترانسفير” والانتقام.
المحللون العسكريون يصفون بتحمس عمليات الاغتيال والإحباط.
فالاغتيال بواسطة صواريخ أطلقتها المروحيات أو الوحدات الخاصة، يتم تنفيذه بمصادقة رسمية من الدولة. ويشارك رئيس الحكومة في المصادقة على عمليات الاغتيال، أعضاء المجلس الوزاري المصغر، والمجلس الوزاري المصغر يضم أيضاً، الحائز على جائزة نوبل للسلام، السيد شمعون بيرس!!
الحواجز على مداخل المدن قليلة، لكنكم ستجدون حارساً يقف على مدخل كل فندق وكل مقهى وكل مطعم عرفتموه في السابق.
إنه الشخص الذي يفحص الحقائب والجسد، وعادة ما يكون مهاجراً جديداً، أبدى استعداده، مقابل أجر بخس وفرشة يأوي إليها، للتضحية بحياته عندما يحاول الانتحاري تفجير المكان.
اجلسوا بعيداً عن الباب، ويفضل أن تجلسوا وراء حائط أو عامود. إذا جلستم في الخارج ستلاحظون ازدياد عدد المتسولين بشكل هائل.
في المقهى ستجدون الرجال والنساء يقلبون صفحات الجريدة بحثاً عن إعلانات “المطلوبين” للعمل.
الكثير من أبناء الطبقة الوسطى العامود الفقري لدولة إسرائيل القديمة، يواجهون مصاعب اقتصادية تصل حد الانهيار إنهم يحتسون القهوة على حساب ما وفروه في الأيام الجيدة وينتظرون التغيير.
عندما تسافرون في دولة شارون، احذروا السفر في الباصات التي كانت تعتبر في الماضي أكثر الوسائل المريحة للسفر ومشاهدة البلاد. ابتعدوا عن القدس، انسوا بيت لحم.
إذا استأجرتم سيارة فاحذروا، إذ تعاظم عنف السائقين بسبب تسلل طوابع الوحشية العسكرية إلى المجتمع.
يحتمل أن تسمعوا كثيراً عن وسيلة النقل الجديدة المسماة “بولدوزر مصفح”. إنها سيارة يمكنها محو حارة بأكملها خلال ساعة، وهي نتاج اختراع محلي استبدل بإنتاج الرقائق الإلكترونية المتطورة.
إذا أصررتم على مشاهدة مباراة كرة قدم، فاحذروا، إذ انتقل رشق الحجارة من ساحات القتل إلى قلب الدولة.
احذروا التحدث إلى المحليين. فقد اختفى الانفتاح والحوار الإسرائيليين. لقد أخلت روح الدعابة الإسرائيلية مكانها لصالح التزمت والأسلوب السافل.
لا تشجبوا علانية قتل المدنيين في الجانب الآخر.
أصغوا بصمت إلى المتحدث إليكم وهزوا رؤوسكم علامة على الموافقة على أقواله، فقط.
أصغوا إلى التذمر الشديد إزاء وحشية العدو ولا تذكروا مصطلحات مثل الحل السياسي وأخلاق القتال والتحقيقات والسلام أو المفاوضات.
سيسهل عليكم جداً إقامة شبكة علاقات رومانسية مستقرة، إذا ركزتم الحديث عن تحالف الشر بين القاعدة وعرفات.
إذا صادفتم لقاء مثقفين، أصغوا بأدب إلى مهاترات كتاب البلاط الهامشيين الذين احتلوا مقاعد الكتاب المناقشين في الدولة القديمة.
لدى خروجكم من دولة شارون، لا تعبروا علانية، وانتم في المطار، عن شعوركم بالارتياح. انتظروا حتى تهبط طائراتكم في بلادكم.
احتفظوا بآرائكم حول التغيير الدراماتيكي الذي طرأ على الدولة القديمة، وبرأيكم بشأن عمليات الاغتيال والانتقام والبولدوزرات، للتعبير عنها في لقاءاتكم العائلية.
لا تعربوا عن انتقاداتكم كتابة، فقد لا تتمكنوا من العودة إلى دولة شارون. صونوا داخل قلوبكم ذكرى الأصدقاء والأحباب، الذين خلفتموهم هناك” أ.هـ

القاعدة الثانية:
فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: الآية2]
لقد قلبت هذه الانتفاضة معايير الحروب وغيّرت منهج التفكير الاستراتيجي العسكري الذي ظل العالم الحديث ينتهجه ويطبقه. حيث خرجت بالحرب من مفهومها التقليدي = معركة بين جيشين، ووضعتها في قالب جديد. ويمكن أن نعبر عن هذا في شكل نظرية تقول:
” حينما تنهار الجيوش النظامية أو لا توجد فإن المقاومة تنتقل إلى مجموعات تتشكل ذاتياً وتؤمن بالقضية إلى حد التضحية المطلقة وبذلك يدخل العدو في مرحلة الحرب غير المتوازية ؟”
والحرب غير المتوازية مصطلح جديد، وضعته لجنة من الخبراء الأمريكيين للتعبير عن النوع الآخر للحرب غير المتوازنة.
ومثال الحرب غير المتوازنة ما حدث بين التحالف الدولي والعراق. في حين كانت الحرب بين حلفي الناتو ووارسو لو نشبت نوعا من الحرب المتوازية.
أما الحرب غير المتوازية فهي كما عرفتها اللجنة:
” التفاف قوة خفية على جيش تقليدي وضربه في مقاتله وتحطيم روحه المعنوية وشل قدرته على المقاومة” وهذا هو أخطر أنواع الحروب !
هذا التعريف لم يستنتجوه عقلياً. بل هو وصف لما حدث في فلسطين، ولما هو متوقع في أمريكا، لو تطورت الأعمال الإرهابية فيها على يد مواطنيها أو غيرهم.
فالانتفاضة هي المثال الحي الشاهد على هذا النوع من الحرب، فقبل قيامها تخلت الجيوش العربية النظامية عن واجبها، ووجد الجندي العربي حاله كما قال الشاعر:
خندقي قبري وقبري خندقي وزنادي صامت لم ينطقِ
بل الواقع أن الحال أشد من ذلك! فزناده ناطق على من يعبر الحدود من المجاهدين لقتال العدو.
والجيش اليهودي أقوى جيوش المنطقة وخامس جيش في العالم –كما يقول كثيرون – بل إن الشعب اليهودي كله جيش وقد عبر عن ذلك أحد المراقبين اليهود قائلا: ” كل شعوب العالم تملك جيشا إلا في إسرائيل فإنها جيش يملك شعبا ” !!
وحينذاك رسخت أسطورة الجيش الذي لا يقهر والذي لم يعد يهدد الجيوش العربية وحدها بل بلغت غطرسته إلى حد التحرش بالجيوش الإسلامية القوية كالجيش الباكستاني مثلا فقد جرى التفاهم بين اليهود والهنود على ضرب المفاعلات النووية في هذا البلد. أما تهديد إيران فتحول إلى ما يشبه اللازمة المتكررة !!
لكن الانتفاضة المباركة أدخلت هذا الجيش في نفق الحرب غير المتوازية وجعلته في أسوأ حالة له منذ نشوئه!!
كيف حدث ذلكخلال: حدث من خلال:-
تحويل التفوق النوعي له (بالقنابل والصواريخ المتطورة وغيرها ) إلى قوة محايدة !!
و تهشيم بنية الردع العسكري، وإحباط نظرية المجتمع الآمن و إحلال مفهوم المجتمع المذعور محلّها، فقد انتهجت الانتفاضة أسلوب ضرب كل هدف في كل مكان بأي شيء ممكن، وهكذا فقدت الأسلحة التقليدية من وسائل الهجوم أو الردع قيمتها أو كادت، فالصاروخ المطور بمعونة أمريكية يمكنه تهديد عاصمة عربية أو تدمير قاعدة عسكرية عربية، لكنه لا يستطيع التقاط استشهادي من مستوطنة أو حافلة !! والمفاعلات النووية تتحول من مركز القوة الأعظم إلى هدف مفضل للمهاجمين الإستشهاديين وإلى مصدر خطر هائل على الدولة. وهلم جرا..
وهكذا يصدق على الدولة اليهودية قوله تعالى عن أسلافهم فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: الآية2]
وإن مما يؤكد هذا من فم العدو أن المحللين اليهود يلجأون إلى اللغة المجازية والتمثيلية في الحديث عن هذا النوع الجديد من الحرب الذي فرضته عليهم الانتفاضة:-
فمثلا يعبر “يوري أفنيري ” الذي كان عضوا في الكنيسة عن هذا بمثال:
“دخل ملاكمان الحلبة: واحد منهما بطل الوزن الثقيل، والآخر وزن الريشة. ويتوقع الجميع أن يقوم البطل بتسديد ضربة قاضية تقضي على غريمه الهزيل في الجولة الأولى.
ولكن بأعجوبة تنتهي الجولة الأولى، والضربة القاضية لم تسدد بعد، ثم الجولة الثانية، ويستمر نفس الوضع، وبعد الجولتين الثالثة والرابعة لا يزال خفيف الريشة واقفا، مما يعني أنه هو الرابح الحقيقي، لا بالضربة القاضية ولا بالنقط، وإنما لمجرد أنه لا يزال واقفا ومستمرا في الصراع مع غريمه القوي ”
ويعبر آخر عن هذا بأنه:
“معركة بين قوة لا يمكن مقاومتها وشيء لا يمكن تحريكه ”
أي كما لو كان الجيش اليهودي مدفعا عملاقا ولكنه يضرب جبلا من الفولاذ !!
والواقع أننا لا نحتاج إلى هذه الأمثلة فنحن نشاهد الأمثلة الحية واقعيا بين الشباب الأبطال الذين يواجهون الدبابات بالحجارة !!
أما تدمير الدبابة الخرافية “مركفا” فدلالته أكبر من هذا، إنها علامة على أن العقل المؤمن أفاق وأن في إمكانه أن يخترع ويصنع من المواد البدائية ما تحتاج الدول الكبرى إلى مصانع باهظة التكلفة لإنتاجه.
وعن هذا التحول الخطير في نوع الحرب يتحدث الخبير اليهودي السابق ذكره “فان كرفيلد ” فيقول:
“لا نجد جيشا نظاميا نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها. ما يحدث معنا اليوم هو ما حدث مع الأمريكيين في فيتنام والإسرائيليين في لبنان والروس في أفغانستان وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى وهذا ما سيحدث للأمريكيين في أفغانستان ”
فيقول له الصحفي: ألا يوجد لديك مثال مخالف ؟
قال: أنا لا أعرف مثالا مخالفا، إننا ندير حربا للطرف الآخر فيها كل الإيجابيات فنحن نقاتل في ملعبه…. الجيش اليوم موجود في الجانب غير الصحيح، في الجهة التي سيحكم عليها بالفشل ”
ويقول ” لدينا قوة كبيرة ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعمله وحتى لو استعملناه فثمة شك في نجاحه فالأمريكيون أنـزلوا ستة ملايين طن من القنابل على فيتنام ولا أذكر أن هذا الأمر نفعهم ”
وحين سأله:
حاليا تشير الأرقام إلى أننا نقتل منهم أكثر مما يقتلون منا ؟
قال: ” هذا غير موضوعي، في هذه الحرب يقتل الكثير من المنتفضين لكنهم يكسبون الحرب، لقد قتل خمسون ألف أمريكي و3 ملايين فيتنامي، وعدة آلاف من الفرنسيين مقابل 300ألف جزائري، وفي البلقان قتل عشرات الآلاف من الجنود الألمان، مقابل 800 ألف يوغسلافي، فالأرقام شيء غير مهم، هذا إلى جانب أن الفلسطينيين، لم يدفعوا ثمنا باهظا على عكس ما نسمع عندنا ”
ويفهم الصحفي من هذا أن الحل هو إعادة نمط الحرب التقليدية فيقول:-
” ربما الأفضل لإسرائيل أن تقوم للفلسطينيين دولة ذات جيش نظامي وضعيف يمكننا أن ننتصر عليه ؟
فيجيب الخبير: ” ليس عندي أدنى شك بذلك،، تحدثت بالأمس مع صديق أمريكي وهذا ما قاله لي : “لماذا لا تسمحون لهم أن يقيموا دولتهم ؟ بعد ذلك يمكنكم أن تقذفوا بهم إلى الخارج متى أردتم خلال خمس دقائق، هذا صحيح ”
أما عندما سأله عن ” ماذا سيحدث للجيش إذا دعي لمقاتلة جيش نظامي كسورية أو لبنان ”
قال: ” تخميني أنه سيهرب، فإذا ما انفجرت حرب مثل حرب 1973م، فإن غالبية الجيش، وليس كله ستضع رجليها على ظهرها وتولي هاربة ”
وعن الطرف الآخر يقول:
” فيما يتعلق بالفلسطينيين، فإن هذا الأمر يعمل بشكل عكسي تماما، فهم يملكون دائما ثقة بالنفس عالية… ويمكنك أن تلاحظ تردي الأوضاع عندنا من خلال السنوات المنصرمة، كيف أن فضيحة تتبعها فضيحة، وفشل يتبعه فشل، فالرجال يرفضون الخدمة العسكرية والجنود يبكون على القبور، في نظري أن هذا البكاء أحد أغرب الأمور، ولو كان بوسعي فعل شيء لمنعت بث هذه المشاهد وهذه الصور، ومن الجهة المقابلة أنت ترى رغبة شديدة في الانتقام ومعنويات عالية، وما عليك إلا أن تقارن الجنازات حتى تفهم لمن توجد همة عالية أكثر، ومعنويات أعلى: عندنا ينوحون، وعندهم يطلبون الانتقام.. إننا نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون الأفغان بالجنود السوفييت في أفغانستان، وما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الفرنسيين في الجزائر ”
ويقول زئيف شيف أهم معلق عسكري في إسرائيل في وضوح كامل في هآرتس (4/3/2002) إن العمليات الفدائية الفلسطينية تنتمي إلى حرب العصابات وليس للإرهاب وهذه شهادة مهمة على التحول الكبير في المقاومة.
أما يوئيل ماركوس فيشير في مقال له في هآرتس (13/11/2001) إلى فشل إسرائيل في القضاء على ما سماه “الإرهاب القومي” بالقوة.
يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري:- ومن الواضح أن الكاتب يخاف من الحديث عن الانتفاضة باعتبارها مقاومة مشروعة، ولذا يتخفى وراء عبارة “الإرهاب القومي” إلا أنه يعني، في واقع الأمر، “المقاومة الشعبية”، أو “حرب التحرير”. ومما يدعِّم هذا الرأي أنه هو نفسه يقول إن فشل إسرائيل ليس فريداً “ففي القرن العشرين لم تنجح دولة في العالم في القضاء على الإرهاب القومي”، وهو بذلك يستدعي، عن غير وعي، إلى عقل المستوطنين الصهاينة تاريخ حركات المقاومة في أفريقيا وآسيا، وهي الحركات التي نجحت في هزيمة الجيوش الاستعمارية وتصفية الجيوب الاستيطانية سواء في الجزائر أم جنوب أفريقيا.
ويتساءل أبراهام يهوشع (يديعوت أحرونوت 22/1/2002): “هل بإمكانكم أن تأتوا بمثال واحد من التاريخ نجح فيه شعب في السيطرة على شعب آخر لفترة طويلة ؟ هل تعرفون مكاناً واحداً في العالم يعيش فيه بشر دون حقوق إنسان مثل الفلسطينيين؟”.
إن ما يُسمى “الإرهاب” ليس إرهاباً، بل هو حرب تحرير، لأن الفلسطينيين ليسوا مجرد مجموعة متناثرة من المحاربين، بل هم شعب بأسره له تاريخه ومؤسساته الحضارية. وهذا ما يبيِّنه مايكل بن مائير (هآرتس 3 مارس 2002)، إذ يقول:
إن الانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب الفلسطيني. فالتاريخ يعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر وأن حرب التحرير التي يخوضها شعب مضطهد ستنجح حتماً.
[والإسرائيليون كقوة احتلال] يقتلون الأطفال ويقومون بتنفيذ حكم الإعدام في أشخاص مطلوبين دون محاكمة. لقد أقمنا الحواجز التي حوَّلت حياة الملايين إلى كابوس… إن علماً أسوداً يرفرف فوق أفعالنا.. إن نظام الاحتلال يقوض المبادئ الأخلاقية ويمنع التوصل إلى سلام. وهكذا فهو يهدِّد وجود إسرائيل.
ولأنها حرب تحرير يشنها المضطَّهد صاحب الحق السليب، فإحساسه بشرعية جهاده يشد من أزره ويحفزه على الاستمرار “في الحرب.. بلا هوادة”. وكما يقول يوزي بنـزمان (هآرتس3 مارس 2002):
فلنتخيل أن كل الأوهام تحققت، وقبضنا على كل الإرهابيين، وصادرنا كل الأسلحة، وحطمنا كل مصانع السلاح حيث تُصنَّع المدافع والصواريخ. فهل سيكون لهذا أي تأثير؟ هل يشك أحد أنه في الصباح التالي ستظهر مصانع سلاح أخرى ستنتج المزيد من الأسلحة التي ستُستخدم ضد إسرائيل؟ هل يشك أحد في أنه في هذا الصباح هناك مئات من الفلسطينيين يذهبون إلى مراكز التنظيم وحماس، يعلنون أنهم على استعداد أن يشنوا هجوماً على إسرائيل؟ هل نفد خزان الانتحاريين من نابلس وقطاع غزة؟
[ولم يكن يوزي بنـزمان هو من أول من أدرك ذلك، إذ يُروي عن إسحاق رابين أنه عندما نشبت انتفاضة 1987 سأله الجنود: “من أين يأتي مئات المتظاهرين الذين يلقون بالحجارة عليهم” (أبراهام يهوشع – نقلاً عن السفير 25/2/2002)].
أما جرشون باسكين، المدير العام المشترك للمنظمة الإسرائيلية – الفلسطينية للبحوث والمعلومات فكتب يقول:
إن الفلسطينيين يعرفون أن قوتهم العسكرية أقل بأضعاف من القوة الإسرائيلية، وأنه لا توجد أمامهم أية إمكانية للفوز في أرض المعركة، ولكنهم يؤمنون من الناحية الأخرى بتفوقهم السياسي والأخلاقي. واعتقادهم هو أن العدل والتاريخ يقفان إلى جانبهم، وهم يقولون إن إسرائيل هي المحتل الأخير المتبقي في العالم، وأن أحداً لا يستطيع أن يوقف نصرهم في حرب التحرير التي يخوضونها من الاحتلال الأجنبي. اعتقادهم هو أن اتباع تاتكتيك مثل حزب الله سيحقق غاياته، وأن الخسائر الفادحة التي تلحقها إسرائيل بهم تعزز من معنوياتهم، وتشكل الفصل الأهم في الرواية الفلسطينية. واستناداً إلى تجربة عملية أوسلو الفاشلة، فهم يعتقدون أنهم لن يتمكنوا من انتزاع انسحاب كامل من المناطق من إسرائيل من خلال المفاوضات السياسية، وهم مقتنعون أنهم سيحققون ذلك في نهاية المطاف من خلال الكفاح الذي يخوضونه الآن”، أي من خلال حرب التحرير الفلسطينية.
ولأنها حركة تحرير، فإن حملة شارون الأخيرة للقضاء على الانتفاضة، وعلى ما يسمونه البنية التحتية للإرهاب، محكوم عليها بالفشل، فهي “إعلان حرب على الشعب الفلسطيني كله”، فالبنية التحتية المشار إليها قد تكون كما قال عوزي (هآرتس 31/3/2003) “بعض الورش والمباني وبضع عشرات من القيادات والمخازن، وعشرات الآلاف من الأشخاص الحاملين للسلاح. ولكنها أيضاً المجموعة السكانية الفلسطينية التي تعيش في الضفة والقطاع، التي توفر الدعم الأخلاقي والحقيقي للمخربين، وباسم هذه المجموعة يهاجمون إسرائيل وإليها يعودون لإيجاد مخبأ لهم. ولذا فإسرائيل غير قادرة على مطاردة كل واحد من آلاف المخربين الفلسطينيين” وبعبارة واحدة : إن الأرض المحتلة تنفجر تحت أقدام اليهود أينما ذهبوا . والترسانة العسكرية الهائلة تدور أعينها ولكن العجز ينخر فيها من داخلها !!

القاعدة الثالثة

إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء: الآية104]
ما أكثر آلام إخواننا في الأرض المحتلة وما أشد معاناتهم، لكننا لن نتحدث عن هذا الجانب فالإعلام اليومي كفانا هذه المئونة والإعلام العربي كما أشرنا يحاول أن يجعل المعاناة هي المشكلة ربما لكي يكون إيقاف الانتفاضة هو الحل !!
أما الإيلام الواقع باليهود فهو مما لم يشهدوه في تاريخهم كله :-
وسوف نعرض ذلك مع الاهتمام بالجانب الأبلغ منه، وهو الألم بالقتل الذي هو أشد شيء على قوم هم أحرص الناس على حياة، وهنا نجد الخط البياني شاهداً بوضوح على أن الانتفاضة في تقدم وعلو وأن العدو في انحطاط ودنوّ:
عند قيام الانتفاضة كانت نسبة القتلى من العدو 1 إلى 50 من الفلسطينيين، ومع ذلك فقد كان اندلاعها والإخفاق في إيقافها سببا في إسقاط باراك وترشيح شارون، وهو أشقى المغضوب عليهم وأشدهم وحشية وهمجية وقد علق اليهود آمالهم عليه لذلك، وصدقوه حين وعد بالقضاء على الانتفاضة خلال مائة يوم.
فما الذي حدث:
استمرت الانتفاضة وتضاعفت آثارها، وارتفع معدل عدد القتلى من المستوطنين من 3 قتلى شهريا أيام باراك، إلى 17 قتيلا بعد مجيء السفاح المخلِّص شارون.
وبعد 400 يوم من الإفراط في العنف وجد شارون أن القتلى من اليهود بلغوا في شهر واحد (إبريل 2002) أكثر من 140 قتيلا!! وهو ما يعادل خسائر العشرة الشهور الأولى من الانتفاضة كاملة، وهنا جن جنونه أو كما عبر عن رئيس الموساد: “اضطربت قواه العقلية ” فجاء بمشروع الجدار الواقي واجتياح المدن الفلسطينية.
أما لماذا جن جنونه (وفي الواقع جن جنون المجتمع اليهودي والحكومة اليهودية ) فلأن العدو انسحب من جنوب لبنان حين بلغ عدد قتلاه في ثلاث سنوات (75 قتيلا ) الأمر الذي أثار ضجة كبيرة في المجتمع اليهودي وضغط على الحكومة لكي تنسحب فكيف يحتمل الآن فقد 140 قتيلا في شهر واحد !!

إن هذا ما لم يحدث في القتال مع أي جيش عربي نظامي !!
وبعد ذلك حدثت معركة مخيم جنين، حيث واجه المجاهدون بالسلاح الخفيف جيشا مدججا بكل أنواع السلاح – حتى الطائرات – ولم تنته المعركة إلا بنفاذ ذخيرة المجاهدين، ورأى العالم الجنود اليهود وهم يبكون، واعترف المراقبون والمحللون بأن هذه المعركة لم يشهد الجيش اليهودي لها نظيرا مع أي جيش نظامي عربي، ولا زالت منجما للمؤلفات والأفلام والروايات !!
وفي شهر رمضان المبارك تقارب عدد القتلى من اليهود مع عدد القتلى الفلسطينيين أي أن النسبة التي كانت 1 إلى 50 عند بداية الانتفاضة مرشحة الآن لأن تصبح 1:1 تقريبا ولا سواء قتلانا في الجنة بإذن الله وقتلاهم في النار وبئس القرار.- وهذا في المجموع العام ليس مجموع المجاهدين المسلمين بالنسبة للعسكريين اليهود – فهذه النسبة دائما لصالح المجاهدين .
وهنا تنبغي الإشادة بأكثر أنواع المقاومة نكاية في العدو، وإيلاما له، وتحطيما لمعنويته ونعني بها العمليات الاستشهادية، التي تعد نموذجا فريدا في تاريخ المقاومة العالمية، وتقدم البرهان الجلي على تميز هذه الأمة المباركة، وتفوقها في الإيمان والإرادة واليقين، وأنها هي الأمة المختارة لولاية الله، ووراثة الكتاب، والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ولهذا جاء التحدي لليهود في سورة الجمعة التي هي سورة تفضيل هذه الأمة على بني إسرائيل قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين… إلخ الآيات
كما جاء في سورة البقرة قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين الآيات 94 – 96
إن الأثر العظيم لهذه العمليات جعل المحللين والمفكرين يختصرون الانتفاضة كلها فيها ويرمزون بها إليها، وجعل العدو ينص في مطالبه وضغوطه على أمريكا وحكام العرب على إيقافها ولو إلى حين !!
يقول الكاتب الصهيوني المعروف ” آريه شبيط ” في صحيفة “معاريف ” 22/9/2002 في تعليقه على أثر العمليات الإستشهادية:
“إنه بفضل العمليات الانتحارية ( هكذا يسميها ) نجح الفلسطينيون في قلب الشوارع الإسرائيلية إلى موقع عسكري كبير ومرهق. وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في المساس بقسوة بالاقتصاد الإسرائيلي، وبفضل العمليات الانتحارية نجحوا في الحفاظ على اهتمام الأسرة الدولية بمشكلتهم، ولولا العمليات الانتحارية لكان القليل فقط من الإسرائيليين يكرسون التفكير بما يجري وراء الخط الأخضر، ولولا العمليات الانتحارية لكانت المعاناة والضائقة من نصيب الفلسطينيين فقط، ولكان قُدِّر لهم الاستسلام والخضوع بدون شروط ” !!
ولبيان إيلام هذه العمليات نذكر أن الأرقام الرسمية الإسرائيلية تشير إلى أن حصيلتها قرابة 500 قتيل وأكثر من 3500 جريح !! ولكن يجب أن نعلم أن الحقيقة أكبر مما يعلنون.
وقد ظهر ذلك بعد قضية الضابط دانيال الذي أبلغت الحكومة أهله بوفاته في حادث مرور.ولكن زملاءه أخبروهم أنه قتل، فأقام والده دعوى وجرى الكشف عن الجثة وظهر كذب الحكومة، الأمر الذي جعل الكثير من الآباء ينضمون إليه في إقامة الدعوى وأفقد الثقة في أرقام الحكومة ومعلوماتها وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في كلام الخبير العسكري “فان كرفيلد”.
وفوق هذه الأعداد من القتلى والجرحى نجد أن آثارها النفسية والمعنوية هائلة جدا ومن ذلك رفض الخدمة العسكرية والتحايل للإفلات منها بالأعذار الكاذبة، وارتفاع عدد المهاجرين إلى الخارج، وارتفاع عدد المطالبين بالانسحاب الفوري من الأراضي المحتلة بدون شروط، وسيطرة الرعب والهلع على المجتمع اليهودي وغير ذلك مما قد يأتي تفصيله قريباً.
ونكتفي هنا بإيراد بعض الشهادات من إعلام العدو:
إن الانتفاضة، حسبما جاء في الصحف الإسرائيلية، ” ليست مجرد هبّة بل هي حرب استنـزاف أغرقت إسرائيل في لجة من الدماء” (هآرتس 1/2/2002) “وأدخلتها في دائرة دموية” (يديعوت أحرونوت 29/1/2002) وتسببت في فيضان “أنهار الدم ” حسب إعلان رافضي الخدمة العسكرية (هآرتس 8/2/2002) كما أدت إلى الغوص في مياه راكدة، وإلى الغرق في ” المستنقع الذي غرقت فيه قواتنا بدءا من الثمانينيات ” (في إشارة واضحة للمستنقع اللبناني ).
وتشير الصحف الإسرائيلية إلى العام الأول للانتفاضة بأنه عام ” مضرج بالدماء ” (معاريف 10/2/2002) وإنه ” الأسوأ في تاريخ إسرائيل في كل ما يتعلق بمواجهة الإرهاب” (معاريف 11/2/2002).وقد وصف أحد الكتاب الموقف بهذه العبارة الدالة: “صغيرة هي المسافة بين الخوف والذعر، والجمهور الإسرائيلي يعيش بين هذا وذاك ” (معاريف 10/2/2002) وقد أكد يوئيل ماركوس في هآرتس (13نوفمبر2001) ” الحقيقة المرة أننا لم ننجح في تصفية الإرهاب ودحره بالقوة ” بل إن الفلسطينيين نجحوا ” في زرع الرعب في صفوفنا… وفشلنا في إخافته ” وأكبر دليل على ذلك: أن الوزير داني نفسه وأبناء عائلته أخلوا بيوتهم… خوفا على أمنهم، وذلك بناء على نصيحة جهاز الشاباك ( جهاز الأمن الداخلي )… وقال رعنان كوهين، عضو المعارضة، إن الوضع خطير جدا ” أنا أنظر بخطورة بالغة إلى الوضع الذي لا يستطيع فيه الوزراء أن يتجولوا بحرية داخل الخط الأخضر، وإن لم نشعر نحن الوزراء بالطمأنينة، فكيف سيشعر الجمهور “.
واستمر كاتب المقال في القول:
“إنجاز الفلسطينيين لا يكمن في إخافة وزراء إسرائيل [الواقع أن وزيراً قد قتل فعلاً] إنجازهم الحقيقي يكمن في أنهم وضعوا علامة على كل المستوطنين والإسرائيليين كأهداف وألحقوا الأذى باقتصاد إسرائيل وبالسياحة الوافدة إليها، وزرعوا من خلال أعمالهم الإرهابية أجواء من الخوف والجزع في الوقت الذي لم تنجح فيه إسرائيل في زرع خوف مشابه في أوساطهم”.
ونشرت يديعوت أحرونوت (14/3/2002) أن 78% من الإسرائيليين لم يعودوا يسهرون في أماكن عامة خشية الإصابة في عمليات تفجير فلسطينية.
إن جمهور المستوطنين (63%) يعتقد أن الدولة الصهيونية قد دخلت طريقا مسدودا فهي لا يمكنها القضاء على الانتفاضة بالقوة، مما يعني أن الانتفاضة لن تنتهي “. وفي الوقت ذاته لا يمكن التوصل إلى اتفاقات سلام مع الفلسطينيين. فكل محاولات وقف إطلاق النار باءت بالفشل (الجيروساليم بوست 30/9/2001). أو كما يقول أمنون دنكنر في مقال نشرته جريدة معاريف: ” أسوأ الأمور هو أن من الواضح أنه لم يعد ثمة حلول سحرية يمكن التوصل إليها بضربة واحدة. ولم يعد السلام الشامل والنهائي مغريا، بل ليس ثمة حلول عسكرية تتكلل بأناشيد المتنصرين. ومن الجهة الأخرى، لا يوجد أي إمكان للاستمرار في ظل الوضع الحالي من دون عمل شيء “.
وفي 25 يناير 2002 أكد يوئيل ماركوس في هآرتس أن شارون:
أدخل الإسرائيليين في دائرة دموية مفرغة لا يمكن الخروج منها… الناس لا يخرجون إلا قليلا خوفا من الهجمات الإرهابية.. الجمهور متعب ومرهق ومتشاءم.. طاقة إسرائيل تم تقويضها، ورغم أن إسرائيل عضو في نادي أقوى خمسة جيوش في العالم ونادي الدول النووية الثمانية فقد بلغت النقطة التي لا يمكن فيها أن تصل إلى حل عسكري مع الفلسطينيين.
وقد عبر دانمار روبنشتاين، أحد أبرز المعلقين الإسرائيليين عن نفس الفكرة إذ قال في صحيفة معاريف (20/9/2001): ” إن طريقة مواجهة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للانتفاضة لم تفشل قط، بل إنها أدت إلى انتقال حمى العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها “.
وتقول معاريف ” إن قوة الجيش تتآكل بمنهجية بعد أن غرقت في مستنقع الانتفاضة. وقد وصل الأمر إلى درجة أن المطلوب هو “جندي في كل دكان، وفي كل موقف سيارات، وفي كل محطة حافلات، وسبعة منهم في كل مفترق “. وبالفعل نشرت جريدة معاريف (2/4/2002) أن اللجنة القطرية لأولياء أمور الطلبة في إسرائيل اتخذت قرار بعدم استئناف الدراسة في المدارس بعد عطلة عيد الفصح إذا لم يوضع حراس مع أسلحة حول كل المؤسسات التعليمية.
ولكل هذا أعلن أليكس فيشمان في مقال له في إيديعوت أحرونوت أن سياسة الأمن الإسرائيلية تحتضر، وأشار إلى أن الوضع الأمني الذي تعيشه إسرائيل يعتبر إفلاسا أمنيا.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري تعليقا على هذا: لقد وصل العقل الإسرائيلي مرة أخرى إلى حالة “اين بريرا”. وهي عبارة تعني ” لا خيار “، وكانت تعني في الماضي أن المستوطن الإسرائيلي محكوم عليه بالدخول في حروب مستمرة الواحدة تلو الأخرى لمدة طويلة، ولكن كان الاعتقاد الصهيوني الراسخ أن ثمة مخرجا في نهاية النفق المظلم من خلال ما يسميه الفكر الأمني الإسرائيلي “الحائط الحديدي “، أي أن يبني المستوطنون حائطا حديديا حول أنفسهم لا يمكن للعرب اختراقه، مما يضطرهم للرضوخ للأمر الواقع والاقتناع بأنه لا يمكن هزيمة هولاء الوافدين من الغرب.
ولكن بدلا من الحائط الحديدي ظهرت عبارة “العجز الأمني ” فهي حالة من “اين بريرا ” دون أمل. أو كما قال أحد الكتاب في معاريف (30/1/2002):
“إن المجتمع الإسرائيلي يشعر باليأس مثل قطيع بلا راعٍ محاط بذئاب مجنونة ” نعم مثل قطيع من الغنم بلا راع لكن محاط بأسود باسلة !!
ونختم هذه الشهادات بشهادة وزير المالية اليهودي التي أوردها في خطابه أثناء مناقشة ميزانية هذا العام فقد قال ” كنا نحارب ونحارب على الحدود أما في هاتين السنتين فإننا نحارب ونحارب في كل مكان في الشوارع والفنادق والمطاعم والمستوطنات في البر وفي البحر ”
وصدق الله تعالى إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ … الآية [النساء: الآية104]

القاعدة الرابعة

وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب: الآية26]
(الهزيمة تمر بثلاث مراحل = مرحلة القلق والخوف والحيرة ثم مرحلة اليأس وفقد الثقة ثم مرحلة الاستسلام أو الموت ” وقد تأتي مرحلتان منهما معا كما هو حال اليهود)
بعد خمسة شهور فقط من اشتعال الانتفاضة ظهرت العلامة الكبرى على الانهيار المعنوي للعدو متمثلة في البيان الذي أعلنه الرافضون للخدمة العسكرية وهم مجموعة من 50 ضابطا وجنديا الذين أعلنوا إنشاء حركة الشجاعة في الرفض ” وعللوا موقفهم بأمرين:
أن الضفة والقطاع أرض محتلة فالقتال فيها غير شرعي.
أن الانتفاضة أدت إلى فيضان الدم !!
وظل المنظمون إلى الحركة يتكاثرون بالمئات حتى بلغوا الألف -كما ذكرت بعض المصادر الغربية- أما الجدل بشأنهم فقد تحول إلى مشكلة خطيرة لدى القيادات وكشف ذلك عن هزيمة نفسية أخذت عدواها تتفاقم في الأمة كلها، وظهرت له أصداء في الإعلام المحلي والعالمي، حتى وصفت بعض التحليلات الرفض بأنه ثورة متنامية، وعلق آخرون بأنه بداية التمرد المدني والدخول في مرحلة الفوضى، ومما يؤكد هذه المخاوف أن 180 منهم قد سجنوا ومع ذلك لم يتراجعوا عن موقفهم !!
(البيان الإماراتية 10/11/2002)
في إمكان أي قائد عسكري أن يدرك عظم الكارثة من التعليلين المشار إليهما في الخطاب، أي كون القضية غير عادلة وكون التضحيات كبيرة وكل منهما كاف وحده.
فعندما يفقد المرء القناعة الداخلية بأمر ما فإنه يتخلى عنه.وعندما يفرض عليه أمرٌ ما تضحيات أكبر مما ينبغي فإنه يعدل عن تقديمها. أما إذا تظافر العاملان معاً فالرفض هو أدنى درجات الإنكار فإذا أريد منه الرضوخ بالقوة فإن التمرد يغدو ردا طبيعيا ومن هنا تنشق الجيوش أو تبدأ الحرب الأهلية بين الشعب.
ولذلك يدرك القادة أن هذا أشد على أي جيش من هزيمة حقيقية بمعنى أن مقتل ألف جندي في معركة هو خير من تمرد مثل هذا العدد أو نصفه الأمر الذي يعدي بقية الجيش بالداء الذي لا دواء له.
والحقيقة أن ما يحدث في الجيش اليهودي ما هو إلا مظهر من مظاهر الوهن الذي ضرب قلوب الأمة كلها، والهجرة المضادة مظهر ثانٍ وتهريب رؤوس الأموال مظهر ثالث، وإخلاء المستوطنات مظهر رابع، وانتشار الأمراض العقلية مظهر خامس وهكذا مما يجعل كل مظهر منها بحاجة إلى الحديث عنه ولذلك فلا غرابة أن يربط المعلقون والكتاب اليهود بين بيان رفض الخدمة وبين بداية النهاية للدولة !!
ومن أقرب المظاهر إلى رفض الخدمة مظهر التهرب منها بالتمارض أو التأجيل أو غيرها من الحيل التي يجيدها اليهود.
وكذلك قلة الإقبال على الدخول في الأكاديميات العسكرية حتى أن بعضها قد أقفل، ولم تجد العقوبات العسكرية شيئا بل ارتفع عدد الموُقَفين من المتهربين من الخدمة من 600 في أول عام 2002 إلى ألف بعد عشرة شهور.
وهذه الحال من الرفض اشد بكثير من سابقتها التي أدت إلى الانسحاب من جنوب لبنان، ولكن الخيار هذه المرة معدوم لأنه يعني الاستسلام أو الرحيل !!
إن اجتماع هذه المظاهر يؤكد أن الانتفاضة المباركة أدخلت الدولة اليهودية في حالة من الرعب الدائم، وإن إدراك حقيقة هذا الوهن يفسّر هروب المستوطنين مع كل ما يحاطون به من التحصينات الهائلة، هذا مع أن البالغين منهم هم من المتدربين والمجندين. بل إنه يفسر المنظر المتكرر الذي يثير عجب كل مشاهد في العالم وهو اندحار الدبابات وأشباهها أمام المقلاع والهراوة !!
وقد شاهد كثيرون هلع شارون وهو يصرخ في وجه ” موفاز ” عندما ارتقى فتى مؤمن دبابة يهودية وكاد أن يسوقها غنيمة للمجاهدين.
لقد حاول الإعلام اليهودي تعليل هذه الظاهرة الغريبة، فقالت جريدة معاريف ” إن حياة الجنود في الدبابات جحيم لا يُطاق، فالأوامر الصادرة لهم تتضمن البقاء داخل الدبابة طوال الفترة المحددة لهم دون الخروج منها، بل إنه صدرت أوامر لهم تحظر عليهم حتى النظر من فوهات الدبابة خوفاً من تعرضهم لرصاصات طائشة تأتيهم من المناطق المحاصرة. كما لا يستطيع الجنود الخروج من الدبابة لقضاء حاجتهم كالذهاب إلى مرحاض أو إلى حمام، وذلك خوفاً من تعرضهم لقناص فلسطيني ينتظر خروجهم من الدبابة. وأوضح التقرير أن الجلوس لفترة طويلة داخل دبابة مع الشعور بالخوف من المحيط الذي توجد فيه الدبابة يجعل الجنود في قلق دائم بحيث ينتظر الجندي بفارغ الصبر انتهاء ورديته للخلاص من هذا الجحيم الذي لا يُطاق. وأضاف التقرير أن وجود الجنود داخل الدبابة واحتكاكهم طوال الوقت بعضهم مع البعض يسبِّب مضايقات لهم حتى إن نفسية الجنود أصبحت منهارة، وأصبحت العلاقة بينهم تتسم بالمشاحنات والمشاجرات، هذا إلى جانب الملل والضجر الشديدين”.
وفي عدد آخر ضربت معاريف مثالا لهذه الحالة النفسية بما حدث في مستوطنة الحمراء، فقد اقتحم أحد المجاهدين المستوطنة وقتل وجرح حوالي 10 من اليهود، على مشهد من الحرس الذين بلغ بهم الذعر إلى حد الوجوم والعجز عن الكلام وعن التبليغ عن الهجوم، أما الجنود الذين هاجمهم المجاهد فقد فروا واعترف أحدهم بصراحة بالغة “حين بدأ القتال اختبأت تحت السيارة ”
وأشد من ذلك حالة حاجز عوفرا، حين قتل المجاهد عشرة من اليهود ومضى بأمان مع أن سبعة منهم جنود بكامل عتادهم !!
تأتي هذه الأمثلة وهي كثيرة جدا تصديقا لما توقعه الخبير اليهودي المشار إليه فقد قرر أن اليهود تحولوا إلى مجموعة من الجبناء والتعساء، بل من البكائين والنواحين على حد تعبيره يقول في بقية كلامه:
” والدليل الأول على ذلك كان في حرب الخليج، لقد كانت هذه أول حرب في التاريخ يقتل فيها الناس من جراء الخوف أكثر من عمليات العدو (يعني الصواريخ العراقية) وكان فيها مصابون نفسيا أكثر بثلاث مرات من المصابين جسديا، وكذلك اليوم ففي كل مرة تكون إصابات فإنك تسمع عن 100مصاب منهم ثمانون مصابون بالخوف ” ويالها من نسبة !!
إنها تعني أنه عند كل عملية صغيرة أو كبيرة يكون المصابون بالهلع والانهيار أو ما يسمى ” الصدمة ” أربعة أضعاف المصابين جسديا. وهولاء المصابون بالصدمة منهم من يموت فورا ومنهم من يحتاج إلى علاج طويل أو قصير !!

والأمر الذي يجب قوله هنا أن يقظة العقل المؤمن بل مبادرته جعلت الرعب مستمراً وهيأت له الدوافع التي لا تنقطع، ومن ذلك تفجير الدبابة “مركبا 3″ التي تعد أكثر الدبابات متانة في العالم وقد أحدث هذا العمل آثارا مادية ومعنوية كبيرة، فالتقارير المنقولة آنفا مكتوبة قبل حدوث هذه المفاجأة وعليه نقول:
ما الظن بالجندي اليهودي الذي كان يرى الحياة في الدبابة جحيما لا يطاق حين يراها فعلا تنفلق وتشتعل في جحيم حقيقي !!
وقد دلت البيانات اليهودية على هذا الرعب بدقة الأرقام فنشرت جريدة إيديعوت إحرونوت: أن معدلات الخوف بين المستوطنين كانت 57% في مطلع شهر أكتوبر 2001 ثم بلغت 68% في منتصف الشهر ثم بلغت 78% في مطلع الشهر التالي !!
وقد تحولت المستشفيات اليهودية إلى معامل بحث لدراسة هذه الظواهر الغريبة التي لا تكاد توجد لدى الطرف الآخر الأضعف ماديا ومنها ما ذكر الخبير كرفيلد من الموت أو المرض بالرعب وحده !!
ويقول دبلوماسي يهودي في أمريكا :-
” أوضحت الانتفاضة جهلنا بالعرب وعدم معرفتنا بمدى مقاومتهم وتضحياتهم..، كما كشفت عن ضعفنا المعنوي، مع أننا نملك أقوى جيش في المنطقة ” وضرب مثالا للروح المنهارة: “بأن مجرد دخول جريح جديد إلى المستشفى يؤثر على أحوال المعالجين من قبل، الأمر الذي أدى إلى تكاثر المرضى، بحيث يحشر في الغرفة الواحدة ما بين خمسة إلى ستة” أ.هـ
وذكرت البيانات أن الإقبال على العيادات الطبية ارتفع بشكل كبير مع أنهم لا يعانون في الحقيقة من أي مرض عضوي وإنما يعانون من التوتر والضغوط النفسية وأشارت إلى ارتفاع بنسبة 50% في استهلاك المهدئات والمسكنات.
وهذا ما دفع وزارة الصحة اليهودية إلى إيجاد خدمة عامة قد تكون فريدة في العالم وهي فتح مراكز استشارات هاتفية للمواطنين المحتاجين للمشورة النفسية !!
وقد صور الكاتب “يغآل سارنا” الوضع النفسي العام الذي فرضته الانتفاضة المباركة على الشعب اليهودي قائلا:
” ما كان يبدو في البداية كمرض سيهاجم ثم يختفي تحول إلى نمط حياة جديدة، الحارس على باب المطعم، جهاز كشف المعادن الذي يمشط أجسادنا عند المدخل، الرأي الواحد وانتهاء الاختلاف في الرأي ” (يديعوت احرنوت 15/1/2002)
أما المعلق الشهير “إتيان هابر” فيسخر من فكرة ما سماه “الأرض الموعودة المحمية “ويقول “لقد أصبح عدد الحراس مثل عدد الرمل ” (يديعوت احرنوت 18/4/2002)
و الأمثلة هنا كثيرة جدا -وقد تأتي لها بقية في الفقرة التالية- فلنكتف بهذا، غير أننا لابد أن نجيب عن إشكال أو تساؤل قد ينشأ هنا وهو إذا كان اليهود يعيشون هذه الحالة فلماذا يزدادون عنفا وشراسة ويفرطون في الانتقام والتشفي يوما بعد يوم ؟ هل لهذا من تعليل أو قاعدة ؟
ونجيب: نعم إن القاعدة التي يدل عليها كتاب الله وواقع الكائنات الحية فضلا عن تاريخ اليهود هو ” أن الوحشية في الانتقام والعنف المفرط هما دليل واضح على بلوغ مرحلة اليأس التي تسبق عادة مرحلة الاستسلام أو الموت لدى الكائنات الحية ”
والطواغيت حين يتصرفون بغريزة حب البقاء، ويتعامون عن الإقرار بالهزيمة، يلجأون في مرحلة اليأس إلى استنفار كل الطاقة والضرب بها في كل اتجاه بلا تفكير ولا هوادة، كما تفعل الوحوش أو الطيور إذا حشرت في زاوية، لكن ذلك يعقبه عادة النهاية المحتومة !!
هكذا بطش صاحب الأخدود وفرعون وهكذا يفعل شارون وجنوده الآن،
فماذا تظنون بجندي يخاف أن تقتحم عليه رصاصة المجاهد من فوهة الدبابة ألا تتوقعون أن يضرب بها يمنة ويسرة: الناس و البيوت و الشجر وكل شيء أمامه؟ !!
إن هذه الحالة المشاهدة تؤكد حقيقة الرعب الداخلي ولا تدل على شيء من الثقة!!

القاعدة الخامسة
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: الآية61]
يضرب بعض الرواة مثلا للوهن الذي أصاب المسلمين حين قدوم التتار في القرن السابع الهجري بأن التتاري الأعزل كان يمر ببعضهم فيقول انتظروا هنا حتى آتي، ثم يذهب فيأتي بالسيف فيضرب أعناقهم..
ولا ندري ما حقيقة ذلك واقعيا، لكن لا يبعد أن يقع بعض حالات، أما أن يصبح ظاهرة عامة ومرضاً قومياً فهذا ما وقع لليهود بعد الانتفاضة.
يقول أحد الكتاب اليهود ” لا يوجد ملاذ في هذه البلاد، الأعصاب متوترة لدى الجميع ووصلت لدى البعض إلى حد الانفجار، وفوق ذلك سيطرت على الجميع سلبية غريبة، الناس ينظرون إلى حمام الدم اليومي كقدر لا مفر منه، تماما مثلما ينظر المنكوبين في بنغلاديش إلى الفيضانات! يخرج الجميع من أعمالهم ليفتحوا الإذاعة التي تحولت إلى قائمة بإعلانات الجنائز، فإذا دخلوا بيوتهم أغلقوا الأبواب واحتفظوا بأولادهم قريبا جدا منهم ”
لقد حدث هذا كما علل كثير من الكتاب نتيجة فقد الثقة في الجيش أو في الحكومة أو في النفس أيضا.
فبينما كانت نسبة ثقتهم في الحكومة عام 1996 60% انخفضت إلى 37% عام 2002 وانخفضت الثقة في البرلمان = الكنيست من 62% إلى 25% وفي الأحزاب من 36% إلى 16%.
عندما يسطر الرعب على النفوس تظهر السلبية القاتلة. يقول أحد كتاب معاريف:
” إن أخطر ما في الأمر هو ذلك الإحساس العام بأنه لا أحد في البيت وأن السفينة تهتز في بحر عاصف وأنه لم تعد لدى قبطان السفينة أية أفكار أخرى لا في الميدان السياسي ولا في الميدان الاقتصادي ولا الاجتماعي ”
وثمة شعور عميق بفقدان الاتجاه فشارون ليس لديه تكتيك إلا المبدأ الساذج أن نصمد، ألاّ تطرف لنا عين، أن نقلل الأضرار، وأن نتوحد عندما تقع كارثة، وأن نمضي قدما، لكن إلى أين ؟”
وقال آخر في يديعوت أحرونوت:
” إن القيادة الإسرائيلية لا تعرف ماذا يجب فعله وهذا الصمت ليس وراءه خطة ونحن لا نعرف أين نسير لأن القادة أنفسهم لا يعرفون”.
وفيها يقول الكاتب “إيتان هابر” واصفا الحياة السياسية في إسرائيل بعد المشكلات الأخيرة بأنها “حياة قذرة” وجاعلا ذلك عنوان مقالته: “دولة إسرائيل تواجه إحدى ساعاتها الصعبة. إننا نعيش حياة قذرة” وفيه:
“أمام المخاطر الكيانية الملموسة، أمام مسائل الحياة والموت، أمام الحاجة الماسة إلى مجموعة اليهود العباقرة والحكماء وأصحاب التجربة الكبيرة والأكثر نجاحا في العالم – فإننا ننتخب من يوزعون النقانق والكاتشوب والخردل للناخبين.إننا نستحق هذه النقانق”
(يديعوت احرنوت 11/12/2002)
وهنا يأتي أيضا دور علماء النفس ليعبروا عن هذه الحالة من الخور وفقدان الإرادة. وقد نشرت كل من هآرتس وبنئيم (عدد 17 صيف 2001) عن ظاهرة يسميها علماء النفس ظاهرة “العجز المكتسب”. ولشرح هذه الظاهرة تقول الصحف إنه أجريت تجربة عُرِّض أثناءها كلبان لصدمات كهربائية وأعطي واحد منهما الفرصة للفرار، أما الآخر فقد حُرم منها، فاكتسب الأول حساً سريعاً بتجنب الصدمات الكهربائية من خلال القفز إلى الجهة الآمنة، أما الثاني فقد تكيف تماماً وتقبل الموقف بخنوع، حتى أنه حينما أتيحت له فرصة الهرب في تجربة أخرى، لم يغتنمها. فالعجز المكتسب هو سلوك سلبي ينشأ من الإدراك أن لا وسيلة لتجنب آثار مؤلمة، ومن عدم اليقين بخصوص أي شيء، فهي حالة “إين بريرا” بامتياز.
وقد توصل العلماء إلى أن ظاهرة العجز المكتسب في المجتمع الإسرائيلي تنطوي على أخطار كثيرة مثل الشلل من جهة، والتطلع من جهة أخرى إلى حلول سحرية قد تحل كل المشاكل بضربة واحدة. وهذا الاتجاه الأخير أرض خصبة لتطور توق قوي إلى ظهور مسيح دجال، والاستعداد لقبول من يقدم نفسه “كقائد قوي” يمكنه حل المشكلات كافة. (وهذا يفسر ظهور شارون الذي وعدهم بإعادة الأمور إلى نصابها).
ومن أطرف المؤشرات على حالة الذعر التي انتابت التجمُّع الصهيوني أنه مع تصاعد الانتفاضة بدأت حالة الذعر تنتاب الكلاب والقطط في المنازل الإسرائيلية، ولذا اقتضى الأمر تقديم المهدئات لها (الفاليم). وقال أطباء بيطريون إن الكلاب تبدأ في النباح وتصبح أكثر عدوانية وترتجف لا إرادياً أو تفقد التحكم في مثانتها عندما تصل أصداء دوي إطلاق النار في الضفة الغربية إلى مباني القدس.
وقال بيني سابير، وهو طبيب بيطري في القدس: اليوم فقط عالجت كلباً من نوع السيشن كان قد امتنع عن الطعام ويرفض مغادرة منـزله. وقال طبيب بيطري آخر إنه لم ير مثل هذا العدد من الكلاب المضطربة منذ أمطر العراق تل أبيب بصواريخ سكود خلال حرب الخليج عام 1991.
وقال طبيب آخر إن كلبه هو شخصياً يرفض الخروج من المنـزل. إن الناس مصابة بالتوتر ولا يدرون ماذا يفعلون وعلى مَنْ يلقون باللوم، الناس متوترة وكذلك حيواناتها.
(BBC ويديعوت أحرونوت 6/3/2002).
ومن أصدق ما يعبر عن هذه الحالة ما كتبه ” إيتان هابر ” وهو معلق سياسي بارز وكان أمينا خاصا لمكتب إسحاق شامير، حين كتب مقالا في شكل سؤال ” ما الوضع ”
ووصف الوضع في إسرائيل بأنه: “مثل بطل تلك الميثولوجيا، سيزيف، الذي كان يدحرج، بعناء كبير، صخرة نحو قمة الجبل، فتعود لتتدحرج، مرة بعد أخرى، على المنحدر، هكذا هو الجيش الإسرائيلي، الذي خرج، هذا الأسبوع، في “حملة متدحرجة”: الجميع يعرف أنه بعد يوم، أسبوع، شهر، أو سنة من تدمير وسحق “قواعد الإرهاب”، سيعود الإرهاب الفلسطيني إلى المقاهي ومحطات الباصات “.
(يديعوت احرنوت 2/4/2002)
ولا يتردد الكاتب نفسه في وصف إسرائيل بأنها “دولة مجذومة” يمقتها العالم كله ما عدا أمريكا ويؤكد أنه حتى أمريكا لابد أن تغير موقفها يوما ما. (16/1/2002)
وليس هناك ما يفسر هذا العجز والهوان – الذي سبقت الشواهد عليه في هذه الفقرة وما قبلها – بأصدق من قوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران: الآية112]

وهنا أيضا لابد أن نجيب على إشكال قد ينشأ، وهو أننا نشاهد العدو يطور خططه، ويغير في أساليبه: من الحواجز وفتح الطرق الالتفافية حول المستوطنات، إلى بناء الجدار الواقي إلى الاجتياح، وأخيرا إلى التهجير فكيف يتفق هذا مع ما تقدم من دلائل العجز والإحباط هل لذلك من قاعدة أو تعليل ؟
ونجيب أيضا نعم:
هناك قاعدة يدل عليها كتاب الله وواقع الأمم الطاغية قديما وحديثا وهي: ” أن القوى الطاغية حين تصدمها قوة الحق ترفض الاعتراف بالضعف لكن هذا الاعتراف يأتي ضمنا في إعلانها عن البدائل التي تلجأ إليها للخداع النفسي والهروب من الحقيقة ”
هكذا فعل فرعون حين أسقط في يده فقد لجأ إلى الإيهام ببناء غير معقول فقال:
يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:الآية38]
وهذا منهج مراوغ للتعبير عن الحالة التي قد تكون وهما كما هو حال ابن نوح عليه السلام حين قال سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء [هود:الآية43] وقد تكون في حيز الإمكان كما قال قوم إبراهيم عليه السلام حين أفحمهم بالحجة ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:الآية97] وفي هذه الحالة يشتغل الرأي العام بالمشروع وإمكانية تنفيذه عن القضية الأصلية مما يجعل الطاغوت يبحث في الوقت الضائع عن مشروع آخر ..
إن هذه المشروعات الشارونية تتعرض للنقد اللاذع وقد اشترك في نقدها- مع حزب العمل- أحزاب ومفكرون وكتاب كثير ولم يخرج تشخيصهم للحالة عما ذكرنا:
ونعود للخبير اليهودي المذكور الذي يعلق على خطة شارون عن المناطق الفاصلة قائلا:
” هذا هَبَل! إن هذه الدولة صغيرة لا يمكن أن تبني فيها مناطق فاصلة، إن المناطق الفاصلة هي محاولة إنشاء جدار ولكنه ليس بجدار حقيقي، أو سور ولكنه ليس بسور، إنهم يخربون عقولنا منذ زمن بعيد، مرة يطرحون فكرة الفصل من طرف واحد، وأخرى إنشاء خط حدودي، وثالثة: عوائق، كل هذا لا ينفع ” !!
والعجيب أن الحل عند هذا الخبير لا يخرج عن السياق نفسه فقد اقترح هو أن يبني اليهود سورا كبيرا مثل سور برلين بل أكبر وأعلى حتى أن الطير لا يمكنها أن تطير من فوقه كما قال !!
وحينما يواجَه بالقول بأن هذا يعني التخلي عن مدينة القدس القديمة يقول:
” إن لم يكن لنا خيار فإنني سأتنازل عنها تماما فالحياة أكثر قداسة من الأماكن المقدسة ”
وإذا قورن كلام هذا الخبير الكبير عندهم بحال أهل الأرض المباركة، الذين يتسابقون إلى الشهادة من أجل إنقاذ المسجد الأقصى، تبين الفرق بين من هم أحرص الناس على حياة، ولو كانت ذليلة مهينة، وبين من يشتاقون للجنة، ويعظمون ما عظم الله من حرمات وشعائر ومقدسات.
وقد عبر كاتب آخر بأن هذا المشروع ” الجدار” هو مع إخفاقه في تحقيق الأمن رجوع للجيتو اليهودي القديم.
وقد جاءت أعمال شارون لتؤيد ما قاله هؤلاء عن بؤس الحال وقلة الخيارات، ففي كل مرة تقع عملية استشهادية أو يقتل عدد من اليهود، ينطلق شارون لمحاصرة عرفات الذي لا يملك شيئا، وهذا ما جعله موضع سخرية الإعلام اليهودي، الذي يعلن بعد كل عملية: نحن نعلم كيف يرد شارون، إنه سوف يحاصر عرفات، أو يتوغل في بعض المدن، إنه تكتيك متكرر فاشل لا يحقق إلا مزيدا من الحفز للفلسطينيين !!

القاعدة السادسة:
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار [الحشر:الآية3]

“عندما يرتد العدو عن عقيدته التي من أجلها جاء و قاتل فإن ذلك يعني أن الهزيمة النفسية لديه قد بلغت النهاية”
والردة هنا ليست تعبيرا مجازيا، بل هي حقيقة دينية عند الصهاينة، فهم يسمون العودة من أرض الميعاد ردة، وهي كذلك إذا علمنا أن الهجرة إلى أرض الميعاد، هي الأُسطورة التي بنيت عليها العقيدة الصهيونية كلها، واليهودي يعبر عن إيمانه بقدر حبه لهذه الأرض، و حنينه الدائم إليها، ليس لمجرد أنها الأرض المباركة التي اختصهم الله بها – كما يدعون- بل لأنها أيضا تفيض لبنا و عسلا كما جاء في التوراة.
ومن هنا لاحظ المراقبون أن الدولة اليهودية بكل فئاتها تحاول التعمية أو التحفظ على أرقام المهاجرين منها، مثلما تفعل بالنسبة لأرقام القتلى و الجرحى أو أكثر.
لقد كان الخوف من تكاثر العرب -الذي يقلب ميزان التوازن السكاني فيها- هو أكبر المشكلات، وقديما قالت جولدا مائير: “إن الفلسطينيين يتكاثرون كما تتكاثر الأرانب” حتى جاءت الانتفاضة المباركة فأصبحت تلك المشكلة بمثابة الطامة الكبرى!
كان اليهود يتوقعون وفقا ًلمعدلات النمو السكاني أن يصبحوا عام 2020 أقلية بين العرب وكان ذلك يفزعهم، وينذر بمصير مشئوم لدولتهم، حين نشروا ذلك قبيل اشتعال الانتفاضة. وهذا التشاؤم في محله لأن عشرين سنة في عمر الأمم ليست شيئا مذكورا، أما الآن فالوضع لم يعد يحتمل بل هو مخيف للغاية، فالانتفاضة أوجبت خفض الأرقام والتقديرات لكي تكون النهاية أقرب بكثير، قد يكون عام 2010مثلاً، وهذا كابوس مرعب لا يطيقون مجرد التفكير فيه، فماذا تقول لغة الأرقام ؟
يبلغ عدد العرب داخل الأرض المحتلة قبل 1967 مليونا وثلاثمائة ألف أول عام 2002، وسيبلغون عام 2020 مليونين ومائة ألف أما سكان الضفة والقطاع فإن عددهم يزيد سنويا بمقدار 180 ألف نسمة وهي تقارب عدد المستوطنين الذين تجمعوا فيها من اليهود مدة 34 عاما فهم يقدرون بحوالي 200,000 مستوطن أنفقت الدولة عليهم مليارات الدولارات ، غير الخسائر البشرية !!
وبعد اشتعال الانتفاضة انتشر الرعب في المستوطنات، وبدأت الهجرة إلى داخل ما يسمى الخط الأخضر وأطلقت الصحافة اليهودية لقب ” مستوطنات الأشباح ” على ذلك العدد الكبير الذي أخلي منها أو كاد، وأورد بعضها أن نسبة المهاجرين منها بلغت 40% أي أن إسرائيل تحتفظ باحتلال الضفة والقطاع، وتتكلف الخسائر الهائلة ماديا وبشريا ومعنويا من أجل 120,000 يهودي فقط هم سكان المستوطنات!!
وهذا ما عبر عنه حرفيا أكثر من ناطق من مؤيدي الانسحاب من طرف واحد، والعودة إلى حدود ما قبل الاحتلال ومنهم اليسار كله والمنظمات المؤيدة للسلام.
لكن رافضي الانسحاب يردون على ذلك بأن الانتفاضة شملت كل المناطق داخل الخط الأخضر أيضا، وأن الهجرة إلى داخل الخط ما هي إلا تمهيد للرحيل نهائيا عن البلاد، أي الردة.
والردة تشمل من كان داخل الخط ومن كان خارجة وهذه هي الكارثة !!
جاء في تقرير حديث لوكالة الأنباء الإسرائيلية وعلقت عليه الجرائد أن الحياة في إسرائيل تعطلت أو تدهورت إلا شيئا واحدا فقط وهو السفر للخارج فقد بلغ عدد المسافرين سنة 2002 ثلاثة ملايين و600,000 . (طبيعي أن يعود أكثرهم لكن من سيبقون كثير ).
وهذا يؤكد ما قاله مراقبون غربيون من أن المهاجرين المرتدين بلغوا في السنة والنصف الأولى من الانتفاضة مليون مرتد !!
والأرقام الرسمية تعترف بـ 600,000فقط !! لكن بعض الجرائد اليهودية مثل معاريف ترجح المليون.
على أن للمشكلة مضاعفات أخرى تتمثل في أمور:-
• أن الانتفاضة لم تؤد فقط إلى هجرة من الداخل بل هبطت بنسبة المهاجرين إلى الأرض المحتلة من الخارج إلى أدنى مستوياتها. والمثال الواضح لذلك هم اليهود المهاجرون من الإتحاد السوفيتي المتفكك الذين كانت الدولة اليهودية تعتبرهم أكبر مدد لها خلال عقد كامل فقد بلغت نسبة انخفاض عددهم بعد الانتفاضة 77% لقد استمعوا إلى نصائح من هاجر قبلهم الذين حذروهم من الخوف والتمييز العنصري أيضا، وأخذت أنظارهم تتجه نحو أمريكا فهناك فرص الأمن والرخاء أكثر كما عبر بعضهم، وإذا كان عام 2001هو الأسوأ باعترافهم – في تاريخ الهجرة اليهودية إلى إسرائيل فإن يديعوت احرنوت قد ذكرت أن عام 2002 اسوأ منه حيث هبط عدد المهاجرين إلى إسرائيل فيه بنسبة 23% مقارنة بعام 2001!!
• أن كثيرا من الإسرائيليين يحملون جنسيات مزدوجة فالأستاذ بجامعة بن جوريون آلون غال يقول: “إن إسرائيل مزبلة ليهود أمريكا وهناك أكثر من 600,000 ممن يحمل الجنسية الإسرائيلية يعيشون في أمريكا مع أنهم معدودون ضمن المواطنين الإسرائيليين منهم 200,000 في نيويورك وحدها ”
• قال أحد المعلقين الغربيين “إن إسرائيل تنضم إلى الإتحاد الأوربي لا كدولة ولكن كأفراد “وهذا ما دفع الكنيسة إلى اقتراح مشروع ضريبة على الإسرائيلي الذي يقيم خارج إسرائيل حتى إذا عاد رفعت عنه ( هذا المشروع طرح في رمضان الماضي )
وهناك مناظرة طريفة نشرها أحد المواقع الإعلامية اليهودية بين يهوديين أحدهما أمريكي والآخر إسرائيلي هاجر إلى أمريكا:
قال الأول الأمريكي: لماذا تعودون إلى هنا ونحن ندفع لكم الدولارات يوميا؟
فقال الآخر: أنا خدمت في الجيش والآن جاء دوركم اذهبوا إلى هناك ونحن نعدكم أن ندفع لكم !!
• مما يضاعف المشكلة أن المهاجرين هم من الطبقة المثقفة والغنية، وعلى ذلك تعلق هآرتس قائلة: ” إن هجرة مليون يهودي غني أمر متوقع” وتشير إلى أنه إذا غادر هؤلاء بأموالهم وذهب كذلك أصحاب الخبرات والمهن الراقية “فلن يبقى في البلاد إلا العمال والفقراء والمجندين وتتحول إسرائيل إلى دولة من العالم الثالث”.
ومما يؤيد ذلك أن المسؤولين أنفسهم ومنهم الوزراء وقادة الجيش يبعثون أبناءهم وعائلاتهم ليعيشوا خارج البلاد ولا سيما في أمريكا. ويذكر الإعلام اليهودي نماذج لهؤلاء فمنهم مثلا:
يوفال بن اسحاق رابين، وأوريت حفيدة مناحيم بيجن، وتالي بنت بنيامين إليعازر، وميكال بنت إيهود باراك، وأرييل ابن الوزير روني ميلو، إيجال ابن موشيه أرينـز، وأخيراً حفيدة العالم المشهور اينشتاين التي هاجرت قبل أقل من شهر، وقالت في مقابلة مع جريدة جورشاليم بوست:
” إن واقع هذه البلاد يختلف تماما عما كانت تعتقد ولهذا لابد من أن نهاجر ” !!
وتعلق الجريدة على هذا قائلة: ” أكثر الإسرائيليين فقدوا الأمل في المستقبل ” أما في هآرتس فقد أوجز المسألة في شكل تساؤل:
” في أي دولة في العالم يقتل اليهود يوميا إلا هذه الدولة “؟!
أي أن الهجرة إلى أي بلد في العالم هي أفضل من البقاء، وهذه الحقيقة لم تعد حكرا على فئة من المراقبين، بل تحولت إلى حجة قضائية لدى دول بعيدة، فقد ارتد أحد المهاجرين الأرجنتينيين، واختطف ابنه وهرب به معه إلى بلده الأول، وحينما رفعت الأم التي بقيت في إسرائيل قضية ضده مطالبة بابنها، حكمت المحاكم الأرجنتينية عليها بحجة أن إسرائيل بلد غير آمن.
إن كل متابع للأزمة اليهودية يجد أن هذه الدولة تعيش أزمة وجود وليس أزمة ضعف أو قوة، فالخيارات في نفسها متناقضة، ولا يوجد حل حقيقي لا عند المطالبين بالانسحاب والتخلي عن المستوطنات كلية. ولا عند المطالبين بالاحتفاظ بها، والالتفاف على الفلسطينيين بمشروعات مثل الجدار الفاصل، لأن الانتفاضة طعنت في العمق في القلب ذاته، وتهدد الكيان في أصل وجوده، فالذين يطالبون بالانسحاب من طرف واحد يقولون ” إن السلام والأمن لستة ملايين إسرائيلي وثلاثة ملايين فلسطيني هو الآن رهينة لأمن 300 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة وغزة ”
وهذا حق ولكن هل نقل كل المستوطنين مع التحفظ على الرقم إلى داخل المناطق المحتلة سنة 1948 يحل المشكلة الأمنية ؟
أعتقد بكل ثقة أنه لا أحد يوقن بهذا لا من هؤلاء ولا من هؤلاء.
ولو رجعنا إلى كبير الأطباء النفسيين في الجيش اليهودي لوجدنا تعليلا نفسيا لهذا الجدل والتناقض الدائرين في حلقة مفرغة، يقول “روبن غال”:
“إن حدة الاختلاف في القرارات السياسية هي مجرد تعبير خارجي للتوتر والخوف والقلق الداخلي ”
ويقول ” لم نشهد مثل هذا الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي من قبل هناك من يريد قتل جميع الفلسطينيين! وهناك من يرى التخلي لهم عن الأرض بلا شروط! ”
ويضيف ” مع أن الكلام حول السياسة عادة ممنوع أثناء العلاج النفسي لكن هنا في إسرائيل أصبح من المألوف أن المعالج لابد له من الحديث مع المريض ويسأله هل ترى هناك من أملٍ في نهاية المطاف ؟!
إن الطبيب يفعل ذلك لأنه لم يعد بالإمكان الفصل بين الوضع والتوتر الشخصي الخاص ”
وهذا ما عبرت عنه إحدى استطلاعات الرأي في “معاريف” التي وصفت الوضع العام في الدولة اليهودية بأنه “في حالة ارتباك شديد وحيرة تزداد تعاظما فالجمهور يتراكض بذعر من هنا إلى هناك وهو على استعداد للإمساك بكل قشة تقع في طريقه من أجل محاولة التخلص من هذا الوضع، حتى لو كان يقول الشيء ونقيضه فهو يريد هذا وذاك، الفصل من طرف واحد والتوصل إلى اتفاق، الحوار مع القيادة الفلسطينية وكذلك تدميرها، والتحاور مع العرب في المناطق المحتلة وأيضا طردهم إلى الدول العربية المجاورة ”
أما في يديعوت احرنوت فيكتب “إيتان هابر ” عن القضية بأسلوبه الخاص بعنوان ” كيف سنخرج من هنا ”
فيقول:
“لقد سحقنا حتى النهاية، إنها قصة ذلك اليهودي الذي راهن صديقه على الدخول بسلام والخروج بسلام من قفص الأسود. فدخل، وعندما كشر الأسد أمامه عن أنيابه، رسم بإصبعيه علامة النصر.
– “لماذا ترسم علامة النصر”؟ سأله اليهودي الواقف في الخارج، مرتعباً مما يراه.
– “أي نصر؟”، صرخ اليهودي المتواجد داخل القفص، أنا أسأل فقط، كيف يمكن الخروج من هنا؟
“الجيش الإسرائيلي الكبير سيحقق النصر الكبير، وإذا لم يحتل نابلس وغزة وجنين وخان يونس اليوم، فسيحقق ذلك غداً. كيف نعرف أن الجيش الإسرائيلي يدرك كيف يفعل ذلك بأفضل شكل في العالم؟ لقد سبق له القيام بذلك، لقد احتل هذه الأماكن قبل 35 عاماً – وطوال الوقت تساءل جنوده وتساءل المواطنون: كيف سنخرج من هنا؟.
حسب كل الاستطلاعات التي جرت مؤخراً، فإن الارتباك بين أوساط المدنيين الإسرائيليين كبير: غالبية المستطلعين يطمحون إلى “توجيه ضربة” إلى الفلسطينيين، إلى القتل والطرد والهدم، ويوافق غالبيتهم على إخلاء مستوطنات وإقامة دولة فلسطينية. كيف يمكن ذلك؟ في دولة العجائب والأنبياء يمكن حدوث كل شيء.
في الوضعين الأمني والسياسي العاصفين حالياً، تبرز بالأساس، مجموعتان، (مجموعة) علامات التعجب المتطرفة. التي لم تتعلم في أي مدرسة معنى علامات الاستفهام.( التي هي رمز المجموعة الثانية )
وتضم المجموعة الأولى جانباً كبيراً من اليمين، بما في ذلك اليمين المكنى متطرفاً أو متزمتاً. إنها تدعي منذ سنوات كثيرة”:كلها لي”، وخلال السنوات الـ35 الأخيرة قامت بعمل كل ما يمكن من اجل تطبيق ملكيتها لأرض إسرائيل. بالنسبة للكثيرين منهم لا وجود للقضية الفلسطينية، لا وجود لثلاثة ملايين فلسطيني. إنهم يعتبرون الفلسطينيين غصناً تتقاذفه الرياح، ويجب، فقط، تفعيل المروحية كي يتطايروا في كل جهة…
المجموعة الثانية التي لا تعرف ولا تريد السؤال، هي تلك المجموعة التي تعيش في إطار اليسار الأكثر احمرارا وتطرفاً. هذه المجموعة تعتبر الإسرائيليين محتلين، مضطهدين، يتدحرجون بين شوارع غزة وأزقة نابلس حاملين السكين بين أسنانهم. هؤلاء يعتبرون الفلسطينيين محقين دائما، بل إن من بينهم من لا تتسبب العمليات الانتحارية بإخراجهم عن أطوارهم.
أما المجموعة الثالثة، وهي الأكبر، فهي المجموعة الصامتة والمتألمة، التي تتابع بعيون دامعة المشاهد الدامية من على شاشات التلفزيون، وتتساءل: ماذا سيحدث؟ كيف سنخرج من هذا؟ هذه المجموعة مؤلفة تقريباً، من ملايين المواطنين الإسرائيليين الذين يعرفون جيداً أن الشعور بالعظمة بعد حرب الأيام الستة، تسبب بتخدير الحواجب والعجرفة والصفاقة، وقادنا إلى الوضع الحالي الذي يتحمل مسؤوليته حزب العمل وحزب الليكود وكل من يقف بينهما وإلى جانبهما. إنها المجموعة التي جربت إيهود براك، ووضعت، الآن، أريل شارون في الامتحان. إنها المجموعة التي تطالب بتوجيه ضربة لهم، بالاحتلال، بالاجتثاث، بالتشطير – وبالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة من خلال الإدراك بأن ثمن ذلك هو إخلاء الكثير من المستوطنات. إمكانية هذا الإخلاء تصيب هذه المجموعة الضخمة بالجنون، تماماً مثلما تصاب بالجنون عندما تشاهد صور الأولاد الذين لم يرتكبوا خطيئة، والتي تغمر الصفحات الأولى للصحف في هذه الأيام.
والمجموعة الثالثة، الكبيرة، تصمت في هذه الأيام، وتبكي فقط، لشدة الحرج”.
(27/6/2002)
وهكذا يظهر أن الهجرة هي إحدى محاولات الخروج من هذا النفق الذي لا نهاية له وأن المشكلة أعمق أن تكون قابلة لهذا الحل أو ذاك لأنها مشكلة تتعلق بالمصير ذاته !!
ومن هنا نفقه الظاهرة التي تتعاظم بشكل واضح وهي ظاهرة عبر عنها بعض الإعلاميين العرب خطأ بأنها ” يقظة ضمير ” ونعني بها المطالبة بالانسحاب إلى داخل الخط الأخضر، والاعتراف للفلسطينيين بما هو خارجه على تعديلات أو اختلافات في التنفيذ، وأهم من ذلك الاعتراف بوحشية الجيش اليهودي والمطالبة بأن يكون متحليا بالرحمة والانضباط !!
فمثلا قاد إيهود باراك نفسه حملة الألف ضابط المتقاعدين للمطالبة بالانسحاب من طرف واحد، وجاء في استطلاع ” معاريف ” أن 70% من المستوطنين يؤيدون ذلك الانسحاب !!
ويقول:خر أعرب رئيس هيئة الاستخبارات السابق في الجيش اليهودي أورساجي عن خشيته من أن يتحول الجنود اليهود إلى حيوانات، بعد أن أصيبوا بتبلد المشاعر وتساءل كيف يمكن لمن قذف قنبلة تزن طنا أن ينام الليل الطويل.. ويقول :
“علينا أن نقول لأنفسنا أنه ليس كل شيء مباحا وأن ندرس عواقب أفعالنا قبل الإقدام عليها ”
كما يطالب الكاتب الصهيوني “يغآل سارنا” بالحل السملي فورا في مقال بعنوان: “أوقفوا الدماء ” قائلا:
“من هنا، أيضًا، من داخل النهر الدامي، يمكن العودة إلى الهدوء خلال أسبوع أو شهر. يجب وقف النار، فقط، في هذه اللحظة وتقديم اقتراح. في تلك اللحظة، أو في اللحظة التي ستليها، ستنخفض النار، ومن ثم ستخمد. هذه النار ستختنق إذا لم تزود بوقود الدم، وإلا فإننا سنسير على الطريق إلى جهنم. دم ونار، فولاذ محترق، صرخات الجرحى، لعنات المتبقين، صرخات العطشى، قبضات المتهورين. فوضى، ما أن يخرج هذا للانتقام، حتى يكيل له ذلك بالمكيال نفسه”.
“وما الذي سنفعله لـ3 أو 4 ملايين فلسطيني؟ هل سنطحنهم ونحطمهم، هل سنحتل ونقتل؟ هل سنكسر ونمزق؟ هل سننتقل من بيت إلى آخر بمناشير فولاذية؟ هل سنشطرهم إلى ألف جزيرة معزولة بين الشوارع الالتفافية؟ هل سنضع حاجزاً محصنًا في ساحة كل منهم؟ لا. يجب فقط وقف الدم، لأننا نحن الأقوياء وبأيادينا كل شيء. لنوقف الدماء، ومن ثم نتفق كيف سنخرج من عظامهم، من ساحاتهم وحقولهم وقراهم، وكيف سيخرجوا هم من عظامنا. ليس بالأباتشي ولا بمناشير الباطون، وإنما حول الطاولة وعلى الكرسي وبالورق. إذا لم يكن الآن، فربما بعد ألف قتيل “.
(يديعوت احرنوت 7/3/2002)
أما الكاتب “يهودا ليطاني ” فيكتب مطالبا بالانسحاب:”من المناسب في مطلع القرن الـ21 التفكير بطرق جديدة لمواصلة ضمان حياة كريمة للشعب اليهودي هنا مقابل ضمان هذا الحق للشعب المجاور من خلال تقليص المس به إلى أقصى حد”.
ويؤكد أن على اليهود الاعتراف بأن الدولة أصبحت بعد كارثة 67 ( أي احتلال الضفة والقطاع ) ثنائية القومية !!
فهل هذه حقا يقظة ضمير ؟
أم هناك قاعدة أو سنة اجتماعية تعلل ذلك ؟ والجواب كما رأينا في كل مرة موجود في كتاب الله، بيّنه الله من حال اليهود أنفسهم، فإنهم لما أبلغهم نبي الله موسى عليه السلام -بأمر الله- أن يذبحوا بقرة كانوا يعلمون أنه جاءهم بالحق وأمرهم به، ولكنهم لم يقولوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ [البقرة:الآية71]إلا عندما ضاقت بهم الحيل عن الاستمرار في المماطلة.
وهكذا نستخرج القاعدة التالية:-
عندما يعيد العدو وهو معروف دائما ببعده عن العدل والمنطق النظر في عدالة القضية ويبدأ في التفكير المنطقي فإن ذلك لم يحدث نتيجة خوف الله أو يقظة ضمير بل نتيجة ضغوط الواقع وتأثير المقاومة !!
وفي هذا السياق يتقمص الشعر يقظة الضمير فتأتي قصيدة الشاعر الصهيوني المشهور “إيلي رندان ” لتعبر بوضوح عن انهيار الحلم الصهيوني أمام حقائق الواقع.
يخاطب الشاعر رمزا للهجرة الموعودة بالأحلام الصهيونية هو الفتى اليهودي الأوكراني “إسحاق” قائلا له:
“على رسلك يا إسحاق!
إلى أين أنت ذاهب؟
إلى بلاد السمن والعسل؟
لماذا تصمت؟ أجبني! أم أن سؤالي يثيرك؟
لا بأس! أنا لن أصمت بعد اليوم.
إسحاق، لماذا يبحث الناس عن السمن والعسل؟
أليست هاتان المادتان لحفظ حياة الإنسان
وسد رمقه ورمق أطفاله؟
ولكن عندما يتطلب الحصول عليها أن يضحي المرء بروحه وأطفاله؟
فإن من يصر على الحصول عليها هو أحمق حتى في نظر البسطاء.
بالطبع تستطيع أن تأتي وستجدهم يستقبلونك أحر استقبال
أذرع ممدودة لك، فتيات جميلات ينتظرنك عند سلم الطائرة في المطار، يقدمن لك باقات الورود..
فأنت بطل؛ لأنك عدت إلى أرض الأجداد
وقد تحظى بقبلاتهن الحارة
مسرحية كبرى ستشاهدها، وتكون أنت –غصبًا عنك- أحد ممثليها
فأنت الذي أتيت لكي تُحْيِي تراث الأجداد، وتصدق النبوءات القديمة
أنت رجعت إلى وطنك بعد ألفي عام!!!
رجعت لكي تحيا فيه للأبد
كي تنهل من العسل ويطيب لأطفالك تناول سمن هذه البلاد.
هم لن يتركوك تنعم بالراحة والسكينة
لن يمهلوك كثيرا من الوقت
هم لم يخبروك الحقيقة
هم لم يخبروك الحقيقة المُرّة والقاتلة
هم لم يقولوا لك: إن هناك قوما آخرين غيرنا يدعون أن السمن والعسل ملكهم
وأنه لا حق لنا في تناوله
م يقولوا لك: إن هناك شعبًا آخر
هم قالوا لك: إن هناك بعض الرعاع الذين بالإمكان معالجتهم
كما عالج العم سام الهنود الحمر في أمريكا
ويقولون لك: لماذا لا نتعلم من تجارب حليفنا الأكبر والأوثق
ونستخدم نفس الوسائل
نحن متحضرون صحيح
لكنه الصراع على الوجود، وكل شيء فيه مباح
عندنا اقترضوا من ميكافيلي منهجه.
بإمكانك أن تفعل ما يحلو لك.
لكنك سرعان ما تصطدم بالحقيقة المرة يا إسحاق
ستعترف بخطيئة حياتك
وستكتشف أنك أسأت لأطفالك
فهؤلاء الرعاع ليسو هم الهنود الحمر الذين يتحدثون عنهم
هؤلاء الذين بثوا هذه الخزعبلات في ذهنك “خَوْزَقُوك” !!!، حقا
هم لم يقولوا لك الحقيقة..
إن هؤلاء الرعاع لهم قدرة كبيرة في تغيير تأثير الأشياء
فالسمن والعسل اللذان يُستخدمان لرفد الإنسان بالحياة
حوّله هؤلاء الرعاع إلى سم زعاف
تستلذ بطعمه لكنك سرعان ما تتحول إلى جثة هامدة!.
إسحاق، إذا كنت مصممًا على القدوم رغم نصائحي
إذا ضقت ذرعا بالحياة في “كييف”
وأردت القدوم لبلاد الفرص الواعدة ففكر مليّا مليّا
عليك أن تعي أنك تقدم هنا لكي تمتشق سيفك
الموت يا إسحاق مزروع في هذه البلاد
في شوارعها وفي جبالها
وفي هضابها وفي أزقتها
وفي الزرقة الداكنة لبحرها
وفي هوائها أيضا.
إسحاق، هي كما قالوا قديما
“أرض تأكل ساكنيها”
إسحاق، لا أخفيك أنني وعلى الرغم من أنني أكفر بكل ما جاء في الكتب القديمة
فإنني أحترم أجدادنا الذين رفضوا دخول هذه البلاد مع نبيهم موسى
لقد فعلوا الشيء الصحيح
التيه في صحراء سيناء
والعيش على أوراق الشجر الشاحب
أفضل من أن تموت هكذا.
إسحاق، إذا صممت على القدوم على الرغم من نصائحي فكل الاحترام لك
أنت إنسان مقدام تستحق الاحترام
لكن علام التضحية ومن أجل أي شيء الفداء!!.
إسحاق، سيفك لن يكون كعصا موسى التي شقت البحر
ولن يكون أحد فينا كالملك داود
لا يغررك ما يقولون
المعركة لم تنته بعد
كل حديثهم عن انتصارات خداع
لكن أي انتصارات تلك التي لم تجعل الفلسطينيين يسلّمون -على ضعفهم-
بالحقيقة التي نريدها؟
أي انتصارات تلك التي لم تقنعهم أن يتخلوا عن الإيمان بآيات قرآنهم
وبوعد الرب لهم بالنصر من جديد.
إسحاق أخي
يخيل لي أن المعركة قد بدأت للتو..
إسحاق أخي
رحمة بأطفالك..
ارجع ونم!!”.

القاعدة السابعة
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَما [الأعراف: من الآية168]

” في كيان غريب ومحفوف بالأعداء، ودولة عنصرية لا هوية لها ولا دستور ولا حدود تكون علاقة الأمن الشخصي بالأمن القومي قوية إلى درجة عالية ”
في الحالات العادية حين يقاتل الإنسان على أرضه عن دينه، أو ماله أو أي قيمة يراها يكون أمنه الشخصي أقل ارتباطا بالأمن القومي أو الأممي، لأن الجذور عميقة والكيان قائم، مهما بلغت التضحيات، وهكذا بقي الوطن في حالات مثل فيتنام واليابان وألمانيا ودول كثيرة منيت بخسائر بشرية فادحة.
وأعظم من ذلك بقاء المجاهد الجزائري والأفغاني والشيشاني وغيرهم ثابتين متشبتثين بتحرير بلادهم من العدو ورغم كل التضحيات والفوارق في القوة.
أما في الحالة اليهودية فالأمر يختلف جدا، حيث لا وجود في الأصل لكيان باقٍ أو وطن ثابت. وذلك أن الكيان نفسه إنما تركب عضويا من آحاد المهاجرين الذين تجمّعوا في بيئة غريبة يجهلون عنها كل شيء تقريبا بدوافع عاطفية، وهذا التجمع لا هوية له، فحتى الآن لم يتفقوا على تعريف “اليهودي”. بل إن عددا غير معلوم من فقراء الهند والحبشة وروسيا دسوا أنفسهم بين اليهود المهاجرين رغبة في حياة أفضل.
وكذلك لا دستور له فإسرائيل ليس لها دستور ولا حدود رسمية حتى الآن !! وهؤلاء الغرباء المهاجرون لا يزالون يحملون ذكريات بلادهم الأصلية، ولغتها وملامحها، وبالتالي يستيقظ هاجس العودة إليها كل حين، لا سيما حين الإحباط والذعر -كما في حالة ما بعد الانتفاضة- كما إن جنسيتهم تؤهلهم للعيش في بلاد كثيرة غنية وآمنة. وهكذا يؤدي تناقص عددهم بالهجرة خاصة[وبعوامل أخرى كالتكاثر السكاني لخصمهم ] إلى أن يتقطّع الكيان في النهاية ويتناثر مثلما تتناثر الأشلاء في عملية تفجير قوية، وفي هذا إعادة للشتات الأول، الذي قال الله تعالى عنه و َقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَما بل هو في هذه المرة أولى، فالعمر الزمني للمعركة لا يزال قصيرا جدا، ووسائل العودة متوفرة بما لم يكن يخطر على بال أحد من البشر قديما، وعوامل التآكل الذاتي قائمة فكيف والهدم يزداد والضربات تتوالى ؟
ومن هنا يظهر أثر “الردة” كما تقدم
والتأكيد على هذا مهم لأن بعض الناعقين من العرب ومنهم منتمون إلى السلطة يفصلون في أحاديثهم وتحليلاتهم بين الأمن القومي والأمن الشخصي، والفكرة أصلا منقولة من التحليلات الأمريكية عن ضعف أثر الإرهاب على الأمن القومي الأمريكي ونحن نقول هبوا أن الأمر كذلك لكن القياس خطأ فأمريكا كيان كبير قائم لا يتأثر بتأثر آحاد قليلة منه أما في إسرائيل فالفرد الواحد له أهميته والأسرة الواحدة في المستوطنات لها أهمية استراتيجية.
ولذلك فإن ما يجتاح الكيان اليهودي هو تهديد مباشر لوجود الدولة ذاته وبداية زوالها وهل هناك دليل أكبر من هجرة ربع سكانها تقريبا وهي أصلا كيان استيطاني لا جذور له؟!!
ولإيضاح ذلك نقول:
إن ربع سكان الدولة العبرية تقريبا هم من العرب، والربع الثاني وهو الأغنى والأرقى تعليما وخبرة قد هاجر، فلم يبق من اليهود إلا النصف المذعور والأفقر !!
وهذا النصف إن بقي كله أو بعضه سيصبح أقلية في محيط من العداء المتلاطم والمتزايد يوميا ولن يستطيع الصمود في حرب الاستنـزاف التي فرضتها عليه الانتفاضة المباركة.
تقول يديعوت احرنوت في (12/6/2002):
” يتبين من استطلاع أجراه المجلس الصهيوني أن غالبية الإسرائيليين يفكرون أكثر من أي وقت مضى في مغادرة إسرائيل تشير نتائج الاستطلاع إلى أن 50% من الإسرائيليين العلمانيين فكروا مؤخرا بالهجرة والتقوا بإسرائيلي قد هاجر أو فكروا بالهجرة ”
هكذا إذن يصبح الحديث عن أمن الدولة لا معنى له لأن القضية هي قضية بقاء الكيان أو زواله؟
وهذا ما عبر عنه أكثر من مفكر سياسي يهودي!
إن موضوع نهاية إسرائيل مطروح الآن على قائمة الاهتمامات الفكرية والوجدانية الصهيونية. انظر على سبيل المثال إلى يديعوت أحرونوت (بتاريخ 27/1/2002) التي ظهر فيها مقال بعنوان “يشترون شققا في الخارج تحسبا لليوم الأسود”، واليوم الأسود هو اليوم الذي لا يحب الإسرائيليون أن يفكروا فيه. ونفس الموضوع يظهر في مقال ياعيل باز ميلماد (معاريف 27/12/2001) الذي يبدأ بالعبارة التالية: “أحاول دائما أبعد عني هذه الفكرة المزعجة، ولكنها تطل في كل مرة وتظهر من جديد: هل يمكن أن تكون نهاية الدولة كنهاية الحركة الكيبوتسية ؟ من نقطة الزمن الحالية ما زالت هذه الفكرة مدحوضة، ولكن ثمة الكثير جدا من أوجه الشبه بين المجريات التي مرت على الكيبوتسات قبل أن تحتضر أو تموت، وبين ما يجري في الآونة الأخيرة مع الدولة “.
بل إن المستوطنين أنفسهم أصبحوا يستخدمون نفس العبارة. فرئيس مجلس السامرة الإقليمي أخبر شارون ( في مشادة لفظية معه ): نحن سنحارب بكل قوتنا، وسننـزل الشوارع. إن هذا الطريق الدبلوماسي هو نهاية المستوطنات إنه نهاية “إسرائيل” (هآرتس 17/1/2002).
وقد لخص جدعون عيست الموقف في عبارة درامية (يديعوت أحرونوت 29/1/2002) ” ثمة ما يمكن البكاء عليه إسرائيل “:
“.إن مجلة نيوزويك (2/4/2002) صدرت وقد حمل غلافها صورة نجمة إسرائيل، وفي داخلها السؤال التالي: “مستقبل إسرائيل: كيف سيتسنى لها البقاء ؟” . وقد زادت المجلة الأمور إيضاحا حين قالت: “هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة ؟ وبأي ثمن ؟ وبأي هوية ؟ ” ثم اقتبست المجلة قول الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون:” إنني في حالة من اليأس لأنني أخشى أن يكون الأمر قد فات. وقد قلت لكم مجرد نصف ما أخشاه “.
ولا يختلف رأي الأمريكيين ( أوثق حلفاء إسرائيل ) عن ذلك. فقد عبّر 18% عن رأيهم أن إسرائيل ستختفي من الوجود، وقال 23% أنها لو استمرت في البقاء فلن تكون دولة يهودية، وهذه نسبة عالية للغاية (41%)، خاصة وأن أحدا لم يكن يجرؤ حتى على طرح السؤال منذ عدة شهور ! أي قبل اشتعال الانتفاضة !!
نعم إن هذه النهاية المرتقبة بإذن الله لن تكون سهلة التكاليف، لأن الحركة الصهيونية المسيطرة على البيت الأبيض وغيره، سوف تدفع بكل ما تستطيع لإنقاذ الكيان الصهيوني. لكن في آخر الأمر لن تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت في فيتنام وهو إرسال طائرة مروحية تحط فوق السفارة الأمريكية وتحمل فلول زعماء الكيان إلى أمريكا..
وهذا بالنص عبر عنه الكاتب الإسرائيلي ” إتيان هابر ” في مقال شهير بعنوان “ليلة سعيدة… أيها اليأس.. الكآبة تكتنف إسرائيل ” !! (هآرتس 24/1/2000)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ” ولكنكم تستعجلون ” !!

القاعدة الثامنة
وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا [طه : الآية97 ]
“إن الأمة التي هي أكثر الخلق طمعا وجشعا وعبودية للمال لابد أن تتمزق وتنهار حين ترى صنمها من الذهب يحترق”
قبل اشتعال الانتفاضة المباركة كانت الدولة اليهودية تعيش عصرها الذهبي، لا سيما في الاقتصاد، فقد أصبحت تطمع الوصول لما نادي العشر الدول الأولى في العالم من حيث مستوى دخل الفرد، أما التقنية المتقدمة لا سيما في مجال الاتصالات فقد بلغت الذروة. وأصبحت تتهيأ لاقتحام الأسواق العربية الواسعة، بعد أن ألغى العرب برامج المقاطعة، وبدأوا يستسلمون لأغلال العولمة، ومشروع الولايات الشرق أوسطية. بل وصلت الأموال العربية في بورصة تل أبيب إلى عشرة مليارات دولار سنة 1998م
وأصبح المهاجر اليهودي من روسيا وغيرها يحترق شوقا لرؤية معبد العجل الذهبي الجديد والأرض التي تفيض لبنا وعسلا…كما تقول أسفارهم.
أما المستوطنون فقد بلغوا غاية الرفاهية وكانوا يسمون قبل الانتفاضة أصحاب الفاءات الثلاث أي ” الفيلا والفولفو والفيديو ”
فلما قامت الانتفاضة المباركة هبطت بالاقتصاد اليهودي إلى أسوأ حالاته منذ قيام الدولة. وذلك بإجماع الخبراء والمراقبين في إسرائيل والهيئات الدولية المختصة. ودخلت الدولة الصهيونية في دوامة لا قرار لها في كل المجالات. ومنها المجال السياسي الأعلى في الدولة فقد رأى العالم كيف أن معركة الميزانية الحالية فككت التحالف الحكومي اليهودي، وباعدت الخلاف بين أطرافه، بحيث يمكن القول أن الصراع بين الحزبين الكبيرين أدى إلى موت حزب العمل دماغيا، وإصابة حزب الليكود بجراح خطيرة !!
إن ركود الاقتصاد أو انهياره مشكلة خطيرة في أي بلد في العالم، لكنه بالنسبة للدولة اليهودية كارثة محققة، وقد عبر أحد المحللين عن هذه الحال قائلا:
“بالنسبة لنا معشر اليهود الاقتصاد أهم من الأمن ”
عند البحث في الإعلام اليهودي عن حالة الاقتصاد يجد الباحث إجماعا ثابتا، وخلافا شديدا في آن واحد.
أما محل الإجماع فهو أن ما يحدث هو أسوأ ما مر على الدولة اليهودية منذ قيامها.
وأما الخلاف فهو في الأرقام الدالة على ذلك.
فالإعلام الرسمي يذكر أرقاما لا يقره عليها المعلقون في الصحف، ثم إن هؤلاء المعلقين يختلفون فيما بينهم كثيراً بين المتشائم جداً والأقل تشاؤما، ولهذا الاختلاف أسباب -مع اعتبار أن الخلاف عادي في هذه الأمور. وأهمها الميول الحزبية كما أن بعض التقديرات تتحدث عن الخسائر المباشرة والبعض يتحدث عن جملة الخسائر. وهكذا
ولذلك رأيت أن أورد نماذج من كل المصادر يظهر بها مقصودنا هنا وهو إيضاح حجم الدمار وليس تحقيق دقة الأرقام !!
فمثلا نشرت يديعوت احرنوت في( 23/7/2002) مقالا بعنوان “الانتفاضة تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي أضراراً بقيمة 50 مليار شيقل في سنتين أي 11 مليار دولار”
لكن الثابت أنه بعد ذلك بثلاثة أشهر عند منا قشة ميزانية عام 2003 ظهر أن الحال أسوأ مما توقع المعنيون بالِشأن وأن جملة الخسائر المباشرة وغير المباشرة تصل إلى 40 مليار دولار (وهو ما يعادل الميزانية السنوية السعودية المعلنة )
وذلك أن التدهور مستمر في كل القطاعات، فمثلا نقص الاستثمار الخارجي في إسرائيل عام 2001 بنسبة 60% عن عام 2000 ثم نقص في الربع الأول من سنة 2002 بنسبة 55ً% عن عام 2001 حسب أحد المواقع التجارية الرسمية لكن صحيفة معارف تقول أن النقص كان بنسبة 67%
وانتهت الأرقام إلى أنه منذ بداية الانتفاضة نقص الاستثمار الخارجي بنسبة 98% (موقع وكالة الأنباء الإسرائيلية ) وفي مقابل ذلك ارتفع عدد المستثمرين اليهود في الخارج بنسبة 93% (موقع المنظمة التجارية الإسرائيلية )
في الوقت نفسه هبطت قيمة الشيكل بنسبة 22% وارتفعت نسبة البطالة من 10,3% في عام 2001 إلى 10,9% عام 2002 وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي لكن مقالا تاليا في يديعوت احرنوت في 16/7/2002 يجعل النسبة 12% نقلا عن مدير المعهد الإسرائيلي للأبحاث الاقتصادية الاجتماعية الذي قال :
“إنها نسبة قياسية لم تشهدها الدولة منذ قيامها ”
وتقدم المجلة المتخصصة “ستار” إحصاءات رسمية لكنها ذات دلالة واضحة:-
خسارة قطاع السياحة عام 2001= 2,2 مليار .
وتقول أنه وفقا لتقدير وزير الاقتصاد خسر هذا القطاع في سنتين 5 مليارات دولار.
العجز في الميزان التجاري نفس السنة: 600مليون دولار.
خسارة التجارة مع السلطة الفلسطينية نفس السنة: 500 مليون دولار.
خسارة قطاع الإعمار نفس السنة: 700 مليون.
خسارة قطاع الزراعة نفس السنة: 500 مليون.
خسارة شركة العال : 500 مليون دولار
نقص دخل الفرد بنسبة 9%
وأوردت أن ثلث الناتج القومي للدولة الصهيونية يعتمد على المعونة الأمريكية، (وهذا يفسر لماذا طلب شارون من بوش 10 مليارات دولار عاجلاً ) في حين ينقل موقع وكالة الأنباء الإسرائيلية أن الناتج القومي نقص بنسبة 9% والاستثمار نقص بنسب11%.
ونقص قطاع العقار والمصانع بنسبة 33% وأكثر القطاعات تضررا هو قطاع السياحة حيث نقص بنسبة 45% إلا أن تقارير أخرى تؤكد أن النسبة هنا أعلى بكثير. لأن المشكلة لا تنحصر في الهبوط الحاد في نسبة السياح فقط بل في كون السائح لا يكاد
يغادر الفندق للتسوق إلا قليلا، لأن الوضع الأمني يتدهور باستمرار وقد عبر أحد السواح الأمريكيين هذا قائلا:
” إن الحال تحول من حفلات أعراس إلى مواكب جنائز ”
وامتد الهاجس الأمني إلى الطيارين الأجانب الذين يرفضون الانتظار في إسرائيل ويذهبون إما إلى عمان (!!) أو قبرص.
وهناك سبب كبير للتدهور هو الإنفاق العسكري فقد أرغمت الانتفاضة المباركة الدولة اليهودية على أن تعيش حالة طوارئ قصوى يوميا، وهذا استنـزاف حقيقي للموارد المالية والبشرية أيضا، ويذكر موقع ال(بي بي سي يونيو 2002 )أن مجرد وجود الدبابات في المدن الفلسطينية يكلف الجيش الصهيوني 70 مليون دولار شهريا ( أي قرابة 9 ملايين ريال يوميا ) وقس على ذلك تكاليف القطاعات الأخرى.
وبالرغم من تكتم الأجهزة الإسرائيلية على ما يتصل بهذا الشأن، فقد ذكر الموقع أن الزيادة في الميزانية الدفاعية بلغت 4 مليارات دولار، وهذا وحده كاف للمقارنة بتكاليف حرب رمضان التي بلغت خمسة مليارات !!
وفضلا عما خسره الجيش الصهيوني من عتاده وأفراده، حدثت خسائر لم تكن في الحسبان فمثلا: تدمير الدبابة “مركبا 3” أدى إلى إلغاء عقود شراء كبيرة لها، من دول عدة منها الهند والأرجنتين وتركيا والصين !! فوق أنه اقتضى ميزانية إضافية لزيادة متانتها وتحصينها.
أما المستوطنات فهي الطفيلي الذي يستنـزف باستمرار دون أن يعطي شيئا، فالاحتياطات الأمنية تتضاعف باستمرار ومنها الطرق الالتفافية، وأجهزة الإنذار، وأعداد الجنود والآليات، ووصل الأمر إلى إعطاء المستوطنين سيارات لا يخترقها الرصاص، ولهذا كانت مسألة ميزانية المستوطنات المشكلة التي مزقت التحالف الحكومي !!
وأصبحت القضية كما كتب “يهودا ليطاني “بعنوان “إخلاء المستوطنات أو انهيار اقتصادي” (يديعوت احرونوت 6/2/2003) نظرا لازدياد البطالة وغلاء المعيشة وتدهور قيمة العملة اقتضى الأمر تخصيص مبالغ أكبر للضمان الاجتماعي، كما أن التدهور الأمني اقتضى زيادة التأمين أضعافا ولا سيما على الطيران والنقل البحري الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد والتصدير وبالتالي تعميق الأزمة.
وهذه الأسباب وغيرها أدت إلى فرض ضرائب جديدة، أو التفكير في ذلك وهو الأجراء الذي كلما حدث ازدادت الأمور سوءا.
وإجمالا، فالوضع العام هو كما قال أحد الخبراء تنطبق عليه نظرية ( الضومنة ) أي أنه إذا انهار جزء سرى الانهيار إلى الأجزاء الأخرى.ولا ريب أن أجزاء كثيرة انهارت معاً.
وهنا لابد من القول بأن معركة الميزانية لم تنته بعد، وأن الأرقام التي أعلنت وكانت حينئذٍ موضع شك أصبحت الآن كاذبة بلا ريب فقد نشرت يديعوت احرنوت في 28/1/2003 مقالا عن ذلك بعنوان ” المالية ستطرح خطة طوارئ بعد الانتخابات ”
وجاء فيه:
” إن بنك إسرائيل المركزي يقول إن الميزانية التي صدقت عليها الكنيست لعام 2003 تقوم على تقديرات مفرطة في الدخل المتوقع الأمر الذي من شأنه أن ينعكس في ازدياد العجز المالي بنسبة تفوق ما هو مخطط ”
وتصديقا لذلك جاء تقرير صندوق النقد الدولي ليؤكد أن العجز سيفوق المخطط له، وأوردت الصحيفة نفسها في (4/2/2003) ذلك ضمن مقال بعنوان:
” رقم قياسي في العجز الحكومي في يناير 2,66 مليار شيقل ”
واستهلته بالقول:
” حكومة إسرائيل تستهل العام بعجز ضخم يفوق ما هو مخطط له بمليار ونيف ”
فإذا كان هذا في أول شهر من السنة فكيف يكون سائرها ؟ وقد أظهرت التقارير الاقتصادية للصحيفة أن السنة الجديدة شهدت تدهورا في مجالات كثيرة منها:-
1. هبوط بنسبة 37% في نسبة دخول السياح شهر فبراير إلى إسرائيل.
2. انخفاض بنسبة 13% في حركة المسافرين في مطار جوريون الدولي.
3. انخفاض نسبة زوار المجمعات التجارية في اسرائيل بنسبة 30-50 % في عيد الفصح !!

وفي موقع بي بي سي في 18/2/2003 يرد إعلان رئيس اتحاد المصانع الإسرائيلية عن إغلاق 60 مصنعا في إسرائيل سنة 2002، بالإضافة إلى إغلاق 150 مصنعا للتقنية المتقدمة، وأنذر المجتمعين في مؤتمر الاتحاد بأن عام 2003 قد يشهد إغلاق 90 مصنعا للأثاث، وكذلك 150 مصنعا للتقنية، ولأن هذه المعلومات وأمثالها تفوق التوقعات، ولأن الفساد استشرى في زعماء الدولة الصهيونية بشكل فاضح، لم يجد البيت الأبيض مناصا من رد شارون خائبا في زيارته الأخيرة لأمريكا، مع المطالبة بالأرقام التفصيلية للميزانية الإسرائيلية، وهو طلب غير معهود في التعامل السياسي بين الدول. لكن هآرتس في (26/2/2003) نقلت عن الوزير الإسرائيلي المسئول أن إجابة الطلب لابد منها، وأن شارون أعطاه الموافقة على ذلك.
وكشفت الصحيفة في المقال نفسه عن خطط الطوارئ التي ستنفذها الحكومة، وهي واضحة الدلالة حيث تشمل:
1. تسريح 10% من موظفي الدولة
2. تخفيض المرتبات بنسبة 10%
3. تقليص عدد الوزارات من 23إلى 19 فقط
4. تقليص عدد الموظفين في الإدارة المحلية بنسبة 40%
وهنا ينبغي التذكير بأمر يغيب عن الإعلام العربي كثيرا، وهو أن إسرائيل دولة طبقية عنصرية، وأن اليهود الشرقيين -خاصة الأفارقة والهنود – يعيشون في مستوى غير إنساني قبل الانتفاضة، فلما تردت الأمور بعدها ازداد حالهم سوءاً. فهم لا يشتكون من نقص الدخل بل من نقص الطعام!
وقد بلغ ذلك إلى حد أن من يعمل منهم ضمن جنود الاحتياط يبقى في العمل بعد انتهاء نوبته، معللا ذلك بأنه ليس في بيته طعام، هذا مع أن عادة الجنود الصهاينة أنهم ينتظرون المغادرة بفارغ الصبر.
ومع أن الأمريكيين وأشباههم هم سكان المستوطنات المرفهين، فإن المستوطنات هي أكثر القطاعات ركودا، بسبب الرعب وكثرة الإحتياطات الأمنية، ويتهم الشعب اليهودي مائة أسرة تسكن في الحي الراقي شمال تل أبيب، بامتصاص معظم خيرات البلاد، وجل هؤلاء من اليهود الأمريكيين الأثرياء، ومع ذلك فإن هذه الطبقة قد هاجر أكثرها وهم يديرون الأعمال من أمريكا.
وتبع ذلك مغادرة الأمريكيين العاملين في إسرائيل، كما أوردت المجلة التجارية ” سانت لويس ” (6/1/2003) وإن كانوا فسروا ذلك بأنه احتياط بسبب احتمال الحرب على العراق !
إن مجموع هذه المظاهر والمشكلات لا سيما في الأمن والاقتصاد، آتى أكله في المجتمع اليهودي المذعور في جوانب أخرى، مثل ازدياد نسبة الانتحار، وارتفاع مستويات الجريمة، وتباعد شقة الخلاف بين الطبقات والفئات، خاصة بين الفئة الدينية المميزة وبين الفئة العلمانية، وقد وصل الحال إلى درجة أن المفكرين والكتاب الصهاينة باتوا يتحدثون عن “ثورة جياع” أو “تمرد فقراء” على مثال ما حدث في الأرجنتين.
وعن هذا كتب يغآل سارنا ” بعنوان “القلق” قائلا:
” هل حسم مصيرنا نحن الإسرائيليين بأن نعيش كل أيامنا بقلق وانتظار الكارثة القادمة: عملية تفجيرية أو عطش أو حرب والآن أيضا تمرد فقراء ”
ويوضح:
” أصبحت تتملكنا كارثة تمرد الفقراء.. وتستقر في قلوبنا إلى جانب سلفها من الأفكار الكارثية، أفكار القذف في البحر، وتجفيف بحيرة طبرية حتى الموت ” !!
وأخيرا بكلمة واحدة:
لقد انهارت الأسطورة، أسطورة العجل الذهبي، وأحرقته الانتفاضة المباركة، وسوف تنسفه في اليم نسفا بإذن الله، أما حلم الأرض التي تفيض لبنا وعسلا فقد أفاق منه الصهاينة على أرض تفيض دما وأشلاء !!

الخاتمة

الآن وقد استعرضنا بقدر من الأجمال والإيجاز بعض جوانب التحول التاريخي العظيم، الذي أحدثته الانتفاضة المباركة في المعركة الدائمة بين أمة التوحيد المصطفاة، والأمتين اللتين أوتيتا الكتاب قبلنا فنبذتاة – ما الذي يجب علينا أن نفعلة؟!
الآن وقد أخذت علامات النصر تلوح، وبدأ جيل التيه في الانقراض وجيل الجهاد يترعرع
هل نحتاج إلى القول بأن نصرة إخواننا المرابطين على ثغر الجهاد في الأرض المقدسة واجب متعين على كل قادر بكل ما يستطيع ؟
أحسب أن هذا مالا يحتاج إلى استدلال بل إلى عمل وامتثال بأن تتحول المشاعر الجياشة إلى برامج عملية.
إن الله تعالى اختارهم ليكونوا أداة انتقامه من أعدى أعدائه ومن هنا فإن أمل الأمة معقود – بعد توفيق الله وتأييده – على هذا الشعب الصابر المجاهد ليكون النواة لاجتماع الأمة على ثغور الجهاد لإعلاء كلمة الله وتجديد الدين.
إن تجربتهم متميزة وثرية وجدير بالعمل الإسلامي التجديدي إن يفيد منها في كل مجال:
1. في منهجية الإعداد والمقاومة.
2. في منهجية التعامل مع العدو الداخلي (السلطة والأحزاب).
3. في منهجية التفاعل مع كافة فئات المجتمع.
4. في العلاقة مع الأنظمة العربية والعالم.
كيف استطاعوا في عالم معقد يضج بالتناقضات ومحيط متقلب الولاءات وهم في بؤرة الأحداث العالمية يوميا – أن يشقوا طريقهم ويجمعوا قلوب الأمة على هدف واحد، وتصبح الكلمة التي يقولها أحد قادتهم موضع اهتمام العالم كله وتفوق مصداقيتها كل ما يقوله غيرهم من رؤساء وزعماء.
إن هذه المكاسب التي يعترف بها العدو ويفخر بها الصديق لم تأت -بعد توفيق الله – إلا بجهود رجال على مستوى من القيادة والمسؤولية أوتوا قسطا كبيرا من التجربة وتربوا من أصلهم على منهج متميز.
والواجب الآن يقتضي منهم ومن الأمة من ورائهم أمورا أهمها:
1. أن تستمر الانتفاضة فلا تقف.
2. أن تقوى فلا تضعف.
3. أن تكون أكثر استقامة على الكتاب والسنة ومنهاج السلف.
إن على الأمة الإسلامية أن تعرف للانتفاضة قدرها وفضلها في صرف طوفان العولمة عنها، وهو طوفان لم يكن ليبقي ولا يذر، فقبيل الانتفاضة كانت الحكومات قد شرعت في التنازل عن سيادتها في كثير من المجالات، ورجال الأعمال أصبحوا مهددين بأن تبتلعهم الحيتان الكبيرة. والمجتمعات عامة تتعرض لثورة ثقافية واجتماعية ماحقة تجعل الدعاة لا يدرون ما يفعلون.
لقد أصبحت الانتفاضة المباركة رمزا عالميا للصمود في وجه الطغيان الجارف، وهذا ما أدركه رافضو العولمة في أوربا وأمريكا. فسمّوا مظاهراتهم واحتجاجاتهم “انتفاضة”!!
لهذه الأمور وغيرها يجب على الأمة كلها أن تنصر الانتفاضة وتدعم مسيرتها:
الحكام الذين يخافون أن تزول عروشهم وتقسم بلادهم ولم يبق لديهم من أوراق المساومة شيء بعدما قدموا كل شيء !!
ورجال المال والأعمال الذين يخافون أن تذهب أموالهم في مهب الريح، ويسيطر اليهود وأتباعهم عليهم في عقر دارهم، وهم لا يملكون أن يعملوا شيئا.
والدعاة الذين يهمهم أن تظل الأمة قائمة على دين الله ساعية لتحكيم شريعته، ترتقي من مرحلة إلى مرحلة بحكمة وثقة.
والشعوب التي ترفض أن تذوب وتصبح خدما للمغضوب عليهم والضالين.
على هؤلاء جميعا أن يكونوا على قدر الواجب ومستوى المسؤولية.
وألاَّ يمنُّوا على إخوانهم المرابطين بشيء، فالمنة لله ولرسوله ثم لمن بذل نفسه وماله لله دفاعا عن دين الأمه ودنياها.
يبقى أن يقال: كيف ننصرهم وماذا في وسعنا أن نقدم لهم؟
فنقول: لقد كفانا إخواننا هذا الشأن، فقد وضعوا لكل شيء خطته ومؤسساته وأساليبه، وهم حاضرون في كل بلد تقريبا، عاملون في كل ميدان، فما علينا إلا أن نقدم لهم أنفسنا ونعرّفهم بما في وسعنا، وهم سوف يوجهوننا إلى الثغرة التي تبتغي سدادا.
ولا أقل من أن ندعو لهم كل حين ونربي أبناءنا على حبهم ونصرتهم، وأن ندافع عن قضيتهم في كل وسيلة ممكنة، وأن نألم لآلمهم ونفرح لفرحهم ونزف للأمة بشائر انتصاراتهم فهي أحوج شيء إلى الثقة والأمل لاسيما في هذه الأيام العصيبة.
ولكي لا أكون ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، أو ممن يستأثر بالبر عنهم رأيت أن أقترح على نفسي وإخواني القراء الكرام مشروعا هو من أدنى الواجب علينا وهو “مشروع كفالة طفل فلسطيني”
وسبب هذا الاقتراح هو ما قرأته في تقرير وكالة غوث اللاجئين عن حال إخواننا هناك وصدّقه عندي وزاد عليه إخواننا الحجاج، إنها حال تبعث الأسى وتقض المضجع وتقتضي المبادرة اليوم قبل غد. إن الحصار الظالم وفرض حظر التجول مع القتل والاعتقال والمداهمات، ونسف البيوت وتدمير المزارع وتحطيم البنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني، وغير ذلك من أعمال الإرهاب والإجرام الشارونية – قد جعلت أوضاع إخواننا في الأرض المقدسة في غاية الفقر والشدة، فلولا ما أتاهم الله من الصبر والتكافل لانتهى أمرهم منذ حين.
وإليكم تفصيل المشروع :-
• كفالة الطفل الواحد بالحد الأدنى (400 دولار ) أي (1500ريال ) في السنة.
• ترسل المبالغ إلى حساب رقم 25/2 فرع 458 بشركة الراجحي المصرفية، وهو باسم ابني عبدالرحمن.
• نرجو من الإخوة المحسنين إذا أرسلوا المبالغ أن يرسلوا لنا عناوينهم على ناسوخ (فاكس ) 6935656 -02 لكي نرسل لهم استمارة معلومات عن الطفل المكفول بغرض استمرار الكفالة سنويا لمن يقدر على ذلك ولكي يتابعوا بأنفسهم أحوال الطفل متى شاءوا.
أخي المحسن: إن من الوسائل التي تعينك على هذا العمل أن تتعاون أنت وأسرتك أو بعض أقاربك وزملائك في العمل عليه ولكلٍّ أجره بإذن الله.
أخيرا إخواني: إن 400ألف دولار سنويا ليس بالمبلغ الصعب فليت كل داعية أو خطيب أو مجموعة منهم في كل مدينة أو محافظة أو قطاع عمل أو قبيلة…يقومون بجمعه ويكفلون به ألف طفل من إخواننا الصابرين المجاهدين. أوصيكم بهذا وأدع التفاصيل التنفيذية لكم.
هذا وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم أعمالنا وأقوالنا وأن يقر أعيننا بنصرة ديننا، وأن يكف بأس الذين كفروا، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

__________________________________

اضغط الرابط أدناه لتحميل البحث كامل ومنسق جاهز للطباعة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *